رواية لاجلها الفصل السابع والعشرون
أُجاهد قلبي كلّما رآك قريبا،
كأنّ بيني وبينك ألف بابٍ موصد…
وأنا التي أمسكتُ بالمفتاح ثم نسيته عمداً.
لا تسألني لِمَ أهرب،
فأنا لا أخافك، بل أخاف منّي حين أطمئنّ إليك…
من ضعفي إن صدّقتك، من دموعي إن جرحتني،
ومن قلبي إن عاندني واختارك.
تظنّ أنّي أقسى مما ينبغي،
وأنا فقط… أحاول أن أُبقي ما تبقّى منّي واقفًا.
أخشى أن أميل إليك… فأقع.
فلا تُناديني من بين نظراتك،
ولا تُعاقبني على حروبي التي لا تراها،
أنا التي تُقاتل نفسها كلّ يوم، كي لا تُحبّك أكثر.
المراجعة والخاطرة العظمة للرائعة/ سنا الفردوس
الفصل السابع والعشرون ج١
أغلق الكراسة التي كان يُصحح بها، ليرفع رأسه إلى زوجته متطلعًا إليها بعدم استيعاب، سائلاً عمّا أدلت به منذ لحظات:
— إنتِ بتتكلمي جد؟ لا تكوني بتهزري يا منى؟
تحركت قدماها، تتجه نحو السرير المقابل لمكتبه، تجلس عليه قائلة:
— يا أخوي، وههزر ليه يعني؟ وده موضوع ينفع فيه هزار؟ خليفة غلبان ومفكرها سهلة، ميعرفش طبعًا اعتماد وعفاشتها!
صحّح لها منصور، وبيده يجمع الكراسات في كومة واحدة قبل أن يقوم من مكانه ذاهبًا إليها:
— ما اسمهاش عفاشة، اسمها عزة نفس يا ست منى، ودي واحدة مكافحة يعني يُضرب لها تعظيم سلام.
— أمممم...
زامت بمكر، واضعة سبابتها على وجنتها، تنتظره حتى جلس بجوارها لتُعلق:
— كان عنده حق الجَزين لما يقولي جوزك متشدد لها، مع إنه بصراحة غاظني، وحسيت إنه بيستهزأ بيا.
— بيستهزأ بيكي!
— أيوه، لما يجيب سيرة مرة غيري ويجولي جوزك مش عارف إيه عليها؟ ده كلام برضو؟
سمع منها، لتصدح ضحكته الرنانة، تلك التي لا تصدر إلا بفضلها، ليُشاكِسها قارصًا ذقنها بين إصبعيه السبابة والإبهام:
— يعني يوم ما تغيري، تغيري من اعتماد يا منى؟
نفضت يده عنها بعصبية:
— ومغيرش منها ليه إن شاء الله؟ مش معنى إن بوزها شبرين وبتطفّش الرجالة يبجى عفشة ومحدش يبصلها، ولا هتنكر يعني؟
— لا طبعًا، هنكر ليه؟ هو أنا أعمى؟
قالها بعفوية استفزّتها، لتصيح به معترضة:
— منصور، لمّ نفسك!
وكان رده ضحكات أخرى، يميل عليها ويضمها بمرح مداعبًا، في إجابة ضمنية تعرفها جيدًا؛ أنه لم ولن يحدث أبدًا أن ينظر لامرأة غيرها بعين الرجل. كل النساء في عينيه سواء، وهي فقط من استحوذت بتلك الصفة لديه دون غيرها.
---
حين يغيب الجسد في غفوته، يأخذ العقل الفرصة كاملة في نسج ما يريد، مستغلًا انفصاله عن الواقع في تلك الساعات القليلة أو الكثيرة، يترجم ذلك إما في أحلام سعيدة أو سيئة أو مشاهد غير مفهومة، حتى يغيب هو الآخر ويقتطف راحته مع الجسد المنهك. ثم يعود الاثنان بعد ذلك وقد تجددت الطاقة استعدادًا ليوم آخر بصراعاته ومسؤولياته.
لمسات حانية رقيقة تشعر بها تمر على بشرتها، وبعض الخصلات من شعرها، ثم أنفاس وأصوات، حتى قُبلات رطبة كدغدغات تجعلها بصعوبة تكتم ضحكاتها، مستمتعة باصطناع النوم. واللمسات تحوّلت إلى تحرشات حين حطت الأسنان الحادة على أنفها، لتقفز ناهضة بجذعها، تخطف تلك الشقية الصغيرة، مصدر السعادة الوحيد لها، لتنتقم منها:
— إنتِ بتعملي إيه يا عفريته؟ ده أنا هجطعك بوس النهارده!
وهجمت تُشبِعها بالقُبلات والمداعبات، حتى باتت ضحكات الصغيرة بمرحها تصل إلى خارج الغرفة. تتابعهما شقيقتها، والدة الطفلة، التي كانت جالسة على أرضية الغرفة منكفئة على بعض الأوراق المنتشرة حولها، تقطع وصلة المرح بين الاثنتين:
— أنا جولت محدش هيعرف يصحيكي غير دندن، هي بس اللي بتجدر عليكي وبتعمل ما بدالها معاكي.
وكأنها واحدة أخرى غير تلك المتجهمة الحادة في وجه الجميع، تعيدها تلك الطفلة الصغيرة وحدها إلى طبيعتها الأولى:
— عشان قليلة أدب ومش متربية! في واحدة تعمل كده برضو في خالتها؟ نفسي أعرف جايبة الجرأة دي منين؟ جوليلي يا بت، جايباها منين ها؟
وعادت تنقض عليها وسط صوتها الصخب حتى إذا تعبت الأولى توقفت بلهاث:
— لا، إنتِ لو خدت اليوم كله في اللعب معاكي مش هتشبعي، وخالتك مش كدّك يا حبيبتي، ده أنا...
قطعت عن إكمال جملتها حين انتبهت أخيرًا إلى فعل الأخرى، لتسألها:
— إنتِ بتدوري على إيه عندك يا روضة؟
رفعت المذكورة رأسها، مندمجة في كُتلة من الأوراق التي تمسك بها، لتأخذ برهة من الوقت تستدعي بها التركيز:
— لا يا بت أبوي، خير إن شاء الله، مفيش حاجة، أنا بس بدور على شهادة ميلاد الكمبيوتر بتاعتي والبطاقة، كانت جاعدة هنا مع ورقك وورق رغد أختي، بجالي ساعة بدوّر مش لاجياها.
سريعًا ما تبدل مزاج اعتماد، ليتسرّب داخلها شيء من ريبة في استفسارها:
— وإنتي مالك بشهادة الميلاد ولا البطاقة؟ هتجدمي على وظيفة مثلًا؟
ردت روضة سريعًا دون تفكير:
— لا طبعًا، مين هيوظفني بدبلوم الصنايع؟ محمود طالبهم.
انتفضت اعتماد باستدراك، تنهض وتنزل عن سريرها، حاملة الطفلة بيدها، تسأل بخفوت وخطر:
— وجوزك طالب بطاقتك ليه؟
كان الصمت هو ردها، تتحرك مقلتاها بتوتر أدخل الشك في قلب اعتماد، لتردف مخمّنة بحدة:
— جوزك عايزك تضمنيه في قرض الربا اللي جبتي سيرته من كام يوم صح؟
تلجلجت روضة بكلمات غير مفهومة:
— ما هو... ما هو... أصل هو يعني... عشان يعمل المشروع...
— لأ، عشان يشتري الموتوسيكل!
صدحت بها اعتماد، حتى انتفضت الطفلة بيدها، فتداركت سريعًا تُهدّئها، قبل أن تعود لشقيقتها تُحذرها بخفوت:
— باع الدهب على تفاهات وما اتكلمتش عشان حضرتك راضية وما اشتكيتيش، جابله على نفسك وبيأكل بعقلك حلاوة برضه، ميخصنيش. إنما توصلي إنك تضمنيه في قروض الربا اللي ماشية في البلد؟ يبجى أطلّقك منه أحسن.
— بعد الشر يا اعتماد، ليه بتقولي كده؟
— اخرسي يا بت!
ما زالت تحافظ على خفض انفعالها من أجل الطفلة، لكنها مستمرة في الحزم معها:
— أنا جولت كلمتي ومش هتنيها يا روضة. جابلة عيشتك مع جوزك الصايع، إنتِ حرة، إن شاء الله حتى يأكلك عيش حاف. إنما تضمنيه في قروض؟ لا، والف لا. المحروس مصمم على اللي في دماغه، يخلي أي حد من عيلته يضمنه، إنما إنتِ يا روضة؟ لا تبجي أختي ولا أعرفك.
بصمتٍ تام تلقّت روضة التهديد دون إبداء أي رد فعل، سوى أنها لملمت الأوراق، ثم استقامت من جلستها، لتقف وتتناول ابنتها، تُومئ بصوت خفيض:
— ماشي يا خيتي، اللي تشوفيه. تعالي يا دنيا.
