رواية إنما للورد عشاق الفصل الثالث والعشرون 23 بقلم ماهي عاطف


رواية إنما للورد عشاق الفصل الثالث والعشرون  بقلم ماهي عاطف



كانت الساعة قد تخطت الثانية عشرة مساءً، قاد السيارة بحذر تام، تطلع نحو الطريق بترقب شديد من بين مشاحات المطر التي أدارها لإزالة تجمع المياه عن زجاج السيارة لرؤية الطريق بوضوح. 

ظل على هذا الحال حتى وصلا إلى المنزل الذي كانت تقطن به، وهو منزل عمها. ترجلت ثم تنهدت بعمق قبل أن تلتفت نحو "حمزة" الذي رمقها بصمت دون أن ينبس بكلمة. 


فتحت المظلة سريعًا ثم رفعتها كي تحتمي أسفلها من سقوط الأمطار الغزيرة. هرولا سويًا باتجاه البناية ليستقبلها الحارس معقبًا باحترام شديد، فهو يعلم جيدًا من تكون: أهلًا يا ست فرح، نورتي، بس للأسف أستاذ عاصي مش موجود. 


هتفت بنبرةٍ يتخللها بحة خفيفة تظهر شعورها بالصقيع: عارفة يا حمدان، أنا جاية أخد حاجة مهمة نسيتها وهمشي على طول.


أفسح لها المجال تاركًا إياها تتحرك نحو الداخل وبجوارها "حمزة" غير راضٍ تمامًا عما تفعله من تجاوزها للأمر وتدخلها فيما لا يعنيها.


صعدت الدرج مهرولةً قبل مجيء "عاصي"، جسدها يرتجف لكن عليها التريث وفعل ما جاءت لأجله فقط.


زحزحت الفراش بمعاونة حبيبها الذي ظهرت الدهشة فوق قسمات وجهه، بينما ابتسامة انتصار اعتلت ثغرها لمعرفتها بأن هناك شيئًا مخفيًا عن الجميع وبكل سهولة ستعلمه الآن.


هبطت الدرج الصغير فوجدت المكان مظلمًا للغاية، لكنها اشعلت مصباح الهاتف. 

تحركت ببطء شديد نحو المنضدة التي اصطدم بها "حمزة". 

جحظت عينيها حينما وقع بصرها على العديد من الصور للجميع. لم تجد شخصًا مجهولًا بالنسبة لها، لكن شيء واحد لفت انتباهها جيدًا، وهي صورة "فريد" وبجواره ورقة صغيرة مدونًا عليها بعض الكلمات جعلتها تطلق شهقة من صدمتها:  


_" تم التخلص منه بنجاح. "


ابتلعت لُعابها بصعوبة وباتت الدموع تتساقط من مقلتيها بغزارة، ثم وجهت حديثها نحو "حمزة" المصدوم أيضًا: يعني إيه؟ يعني ابن عمي طلع قتال قُتلة؟! مش مصدقة، لأ، أكيد في حاجة غلط. 


بعدما استفاق من صدمته، حمحم لينظف حنجرته محاولًا إخراج نبرةٍ طبيعية كي تهدأ قليلًا: اهدي يا فرح، خلينا نكمل تدوير وبعدين كل حاجة هتبان.


بترت حديثها نحوه عندما رمقت صورة "ماجد" فوجدت سهمًا لونه أحمر مدونًا أيضًا أسفله ببعض الكلمات:


_" الدور عليك يا عريس. "


تراجعت للخلف ثم هرولت للخارج عندما استحوذ عليها الشعور بالغثيان، هرول "حمزة" خلفها كي لا تفعل شيئًا بشعًا بذاتها.


بعد ثوانٍ، قامت بوضع كل شيء في موضعه كي لا تثير الشك نحو ذلك البغيض، هبطت الدرج بصعوبة حتى خرجت من البناية، تنفست بعمق ثم صعدت السيارة في صمت مريب.


أراد "حمزة" التحدث إليها كي يطمئن بأنها بخير، فعقب بخفوت: لازم نلحق ماجد ونبلغه بكل ده قبل ما يحصل له حاجة، بس مش عارف هنوصل له إزاي. 


بصوت لا حياة فيه أردفت: أنا عارفه هنوصل له إزاي.


****


حارة شعبية تعج بالضجيج في كل مكان، فالنجار يصدر من ورشته صوت نشارة الخشب، والميكانيكي يبحث عن أدواته حتى يصلح تلك السيارة التي تقبع أمام محله.


