رواية عودة الذئاب الفصل التاسع والثلاثون 39 بقلم ميفو السلطان

 

 

 

 رواية عودة الذئاب الفصل التاسع والثلاثون بقلم ميفو السلطان

... عضّ "براء" على شفتيه، وصدره يعلو ويهبط كمن يتهيّأ لذنبٍ لا يُغتفر.كانت عينا "نديم" لا ترمش، تحدّق فيه كما لو كانت تسبرُ روحه.
رفع "براء" نظره ببطء، وحدّق فيه، اقترب براء من نديم، والخطى تشتعل تحت قدميه، وقد انعقد حاجباه كأنهما قوسان مشدودان. قال بعنفوان الصعايدة، ونبرة رجّت الهواء من حوله:

— "أنا كمان عايز مرتي!"

قطّب نديم جبينه، حدّق فيه مستنكراً، ثم قال بسخرية تنضح بالازدراء:

— "نعم يا أخويا؟ عايز إيه؟ إنت مخلول ياض؟!"

كان براء قد اكتشف الحقيقة للتو، الحقيقة التي صفعت قلبه قبل عقله: شجن لم تكن فتاة عابرة... بل كانت ابنة عمه، وشقيقة من طالما سمع اسمه الاسطوره... نديم.

رآه في صورة عبر الهاتف، فاشتعل الدم في عروقه، وقام الغضب فيه مقام العقل، فثارت حميّته الصعيدية، وتفجّر كبرياؤه كبركانٍ طال سكوته. راي وقاحة نديم حين دخل عليهم، وتعمّده أن يدفن صورتهم في التراب، كمن يطعن شرفهم علنًا. راه يتبجح علي عمه ويستهزأ به .. 

صرخ، والصوت يخرج من قلبه لا من حنجرته:

— "زي ما سيادتك لفيت علي بِت عمّي وخدتها، ماهو أكيد اللي زيّك ضحك عليها... وما هنصدّجش الكلام اللي اتجال!"

اقترب منه بخطى ثابتة، والضحكة ترتسم على وجهه ضحكه مكتومه رسمها بوجع، ولكنها لم تكن ضحكة انتصار... بل ضحكة كيد، تردد لفتره ثم قال، كمن يُلقي قنبلة:

— "أنا كمان... خدت خيتك... ... وكتبت عليها!"

اشتعل نديم، كأنما النار قد سُكبت في عروقه، واندفع كالثور الهائج، وأمسك بـبراء من تلابيبه، يداه تقبضان على غضبه أكثر من جسد غريمه، وصوته ينفجر من حنجرته كالرعد:

— "بتجول إيه يا محروج إنت؟! وتتكلّم عن خيتي؟!… والله لأدفنك!"

كانت النظرة في عينيه مزيجاً من وجع الأخ وخذلان الرجل وغليان الدم، ولم يكن بحاجة إلى سكين ليجرح، فقد كانت كلماته وحدها كافية أن تذبح.

اندفع أسمر من الخلف، قافزاً كمن يطفئ حريقاً انفجر فجأة، فأمسك بنديم بشدّة، وفكّ يده عن أخيه، وهو يعلم جيداً ما الذي قصده براء، وما بين الحروف من طعن مقصود.
لولا دخول "أسمر" في تلك اللحظة، لكانت الدماء سالت بلا رحمة."نديم" شعر بكفّيه تتحولان إلى مخالب، كأن شيطانًا في داخله يستحثّه على القتل.
مرّ وجه والدته أمامه، وجه والده الذي مات مكسورًا، وصرخة مهره وهي تُسحب يدها.
كل شيء كان يهتف بداخله: "ثأرٌ لا يُغفر... وخيانة لا تُنسى..."
لكنه كتم الصراخ، وخنق وجعه في صدره، وتجمّد في موضعه.

نظر اسمر إليه، وابتسامة تنزف من زوايا فمه، وقال بلهجة تتقطر خبثاً:

— "إيه؟! كنت فاكر إن انت اللي بتخطط لوحدك؟!"

اقترب أكثر، غرز كلماته كخناجر في قلب ابن عمه:

— "لا يا نديم... زي ما انت خططت، إحنا كمان خططنا... وبراء لعب على خيتك... واتجوزها، يا ابن عمي!"

نظر اليه براء قاطبا لم يكن يريده ان يقول ذلك. 

