رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان وعشرة
قالها ظافر وهو يرمقها بنظرةٍ مواربة:
**"من تظنّينني؟ أبلَهٌ مثلاً؟"**
جاء صوته كصفعةٍ من حديد، حادّة، وقاطعة ثم استدار بخطًى ثابتة وغادر غرفة النوم دون أن يمنحها شرف الرد تاركًا الباب خلفه مواربًا كأنّه ترك الجرح مفتوحًا ليزحف الوجع منه... سكنت الغرفة بعدها كما تسكن المقابر بعد الدفن.
وقفت سيرين في مكانها مبللة بالصمت، تغوص عيناها في فراغٍ بدأ يتسع من داخلها. وأخذت كلماته تتكرّر في رأسها كطَنينٍ مؤلم لا يكفّ عن الضرب على أوتار الندم وها قد جفّت الكلمات في حلقها قبل أن تولد.
شعرت بشيء ما يتكسر داخلها... هشاشةٌ خفيّة راحت تتسلل من مفاصل الروح... كم كانت غبية؟ كل هذا كان متوقعًا... كانت تعرف أن الأمور لن تمضي بسلاسة لكنها لم تكن تتوقع أن تصطدم بجدارٍ بهذا الارتفاع وبهذا الكم من الرفض.
قصة أن تتظاهر بأنها زوجته لشهرٍ واحد فقط فكرة بدت ممكنة لحظة ضعف أما الآن فقد تحوّلت إلى مستنقعٍ من العقبات... هو لن يسمح لها بالخروج ببساطة، لا هي ولا طفلها نوح.
لقد وضعهما في قفصٍ مخمليّ لا مفتاح له، قيدٌ ذهبيّ لا ينكسر.
رفرفت في رأسها
فكرة قديمة... الهرب، الخلاص، النجاة بأيّ ثمن.
لكن كارم؟
لا، لم تعد قادرة على زجّه في هذا الجحيم، لم يعد لديها رفاهية أن تستعين به.
أغمضت عينيها ببطء وأخذت نفسًا عميقًا كمن يهيّئ صدره للموت ثم فتحتهما بعزمٍ لتبدأ التفكير في طريقة تُخرج بها نوح من هذا المكان دون أن تثير حربًا.
وفي خضم أفكارها المتشابكة قطع الصمت صوتٌ مألوف.
**صوت الباب يُغلق في الأسفل.**
إذ انفلت الصوت كقُبلة وداع من ظافر إلى الفراغ، بات الشك واضحًا لقد غادر المنزل.
رفعت نظرها ناحية الباب تراقب اللاشيء... تغمغم بإصرار:
**ربما الآن سيبدأ كل شيء.**
جلست سيرين على الكرسي كأنها انكمشت داخله أو ربما انكمشت في نفسها…
كانت وحدتها أكثر ضجيجًا من أيّ ضوضاء وصمت الغرفة ينهش تفكيرها كما تنهش الذئاب عنق الفرائس في العراء... ظلّت تحدّق في الفراغ طويلًا حيث تتلاقى الظلال في زوايا الحائط كأنها تتآمر عليها ثم فاضت إلى يقينٍ مرّ:
**الهرب مستحيل... إلا إذا سمح لها ظافر برؤية نوح على انفراد.**
لكن حتى لو قدّر لها ذلك فمجرّد إخراج الطفل من قصرٍ تحرسه الأشباح والأسوار الشاهقة لن
يكون نهاية المطاف... المدينة ذاتها باتت عدوًا يتربّص بها في كل ركن كأنها سجينة داخل مدينة تحرسها عيون كلابه بدلاً من الأسوار.
سرعان ما تسللت فكرة إلى ذهنها كوميض خاطف وسط العتمة.
**ثمة شخص... رجل من الماضي... نافذة ربما لم تُغلق بعد.**
مدّت يدها نحو الهاتف الذي زوّدها به رامي، هاتف أسود صغير يشبه الغموض وكأنّه كُتِب عليه ألا يُستخدم إلا للفرار.
فتّشت في ذاكرتها عن رقمٍ حفظته الروح قبل العقل ثم اتصلت.
لم تمضِ سوى ثوانٍ قليلة حتى جاءها الصوت:
صوتٌ دافئ، مطمئن، ناضج.
**"مرحبًا؟"**
صوته كأنه يخرج من صندوق قديم في الذاكرة مكسوّ بالغبار لكنه لم يفقد بريقه.
قالت بخفوت ولكن بوضوحٍ يشبه القيامة:
**"مرحبًا ماثيو... أنا سيرين."**
ساد صمتٌ ثقيل كأنّ الهواء ذاته توقّف عن الحركة... ثم جاءها الردّ متلعثمًا من وقع المفاجأة:
**"سيرين.. أنتِ... لا تزالين على قيد الحياة؟"**
ابتسمت سيرين لكن ابتسامتها كانت من النوع الذي لا يرى النور.
**"نعم... لا زلت أتنفّس بطريقةٍ ما."**
قال ماثيو وقد اختلط صوته بين الدهشة والقلق:
**"أين كنتِ طوال هذه السنوات؟
"**
أجابت بنبرةٍ مُتعَبة وكأنّ القصة كانت جبلًا على صدرها:
**"إنها حكاية طويلة يا ماثيو... لكن لا وقت الآن...هل يمكنك مساعدتي؟"**
ماثيو كان المحامي الذي وثق به والدها أكثر من ثقته بأيّ أحد... رجلٌ نسج علاقاته عبر سنواتٍ من الذكاء والدهاء وأدار صفقات في الظلال أكثر مما شهد النور.
قال ماثيو سريعًا دون تردد:
**"بالطبع، أخبريني بما تحتاجينه."**
قالت بصوت خافت ولكنه حادّ كالسهم:
**"أحتاج إلى هويتين مزيفتين لي ولنوح... يجب أن أغادر البلاد دون أن يلحظنا أحد... لا أريد أن يعلم أحد بما أفعله حتى أقرب الأقربين."**
كان يمكنها أن تشتري الهويات بنفسها لكنها تعرف أن ظافر يتعقبها حتى من أثر أنفاسها... والآن بات ماثيو هو أملها الوحيد الذي لا يرتجف.
قال ماثيو وكأنّه يوقّع تعهّدًا بالولاء:
**"متى تحتاجينها؟"**
قالت بتلهفٍ:
**"في أقرب وقت ممكن."**
فأجابها بصوتٍ لا يعرف التردد كأنّ كل العقبات أمامه لا تُرى:
**"سيكون ذلك."**