وسط هذه الأصوات المتداخلة ببعضها، تقف سيدة في الشرفة في منتصف الثلاثينات تدعى " مريم "، تأففت وهي تنظر إلى المارين والجميع بضجر؛ فهي لا تحب هذا التشويش العشوائي والتلوث الضوضائي إطلاقًا.


لوّت شفتيها ورفعت صوتها لتلقي كلمات سامة قاصدة إيصالها إلى مسامع زوجها الذي جاء للتو بعد غياب خمسة أشهرٍ يحمل بيده حقيبة مليئة بالأغراض التي كانت بحوزته.


هرعت نحو الباب ولم تنتظر حتى أن يطرقه، فتحته على غفلة ترمقه باستشاط من أعلاه لأخمص قدميه، بترت حديثه المبرر لها عن غيابه طوال هذه الفترة الماضية بعنف قائلة:

عايز إيه؟ وجاي ليه من أصله؟


ابتلع لُعابه بصعوبة محاولًا إخراج نبرةٍ طبيعية: جاي علشانك يا مريم وعلشان بنتي نورهان.


ارتسمت فوق شفتيها ابتسامة ساخرة قبل أن تصيح هادرة به: بنتك نورهان؟ مش دي اللي كنت بتضربها وتلسعها بالنار؟ إيه حنيت ولا إيه؟


_" بالله عليكِ بلاش كده، أنا عارف إني غلطان وغلطي ما يتغفرش بس غصب عني، أنا طول الخمس شهور دول مكنش ليا لازمة من غيركم ولا عارف أكل ولا أشرب يا مريم، كان لازم أبعد علشان أحس بقيمتكم، أنتوا أهلي وسندي في الدنيا، مليش غيركم."


لوهلة شعرت بالشفقة نحوه، لا تعلم لمَ؟ لكن قلبها هو المسيطر على هذا اللقاء بدلًا من عقلها. 

ففي النهاية هي أنثى تحكم دومًا بقلبها، لا محالة عن عقلها الناضج.


رضخت بتبرم سامحةً له بالدخول بعد صراع داخلي استحوذ عليها، جلس فوق الأريكة بينما هي دلفت نحو المطبخ كي تجلب له شيئًا يرتشفه، أتت بعد قليل بكوب عصير مانجو. 


فبتر فقاعة الصمت بقوله المترجي: هي فين؟ نفسي أشوفها واحضنها، ما تحرمنيش من اللحظة دي، الله يخليكِ.


تنهدت رافعةً راية الاستسلام قائلةً بإيجاز: مع حمزة قاعدين في شقة في الشيخ زايد.


أومأ لها بارتياح، راجيًا أن تذهب معه كي يلتقي بها ولو لمرةٍ واحدة، يرتشف من ملامحها المشتاق لها، يعانقها كي يبث لها الأمان من جديد نحوه.

****


التزمت الصمت وهي مطرقة رأسها في خزي، تلهث مما في صدرها من الألم والحزن، فما زالت الصدمة مستحوذة عليها لمعرفة جرائمه البشعة التي فعلها دون أدنى سبب حتى الآن!


ضمت قدميها إلى صدرها وهي تحدق في الأرضية بشرود، وعيناها تحويان فراغًا صادمًا يتناقض مع الضجة التي تستوحش صدرها. ابتلعت غصة مؤلمة كالأشواك تمزق حلقها. كانت صامتة، شاردة، لم تنبس بكلمة واحدة، وكأنها فقدت النطق وأصيب قلبها بذبحة صدرية جراء ما رأته وما علمته أمس!


بعد بضعة سويعات، وقفت أمام منزل "كوثر"، فقد حسمت أمرها كي تلحق بتلك الفجيعة قبل حدوثها، بدون سابق إنذار. طرقت الباب بعنف عدة مرات ولم تستجب لتهدئة "حمزة" الذي جاء معها بعد مناقشة كلامية حادة بينهم، فانفتح الباب بعد قليل لترمق "كوثر" بإشمئزاز قبل أن تصيح بها: فين ماجد؟


تركت الباب مفتوحًا على مصراعيه ثم تحركت نحو الأريكة قائلةً بتعالٍ: جاية متأخرة يا فروحة دايمًا كده!


_"قصدك إيه؟"


تنهدت بعمق، مردفة بنبرةٍ ذات مغزى: مش بتسألي عليه علشان عرض الجواز اللي كان بينا؟


زفرت بعصبية ثم أجابت بشيء من الحدة: بطلي هرتلة وقولي فين ماجد ضروري يا كوثر.