في تلك اللحظه.. كانت تلك الرقيقه.. الاميره الحالمه شجن تجلس في الخارج، صمتها يصرخ، ودموعها تنهمر بلا توقّف، كأن قلبها يفيض بما لا يُقال. صدرها يعلو ويهبط، كأن أنفاسها تُصارع الحياة، وكأنها تحاول أن تُمسك ما تبقّى من كرامتها المنهكة.

همست لنفسها بصوت مرتجف:

— "يا خسارة حلمك يا شجن… كنتي فاكراه راجل… بس طلع ندل..."

مسحت دمعتها بظهر يدها، بغلظةٍ لا تشبه رقتها، كأنما تؤدّب قلبها الذي تمادى في الحب، ثم قالت بقسوة امرأة خذلتها الحياة:

— "بس خلاص… أنا هدخل… أشوف بعيني… عشان قلبي يقتنع إنه ما يستاهلش..."

نظرت إلى مرآة السيارة، تطلعت في عينيها الغارقتين بالقهر، وقالت لنفسها:

— "خليكي زي أختك… موتي قلبك… قومي شوفي غدره… وهو قاعد بيمضي علي جوازته… لازم أشوفه… وأمحيه من جوايا..."

نهضت، خطواتها ثقيلة، كأن الأرض تسحبها للخلف، لكنها قاومت…
دخلت بهدوء، ووقفت بجوار الباب، جسدها بالكاد ينتصب، وقلبها يوشك أن يتصدّع.

كانت تسمعهم، كلماتهم تنغرز في روحها كالإبر، تُقطّع ما تبقّى من حلمها، وما إن سمعت اسمه يتردّد مع اسمها بتلك الطريقة الحقيرة، حتى سالت دموعها قهراً...

وعرفت وقتها… أنها لم تكن سوى وسيلة… للانتقام.

صرخ نديم، وعيناه تتّقدان بغضبٍ حارق:
ـ بتجول إيه يا محروج؟!.. إنت كدّاب!

ضحك براء ضحكةً مستفزّة، وكأنّ نار الدنيا لا تعنيه:
ـ إيه زعلان ليه؟! إنت اتجوزت بت عمي عرفي ...أنا بقه اتجوزت خيتك عرفي، ومن وراك برضك... ومحدّش أحسن من حد!

لحظة غريبة خيّمت، كأن جدار من السكون وقع على القاعة...ما بين كلمة براء وبين الرد، 
 أنهى جملته، وقد قالها بوقاحةٍ منقطعةِ النظير، حتى تجمّد،توقّف النبض في صدره، وهَوَى قلبه في غياهب الذهول...
عندما سمع شهقة تأتي من خلفه،شهقة لم تكن عالية…شهقة لم تكن شهقةَ ألمٍ فقط، بل شهقةَ خذلانٍ اخترقَ الصدور،وتلتها أنّات بكاءٍ تتعالى، كأنّها تمزّق الوجدان 

التفتت الرؤوس ببطء، كأن الوقت توقف…
وكل شيء تلاشى، إلّا تلك الأنثى الواقفة عند الباب،
 الحالمه شجن. التي تحولت الي اميره طعن قلبها وتمزع. 

كانت تقف، يدها مسنودة على طرف الباب، وعيونها متسعة كأنها رأت موتها بعينيها،
والدموع تنساب على خدها في صمتٍ مكسور…تشهق، وشفايفها ترتجف، وجسدها يرتعش كأنها على وشك الانهيار.

تجمّد براء، انكمشت ضحكته وماتت في جوفه…هو لم يكن يعلم أنها معهم، لم يكن يتخيّل أن كلامه سيوصل لها بهذا الشكل…
رفَع نظره إليها فوجد نظرتها مسمومة…
ليست نظرة امرأة جُرحت… بل نظرة روحٍ انسلخت من جسدها... نظرة موت. 
ابتلع براء ريقه حنضل واحس بقلبه تمزق أشلاء.. 

استدار نديم بسرعة، وقلبه يهبط بين أضلعه،
اندفع نحوها، أمسك ذراعها بقوة، عيونه تهتز وحنجرته تشتعل:

— "اللي بيجول عليه ده... صُوح؟! انطجي! قوليلي ده كدب!"

كانت تبكي… تنتحب…ولا تملك حتى القدرة على الرد…كانت تنظر إلى الجميع كأنهم غرباء… كأنها ضائعة بينهم.

اندفع براء فجأة، شدّها من يد نديم، صرخ بكل ما فيه:

— "يدك عنها... دي مرتي!"

فاشتعل نديم، مسكه من رقبته، هدر كالثور الجريح:

— "هيا مين اللي مرتك؟! دا بطلوع روحك… أنا… خوتي خط أحمر!"