وخرجت بطفلتها، تتبعها اعتماد في جمود وحسرة. شقيقتها لا تفرق عنها سوى ثلاث سنوات، ثلاث سنوات فقط فرق بين واحدة تحملت مسؤولية عائلة كاملة عن عمر السادسة عشرة، وأخرى تعيش الحياة بلا عقل ولا تفكير. كل شيء يصل إليها بلا تعب، تسير خلف عاطفتها كالعمياء ويتحمّل غيرها النتائج.
---
صعدت إلى الطابق الثاني من منزلها، تحمل دلو ماء وإناءً بلاستيكيًّا امتلأ بالحبوب، من أجل إطعام السرب الذي تجمع حولها فور أن أطلت أمامهم، يتدافعون بأجنحتهم في طلب الطعام. تستقبل لهفتهم بابتسامة تطمئنهم:
— كلكم هتاكلوا والله، بس ادّوني فرصة.
وأكملت ضاحكة، بعد أن نثرت أسفلها عددًا من الحفنات الكبيرة على سطح المنزل، تُلهيهم بتناولها، فتمر هي على الأعشاش، تُنظفها وتطمئن على الصغار، تُغيّر الماء القديم بآخر جديد، حتى إذا انتهت، ملأها شعور بالراحة وهي تراقبهم وتراقب حب الأزواج. كل فرد منهم لوليفه، يحمل قصة تعلمها جيدًا. ما أجمل عالمهم! حب الحمام ترعرع داخلها منذ الصغر بفضل تلك الصفة التي تعلمها عنهم؛ لا يمكن لفرد حمام أن يتزوج دون حب حقيقي.
لفت أنظارها أحدهم، وهو يدور حول أنثاه، يفعل كل شيء من أجل لفت انتباهها وإضحاكها. قد يبدو أنها تهذي بتلك الأخيرة، ولكنها ترى بوضوح السعادة التي تتجلى بأفعال الأنثى اندماجًا بذكرها.
— ياريتنا، عالم البشر، نبجى زيكم... ولا نصكم حتى. آآه لو يحصل!
وأطلقت تنهيدة، ويا ليتها ما فعلت، إذ انتبهت أخيرًا أنها مراقبة من ذاك المُتربص، جارها المزعج، مستندًا بمرفقه على نصف الحائط المبني في الطابق الثاني، يقابلها بابتسامة متسعة، متمتمًا بشفتيه كلمات سهلة القراءة:
— صباح الجمال.
لم تُجب التحية، واكتفت أن تُحدّجه غاضبة بعينيها الجميلتين اللتين تأسره بالنظر إليهما، غافلة ببراءة تناقض شراستها أنها تزيد من تسليته. ليردف بتحريك الشفاه مرة أخرى:
— مستنيكي النهارده تنوري البيت.
وكأنها عادت طفلة صغيرة لا تدري ببلاهة أفعالها، اهتزّ رأسها بالرفض وتحريك الشفاه:
— احلم براحتك، مش داخلة بيتك.
والتفتت بعنف تذهب من أمامه، فلم ترَ الضحكة الكبيرة التي كتم صوتها بصعوبة، يضرب بكفه على ذلك الجزء الناقص من الحائط، حتى إذا توقف، غمغم بصوت مسموع لنفسه:
— آه يا أنا يا أمه، تلاحق على إيه ولا إيه بس يا حمزة؟ دمها العسل، ولا العيون المسحوبة، ولا... يا غلبك يا حمزة، يا غلبك!
...............................
وقف يتابع خروج الفتيات من مدرستهم، ومرور عدد منهن في ذلك الطريق الجانبي، وليس الرئيسي الذي يمر عليه المعظم. ينظر لساعة يده كل لحظة في انتظار تلك المرأة المعقدة، مخمّنًا بفطرته أن هذا هو الممر الوحيد لمنزلها.
زفر بضيقٍ يكتسحه لثقل تلك المهمة التي تطوق رقبته بعذاب الضمير. ليتها كانت امرأة عادية وتعرف التحدث بالأخذ والرد، ولكن كيف؟ وهي تتخذ معاداة الرجال أسلوب حياة، كما سمع من بعضهم.
انتفض مستقيمًا، بعد أن كان متكئًا على جانب سيارته، يُبصرها قادمة من قريب، متحفزًا لمعركة قد تؤدي لفضائح أو ربما خسائر بشرية، لكنه لن يهتز أو يتراجع عما قرر فعله منذ الأمس. ما زالت تقترب وعدد من الفتيات يرافقنها، يتبادلن الحديث والضحك، يا إلهي! إنها تعرف الضحك مثل باقي البشر!
ـ أستاذة اعتماد! هتف مناديًا باسمها، يجذب انتباهها وانتباه الفتيات اللواتي يحيطن بها من الجانبين، غير مبالٍ بالغضب الذي ارتسم جليًّا على ملامحها، مستنكرة فعله بالتأكيد. ولكن فليكن، لقد شحذ همّته استعدادًا لكل المصائب من طرفها.
تابع تصرف الطالبات وهنّ يواصلن المسير دونها، فاتجهت إليه بخطوات تحفر الأرض بغضبها، حتى إذا توقفت أمامه:
ـ نعم؟ بتنادي ليه حضرتك؟
صمت برهة يتأملها، ولأول مرة، تحضره ضحكاتها منذ قليل مع طالباتها. لقد ظن لوهلة أنه أخطأ الشخصية، بالإضافة إلى الاختلاف التام بين تلك التي كانت مع الفتيات، وهذه التي تقف أمامه بوجهها المشتد... ومع ذلك، جميلة!
ـ حضرتك، بسألك بتنادي عليا ليه؟ ممكن أفهم ليه ساكت؟
ما أبشع غضبها وتشنجها في الصياح دون تمييز! زفر يستدعي الحكمة والهدوء في النقاش مع كتلة النار التي تقف أمامه:
ـمعلش يا أبلة اعتماد لو عصبناكي، بس أنا بصراحة كان لازم أشوفك عشان أسألك...
هدأت من وتيرة أنفاسها قليلًا: ـ
تسألني عن إيه؟
أجاب يدخل في الموضوع مباشرة:
ـ أسألك عن التليفون، حضرتك، اللي عطل امبارح... بسبب الميّة...
ـ وإنت إيه يخصّك عشان تسأل؟
سليطة اللسان! كم يود أن يهشم رأسها! بارعة جدًا في إخراجه عن طوره الطبيعي الهادئ إلى الانفعال بعصبية.
ـ مالي؟ كيف يعني؟ هو التليفون دا مش باظ بسببي؟ ولا بسبب حد غيري؟ عرفت إنك ودّيتيه لحمادة جينيس بتاع التليفونات في البلد، وجالك إنه ما عرفش يفتحه، ولا بيشتغل فيه أصلًا، عشان حصل له جفلة... يعني ما عادش منه فايدة...
بشرتها الخمرية تحوّلت إلى الأحمر القاني، بامتزاج مع العرق الذي يتصبب على جبهتها وبعض مناطق وجهها بفضل الشمس، والعروق التي انتفخت في جبهتها تُنبيء بوضوح أنها على وشك الانفجار:
ـ يعني حضرتك روحت للراجل الغريب وعن تليفوني سألت واتطجست؟ برضو هجُولهالك تاني: إيه دخلك؟ باظ بسببك ولا بأي سبب تاني برضو ما يخصكش، ولا يخص أي حد!
توقفت تُهدّئ من وتيرة أنفاسها المتسارعة، وصمت هو قليلًا يمتص غضبها، غير متأثر بكل ما تلفظت به، فهذا المتوقع منها أصلًا... ليستدعي الحكمة في مخاطبة القطار المشتعل: ـ ماشي، رغم كل زعيقك وصراخك، أنا برضو هاعمل بتربيتي وأصلي الطيب. جُلتِها قبل كده إنه قفل بسببي، وأنا ما اتعودتش أغلط وماصلحش غلطي. بس يا ريت يبجى فيه تفاهم منك.
لم تفهم الأخيرة، حتى التف بجذعه أمامها، وأدخل يده في السيارة متناولًا منها علبة بيضاء، برقت أبصارها بخطر حين علمت بفحواها، ومع ذلك لم يتراجع أو يهتز، وهو يقدمه لها:
ـ دا واحد بدل اللي ضاع يا أبلة اعتماد، ممكن تعتبريه عوض، وممكن تعتبريه هدية. النبي قبل الهدية...