تجمد "محمود" الذي جاء من الخارج، ولاح الغضب على وجهه من صوتها المرتفع قائلًا: بتزعقي ليه كده يا فرح؟ عايزة ماجد ليه يا بنتي؟


صمتت قليلًا قبل أن تعاود سؤالها بإرتباك جليٍ فوق قسماتها: كنت محتاجة مهندس شاطر يا عمو فبصراحة كتير شكر فيه يعني.


رفع حاجبيه لها بشك مستطردًا بإيجاز: ماجد وورد مراته في بني سويف بقالهم فترة.


أغلقت جفونها بقوة تعتصرهم ثم عاودت فتحهما على صوت "حمزة" الذي قال بخفوت حرج: طب ممكن عنوانه أو رقمه بعد إذنك يا حاج!


_"اتفضل يا بني."


ابتسم كلاهما ثم تحركا للخارج بسرعة، بينما "محمود" صعد الدرج متجهًا نحو غرفته تاركًا تلك الشمطاء تتحدث مع ذاتها بحديثٍ كالمعتاد لا يعنيها: في حوار كبير ولازم أعرفه، ما هو مستحيل أكون زي الأطرش في الزفة.


****


عقب خروجهما سويًا، وقف "سعيد" يجلب كل ما يروق لابنته من طعامٍ وحلوى شهية وسط نظرات "مريم" المتعجبة، لكنها سعيدة بهذا التغير المفاجئ الذي طرأ عليه جراء غيابه عنهم.


وصلا إلى البناية التي تقطن بها "نورهان"، ارتجف جسده لهذا اللقاء فهو يعلم جيدًا كيف سيكون بينهم. نظراتها الخائفة المرتجفة تشحذ صدره إلى أشلاء!


تنفس بعمق ثم طرق الباب بخفة، منتظرًا رؤيتها بلهفةٍ لم يشعر بها من قبل بتاتًا!


فتحت "حنان" الباب، سامحةً لهم بالدخول، فهي تعلم والدتها جيدًا. 

جلس "سعيد" ينتظر زوجته بفارغ الصبر كي تجلب ابنته من الداخل، فهي أرادت أن تتحدث معها أولًا قبل المواجهة.


انتفض من مجلسه راكضًا إليهم حينما استمع إلى صراخ "نورهان" ونحيبها الذي لا يعلم سببه!


فتح الباب على مصراعيه ليطلق شهقة عندما وجدها تمسك بسكين حاد لا يعلم كيف وصل إلى يدها. 


قبل أن يتحرك أنش واحد، صاحت بوجهه بهستيرية: لأ، ما تقربش مني، ابعد عني، أنت وحش، يا حمزة الحقني، هيأذوني. 


تساقطت عبراته فوق وجنتيه بغزارة. لم يتحمل هذا الحديث القاسي الذي وقع على مسامعه، روحه تتمزق، قلبه تحول إلى قطع زجاج تشحذ صدره. ورغم كل شيء، أسرع بلمح البصر يجذب السكين من يدها، لكنها نفضت يده بعيدًا عنها عقب إصابة إبهامه.


رفعت كف يدها إلى موضع الجرح متحسّسةً إبهامه بخفة، ارتجف جسدها أثناء اقترابها منه، مردفة بتلعثم وتوجس شديد: دم، أنت تنزف يا بابا، أنا.. أنا آسفة.


ارتسمت فوق شفتيه ابتسامة لم تجلِ عليه منذ فترةٍ حينما لاحظ خوفها عليه وانكماشها من فعلتها. بنبرةٍ هادئة مطمئنة أجاب: أنا كويس يا نور يا حبيبتي، ما تخافيش!


على غفلةٍ جذبها نحو صدره، يضمها بحنانٍ حُرمت منه، يربت فوق ظهرها بخفة مطمئنة كي لا تخاف مرةً أخرى.


ابتعد عنها بعدما لاحظ سكونها ودموعها الغزيرة التي تتساقط تلو الأخرى. أمسك بيدها واضعًا قبلة بسيطة عليها، معقبًا بإيجاز وتعقل: حقك عليا يا نورهان، متزعليش مني. عارف إني أناني وماستهلش أكون أب بس غصب عني. كنت فاكر بعاقبكم، بس طلعت بعاقب نفسي. عارف إنك شوفتي واستحملتي كتير في وجودي اللي زي عدمه.


مستكملًا بغصة تشكلت في حلقه من وجع نحو ما يمرون به: حتى جوازك من حمزة كل حاجة كانت غلط برضو بسببي، بس أنا جاي لك ندمان وعايز نرجع تاني أب وبنته. عايز أعوضك عن قسوتي وغبائي في تربيتك، علشان خاطري توافقي.