لم يكمل جملته حتي أتته من الخلف ضحكة "أسمر"، ضحكة لم تكن مجرد سخرية، بل قنبلة انفجرت في وجوههم جميعًا، تحمل في طيّاتها وقاحة الواثق، وبرود من لا يخشى نار العواقب:

ـ طب بالمرة بقه... بمناسبة الخط الأحمر اللي بقى أسود، خد دي! حاجة كده في الجون!

اقترب بخطواتٍ بطيئة... ثابتة... كأنّه يمشي على أعصابهم، ثم رمق "مهره" بنظرةٍ حادة، نظرة خلطت بين التحدي بالغضب، وأطلق قنبلته الثانية:

ـ "مهره عمران"... تبقى "حرم أسمر سلطان"... وبالعُرفي برضك!أهو زيك بالضبط! واتاخدوا بالعُرفي برضك يا بن عامر...!

ثم صمت، وكأنّه منحهم لحظة يستوعبوا فيها الكارثة التي ألقاها على رؤوسهم، لحظة صمتٍ ما بين الصدمة والذهول، وما بين وجع الحقيقة وغليان الدم.

وقف "نديم"؛ يشعر أن قلبه على وشك أن يتوقّف...نظر إلى أخته، وكأن الزمن توقّف عند عينيها...أحس بطعنةٍ غائرةٍ في صدره، لم تكن من سيفٍ، بل من شيء أعمق... من خذلانٍ لم يكن يتوقّعه.
"مهره" كانت أقرب إليه من أي أحد، كانت نبضه وعقله وسنده... فكيف؟!عيناه كانت مشتعلة، وصدره يعلو ويهبط، كأنّه يقاتل غصّة في قلبه،مشهد أخته، والدم في عينه، وضياع الهيبة، كلها نار بتأكل روحه حي...

نظرت إليه، تهز رأسها بعنف، وعيونها تفيض وجعًا.هي تشعر بألمه قبل أن ينطق، تحس بانكساره قبل أن يقع.

فقال بصوتٍ مخنوق، غير مصدّق لما يسمعه، كأن الحروف لا تخرج من فمه بل من جرحٍ ينزف داخله:

ـ اللّي بيجول عليه ده... صُوح؟!إنتِ يا مهره؟!.. إنتِ يا مهره؟!..إنتِ...؟!

توقّف صوته، لكنه لم يحتج أن يُكمل...
فالدمع اللي في عينه، والارتعاشة اللي في صدره، قالوا أكتر من أي كلام.

كانت نظرته كفيلة أن تُميتها وهي واقفة،
نظرة أخٍ ينكسر أمام عينها... فانهار ما تبقّى من صلابتها، ولم تحتمل.

توقّف الزمن لثوانٍ.كأن الأرض انشقت تحت "مهره"، وتراجعت خطوة والدم يتصاعد في وجهها.رفعت عينيها على الحضور، كأنها تفتّش عن مخرج من الكابوس.تحرّكت شفتاها بلا صوت، ثم خرج منها همس مذبوح:
— "كذب... هذا كذب!"
واستدارت واندفعت كالمجنونة، وعيناها تشتعلان قهرًا،وامسكت بجلباب "أسمر"، تهتزّ من فرط الانفعال، وانفجرت تصرخ:

ـ هِيّا مين يا عرّة الرجالة اللي مِرتَك؟!

لم يمهلها لحظة،قبض على رقبتها بيده الثقيلة، ووجهه يشتعل بالغضب،وقال من بين أسنانه، وصوته كالسُمّ الزعاف:

ـ كلمة زيادة... وهخلّص عليكي! أنا جبت أخري وكفائه جله قيمه منك لحد دلوك. 

وفي لحظةٍ مفاجئة، اخترق الصمت صوت عصا تُضرب بقوة!كان "عِمران" قد وقف واقترب، وضرب "أسمر" بعصاه الغليظة،
وصوته يصرخ من عمق قلبه الموجوع:

ـ يِدّك!يا حسرة جلبي... يا حسرة جلبي على خِلْفي!يا حَسرة جلبك يا "عِمران"!

صرخة خرجت من عُمق وجعه، لا على ما رآه فقط، بل على ما ربّى، وما آل إليه الحال...

اقترب أخوه منه، ووضع يده على كتفه، يحاول تهدئته...نبرة صوته كانت هادئة، لكنها متوجسة من اشتعال اللحظة:

ـ اهدَى يا "عِمران"... الدّنيا اكده هتولّع!
اتصرّف بحِكمة، واللي له مره... ياخدها من سكات.

