![]() |
رواية إنما للورد عشاق الفصل الخامس والعشرون والاخير بقلم ماهي عاطف
وقفت مصعوقة لرؤية ابنها يبكي لأول مرة، رقّ قلبها الحجر له، أرادت أن تحتضنه وتبث له الأطمئنان كما كانت تفعل مع "فريد"، لكن شيء داخلها كان مستحوذًا عليها بالرفض لفعلتها تلك.
لا تعلم ماذا تفعل، هل تذهب نحوه وتطمئن على أحواله أم تتركه ينفث غضبه وبكائه لعله يرتاح قليلًا مما يحمله بين طياته من وجع؟!
حركت رأسها بالنفي لمجرد التفكير في هذا الشيء، تحركت صوبه بخطواتٍ متأنية ثم وضعت يدها فوق ذراعه كي يستدير لها، التفت "ماجد" بعينين حمراوتين يرمقها بصمت، ابتلعت لُعابها قبل أن تستفهم بإرتباك: مالك يا ماجد؟ في حاجة حصلت بينك وبين ورد؟!
لم يجد إجابة كي يخبرها بها، فالحديث أصبح عاتقًا عليه كالجبل. فارتمى في حضنها باكيًا، فبادلته العناق سريعًا بذعر لفعلته وبكائه الهستيري بهذه الطريقة.
لم تبتعد ولو خطوة واحدة، فقط تربت فوق ظهره بحنوٍ أفتقده منها، كأنها لم تلده ولا تعلم من هو!
استطاع بصعوبة الابتعاد عنها بعد دقائق عصيبة كالدهر. هدأ قليلًا من حالته المثيرة للشفقة لكل من يراه، نظر نحو عينيها وكأنه وجد سببًا ليعبر عما يجول بمخيلته وبحياته من وجع.
فتحدث ساردًا عليها ما يمر به مع زوجته: ورد عايزة تتطلق، عايزة تسيبيني وتروح تقعد عند خالتها على طول، خايفة من المشاكل تزيد خصوصًا بعد ما عرفنا مين قتل فريد.
مستكملًا حديثه بتوسل كي تساعده وتتحدث إليها: أنا عارف أنك بتكرهيها بس علشان خاطري كلميها، لو ليا خاطر عندك قولي لها أي حاجة تخليها تكمل معايا، أنا عارف أنك عمرك ما حسيتي أني ابنك زي فريد بس ساعديني وخلاص، أنا حياتي من غيرها متسواش أي حاجة والله.
رمقته بدهشة بالغة من رجائه لها ناهيك عن هيئته المبالغة بحبه نحوها، كل شيء تطلعت إليه بأعين متسعة، فأسرعت بانتشال يدها من راحته قبل أن يقبلها بتوسل، وقالت بغضب سافر: أنت اتجننت يا ماجد! أنت بتعمل إيه؟ يخربيت الحب اللي يخليك دلدول كده، عايز تبوس إيدي وتترجاني علشان تفضل معاك!! مين العاقل اللي بيعمل كده، ما تسترجل وتفوق كده.
شعر بإهانة كبيرة عقب حديثها الحاد معه، فابتسم بسخرية مجيبًا بقوة: لو الحب زي ما بتقولي بيخلي الراجل دلدول فعندك حق أنا دلدول، أنا لو كنت بتكلم معاكِ وبلجأ لك تحلي لي مشاكلي فده علشان أنتِ أمي زي ما بيقولوا، فبطريقتك دي عايز اقول لك إن شاء الله عنها ما تحلت، أنا آسف إني جيت لك.. يا أمي.
لم يلتفت إليها ولم ينبس بحرف آخر، فواصل طريقه إلى الخارج يجر خيبة آماله نحو حبيبته، ووالدته!!
بعد نصف ساعة، جلست في شرفتها تنظر في الفراغ، شاردة، تتذكر حديث ابنها القوي عن علاقته بحبيبته. شعرت بتأنيب ضمير لنفورها من أفعاله الطائشة وتمسكه بتلك الفتاة بهذه القوة.
أحست بوخزة في قلبها عقب استهزائها بمشاعره الصادقة. هي ترى دائمًا أن الرجال أقوياء لا يغمض لهم جفن، يفعلون كل ما يجول بخاطرهم، فلماذا أمام الحب يظلون ضعفاء هكذا؟!
حسمت أمرها ثم تحركت صوب غرفة "ورد" التي تقبع بداخلها منذ أن أتت. طرقت الباب بتردد، واستجاب لها في الحال. بأعين متسعة راقبت "ورد" هيئة زوجة عمها، فهي لم تأتِ إلى هنا بتاتًا. شعرت بوقاحة فعلتها فأسرعت بإعطائها إذن الدخول إلى الغرفة.