اهتزت أمامه كالقدر الذي يغلي فوق النيران الموقدة، شرار ناريّتيها يكاد أن يحرقه، بتصاعد ثورات الاعتزاز والكرامة التي تصدح داخلها تنادي بالانتقام لذاتها... كيف يفعلها؟ وكيف يجرؤ؟ وكيف...؟
ـ براحة على نفسك شوية يا أبلة اعتماد، أنا ما بغلطش فيكي ولا بقلل منك، هو بس إحساس بالمسؤولية لخطأ ارتكبته وعايز أصلحه.
هكذا، وبكل سهولة، أردف يخفف وطأة الشعور بالدونية الذي يكتنفها كلما مرّت بموقف مشابه، لتُعبّر عن رفضها وبقوة: ـ وأنا ما بجبلش العوض... ولا الهدية!
عاد فجأة بعلبة الهاتف يُلقيها داخل السيارة، بكل بساطة:
ـ تمام، أنا كده عملت اللي عليّا. ثم امتدت كفّه إلى الباب يفتحه ويستقل مقعده خلف عجلة القيادة، يُردف لها على عجالة وهو يدير المحرّك: ـ كان ودي أتصرف بمروءة وأجولك: اتفضلي أوصلك في طريقي، بس أخاف كمان تفهميني غلط، وده المتوقع. عن إذنك يا أبلة اعتماد.
ظلت على صمتها، تراقبه حتى ابتعد بسيارته، لتُغمغم في أثره بحنق شديد، وقد ضيّع عليها فرصة الانفجار وصبّ جام غضبها عليه: ـ مغرور... وقليل ذوق!
.............................
قامت بتسخين المياه على الموقد الطيني في القدر النحاسي الذي ورثته عن والدتها، لتستخدم المياه الدافئة للاستحمام. ثم جلست متربعة القدمين تمشط شعرها الطويل، عائدة لروتين النساء قديمًا، وراحتها التي غابت عنها على مدار سنوات زواجها.
راحتها الحقيقية التي وجدتها هنا، رغم التعب في تحضير كل شيء، حتى في تسخين المياه. مرآة صغيرة كانت ترفعها إليها كل حين وآخر، تتأمل وجهها النضر، والشعر الأسود يحاوطه من الجانبين، العيون التي بدأت تحرص على تكحيلها، لترى جمالهما المميز. أصبحت ترى نفسها، تستشعر الأنوثة التي كانت غائبة عنها، رغم كلمات الإعجاب التي تتلقاها دائمًا، حتى من النساء. ذلك الإحساس الرائع تتمنى من الله ألا تُحرَم منه امرأة.
تنهدت بعمق وقد تذكرت المتسبب الرئيسي في عودة تلك المشاعر إليها، لتزفر بضيق وتنفُض رأسها، لا تريد التفكير به ولا التأثير على قناعتها... لا تريد.
أخرجها من شرودها صوت طرق الباب الخشبي، يليه نداء ابن شقيقها:
ـ افتحي يا عمة مزيونة، أبويا جا معايا! استقامت مبتهجة، تركض إلى الباب، تستقبل شقيقها الغائب دائمًا بفضل عمله خارج المحافظة، وبلهفة لا تقل عنها، قابَلها هو الآخر، يُقبّل وجنتها وجبهتها متغزّلًا، بعد أن تطلع إليها جيدًا:
ـ تبارك الرحمن فيما خلق، ولا أكنك رجعتي لعمر الستاشر، يا بت أبوي! رجعتي مزيونة على حق!
أضاف عليه حازم هو الآخر: ـ أيوه يا بوي والله، أنا بقولها كده دايمًا، وهي ما بتصدجش!
تبسمت بخجل أصابها، ساحبة شقيقها معها إلى الداخل:
ـ بس يا واد، بطل بكش! أخويا شايفني بعين المحب، عمره ما هيشوفني كبرت واصل.
ـ طب ما إنتِ فعلاً ما كبرتيش، يا خيتي، لساكي! برضك مش مصدّجة؟
قالها وصفي ضاحكًا، يضمها من كتفيها إليه، فتتنعم هي بحنانه وتعبر عن امتنانها:
ـ حبيبي يا خوي، ربنا ما يحرمني منك. بس مفاجأة حلوة جيتك النهاردة. هتجعد معانا اليوم كله بجى؟ هنتغدى أنا وإنت والواد حازم، ونتصل بالعيال وأمهم.
واض، يا حازم، اتصل بأمك بسرعة، و...
قاطعها وصفي:
ـ حيلك حيلك يا بت أبوي! تجيبي المرة والعيال كيف وإحنا أصلًا معزومين عند نسايبك؟
ـ نسايب ااا؟ .......
توقفت تستدرك مقصده، فتابع هو باستفساره:
ـ إيه الحكاية يا مزيونة؟ ده أنتي حتى من أول الناس المعزومين! الحجة حسنية، ولا منى، حمزة نفسه ما بلّغكيش؟
ابتلعت بتوتر عند ذكره الأخير، تحاول التوضيح بحرج:
ـ لا طبعًا كلموني، أنا بس بصراحة مش عايزة...
ـ مش عايزة ليه يا مزيونة؟ دي عزومة عادية، الراجل عاملها يبخت بيته الجديد!
بماذا تخبره؟ لا تجد في رأسها الحجة المقنعة، ومع ذلك تُصر على رأيها. هذا الرجل الذي يُحاصرها أينما اتجهت، حتى في أحلامها، ومع ذلك تُصر على موقفها:
ـ هو أنا روحتِ يعني اللي هتزود ولا تنقص! روحوا إنتوا، احضروا العزومة وتعالوا، أنا مستنياكم، نجضي اليوم مع بعض.
...............................
مسكينة هي، حين ظنت أنها سوف تنفذ قرارها. وكيف تفعل، وقد لفّ شباكه باحترافية تمنع عنها حتى التفكير؟
فقد اتخذ جلسته خارج منزله، على الأريكة المقابلة لمنزلها، يستقبل الرجال من أبناء عمومته وزوجاتهم، وشقيقاته وأزواجهم. يدخل الرجال إلى دار الضيافة الواسعة، والتي جعلها عن قصد في الخلف، حتى لا يزعج خصوصيته أحد مع المزيونة المتمردة، والتي كانت تُخفي نفسها داخل منزلها منذ الصباح. ومع ذلك، تتورط وعلى غير إرادتها بالمشاركة والترحيب بالحاضرين، بدون أدنى جهد منه.
فجميع نساء العائلة، ممن حضرن مع أزواجهن أو بلا، كانت تذهب أقدامهن إلى منزلها قبل منزله، يلتقين بها ويسألنها، وهي تختلق الحجج، حتى نفدت طاقتها بحضور حسنية نفسها ومنى التي هي هتفت بها فور الولوج إليها:
ـ انتي لسة جاعدة مكانك يا ولية؟ والبيت بيضرب يقلب هناك!
تلجلجت وهي ترحب بهن:
ـ وه يا منى، ادخلي سلمي الأول بي. اتفضلي يا حجة حسنية، اتفضلي...
عارضتها حسنية بلطفها المعتاد:
ـ ندخل فين يا بنيتي ونسيب الناس؟ والبيت المليان هناك؟ إنتي لسة جاعدة مكانك ليه يا مزيونة؟ هو إنتي غريبة يا بنيتي؟
ابتلعت، تبحث عن سبب منطقي يمنعها:
ـ يا حجة، أصل يعني هو...
ـ هو إيه بس يا مزيونة؟ يا بتي اتحركي ياللا، حتى على الأقل عشان توَنّسي بنيتك!
ـ ليلى هتحضر؟
سألتها بلهفة، لتؤكد لها منى:
ـ أيوه يا ستي، ومعاها معاذ كمان، قبل ما يسافر على شغله بكرة. يعني البيت كله هيحضر، وهما لأ؟
...........................
بعد لحظاتٍ ليست بالقليلة، خرجت تُنعش الهواء من حوله بحضورها، ترافق والدته وشقيقته، بخطوات يحفّها الخجل.
هو ليس بالأعمى حتى لا يرى بأمّ عينيه تأثيره عليها، حتى وإن ادّعت العكس، بذلك التجهّم الذي تتصنّعه، وقد خرجت مجبرة، حسب ما فهم من بعض الحجج التي تواترت على مسامعه عن سبب غيابها، وقد أنبأته صباحًا بعبوس الأطفال.
فاردة ظهرها بعزة، تمشي بجوار والدته التي أطلقت زغرودة كبيرة من فمها، قبل أن تلقي بنفسها عليه، تبارك وتهنئ وتقبّل وجنتيه:
ـ تكون عتبة السعد عليك يا نضري، تملاها بالولاد والبنات اللي تخاوي بيهم ولدك.
ضحك بمرح، يُلقي كلمات ذات مغزى، يخطف بنظراته إليها كل لحظة:
ـ آه يا ست الحبايب، بس تيجي صاحبة النصيب الأول، وإحنا نخاوي ريان بالولاد والبنات والأحفاد إن شاء الله فيما بعد.