لكن "عِمران" كان قد فاض به الكيل،صرخ، وقد انفجرت الدماء في عروقه كبركانٍ لا يُوقف:

ـ تولّع؟!أمال هي إيه؟!!

نفضت "مهره" يد "أسمر" بعنف، كأنّها تتخلّص من عارٍ التصق بها،ونظرت له بعيونٍ تتلظّى بالاشمئزاز، وصوتها يتقطر مرارة وغضب:

ـ ده واحد كدّاب... وضَلّالي!كتبت فين؟!.. أنا؟!..يا بن سلطان، امتى؟ وفين؟!عملتها إزّاي؟!..ولا هو طبع السّرقة والتّجني فـ دمّكو يا ولاد سلطان!

تقدّمت خطوة، ووقفت بثباتٍ رغم الزلزال اللي جوّاها،ثم صاحت بكل ما تبقّى من كرامةٍ ووجع:

ـ أنا وأختي... أشرف منكو ومن صنفكو!
ولو مين حلف إننا نخون أخونا... ما هيصدّق!ولا الزمن هيصدّق!

كان كلامها طلقات نار، تطلع من قلب مكسور، لكنه ما انكسرش، من عزة نفسٍ ووجعٍ، ما يعرفوش يركعوا.

نظرت "مهره" حواليها، وعينيها بتقدّ شرار، صدرها بيعلو ويهبط، مش من تعب... من وجع متراكم، وجُرح مفتوح من سنين، وانفجرت فيهم بصوتٍ يقطر وجعًا واشمئزازًا:

ـ عارف ليه؟!لإننا متربين تحت كنفه... وتحت حمايته!أنا "مهره عامر"... أخت "النديم"... ما بتاخدش سرقة يا حيلتها!وإن كنت لفيت زي التعبان وعملتها، يبقى تشرب اللي هيجرالك!وبورقة وسخة... من أوَسَخ محامي، أخلعكو يا ولاد سلطان!

لفّت بعينيها على الوجوه، فيها التحدي وفيها القرف، وكملت بصوت يجلجل:

ـ إيه يا رجالة عيلة "أبو الدهب"؟!ما كفّكوش عمايلكم في ولاد عامر؟!إيــه؟!كنا ملقين... مالناش حد،ده يجلد، وده يحرِق، ودوُل يعيبوا ويتجَنّوا ويكتبوا سرقة!

سكتت لحظة... بس عينيها كانت بتتكلم، وبعدين بصوت مبحوح من الغِلّ:

ـ عارفين؟!.. أنا بطني قلبت...مافيش فيكو صنف عدل...قلّبتولي بطني!إيه القرف ده؟!

كانت الكلمة الأخيرة مش شتيمة، كانت حكم... كانت نهاية صبر، وانفجار كرامة ما بترضاش تنذل.

وقف "عِمران" فجأة، وانفجر صوته في المكان، كأنّه بيحاول يوقف الطوفان اللي جاي ياخد الكل:

ـ بس! بس بقه. هتموتوا بعض! دي آخرتها؟!
مجيّتك يا "نديم"... جَلَبت الدار نار!

كان بيصرخ من وجع، من خوف، من ضياع تعب السنين...صوته مش بس غاضب، ده صوت راجل شايف بيته بيولع، وأهله بيقطعوا بعض، واللي المفروض سند لبعض، بقوا سكّين في قلب بعض.

التفت ناحية نديم، وعيونه بتقول أكتر من الكلام، كأنّه بيعاتبه، وبيستنجده، وبيحذره في نفس اللحظة...

هنا طفح الكيل كلماته اتت علي قلب نديم.. صرخ "نديم" بحرقة، كانت بتشق قلبه قبل ما تطلع من حنجرته، صوته مبحوح من الغِلّ والخذلان، من زمن شايل فيه الوجع لوحده، ومالقاش حد يصدّقه:

ـ أنا؟!أنا اللي جَلَبتها نار؟!إنتو إيه يا أخي؟!
لسّاتك لحد دلوك بتحط على "نديم"؟!..
كُل ده... وكل اللي حصل...من يدك!إنت السبب!إنت اللي سايبهم طايحين كده!
ليه؟!..إنت إيه يا أخي؟!

عيونه كانت مولّعة، وصوته بينهش، وكمل وهو بيضرب على صدره:

ـ حد كان جالك إننا كلاب؟!..ينداس علينا؟!
عبيت جلوبنا حجارة...قَسّيتنا بإيدك،
وجاي دلوك تجول: "دخلتي جَلَبت الدار نار"؟!..لاااااااه...ده أنا "خرجتي"...خرجتي اللي جَلَبت الدار نار يا حج!