جلست فوق مقعدها، تفرك في يدها بتوتر لم تعتد عليه أمامها، فدومًا كانت صلبة في مواجهتها، في جمودها معها. شعرت بالشك يتسلل إلى قلبها بوجود خطب ما، لهذا جاءت إليها.
نظرت لها بتمعن شديد حينما حمحمت لها كي تجذب انتباهها، تنهدت "كوثر" ثم قالت بنبرةٍ جعلتها هادئة بعض الشيء: ورد، أنا عارفة أن قعدتنا دايمًا مليانة مشاكل وزعيق، بس حاولت كتير أصفي من ناحيتك على قد ما أقدر، وعارفة كمان أنك عمرك ما حبتيني حتى لما كان فريد الله يرحمه عايش.
تابعت بخفوت حزين عندما تذكرت حديث ابنها: أنا مستعدة أنسى كل حاجة حصلت بينا ونبدأ صفحة جديدة، بس بلاش تخربي حياتك وبيتك، بلاش تبعدي عن جوزك اللي هيموت من غيرك.
واصلت بدعابة لأول مرةً معها: المشاكل دايمًا موجودة في كل بيت مصري، فمتقلقيش يعني.
رغمًا عن "ورد"، ابتسمت لها، تسارعت ضربات قلبها من حديث زوجة عمها التي شعرت به بعد صراع دائم، التزمت الصمت وأجفلت عينيها لأسفل، تنظر صوب الأرضية، تستمع إلى حديث الأخرى بسعادة لم تشعر بها من قبل، بينما "كوثر" أضافت بصدق: ماجد بيحبك يا ورد، فبلاش تبعدي عنه يا بنتي. يمكن أبان أني قاسية وقلبي جاحد، بس الظروف هي اللي بتجبرنا نتعامل بالقساوة دي. سامحيني يا ورد على كل حاجة عملتها فيكِ.
أطلقت شهقة عندما اقتربت منها تعانقها بأمومة لم تعتد عليها من قبل. بتوتر جلي وارتجافة جسدها، امتدت يدها تحتضن ظهرها هي الأخرى، مغمضة جفونها تستمع إلى هذا الحنان الذي افتقدته كما افتقده زوجها.
ابتعدت عنها ثم نظرت بعينيها، ظلت صامتة مما جعل زوجة عمها تشعر بالخجل، تلعن ذاتها على مجيئها إليها والتحدث في شيء لا يعينها من الأساس!
لكن عكس المتوقع، فاجأتها "ورد" بدموع تتساقط تلو الأخرى ثم قالت بنشيج: أنا استنيتك كتير تيجي تتكلمي معايا، كنت عايزاكي تحسسيني أني مش يتيمة، كنت مستنية حضنك على الأقل علشان تواسيني، الحمد لله يارب الحمد لله.
ثم أمسكت بيدها تضع فوقها قُبلة، متابعة حديثها بسعادة وبكاء في آنٍ واحد: شكرًا يا مرات عمي، مش هسيب ماجد، مش هسيب بيتي اللي اتربيت فيه، هفضل هنا.
انشرح قلب "كوثر" لما وقع على مسامعها من حديثٍ أرضاها، عانقتها مرةً أخرى بتهلل، فها هي قد حققت أول خطوة لإرضاء ابنها كي يرى بها والدته الحنونة رغم قسوتها وحديثها الفظ الدائم مع والده، معه..
****
جلست تهز قدميها من شدة الغيظ، عيناها كجمرتين مشتعلة بهما النيران، ملامحها الصغيرة البريئة كافية لجعل أي رجل ينصاع لتلك الدموع الطفولية، وهذا ما حدث عندما سمعت طرق الباب. هرولت تفتحه، صدمت بوجوده أمامها بعد أن تجاهلت مهاتفته عدة مرات.
دقق "حمزة" النظر إلى وجهها لبرهة من الوقت، هامسًا بصوت رخيم: كنت متأكد أنك مش هتردي على مكالماتي نهائي، فجيت لك.
أذنت له بالدخول ثم هتفت بعناد شديد، وعيناها تَأْبَى أن تزرف الدموع: ومش هرد ولا هسمع كلامك يا حمزة، أنا واحدة ابن عمها اتسجن، ومستحيل أتجوز من ورا مرات عمي حتى لو طلبت مني ده.
_" يا فرح، أنا كلمتك كتير علشان أقول لك إنها وافقت أننا نكتب الكتاب بكرة أصلًا، مافيش حاجة من هرتلتك دي هتحصل."
جحظت عيناها، تراقب ملامحه بدهشة، غير مستوعبة ما وقع على مسامعها من حديثٍ صادم غير واقعي بالنسبة لها بتاتًا!
ابتلعت لُعابها معقبةً بشك نحوه: إزاي؟! وبعدين إمتى كلمتها أصلًا وحصل كل ده إزاي؟! أنت أكيد بتكدب عليا وهي زعلانة مني صح؟!