ـ كريم ينولك نصيبك.
تمتمت بها والدته بتضرّع، ليتجه ببصره بعد ذلك نحو مزيونة، التي تغيرت لشيء آخر...
قد ذهب عنها خجل المراهقات الذي أصبح يصاحبها في حضرته، ليحضر شيء آخر لم يفهمه، ربما سببه كانت تلك الكلمات الأخيرة التي أردفت بها والدته.
ـ عتبة سعيدة إن شاء الله يا أبو ريان.
ـ تسلمي يا أم ليلى، ربنا يبارك فيكي.
أخيرًا هتخشي البيت مع الجماعة وتشوفي البيت.
قال الأخيرة بمزاح، قابلته بابتسامة باهتة فاقدة الحياة، ثم تحركت تتبع والدته نحو باب منزله، والذي ستدخله لأول مرة.
اقتربت منى تجذبه من ياقته بعنف كي ينتبهه إليها:
ـ ما خلاص، سيبها تدخل، وانت شوف أختك، يا عديم الحساسه!
ألف مبروك يا حبيبي، عتبة السعد والهنا إن شاء الله.
تقبّل العناق ومباركتها بابتهاج لا حدود له، يعبر عنه كالطفل، ناسيًا وضعه كرجل كبير، ربّ عائلة، وناضج:
ـ دخلت بيتي يا منى، ادعيلي يا خيتي تبجى من نصيبي، ادعيلي ربنا يهديها على أخوكي يا بت.
قابلت رجاءه بعطفٍ شديد:
ـ إن شاء الله يا حبيبي، تكون من نصيبك، والله ليحصل بإذن الله.
ـ يا رب، يا رب...
ظل يتمتم بالدعاء حتى بعد ذهابها، واستقبال فردين من أبناء عمومته من ضمن المدعوين، تغمره حالة من الشرود والتساؤلات التي تدور في عقله، عن ردّ فعلها حين ترى داخل المنزل...
كم ودّ أن يترك مكانه ويُريها كل قطعة فيه، ليعرف رأيها، وإن كانت تُعجبها أم يغيّرها من أجلها.
وفي غمرة تلك التساؤلات، تفاجأ بحضور آخر شخص يتمنى غيابه الآن.
ـ روان...
تمتم بعد استيعاب، يراقب ترجّلها من السيارة بصحبة صغيره، الذي يكاد أن يطير من الفرح، يسحبها من يدها وهي تضحك:
ـ براحة يا قلب ماما، أنا مش قدك... ولا أقولك، خلاص وصلنا أهو، إزيك يا حمزة؟ ألف مبروك على البيت.
بوجومٍ واضح، تلقّى تهنئتها، يومئ برأسه، وبصوت بالكاد يُسمع:
ـ أهلًا يا روان، الله يبارك فيكي.
اكتنفها حرج شديد من رد فعله، فسارعت بالتوضيح لتخفف من ثقل الموقف:
ـ ريان هو اللي عزمني على فكرة، مكنتش أعرف إنه مقالكش.
على العموم، لو رافض دخولي البيت أرجع عادي، أنا أصلًا جايّة أبارك وبس، عشان عزومة يعني ولا حاجة.
ألقى بنظرة خاطفة نحو صغيره، قبل أن يعود إليها بحنقٍ في نبرة صوته:
ـ ودي عمايل ولاد أصول برضو؟ عيب يا روان، البيت بيتك.
اتفضلي جوا مع الحريم.
ترددت عن التحرك من محلها، فتوجّه بالأمر حازمًا نحو صغيره: ـ واض يا ريان، اسحب أمك على البيت جوا عند الحريم... أخلص يا واض!
........................
طافت بها على جميع الغرف، لم تترك موضعًا في المنزل حتى عرّفتها به، فلم يتبقَ سوى غرفة واحدة، كانت الأخيرة. وفور أن دخلتها مزيونة، اكتنفها شيء غير مفهوم، لتسألها:
ـ دي شكلها أوضة نوم، بتاعة...
قطعتْها ناظرة إليها بعتاب، تجاوزته منى وهي تتحدث بمكر:
ـ أيوة يا حبيبتي، دي أوضة حمزة، إيه رأيك فيها بجى؟
ابتلعت رمقها بارتباك شديد، لتجيبها بحدة:
ـ وأنا مالي يا منى؟ أجول رأيي فيها ليه؟ حلوة لصحابها وخلاص، يلا بينا خلينا نرجع.
همّت أن تلتف، ولكن منعتها منى، توضّح ببراءة:
ـ وه يا مزيونة، أنا بسألك عشان أشوف رأيك عادي، حُكم إني مكنتش عجباني جوي، أكمنها عصرية زيادة عن اللزوم، مش زي الأنواع اللي إحنا متعودين عليها. حمزة اشتراها جديدة، زي ما عمل مع كل العفش في البيت الجديد.
هي لم تكذب في الأخيرة، كانت بالفعل مبهرة، عصرية وفاخرة كصاحبها، وصاحبة النصيب أيضًا التي تليق به...
أين هي من هذه الفخامة...
نفضت رأسها فجأة، تطرد الأفكار المزعجة من عقلها:
"ربنا يوفقه ببنت الحلال اللي تنورها إن شاء الله، كفاية بجى... خلينا نطلع."
والتفتت سريعًا ذاهبة، حتى اضطرت منى أن تهرول للحاق بها:
ـ طب استني يا ولية، أنا فيا حيل للجري وراكي!
توقفتا الاثنتان مع الظهور المفاجئ لتلك التي أصبحت عادتها تلك الصفة:
ـ ما شاء الله، طالعين بتفروا ورا بعض! لتكونوا بتلعبوا كمان؟
حلّ الوجوم بمزيونة، لا تجد ردًا على تلك المخلوقة الغريبة، فتكلّفت منى بالرد:
ـ وماله يا هالة لما نِفِرّ ورا بعض؟ الله أكبر عليكي يعني.
ـ يا ستي، هو أنا هحسدك؟ ربنا يزيدكم كمان وكمان.
بس أنتو كنتوا طالعين من أوضة النوم، صح؟ الوحيدة اللي أنا مدخلتهاش يا منى...
قطعتْ الجملة مصوبة نظرة نارية نحو مزيونة، لتردف:
ـ ولا اكني بت عمهم حتى... مش مرة أخوهم اللي معاهم في بيت واحد!
للمرة الثانية، زادت من حنق مزيونة، لتجبرها على الرد هذه المرة:
ـ وأنا إيه اللي عرفني بالكلام ده يا هالة؟ أنتو عيلة في بعض زي ما بتجولوا... عن إذنكم.
أنهت كلماتها وتحركت مبتعدة من أمامها بخطوات سريعة غاضبة، لتعلّق منى إثرها نحو الأخرى:
ـ نفسي أفهم يا هالة، هو انتي شيطانك ده مسلطك علينا ولا على نفسك؟ ربنا يهديكي.
ضحكة ساخرة صدرت من هالة، تتابع ذهاب منى باستخفاف، مغمغمة:
ـ وتتعبي نفسك ليه يا غالية؟ هي سهلة وبسيطة خالص... لكل فعل رد فعل.
......................
حين وصلت مزيونة إلى تجمع السيدات، كانت تهمّ بالاستئذان في الرحيل، ولكن وجدت ما جعلها تتراجع سريعًا؛ صغيرتها التي كانت كالزهرة بين السيدات، بطلتها التي تقترب من المراهقة الصغيرة والعروس المتزوجة حديثًا، تثير فضول الجميع في النظر إليها، والتقرّب منها بروحها النقية دائمًا.
حتى أنها لم تخجل منهنّ، وفور أن التقت عيناها بها، ركضت إليها غير مبالية بشيء:
ـ أمي الغالية، أنا جيالك بنفسي النهارده.
تلقتها مزيونة بالعناق غير مبالية، مصدر السعادة الوحيد إليها صغيرتها؛ فلمَ قد تخجل من لهفتها إليها؟ عانقتها بقوة، حتى أنها لم تعِ على وجود أحدهم سوى بعد لحظات، وقد كان واقفًا بالقرب من الباب، يصوّب أبصاره نحوهما بابتسامة خلابة، أثناء حديثه السريع مع والدته، فقالت ليلى:
ـ عم حمزة هو اللي أصرّ أجي وأحضر معاكم العزومة، أنا ومعاذ اللي جاعد دلوك مع الرجالة. البيت طلع حلو جوي، بصراحة عم حمزة يستاهل كل خير.