سكت لحظة، لكن عينه فيها نزيف وجع متكلمش عنه سنين، وفتح قميصه كأنه يفضح جرح عمره وقال:

ـ فاكر؟!..فاكر يوم ما "ماده" مسك كرباجه؟
وعلّم على ضهري؟!لحد دلوك...لحد دلوك وأنا بحُس لسعه الكرباج كل ما أتنفّس!

ضرب "نديم" على صدره، كأنّه بيحاول يوقف النار اللي جواه، وصوته اتشرخ بالوجع:

ـ ما بَتروحش!ما بَتروحش من أهنه!
(وخبط على قلبه بقوة)ـ ما بَتروحش من هنا يا ظالم...نارك يا حَج...ياللي حاجِج بيت الله، نار يدك!إنتو اللي جَلَبتوها نار، وبتحاسبوا "نديم" على إيه؟!على إنه مش عايش؟!..وجاي تناطحني أنا؟!

عينيه كانت حمرا من الدموع المكبوتة، مش دموع ضعف، دي دموع رجل ضحى بكل حاجة واترمى بالرخيص، وكمل بصوت مختنق من الغصة:

ـ بدل ما تجِف ليهم...بس إزّاي تجِف ليهم؟!..إحنا مش منكو!ولا يوم كنا منكو!
افضل ظالم... وهتموت ظالم!ونجف كلنا...
ناخد حَقجنا منك!

ثم صرخ فجأة، بحرقة تخرّق عنان السما:

ـ ياااا رب!هاتلي حَجي...هاتلي حَجي من عيلة... ما بتعرفش لا رحمة... ولا شرف!

كانت صرخته مش بس للدنيا، دي كانت لرب العباد اللي شايف، البشر ساكتين.. بس السما ليها رب عمره ما بينسي.. 

وقف "نديم" ينهج، صدره يعلو ويهبط، والكل واقف امامه في رهبة...مش من صوته، بل من صدقه. من وجع بيخرق القلب وبيعريهم قدّام نفسهم.

وفي الزاوية... كانت دموع الجد نازلة، دموع رجلٍ ظنّ أنه يبني، واكتشف متأخرًا إنه هدّ البيت على روؤس اللي بيحبهم.أحسّ بثقل المصايب... كلها جاية من إيده.
هدأ قليلًا...ووضع يده على صدره، كأنّه بيحاول يوقف النزيف اللي جواه، يستمد قوته من قلب بدأ يضعف، لكنه لازم يتكلم:

ـ طب يا ولاد "عِمران"...إنتو كل اللي إنتو فيه ده،عشان الفلوس؟!..والجَهَر الأسود؟!..إنتو بتاكلوا في بعض... بسببي.وبسبب مالي.

سكت لحظة، ورفع عينه على الوجوه اللي اتقطّعت من الغلّ، وقال بصوت مكسور لكن واضح:

ـ عشان اكده...أنا بجِولكو النهارده 
،وباجولها قدّام الكل:أنا سَحَبت كُلّ حاجة منكو،وما سيبتش حاجه لحد واصل!

تجمّد الكل… وكأن الزمن توقّف، والهوى اتقطع.العيون اتسمرت، والأنفاس انحبست،
وفجأة… هبّ "جابر" صارخًا، صوته يجلجل المكان:

ـ إيه؟!.. بتجول إيه إنت؟!

لكن قبل ما يكمل، كان "عِمران" قد اقترب منه،ورفع يده بقوة،ونزلت على وجه ابنه كالصاعقة… صفعة سكتت الدنيا:

ـ اسمها "سيدك" يا واطي…مش "إنت"!

ثم رفع يده مرة تانية، ونزل عليه من جديد،
ضربة كانت مليانة قهر، وصدمة، وحرقة سنين، وقال بصوت غليظ، والعيون مولعة بالشرر):
"سيدك... يا اللي لا شفت تربيه ولا اتعلمت أدب...
سيدك يا كلب المال... يا عبد إبليس!
اسمها سيدك.. عمران أبو الدهب...
 ما عاتش مخلوج يكلمه، ولا يتنفس قدامه !" 

ـ لحد أهنه... وتِلزَم أدبك يا بن "عِمران"!
فاهم؟!..أنا خلاص…لحد اكده وما هسيبش شِرَك طايح!هتجيب سيرة أخوك ومرته تاني…هطلّع روحك بيدي!