حرك رأسه بيأس من حديثها الأبله، مردفًا بصدق: والله ده اللي حصل، قلت لها هكتب الكتاب بكرة وهاخدك ونسافر برا، مش هنرجع مصر تاني، وافقت ومقالتش حاجة تاني ولا إنها زعلانة منك حتى.
أغلقت عيناها ثم جلست بتوتر فوق المقعد في صمت مريب، ابتلعت غصة مؤلمة كالأشواك تمزق حلقها.
كانت شاردة، لم تنبس بكلمة واحدة، وبعد ثوانٍ مرت كالدهر عليهما، قالت بخفوت: بس يا حمزة ..
لا توجد كلمات معارضة في قاموس "حمزة" المتلهف، الذي قطع حديثها.
وبلحظة كان قريبًا منها، أصبح وجهها بين كفتيه ملتهمًا شفتَيها في قبلة متلهفة شغوفة. فقد حقق أول حُلم تمنى تحقيقه عندما تصبح ملكه، ولو كان وهميًا إلى الآن!
بينما هي باتت كالصنم بين يديه، تحاول استيعاب ما يحدث وإسكات تلك الفراشات التي تطير في معدتها، لكن كالعادة كانت صامتة وكأن الحديث لا يعد له فائدة بينهما الآن!!!
****
تركت "شعيب" مع زوجة عمها التي ألحت عليها لتجعلها تعطي فرصة أخرى لحياتها الزوجية، بعد تفكير دام لفترةٍ لا تعلم ما مر عليها من حديثٍ سوى أنها عاشقة له.
طوال عمرها المنصرم لا تعلم ما هو الحب إلا حين شعرت به معه، وكأنه يعلم جيدًا كيف تكون المعاملة مع امرأة لم يكن شيء كهذا في حياتها بتاتًا!
حسمت أمرها في النهاية ثم ارتدت فستانًا قصيرًا أزرق اللون، تاركة العنان لخصلاتها، وضعت ملمع شفاه بسيطًا وكحلًا زين عينيها بطريقةٍ تجعله مهوسًا بها كعادته.
انفتح الباب مما جعلها تبتلع لُعابها حينما رأت نظراته المصوبة تتأملها من أعلاها لأخمص قدميها، متوجهًا نحوها في خطواتٍ متأنية زارعًا بداخلها توترًا، جعل نبضاتها تتسارع بشدة كأنها تقابل وحشًا مجهولًا بمفردها!
وقف أمامها صامتًا، عيناه تراقبان اهتزاز عينيها، ملامحها بإعجاب ظاهر لا يمكن إخفاؤه عنها، تأمل فستانها، كل شيء فعلته بذاتها دون أن ينبس بكلمة واحدة عقب دخوله، وكأن الزمان والمكان لا يتناسبان معه!
وبعد حرب النظرات، تحدث أخيرًا بنبرة حاسمة جعلتها ترتجف:
أنتِ مراتي، مستحيل أسيبك حتى لو طلبتِ مني ده، الكلام منهي في الموضوع ده بالذات، فاهمة؟
رفع حاجبيه لها بدهشة عندما طوقت عنقه بذراعيها، قائلة بمكر أنثوي: ومين قال لك إني هسيبك أو هسيب بيت جوزي؟
ألقي نظرة عتاب نحوها دون إجابة، فعقبت بحزن قائلة: حقك عليا يا ماجد، بس غصب عني. أنت فعلًا عندك حق، أنا واحدة ضعيفة، بس ده مش ضعف صدقني، قد ما هو خوف عليك وعلى حياتنا الجاية سوا.
لتسترسل بنبرةٍ تقطر عشقًا له: أنا بحبك وحلمي نعيش ونكمل مع بعض، صعب أوي عليا أسيبك وأمشي كده، ساعات بنعمل حاجات الدنيا بتكون جاية علينا بزيادة فيها، فبنعملها غصب.
لم يُجب عليها، بل أسرع بمعانقتها في صمت، ورغمًا عنه زرف دمعة من عينيه، تمنى لو يستطيع أن يحارب من أجلها ولو مرة مثلما تفعل هي، لو ينعم الله عليه بطفل واحد يكون لهم وبينهم رابط قوي، لكنه لا يعلم ما يمكنه فعله، فليس بيده حيلة ليفعلها، فقد ترك أمره لله، تمنى أن يرزقه بحياة بعيدًا عن الصراع والعوائق .
حاسمًا أمره معها، فلا يرغب بسواها بجواره، أن تكون له للأبد وأن تتخلى عن حديثها المحطم لقلبه وتهديدها دومًا بتركه والذهاب بعيدًا عنه، فهو لا يستطيع العيش بدونها قط ...
تمت بحمد الله