سمعت منها، واتجهت أبصارها نحوه على غير إرادتها، تتعانق النظرات بينها وبينه بصورة لفتت زوجًا من النظرات الحاقدة، لتوسوس إحداهما إلى الأخرى:
ـ واخدة بالك؟ عشان تبجي تصدجيني بس
🖤🖤🖤🖤🖤🖤🖤🖤🖤
في دار الضيافة التي أُعدت لاستقبال الزوّار من أبناء عمومته وبعض المعارف الأعزاء عليه، لم يُقصّر هو ولا أشقاؤه في العمل على إكمال المأدبة على أكمل وجه؛ من بداية الحفاوة في الاستقبال، مرورًا بالمأدبة الفاخرة، حتى وصلوا الآن إلى الطواف على الحاضرين بكافة المشروبات الساخنة والباردة والحلوى التي أرسل في طلبها من أغلى محلات المحافظة.
كان يغمره ابتهاج غير عادي، متأمّلًا أن تكون المرة القادمة المأدبة الأهم في عمره... مأدبة عرسه.
ــ "الله ينور عليك يا أبو ريان، العزومة النهاردة حاجة فاخر من الآخر يعني! كل دي تكاليف يا راجل على عزومة لعيال عمّك؟! أمال لو فرح، كنت عملت إيه؟!"
تمتم بتلك الكلمات شقيقه الأصغر بعد أن تمكّن أخيرًا من الجلوس بجواره، ليعلّق شقيقه الأوسط، خليفة، قائلًا:
ــ "ما يعمل دلّوك، ويعمل بعدين يا سيدي، مدام في كل الأحوال إحنا اللي بناكل وإحنا المستفيدين! ولا هو أكل وبحلجة؟!"
تبسم حمزة موافقًا:
ــ "أيوه والله، جوله يا خليفة، عايز ياكل ويسأل كمان؟!"
أذعن خليفة بمرح ينفذ الأمر قارصاً بذراعه علي عنق معاذ أصغرهم:
ــ "لا طبعًا مش من حقه! احترم نفسك يا واض، احترم نفسك يا جليل الرباية! يا تاكل يا تسأل!"
ضحك معاذ وهو يقاوم ذراع شقيقه، ليتبادل الثلاثة المزاح والمداعبات، حتى تذكّر حمزة شيئًا ما، فنهض من جوارهم متوجهًا إلى مجموعة من الصغار، جلس بينهم صغيره يلعب معهم. دنا منه وأمسكه من يده:
ــ "واض يا ريان، تعالَ... عايزك."
استجاب ريان لسحبه حتى ابتعد به حمزة إلى ركن ما، بمسافة آمنة تمكنه من الحديث معه بحرية:
ــ "نعم يا أبوي؟"
ــ "مِنْحرِمْش يا عين أبوك، أنا بس كنت عايز أسألك سؤال كده يعني... راجل لراجل."
ــ "جول يا بوي، أنا راجل وسيّد الرجال!"
حكّ حمزة بأنامله على ذقنه بتفكير ورويّة قبل أن يسأل وينتقده بحرص:
ــ "طبعًا يا حبيبي... بس أنا كنت عايز أسألك، يا سيد الرجال، مش برضك كان لازم تبلغ أبوك؟ ولا تاخد رأيه قبل ما تعزم أمك من نفسك؟ طب كنت جولي، عشان تيجي مني أحسن."
شرد ريان قليلًا حتى تذكّر، ثم أجابه:
ــ "بس أنا ما دعتهاش من نفسي، ولا جولتلها تعالي غير لما هي سألتني."
سأله حمزة بعدم فهم:
ــ "إزاي يعني؟ وضّح أكتر."
شرح له ريان:
ــ "يا بوي، هي اللي سألتني في التليفون، وهي بتكلمني عن العزومة اللي انت عاملها... عازم مين ومين؟ ولما جولتلها فلان وفلان، زعلت، وجالتلي: يعني كل الناس معزومة إلا أنا؟!
جولتلها تعالي، في حمايتي، مش أنا ولدك برضو؟"
تصنّع حمزة ابتسامة باهتة ليصرفه، فذهب، وتوقف هو مغمغمًا لنفسه:
ــ "يعني عزمت نفسها... وكانت عارفة بميعاد العزومة... يا ترى إيه وراكي يا روان؟!"
!
.............................
في الردهة الواسعة للمنزل الجديد، حيث المأدبة الفاخرة التي ارتصت عليها أشهى الأطعمة بمختلف أنواعها،
كانت تضم عددًا لا بأس به من النساء المدعوات من العائلة، من أبناء عمومته وشقيقاته وبناتهم، ترأسها الحجة حسنية، التي تطوف على الجميع وتراعي، بمساعدة بناتها أو حفيداتها اللاتي لا يقصرن معها.
تشاركهن مزيونة، التي أذعنت لتلبية الدعوة تحت الإلحاح، لتضطر إلى تناول الطعام معهن.
مع أن وضعها طبيعي جدًا بصفتها والدة ليلى ونسيبتهم كما يقولون، إلا أنها كانت تشعر بالغربة وسطهن،
رغم ترحيب حسنية المبالغ فيه، وبناتها في معاملتهن الخاصة لها ولابنتها.
أو ربما هذا ما كان يزيد الأمر سوءًا عليها، أمام تلك المرأة زوجة حمزة السابقة،
فقد كانت تحدجها بنظرات غير مريحة، لا ترفع بصرها عنها إلا قليلاً، حتى وهي تلوك الطعام الآن.
منذ بداية حضورها وهي تتفحصها من حجاب رأسها في الأعلى حتى خف قدميها.
ليست غبية عن نظرتها الدونية لها، وكأنها تقصد أن تشعرها بالنقص،
بذلك الفرق الشاسع بين واحدة ترتدي ملابس عادية جدًا، عبارة عن عباءة سوداء وحجاب سماوي ترتديه أحيانًا حتى في المنزل،
وبين تلك التي تجلس بعظمة، وهيئة ملوكية رغم بساطة الملابس الغالية أيضًا،
امرأة راقية ومتعلمة وجميلة أيضًا. منطقيًا لا توجد منافسة من الأساس،
إذن، لماذا لا توفر جهدها ولا تزعجها أصلًا؟!
فقد رحمها الله أن عرفت قدر نفسها من البداية حتى لا تعلّقها بالأحلام.
كانت مكشوفة لدرجة لفتت انتباه ابنتها، لتهمس لها بنزق:
ـ هي مالها الست دي بتبصلك كده ليه؟ طالعة معايا أحرجها جدام النسوان وأسألها؟
شهقة أجفال كتمتها مزيونة داخلها، لتوجه الأمر نحو ابنتها التي أصبحت تبادل روان النظر بعدائية:
ـ اجفلي خشمك يا زفتة وشيلك عنها، مش عايزين حد ياخد باله من الحريم ولا البنتة.
بتحدٍّ أحمق، عارضتها ليلى:
ـ مش لما تشيل عينيها هي الأول، وتحط همها في الطبق اللي جدامها؟
هذا أكبر من تحمّلها؛ ابنتها تدفعها عفويتها للتهور الذي قد تُدفع ثمنه بفضائح هي في غنى عنها.
لم يسعفها سوى نظرة حازمة محذّرة، أخرست ليلى وجعلتها تصرف نفسها عن مواجهة تلك المرأة،
لتضع همها مُجبرة في الطعام، غافلتين عن مراقبة ثاقبة من إحداهن، بأعين متوعّدة، مترقّبة!
.................
داخل غرفتها، وكانت منكفئة على مجموعة من الكتب تعمل على تحضير جدول الغد من دروس المواد التي تُدرّسها، لم تنتبه لدخول شقيقتها إلا عندما وضعت أمامها كوبًا كبيرًا من العصير الطازج، فرفعت رأسها إليها بامتنان:
ــ "وه، رغد هانم بحالها عاملة العصير وجايباهولي عندي! دا إيه الهنا دا يا ولاد؟!"
تبسّمت لها المذكورة، تُعقّب بطريقتها الصعبة في النطق بعض الشيء:
ــ "وو... وهو يعني... رغد، عندها أأأغلى ممنك يعني، يا ستّ اعتماد؟"
نفت الأخيرة بهزّ رأسها ونظرة حانية نحو شقيقتها الجميلة الرقيقة، أصغرهم. فقد أُصيبت رغد بمرض ما وهي طفلة، ولم تتمكن من العلاج منه لظروف الفقر الشديد، حتى أثّر على جهاز النطق لديها.
وظلّت لفترة طويلة لا تتحدث إلا بالإشارة، ولكن فور أن تمكنت اعتماد من الحصول على المال، فعلت أقصى جهدها من أجل علاجها، في رحلة طويلة انتهت إلى تلك النتيجة. كانت تريد لها المزيد، لكنها تحمد الله على ما تحقق.
ــ "ولا اعتماد عندها أغلى من رغد! انتي عيني من جوا، يا حبيبتي."
ــ "وو... روووضة، اننتي دايمًا ككنت بتجولي كده."
زفرت اعتماد بيأس، تعلّق على قولها:
ــ "أنا فعلًا طول عمري بقول كده... بس أختك تعبتني جوي، وشكلي مش هتستريح غير لما تجيب أجلي!"