صوته كان بيرتجف، لكن ما بين الرجّ والحنق، طلع انفجار القلب الموجوع:

ـ بِكفياك خراب!إيه غِلّ جلبك ده؟!إبليس مربّي شيطان؟!..يا تربية الأبالسة!

نظر له وكأنّه شايف قدّامه الشر متجسد، وصرخ بصوتٍ يمزّق الحناجر:

ـ إنت!..إنت بسببك كل الحزن ده هتنطج؟!..هَرميك برّه! هــاااااه... 

آخر كلمة طلعت منه كانت وعد… مش تهديد،كانت نذر راجل قرر يحسم الفُجر اللي اتربى تحت سقفه.

بُهت "جابر"، وتجمّد مكانه، ويده على وجهه، ما بين وجع الضربة ووجع الإهانة، وقال بصوت مخنوق:

ـ بتضربني؟!..أنا؟!..أنا "جابر"؟!..وترميني... عشان دول؟!

لكن "عِمران" كان بركان فاض، وصوته طلع من قاع قلبه، حارق وراعد:

ـ واديك بالمركوب على وشّك!آه هرميك برّه!
هجيب الغَفَر...وارميك برّه زي الكلب!
مالكش مليم!يا نجِس...يا عبد القرش!

صمت لحظة، ثم صرخ من قهر قلبه:

ـ هاه!أبوك هيتبرّى منك!ولا هيدّيك قرش...
ولا حتى حتّة أرض توحّد ربنا!

قرب وشه من وش جابر، وقالها بغلّ من سنين:

ـ آه..بضربك . عشان دول!عشان دول أعمل أي حاجة!دول... ما خدوش من دنيتي حاجة!
وانت؟!..كَبَشت...وعَبّيت في بطنك!
وطفّحت علينا الحزن، زي السُمّ!

ثم دفعه بعصاه دفعة قوية، كأنّه بيطرده من قلبه مش من البيت،واستدار، وصوته جهور، مليان حكم ومرارة وأوامر:

ـ اسمعوا بقه!عايزين الملك؟عايزين الشركات؟عايزين الأطيان والسلطان؟!كل واحد...يِحاجي على مرته!ويجيبلي منها عيال!نسل جديد!جايز...جايز يطلع نسل خير!مش نسل خراب!

سكت، لكن الصدى فضّل يدوّي…كان ده مش مجرد أمر، دي كانت بداية صفحة جديدة،يا تطلع بيهم لفوق…يا تنسف اللي فاضل.

وقف الكل، والعيون مسمّرة في الجد، اللي فجأة وقف مستقيمًا، وصوته بقى جهوري،
صوت راجل رجع له سلطانه، ورمى الهيبة من عينه قبل لسانه.
وفي لحظة اندفع "جابر" بلهفة... نبرة صوته كانت مزيج من طمع ودهشة:

ـ يعني لو بتي... جابت خِلف من ده،هتدّيني مالي؟!..وحالي؟!

نظر إليه "عِمران" بقهر،نظرة أب مش مصدّق الوَلد اللي طلع من صُلبه،
نظرة فيها ألف وجع، وقال بصوتٍ ثابت:

ـ أيوه... يا بن "عِمران".

وهنا صرخ "جابر"، كأن لقى الثغرة اللي يدخل منها، كأنّه نسى الدم اللي بينضرب، والوجع اللي سببه، وقال بانفعالٍ باهت ومندفع:

ـ خلاص!"وِجد" تجيب من "نديم" عيال!
وأني راضي!وهما اتجوزوا...وأني راضي!
وأول خِلف من بتي...هو أصلاً ابن عمها!
وكَتَب لها مهر... وفيّ !وخد إذنك… يبقى خَلُصت!

كانت كلماته بتتقذف كالرصاص، مش حبًّا ولا كرامة…لكن محاولة أخيرة لشراء الخلاص بورقة، ورضا مؤقت.لكن العيون اللي حواليه ما كانتش شايفة صفقة…كانت شايفة سقوط.

وقف "نديم" مذهولًا، عينيه تائهة، وكأنه ما عاد يشوف حد...الكل كان بينظر له، عيونهم متسمّرة فيه، مش مصدّقين.
مش مصدقين إزاي... في غمضة عين،
اتحول الراجل اللي كان واقف زي الجبل،
لراجل باع بنته... بقوة وسرعة، عشان الفلوس!إزاي؟!إزاي نَهى خلاف سنين... بثواني؟!إزاي انهزم قدام المال... وهو اللي كان دايمًا شايل غل في قلبه ما يتكيلش؟!