ظل صدرها يعلو ويهبط من شدة خوفها نحوه، تقبض بيدها على طرف ثوبها، ناظرة إليه بعيون متسعة غير مصدقة حديثه الجاد اللطيف معها، لم تشعر به هكذا من قبل، لمَ هذا التغير الآن؟


_"أنت بتعمل إيه هنا يا خالي؟! وإزاي تيجي هنا بدون علمي؟"


وثب واقفًا عندما استمع إلى صراخ "حمزة" الذي جاء للتو بصحبة "فرح" بعدما قامت "حنان" بمهاتفته حين شعرت بتوتر الأجواء نحوهم. 

لم يهتم بنبرته الخشنة نحوه، فعقب بخفوت متحكمًا في أعصابه: جاي لبنتي يا ابن أختي، هاكون بعمل إيه؟ 


_" بنتك مين؟ مش بنتك دي اللي مكنتش عايزها؟ مش دي اللي لعنة في حياتك؟ مش دي اللي بتقلل منها ومش عايز وجودها أصلًا؟ أنهي بنتك اللي جاي لها؟!! "


تنهد ثم تحرك يقف قبالته، قائلًا بنبرة حزينة موجعة: عارف إني غلطان يا حمزة، بس بالله عليك سامحني، خلي نورهان تسامحني، عايز كلكم تسامحوني، غصب عني والله، الحمد لله رجعت وفوقت لنفسي، بس للأسف بعد فوات الأوان.


فاستطرد بأعين مهزوزة يراقب قسمات وجه الجميع: وكنت جاي يعني.. عشمان إنك تطلقها علشان تشوف حياتك وهي تكمل دراستها وحياتها، عارف إن أختي دبستها فيك بس صدقني جميلك ده فوق رأسي طول عمري يا ابني.


صمت قليلًا لا يعلم ما عليه فعله أمام إصراره ورجائه نحو أخذ ابنته معه مرةً أخرى وانفصالها عنه كي تستكمل مرحلتها الدراسية. 


فأخذ القرار بعد ثوانٍ معقبًا بجمود يغلفه الإصرار: تمام، موافق، بس أقسم بالله يا خالي لو حصل لها حاجة أو عرفت إنك رجعت تضربها وتأذيها تاني، محدش هيقف لك غيري، سامع!


أومأ له بلهفةٍ، ثم اقترب "حمزة" من "نورهان" التي تراقب كل شيء بدهشة، لكن بداخلها سعيدة بتغير والدها والخروج من هذا المنزل الذي سلب حريتها بالكامل والإذعان لكل الأوامر دون وجه اعتراض منها نحو حديثه.


دنى منها يهمس في أذنيها بدعابة: عايزة تروحي مع الراجل ده ولا أقتله لك هنا؟


قهقهت عالية حتى بانت نواجزها، وعينيها تلمعان بوميض غريب، وجهت له نظرات امتنان نحو كل شيء فعله معها من اهتمام ورعاية طوال تلك الفترة.


بعدما غادروا ثلاثتهم، وقفت "فرح" بجواره ترمق طيفهم بدهشة، معقبة بصدمة: دي صغيرة أوي يا حمزة 


اتسعت ابتسامته، مجيبًا بتنهيدة حارة: آه بس مش أوي يعني عندها تسعة عشر سنة، هي كانت بتروح المدرسة بس رفضت تروح السنة دي فبإذن الله هترجع تاني.


_" شكلها كيوت وعسولة أوي، أنا عايزاها تيجي تعيش معايا ".


رفع حاجبيه نحوها من حديثها الأبله، موجهًا حديثه مشاكسًا إياها: طب ما نتجوز وتيجي أنتِ تعيشي معانا؟


كبحت ابتسامتها من التباين، مردفة بغيظ واهٍ: لأ يا ظريف مش دلوقتي.


زفر في ضيق، بنبرةٍ حادة تسأل: إمتى يعني يا فرح، هانفضل نأجل لحد إمتى يعني؟


_" لحد ما نكشف عاصي، مرات عمي ترجع هي وعنان من العمرة ".


تنهد في سأم، قائلًا بحزن دفين نحو علاقتهم: هتفضلي موقفة سعادتك وحياتك علشان حد؟


نظرت أمامها بشرود، مستطردة بعزيمة وإصرار معًا: سعادتي مش هاتكمل غير لما عاصي يتفضح ويدوق العذاب ألوان.


قهقه بخفة قبل أن يعقب بدعابة: شرسة بس بحبك.

الفصل الرابع والعشرون من هنا


تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1