ــ "بببعد الشر عليكي! رووضة طيبة... ببس مشكلتها جوزها عفِش."
ردّت اعتماد بابتسامة ساخرة:
ــ "عادي يا حبيبتي... ما كل الرجالة عفِشين! الرك على الحرمة نفسها.
واختك بهبلها هي اللي بتعشّم الصايع جوزها في استغلالها.
والله، لو تملك نص عجلك بس، لكانت ريّحتني."
ضحكت رغد، ليشرق وجهها الجميل بمرح تعشقه شقيقتها الكبرى، بل وتعتبر ابتسامتها وضحكتها بمثابة جائزة لها في عزّ لحظاتها يأسًا. ببراءتها تشعر أن الدنيا ما زالت بخير.
ــ "صحيح... تلييفووونك فييينه؟"
تنهدت تجيبها بغيظ:
ــ "باظ يا حبيبتي، خد نصيبُه وراح!"
صمتت تتذكر من تسبّب في إعطاله، لتضغط على شفتها بحنقٍ شديد كلما أتى بعقلها عرضه عليها هاتفًا جديدًا من أحدث صيحة، ثم ومن دون كلام، رفعه عنها قبل أن يسمع الرد بصورة أقوى!
مغرور... وجليل ذوق... وشايف نفسه، عشان ما هو حلو حبتين!
.............................
انتهى الغداء الكارثي لها، في ظل أجواء من التوتر لم تشهدها من قبل.
كم ودّت أن تترك كل شيء وتهرول على الفور إلى منزلها،
ولكن الحجة حسنية، التي أصرت عليها للمجيء، هي نفسها من أجبرتها بلطفها الشديد على أن تنتظر معهن وتشاهد جلسة المديح من شيخ البلدة،
بعد أن أنهى تلاوة القرآن لتحصين المنزل الجديد وزرع البركة به.
من خلف الباب الداخلي لساحة الضيافة التي أعدها حمزة، جلست النساء،
ووقف بعضهن يتابعن الصوت العذب الذي يشدو بأجمل القصائد، وخلفه يردد الحاضرون من رجال في الخارج ونساء في الداخل،
باندماج يُثير الإعجاب ويريح النفوس الشاردة لأن تفصل عن واقعها هذه اللحظات، حتى تمر دون شعور بالوقت.
قمر سيدنا النبي قمر...
حين توقف الرجل عن الإنشاد برهة، انتبهت، تكتفي من الجلسة والمشاركة، وقد فعلت ما عليها،
تخاطب ابنتها هامسة:
ـ بت يا ليلى، أنا رايحة بيتي، هتاجي معاي على ما الليلة تخلص وجوزك ياجي ياخدك؟
ردت ليلى بلهفة:
ـ لا، أنا عايزة أدخل الحمام الأول، بجالي مدة طويلة عايزة أجوم ومكسوفة أستأذن، البيت ما شاء الله كبير وأنا مش عارفة فيه حاجة.
ـ وساكتة ومجولتيش؟! آخدك أنا على بيتي يا موكوسة!
تمتمت بها تُوبّخ ابنتها وهي تهم بالنهوض، مما جعلها تلفت انتباه منى الجالسة بجوارها،
فعلّقت بطرافتها كالعادة:
ـ ما تثبتي يا ولية وبطلي فرك، على ما نخلص الليلة مع بعض! هو إحنا كل شوية هنقولك اجعدي؟
ضحكت مزيونة وردّت بحرج:
ـ يا ستي، انتي بلاش ظلمك ده، بنيتي عايزة تدخل الحمام، هاخدها على بيتي ورجعالكم تاني.
ـ تسحبيها على بيتك عشان تدخل الحمام يا مجنونة؟ وهنا إيه؟ مفيش؟ جومي يا بت تعالي...
قالتها منى لتنهض، تجذب ليلى من يدها، ذاهبة بها، وتبعتهما مزيونة حتى توقفت في منتصف الطريق، تنبّههما:
ـ أنا هستناكم هنا طيب.
وافقتها منى بحماس:
ـ تمام، استنينا عشان نرجع وناخد جعدتنا مع بعض، بعيد عن الحريم الفقر.
تبسمت مزيونة لمقترحها، لتتوقف، متحولة بنظرة خاطفة داخل أرجاء المنزل الفخم،
بعد أن خلى تقريبًا من الأفراد، لاجتماعهم عند دار الضيافة والاستمتاع بالمديح.
انتبهت إلى قنينة المياه الموضوعة على الطاولة التي تتوسط المساحة الشاسعة،
لتشعر برغبتها في الارتشاف منها، فاقتربت، لتضع منها في كوب وتشرب.
في نفس الوقت، كان شخصٌ آخر قد دلف إلى المنزل، فوقعت أبصاره عليها،
ليتجمد في مكانه، وقد ارتجف قلبه داخل صدره برؤيتها وحدها تحتل المساحة الشاسعة دون مشاركة من أحد،
نعم، فهو منزلها وهي سيدة الدار، حتى وإن كانت تجهل هذه الصفة حتى الآن.
وكأنه عاد إلى أيام الصبا واندفاع المراهقة،
تحركت أقدامه دون تفكير نحوها، يلتقط فرصته في الحديث معها:
ـ مجولتيش رأيك إيه في البيت؟
شهقة أجفال صدرت منها بصوت عالٍ، حتى سقط منها كوب الماء بما يحتويه على الأرض،
بعد أن فاجأها بحضوره وقوله، لتستدرك سريعًا، متوجهة إليه بنظرة نارية،
ويدها لوّحت إليه باستفهام لاهث، فالتقطها بفطنته، يعلّق بمرح:
ـ سلامتك من الخضة، أنا كان جصدي أسألك بس مش أخلعك.
ألقت نظرة سريعة إلى الخارج بتوتر، ثم عادت إليه موبّخة:
ـ وفرجت إيه؟ انت أصلًا إيه اللي جايبك هنا؟ سايب كل اللمة اللي برا وجاي لي أنا؟!
ردّ يتحفها بابتسامة عابثة غير مكترث:
ـ وأسيب العالم كله كمان وأجيلك! يهمني أعرف رأيك، رأيك أهم عندي من الكل.
ـ يخرب مطنك...
تمتمت بها، تُغمض عينيها بتعب، ثم أردفت:
ـ يا سيدي، هو انت طلعتلي منين؟ مالي أنا؟ ولا انت مالك بيا عشان يهمك رأيي؟ دا بيتك وانت حر فيه، عملته قصر ولا عِشّة، أنا إيه دخلي؟
التمعت عينيه ببريق خاطف، تتجلّى فيهما الإجابة بكل وضوح حتى دون أن ينطقها، يراوغها بمكر:
ـ وه، ولما انتي إيه دخلك؟ أمال مين اللي له دخل؟! هو البيت اتبنى هنا ليه أصلاً؟
تلك السهولة التي تحدث بها، وعيناه تنطقان بما لا يدع مجالًا للشك في صدقه،
لتتجمد في مكانها كالتمثال، تُعاد الكلمات بذهنها مرارًا وتكرارًا، والمعنى يتجلّى أمامها بوضوح الشمس،
حتى تمكنت من الرد أخيرًا بتلعثم وهروب:
ـ كنك شارب وجاي تستظرف! سيبهولك خالص البيت اللي انت فرحان بيه ده.
كادت أن تلتف وتذهب، ولكنها وجدته يتصدر أمامها بابتهاج يغمر قلبه،
هروبها المتعمد وارتباكها الملحوظ أمامه الآن، كل تلك المظاهر تؤكد تأثيره الطاغي عليها حتى وإن أنكرت:
ـ انت بتتصدر جدامي زي العيال الصغيرين، زوّدتها جوي، قسماً بالله لو ما اتزحزحت من جدامي، لأفضحك وأجلبها ليلة طين!
ضحك بعدم اكتراث بكل ما أردفت به، مرددًا:
ـ بعد الشر، ما تبجى طين ولا زفت، إن شاء الله هتبجى فل وآخر تمام. البيت كمل واتبنى، ومعدتش فاضل كتير...
ختم بتنهيدة ساخنة قبل أن يتحرك ويتركها:
ـ هااانت، هاااانت.
توقفت في أثره، تتبع خروجه واختفاءه من أمامها،
بدوار بات يطيح برأسها، وأقدام لا تقوى على حملها، وكأن الأرض ذاتها تهتز من تحتها،
وما عادت ثابتة كما عهدتها دائمًا.
ماذا تبقى ليطلبها صريحة؟ وإن فعل... ماذا سيكون ردها؟...