وهنا… دوّى صوت "أسمر"، مليان بالعنفوان والتحدي،كأن كلام الجد كان القشة الأخيرة اللي مستنيها،قشة امتلاك "المهرة"… اللي عينه ما فارقتهاش من ساعة ما شافها:

ـ وأنّي موافِج!أنا وأخويا…مره زي غيرها!
واللي عملوه… مش هناخد بيه حُجّة!
إحنا… ما بنجتِلش نسوان!

رمق الحضور بنظرة حادة، ورفع صوته أكتر:

ـ الدور والباجي…ع اللي جايين وولعوها!

كانت كلماته نار،لكن نارها ما حرقتش "نديم" بس…حرقت كل اللي لسه شايل ذرة كرامة، وكل اللي كان فاكر إن الدم أقدس من المال.

فصرخت مهره بانفجارٍ كالصاعقة:

— "مش لما تبقى راجل تيجي تقول... ما بقتلش نسوان؟!"

همَّ "أسمر" أن يقترب منها، لكن الجد مدّ يده بقوة وشدّه هاتفًا بصوتٍ أجشّ:

— "اتلم بقه! أنا واجف! إنت إيه؟ انخبلت؟!"

لكن "أسمر" تمادى، صائحًا بغيظ فهيا تكيل له بعنف:

— "دي عايزة ربايه!"

فصرخت مهره ساخرة بنار قهرها:

— "روح رَبِّي روحك الأول يا ابن سلطان... يا نصاب يا بتاع العرفي !"

ثم ساد صمت مفاجئ،عيون الجميع اتجهت نحوها...نحو "شجن" تلك التي وقفت تتأرجح في مكانها، مكسورة، وأناتها تعلو بقهر. كأنها فقدت التوازن الداخلي إلى الأبد.

فتاه رقيقة، حنونة، لكنها منهارة...اقتربت من "نديم"، تشهق بالبكاء، تمسك يده بقوة مذبوحة: انا أنا ماخنتك.. قال... قال إنه كان بيحميني؟!والله ده قال كده. 

نظرت لبراء،ثم لنديم، لأخوها، لسندها اللي ظنّت إن الدنيا كلها تهون في حضنه.
نظرتله بنظرة اتكسرت فيها كل الحكايات…
وقالت، بصوت بيترعش ما بين الذكرى والخذلان:

— أجر ناس أكيد يا نديم!أجر ناس اتجرّأوا عليا، واتعدو علينا.دخلوا عليّنا كنا لوحدنا…
ضحكوا عليّا…خدعوني، قالوا لي في خطر،
قالوا لازم أحمي نفسي،قالوا لازم أكتب الورقة…عشان شرف العيلة!

وأنا؟أنا كنت مرعوبة…ما فهمتش حاجة،
الدنيا كانت مليانه ناس شكلهم ،وكلهم بيصرخوا،وأنا واقفة في النص،… ضايعة… وخايفة…وأقسم بالله…والله ما خنتك!!

أنا مضيت... آه، بس ما كنتش عارفة بأمضي على إيه،كنت بمضي وأنا جسمي بيرتعش…
وكلهم حواليّا بيقولوا: دي الحماية!

قالت كلماتها كأنها بترميها من قلب بيستغيث، وكل حرف كان بينزف من روحها قبل لسانها…
سكتت لحظة، والدمعة نزلت بهدوء مش من عينها، من عمرها كله، ثم همست:

— "بس… والله ما خنتك."

وهنا…تجمّد "براء" مكانه…كأن كلماتها كانت رصاص حي، اخترق صدره وسابه ينزف من جوّه.

نظر لها، عيونه مش بس مكسورة…عنّيه هربت منها، لكنه ما قدرش يهرب من نفسه،
وشاف في وشها المرعوش نفس البنت اللي اتمناها، وحطها في لعبة كبيرة بتهوره وعنفوانه …

رمش بعينه بسرعة، كأنّه بيحاول يمنع دمعة غدارة تهرب،لكنها نزلت…ساخنة صريحة…
تقول "أنا غلطت.. أجرمت "... ، من غير ولا كلمة.

أما "نديم"…فكان واقف، زي تمثال حجر،
بس عنيه اتكسرت…وفي ضهره تقوّس مش من التعب، من خيبة الأمل كان نفسه يصرخ، يشتم نفسه، يضرب دماغه في الحيط…بس كل اللي قدر عليه…نظرة طويلة نازفة…لأخته، اللي ما خانتش…لكن اتخانت، من نفس العيله .