ـ ما شاء الله، دا الحلوة عايشة في الدور على آخره كمان؟
ذلك الصوت الأنثوي الذي أتى من البعيد أعادها إلى عالمها الحقيقي،
فتحت عينيها جيدًا نحو تلك المرأة التي تتربص بها منذ حضورها،
تقف مقابلها تمامًا، تطلق شررًا من ناريّتها قادرًا على حرق من يقف أمامها.
تحدثت مزيونة بتشتت، بالكاد تستوعب ما يحدث:
ـ فيه إيه؟ انتي بتكلميني أنا؟
ـ أمال يعني بكلم خيالك ياختي؟!
صدرت منها كردٍ يصعق مزيونة بجرأتها، وقد تحولت إلى امرأة أخرى،
تنزع عنها ثوب الرقي الذي تتحلى به أمام الجميع،
مستغلة غياب المدعوين، يساعدها الصوت العالي للمديح الذي أصبح يصدح بقوة،
مع مشاركة الرجال، لتفرغ بحرية شحنة الغضب المكبوتة في صدرها:
ـ فكراني عامية ولا مغفلة على عمايلك المكشوفة مع أبو ابني؟
بتلفي وتدوري حواليه زي الحية!
تلفّي عليه شباكك! هو انتي ملكيش راجل يلمّك؟ ارجعي لجوزك يا ماما، وبلاها الرخص وقلة القيمة من واحدة زيك!
وكأنها في كابوس حقيقي، تكذّب أذنيها وعينيها ما تسمعه أو تراه،
وعقلها يأمرها بالشجاعة والثبات أمام تلك المخلوقة:
ـ انتي مرة جليلة أدب ومش محترمة، وأنا لولا عاملة احترام للبيت اللي واقفة فيه وناسه، كنت عرّفتك مجامك!
ـ تعرفي مين مقام مين يا حيوانة؟!
تطاولت هذه المرة لتمعن في إهانة مزيونة، تمسكها من طرف جلبابها بازدراء،
تواصل تحقيرها أمام نفسها:
ـ بزمتك، انتي مش دريانة بنفسك؟ بترسمي على حمزة خريج الجامعة وابن العيلة المأصلة؟
ده أنا مشغلكيش خدامة عندي بمنظرك ده! أقل واحدة عندي معاها كلية أو معهد على الأقل!
ما تصحي لنفسك يا حلوة، ده انتي شهادة الإعدادية ما خدتهاش!
الصدمة التي تباغت الإدراك وسط سطوة الإهانة على عزة النفس،
فتعقد اللسان وتُحدث في الجسد جمودًا يماثل الشلل،
حتى يستوعب الشخص ما يحدث، ثم يأتي رد فعله...
كانت هذه حال مزيونة، حتى أتت يد تعرفها جيدًا، تبعد تلك المرأة عنها،
وتتصدر هي لها، صائحة بها:
ـ بتعملي إيه يا مرة يا مخبولة؟ شيلي يدك عن أمي بدل ما أجطعهالك!
كانت تلك ليلى، التي هالها مشهد والدتها وإهانتها من تلك المرأة،
فأتت راكضة للزود عنها، تدفع روان بقوة حتى كادت أن توقعها،
وكأنها تحولت إلى وحش للدفاع عنها. فتدخلت منى هي الأخرى بعد أن وصلت خلفها، تحدجها المذكورة بنظرة نارية،
لتضطر الأخرى إلى التبرير لها:
ـ أنا آسفة يا منى، بس والله غصب عني،
لو شُفتي بعينك اللي شُفته من الست دي وهي بتحاول تغوي حمزة هنا...
شهقة قوية كانت هي الرد الذي جاء متأخراً من مزيونة، في تناقضٍ واضح مع ابنتها التي كانت واعية تمامًا لأخذ حق والدتها، فارتفعت يدها لتحط على خد الأخرى بـلطمةٍ قوية صرخت على إثرها روان بألم، يتبعها قول ليلى:
ــ "جطع لسان اللي يجيب سيرة مزيونة الحرة بكلمة واحدة."
وعلى الرغم من مباركة منى لفعل ليلى، إلا أن ما حدث بعد ذلك جعلها تعيد التفكير، فقد علا صوت روان قاصدة أن يصل للنساء المتابعات للمديح بالقرب منهن:
ــ "قبل ما تمدي إيدك على أسيادك، لمي والدتك اللي هتبقى جدة بعد كام شهر عن أبو ابني، اللي عايزة تكوش عليه وتحرمه من لم شملنا من تاني!"
ــ "تاني؟ هتجلي أدبك النهاردة والله لأربيكي يا مهزجة، عشان تعرفي مين سيد مين؟"
هتفت بها ليلى، وهمّت بالهجوم عليها بالفعل، ولكن مزيونة كانت الأسرع، فتشبثت بابنتها ومنعتها. أما منى، التي ارتجفت من تطور الموقف، فقد بدأت تدفع روان لإخراجها:
ــ "امشي يا روان، امشي يا روان، إنتي مش كد غضب حمزة لو عرف."
كادت أن تنجح في صرفها، لولا صيحة أتت من الخلف:
ــ "إيه اللي حصل؟ مالها ليلى شابطة ليه في روان وبتتعارك معاها؟"
كان من البديهي تمييز هواية صاحبة الصوت هالة، لتشرع في إسكاتها، لكن ما لم تحسب حسابه هو عدد السيدات اللاتي قدِمن خلفها يتساءلن:
ــ "فيه إيه؟ حصل إيه يا جماعة؟"
استغلت روان هذا الدعم لتنزع نفسها من بين ذراعي منى، تصرخ طالبة النجدة من شريكتها:
ــ "الحقيني يا هالة، منى عايزة تطردني عشان ب..."
قطعت مجبرة حين وضعت منى كفها على فمها تصمتها، طالبة من النساء التراجع:
ــ "لو سمحتوا ارجعوا مكانكم، دا شأن عائلي..."
تدخلت حسنية، وقد أتت بحالة من الفزع، لتوجه سؤالها إلى ابنتها ببساطتها:
ــ "هو إيه شأن عائلي؟ إيه اللي حصل يا بتي؟"
ظلت منى بكفها فوق فم الأخرى، تفكر سريعًا في حل، تنقل نظرة خاطفة نحو مزيونة التي تتمسك بها ابنتها خشية سقوطها، فقد كانت في حالة يُرثى لها. ولكن قبل أن تجيب، سبقتها هالة:
ــ "شكلها عركة كبيرة بين ليلى وروان، عشان حد من العيال دخل عليّا وبلغني وأنا بتفرج معاكم على المديح إن ليلى ضربت روان بالقلم على وشها!"
شهقات وهمهمات صدرت فجأة من النساء، وقد توجهت أبصارهن نحو ليلى، التي لم تستطع ترك والدتها، وقد بدت أمامها كالغريق الباحث عن طوق نجاة، فتحدثت مقلدة نبرة منى في الحكمة:
ــ "زي ما جالتلكم عمتي منى، موضوع شخصي..."
ــ "موضوع شخصي وهي بتلعب معاكي يا بنيتي؟ دي روان بت أصول ومافيش في أدبها!"
صاحت بها إحدى السيدات، مع تناثر بعض التعليقات، حتي عادت هالة للتدخل، مع تراخي الأخرى بدأت تخشى نتائج تهورها:
ــ "ولما هو موضوع شخصي بينك وما بينها، دخله إيه عمك حمزة؟ مع سيرة مزيونة اللي اتنتورت كمان واحنا داخلين عليكم وسمعناكم!"
ارتخت ذراعا منى عن إسكات روان بيأس، وقد دب الحماس بالأخيرة لتُخرج نفسها عنوة، مدفوعة بكلمات هالة التي شجعتها على المواصلة، فتردف بمظلومية:
ــ "أيوه، هو سبب المشكلة يبقى حمزة! أبو ابني اللي بيحلم باليوم اللي نرجع فيه ونعيش سوا، الست دي هي اللي عايزة تضيع الأمل بينا بألاعيبها القذرة!"
ــ "جطع لسانك! إنتي تاني؟ هتجلي أدبك!"
صرخت بها ليلى، تحاول الفتك بها، ولكن هذه المرة منعتها امرأة كانت بالقرب منها، ووالدتها التي تماسكت لتتشبث بها هاتفة:
ــ "سيبك منها وروحي على بيتك، أنا كمان ماشية خالص وسايبة البيت ده!"
عمّ الهرج مع تدخل بعض النساء لفض الاشتباك بين الفريقين: روان التي تبكي بمظلومية، ومزيونة التي تحاول الخروج، والنساء يمنعنها، ويحاولن السيطرة على ليلى التي كانت مصرة على ضرب روان مرة أخرى، حتى صدح الصوت الجهوري بخشونة أوقفت الجميع:
ــ "إيه اللي جرى؟ صوتكم واصل للجسر اللي ورا البيت؟ حتى الشيخ في المندرة بطل مديح من كتر صراخكم اللي غطى عليه! مالكم، اتجنيتوا؟"
خرست الأصوات جميعها، وخيّم الصمت على الرؤوس، روان صارت ترتجف لرؤيته، وذلك الوجه الصارم بحدة، الذي تعرفه جيدًا من عشرتها معه، هيبته التي أرعبت حتى النساء اللاتي لا شأن لهن بالأمر من الأساس. وقد بدا كالحائط بوجهه المشتد بتجهم، يقف بجوار شقيقيه، اللذان لا يقلّان عنه حزمًا.
فتحدث خليفة هو الآخر:
ــ "خرستوا دلوك بعد ما جيبتولنا الفضيحة جدّام الناس الغريبة؟"
أضاف عليه معاذ:
ــ "أيوه والله، دلوك لبّدتوا في بعض زي البسس، بعد ما خدنا الكسفة، ووشنا بجى في الأرض! مش عارفين نلمّها إزاي! دلوك، عايزين نعرف، مين منكم كانت بتتعارك؟"
ــ "مرتك."
صدحت قوية من إحدى السيدات، وأكملت عليها:
ــ "كانت بتتعارك مع طليجة أخوك، روان، وضربتها بالقلم على وشها!"
اتجهت أبصار الرجال الثلاثة نحو الاثنتين، ليلى التي انتصب ظهرها، تعترف دون تردد:
ــ "أيوه، ضربتها، ومستعدة أضربها مية مرة تاني، اللي يغلط في أمي أحطه تحت جزمتي!"
استمعوا إليها، لتتجه الأنظار نحو الطرف الآخر، بإستفسار وتحفز، حتي ارتعدت مفاصلها، لا تشعر بدقات قلبها، يكاد أن يتوقف رعباً من نظرة حمزة، الذي احمرت عيناه فجأة، ينقل بصره من مزيونة إليها، يتساءل بخطر:
ــ "الكلام دا حجيجي؟ وانتي فعلاً غلطتي فيها؟"
خرج صوتها على الفور، تبرر بكذبٍ وتلجلج:
ــ "لا لا، أنا مغلطتش فيها... بنتها هي اللي فهمت غلط... أنا... أنا..."
تركها على مضض، موجهًا أنظاره نحو مزيونة:
ــ "أنا اللي غلطانة، مش هي... خلوني أعدي وسبوني أمشي، الله يرضى عنكم، من طلع من داره اتجل مجداره، وأنا عرفت مجداري زين... خلوني أعدي."
ــ "لا طبعًا، محدش هيطلع من هنا غير لما أعرف كل اللي حصل!"
هدر بها حمزة قاطعًا، والجنون يتراقص في عينيه، يردف موجهًا نظره نحو الجميع:
ــ "واحدة فيكم ترد بدالهم، يا أولّع فيكم كلكم!"
ردّت منى، وقد تعبت من الجذب بينهن:
ــ "فضّها يا حمزة، وخلينا كلنا نروح علي بيوتنا، وبعدين يبجى لينا كلام تاني..."
وبثقة في حكمة شقيقته، كاد أن يقتنع ويؤجّل التحقيق، رغم الحيرة التي تأكل رأسه، ونيران الحماية تدفعه لحرق الأخضر واليابس دفاعًا عنها، حتى كاد يلين رضوخًا لنظرة استجداء ترمقه بها، ولكن هالة التي قرأت ما ينويه، أبت أن ينتهي الأمر بذلك الهدوء، لتلفت الأنظار نحوها قائلة:
ــ "وحتى لو أجلتوا الكلام لبعدين، احنا يا بوي منعرفش حاجة، الأمر كله في يد التلاتة: روان ومزيونة، بيتعاركوا على حمزة، وليلى طبعًا في صف أمها!"
إلى هنا، وقد فاض الكيل وطفح، صرخت بها مزيونة:
ــ "بتقولي إيه انتي كمان؟! الله يخرب بيت أبوكي! خلوني أمشي... خلوني أمشي!"
دافعت هالة، تدّعي الفهم:
ــ "يا بوي وأنا مالي! أنا بقول اللي بعرفه وبس!"
صاح خليفة مقاطعًا لها بحزم وعنف:
ــ "اخرسي يا هالة، ما أسمعش نفسك خالص!"
حدجتها منى بنظرة قاتلة، وقد فقدت الأمل في تهدئة الأمر، مع انتباهها لملامح شقيقها التي تبدلت إلى شر مطلق نحو روان، التي اجفلت من فعل هالة، فباتت تتخبط في حديثها:
ــ "هي مكانتش خناقة... أنا بس كنت بنبّه عليها، دا غير إني شفتكم بعيني من شوية... وانت بتحاول... قصدي..."
ــ "جفلي!"
صاح بها بقوة ليوقف هذيانها في الحديث، وقبل أن يرمش بعيناه نحو تلك التي طالتها هذه الكلمات، سمع صوت ارتطام قوي يتبعه صرخات ليلى التي سقطت معها على الأرض وهي تحاول نجدتها، تتخبط بجزع، أنساها وضعها كامرأة تحمل طفلًا في بداية شهوره:
ــ "أمي... أمي... أمي هتروح مني!"
التف الجميع حولهما من أجل تهدئتها وإفاقة والدتها، أمام أبصار من كاد أن يلمس السماء عجزًا عن الاقتراب منها، حتى نسي تلك المدعوة روان وثأره معها، وقد هربت المذكورة راكضة نحو الخارج بعد تفاقم الموقف.
معاذ، الذي لف ذراعيه حول زوجته ليرفعها عن الأرض، يحاول تهدئتها كي لا تؤذي نفسها بتلك الأفعال، لكن حالتها لم تكن طبيعية على الإطلاق. ذلك الضغط الجديد جعلها تقاوم بانهيار وصراخ ورفض حتى لسماع الآخرين:
ــ "بعد عني! سيبوني! أنا عايزة أمي! عايزة أمي يا معاذ!"
ــ "اهدي، بجولك يا بت! أمك هتفوق دلوك، إنتي اللي هتضيعي نفسك!"
تدخلت حسنية، التي يكتنفها الرعب عليها، الوجه النصائح لها وابنها:
ــ "يا بتي، أمك هتفوق دلوك وتبجى زي الفل... وانت يا معاذ، براحة عليها يا ولدي، يمكن تهدى!"
ــ "براحة فين يا أمه؟ هو أنا جادر عليها؟ هتأذي نفسها، والعيل... الله يخرب مطنها!"
حتى صراخه، وقوته التي فرضها للسيطرة علي تشنجها وتهدئتها، كل هذا لم يأت بنتيجة.
وفجأة، ارتخت بين يديه، أغمضت عينيها، وتمتمت ببعض الكلمات غير المفهومة، ثم غابت عن الوعي هي الأخرى
................................
داخل المشفى الذي نُقلت إليه الاثنتان، وللمرة الثانية تحتل كل واحدة منهما غرفة منفصلة، كأن بين الأم وابنتها ارتباطًا روحيًا عجيبًا، وكأنما خُلقتا توأمين متطابقين؛ يمرض أحدهما فيتأثر الآخر بمرضه، فيمرض مثله.
جلست حسنية على أحد مقاعد الانتظار، تتمتم بحزن، مرددة:
ـ "عين وصابتهم، عين ورشّجت تعكنن علينا كلنا... منه لله اللي عملها وجلب فرحتنا، منه لله!"
تدخلت هالة متعاطفة:
ـ "فعلاً يا مرة عمي، منها لله... ربنا يجازيها بعملها."
فهمت المرأة إلى ما ترنو إليه، تقصد زوجة حمزة السابقة، فحدجتها بنظرة غاضبة أخرستها، وقد كانت في هذه اللحظة لا تطيق النظر إليها، فاكتفت بالصمت مجبرة. لتصطدم عيناها بعيني زوجها الذي همّ بالتوعد، قائلًا:
ـ "حاولي تنجّطينا بسكاتك أحسن، وراعي الظرف، ولينا بيت نتحاسب فيه إن شاء الله."
...
أما في داخل غرفتها، فقد استفاقت لتعود إلى وعيها، وكان وجهه أول ما وقعت عليه عيناها، فتذكرت على الفور، وصرخت به كأنما رأت عفريتًا أمامها:
ـ "أنا إيه اللي جابني هنا؟! بِتّي فين؟! عايزة أشوف بِتّي... ودّوني عند بِتّي!"
حاول حمزة بيأس أن يُهدّئها أو يجعلها تسمع منه، لكنها كانت كالمجنونة لرؤيته. ومع كل محاولات شقيقاته، لم يفلح أحد في تهدئتها، لتُصر على الذهاب إلى ابنتها، وتخرج برفقتهن، تاركة له الغرفة يغمغم متوعدًا في إثرها:
ـ "والله لأجيبلك حقك، ولو في خشم السبع! مبقاش حمزة القناوي إن ما كنت أجيبه."