وللحظة…سكن كل شيء…إلا القلوب، كانت بتكسر جوّه الصدر بصوت ما حدش سامعه غيرهم.

فَرَك براء كفوفه ببعض، كأنه بيحاول يشيل الذنب من جلده،خطا خطوة ناحيتها، لكنه ما قدرش يوصل،صوته طلع مبحوح، كأنه بيتكلم من بقايا نفسه:

— "شجن…أنا… والله…

ابتعدت مسرعه وكلبشت في أخيها برعب وقفت ترتعش.... 
 
— "يلا يا نديم... يلا نمشي، سيب لهم حاجتهم..." "إنت قولت هتديهم حاجتهم... إرميها لهم... دول مش بني آدمين!"

شهقت، أكملت وهي ترتجف:

— "يا نديم... أنا خايفة! أجيب من مين؟! من ده؟!ده أنا بخاف منه!"

براء" شعر وكأن شيئًا في صدره ينكسر،
اقترب ببطء، صوته رخيم كنسمة ليل:

— "شجن..."

لكنها كأنّها لدغتها النار،دفعت صدره بعنف، تصرخ بانهيار:

— "ما تقربليش! ما تقربليش!إنت مين؟! أنا ماعرفكش!! ماعرفكش!!"

نظرت حولها بجنون،ثم شهقت فجأة كأنها غرقت تحت الموج:

— "عيال مين اللي هنجيبهم منكم؟!ده أنا لو جبت عيل، هموته عشان ما يطلعش زيكم!"

ارتفع صوتها وهي تتأرجح بين الهيستيريا والصرخة الأخيرة:

— "كلكم. مرضي آيوه آنتو مرضي و... و.. .. أشرار! حتى أخويا... شرير!"

رفعت رأسها نحو السقف وكأنها تكلم الله:
 "إنتو إيه؟! حد يعمل في حد كده؟!"
بتبيعوا وتشترو؟! بتقسموا؟! إحنا تبع الورث؟!""عشان الفلوس؟! محروق أبو فلوسكم!"

صرخت بكل ما فيها:

— "أنا حبيت... يا كفرة!واتقتلت بسببه!"

— "بتخططوا لإيه؟! هتعيشوا إزاي؟!
هتشتروا الحب؟ الأمان؟ الحنية بالفلوس؟!"

— "إنتو عالم ماعندكوش رحمة...والله... ماعندكو رحمة!"

سكتت لحظة ثم هزّت رأسها بعنف،تحاول طرد الشياطين من عقلها:

— "هو إحنا كلاب؟!إحنا إيه؟!
ما بنحسش.. "خد وجد... خد شجن... خد مهره!عارف إيه أحسن؟إن ربنا ياخدنا ويرحمنا منكم يا ظَلَمة!"

شهقت شهقةً كأنها الروح تفلت:

— "مش كفاية؟! عشنا عمرنا كله مقهورين بسببكم!" "ولا مرّة حسّينا بالأمان!" "أخويا... اتدمر بسببكم!"

ثم انفجرت صرختها الأخيرة:قولهم يا نديم!
قولهم إحنا مالناش حد…إحنا لوحدنا من زمان،إحنا ما لناش غير بعض،ماسندناش غير على بعض!"

رجعت تبص لهم، في عنيها لهب:

— "نتجوز مين؟!بعد إيه؟!بعد ما كل حاجة اتكسرت؟

سكتت لحظة، بس النظرة كانت ناطقة، وقالت بمرارة:

— "اللي خطّط… وباع… ما بيشتريش …

— "يلا نمشي! مشّوني من هنا!"

صرخت بهيستيريا، تدق الأرض بكعبها:

— "أنا بكرهكم... بكرهكم!"

ظلت تصرخ ونصرخ وفي لحظة، انهارت بجسدها كأن كل ما فيها انكسر،
لتسقط مغشيًا عليها، في أحضان "براء" الذي هرع يحملها، ويضمها لصدره بعنف وشعر بكم السواد الذي فعله دون تفكير وغلبت حميته الصعيدي عليه جعلته يقول ما اجهز علي قلب تلك الجميله. 
و علي الفور حملها علي قلبه واندفع بهت يهرب بها أراد أن يختفي العالم من حوله صعد بها إلى الطابق العلوي...وكأنّه يحاول إنقاذ ما تبقّى من شيء اسمه إنسانية في تلك الحكايه .. 

"وفي قلب العتمة… سكتت الدار…لأول مرّة… سكتت مش خوف،سكتت… لأنها ماتت."............... 


شكرا لزيارتكم عالم روايات سكيرهوم
تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1