رواية عودة الذئاب الفصل الرابع والأربعون بقلم ميفو السلطان
.... اقتربت "شجن" من "براء" في هدوءٍ عاصف، وسكونٍ يخبّئ خلفه آلف وجع، ثمّ مدت يدها المرتجفة ببطءٍ إلى داخل قميصه، لتشدّ السلسلة التي كانت تُحيط بعنقه.
تجمّد في مكانه، بهتت نظراته، وتلاشت أنفاسه في صدره كأنّها اختنقت من وقع اللحظة.
انقطعت السلسلة.
تلقّفتها بين أصابعها المرتجفة، وهو يراقبها بصمتٍ مُذهول، تائهٍ بين السؤال والوجع.
ثم وجدها تُخرج القلب الصغير الذي أخذه منها يومًا، القلب الذي كان لها، فأعطته إيّاه… لتراه اليوم يُعاد إليها، ولكن دون حياة.
اخرحتت القلب من داخل السلسلة، ثم قبضت عليه براحتها الصغيرة… وكأنها تعتصر قلبها هي.ذلك القلب الذي ما عاد له مأوى، ولا صدرٌ يُخبّئه، ولا حضنٌ يضُمّه.
لقد فقد حضنه.فقد ملاذه الآمن.
ابتلعت ريقها بصعوبة، كأن الكلمات تتحجّر في حلقها، ثم تمتمت بصوتٍ مكسور:
ـــ "ماعتقدش دي حاجه تنفع تتحط هنا… معلش… دي حاجه ماتخصكش.وآه… حاجتك في العربيه تحت، هبقى أجبهملك."
رفع عينيه إليها، وصوته بدأ يرتعش، تائهًا بين الاندهاش والوجع، يهتف من بين اضطراب مشاعره التي بدأت تهتاج كالأمواج:
ـــ " حاجه ؟! حاجه إيه…؟"
فابتسمت "شجن" ببرودٍ قاتل، بوجعٍ اختبأ خلف ملامح بلاده قاسية، وقالت بصوتٍ متماسكٍ رغم انكساره:
ـــ "اللي ضحكت عليّا بيهم؟ سندريلا… والقلب… والنجوم…
تلات حاجات راحوا من دنيتي، بس راحوا بأبشع صوره."
ثمّ صمتت.لم تعد تملك من الكلام ما يُقال، ولم يبقَ بداخلها سوى صدى الخيبة.
استدارت، كأنها تهمّ بالرحيل، كمن يحاول الهرب من احتضار قلبه على عتبة الحب.
لكن "براء" اشتعل.اندفع كأنّ النار تسري في عروقه، كأن رجولته تئنّ من وجع الظلم، فأمسك يدها بسرعة، وصرخ بصوتٍ يقطر من القهر:
ـــ "استني!انتي فاكْراني إيه؟!"
أطبقت "شجن" يدها بعناد، فأطلق صرخة أخرى، ممزوجة بقهرٍ لم يعرف له مثيلاً:
ـــ "افتحي يدك!!"
حاولت أن تشدّ يدها من بين قبضته، لكنه صرخ بعينين مشتعلتين:
ـــ "بجُولك افتحي يدك!ماتهيّجنيش… أنا والع خلجه!"
ارتجفت خطواتها للخلف، وقالت بصوتٍ موجوع، متوسّل، لكنه كان كسكينٍ يمرّ فوق جرحه:
ـــ "من فضلك… بقى… كفاية كده."
لكن الوجع فيه قد تجاوز نقطة الرجوع.
شدّها بعنف، كأنّه يُقاتل من أجل ما تبقّى من روحه، قبض على يدها بغلّ، فتحها عنوة، ثم انتزع السلسلة من راحة كفها المرتجفة، وربطها سريعًا، ووضعها حول عنقه من جديد.
ثم صرخ… صرخ كأن صوته يحمل كل الليالي التي ذبح فيها دون أن يسمعه أحد:
ـــ "اسمعي بقه… عشان أنا مش هستحمل كلمه زيادة!أنا ماقصدتش أي كلمه اتقالت تحت!وماخططتش… ولا ضحكت عليكي!
أنا ماكنتش أعرف انتي مين…والله العظيم ماكنتش أعرف… لحد ما شوفت أخوكي!"
نظرت إليه "شجن" بعينين غارقتين في صمتٍ موجوع…صمتٍ يشبه نزفًا بلا صوت.
همست، بصوتٍ متهدّج، كأن كل كلمة تُجرح حنجرتها:
ـــ "وماكنتش تعرف كمان… إنك هتتجوز بنت عمّك برضه؟"
تراجع "براء" خطوة، كأن الكلام طعنة لا يتوقّعها.ثم صرخ بانفعالٍ يائس، تُغلفه النيران:
ـــ "أنا كت بجاريهم وبس!والله العظيم ما كت همسها حتّى!اسألي وجد!دخلتلها وجولتلها ما تستناش مني جواز!"
زفرت "شجن" تنهيدة طويلة، تنهيدة مَن أنهكها الوجع…ثم همست، بنبرة خافتة كأنها تسلّم القلب بعد هزيمته:
ـــ "طيب يا براء…"
واستدارت.
لكنه لم يحتمل الاستدارة.لم يحتمل أن يراها تُدير له ظهرها كأنّه لا شيء.
شدّها سريعًا، صوته يرتفع وسط الارتباك:
ـــ "هو إيه اللي طيب وماشية؟!"
هزّت رأسها بخضوعٍ موجوع، بعينين لا تحتمل المزيد:
ـــ "طيب… زي ما سمعت…عايزني أعمل إيه؟"
نظر إليها مطوّلًا… كأنّه يبحث في ملامحها عن آخر خيطٍ للنجاة، ثم قال برجاءٍ صادقٍ ينفطر له القلب:
ـــ "عايزك تصدجيني."
ابتسمت ابتسامة باهتة، مكسورة، وقالت:
ـــ "تفرق؟طب… صدقتك."
ثم استدارت… بخطوات بطيئة كأنها تجرّ روحها خلفها.
لكنه لم يتركها ترحل.استدار هو الآخر، وتقدّم حتى وقف أمام الباب، يحجب عنها طريق الخروج، بعينين مضطربتين ونبرة انكسرت رغم عناده:
ـــ "انتي بتاخديني على كد؟عجلي بجولك… ماكنش قصدي والله اني اتزفت كت محروج ."
تنهدت "شجن"، وصمتت…كأن الصمت وحده قادر على تقييد ما بقي من صراخ داخلها.كانت تريد أن تهرب بأيّ شكلٍ، بأيّ حيلةٍ، بأيّ اتجاه لا يمرّ من خلاله…
فالوجع بداخلها يمزّقها ببطء، كنصلٍ صدئ يقطع بلا رحمة.
همست، بصوتٍ مُتعب، خافتٍ كأنفاسٍ تُنتزع من صدرٍ مثقوب:
ـــ "ما أنا بقلك… خلاص حصل خير…
ممكن تسيبني أمشي… عشان تعبانة."
لكن صوته جاء صارخًا، غاضبًا، مشبعًا بالعجز:
ـــ "تمشي؟!تمشي فين؟!"
همست هي، بنبرة هادئة، مفرغة من الرجاء:
ـــ "أرجع بيتي."
أغمض "براء" عينيه، كأنّه يريد أن يهرب من مرآة الحقيقة، لكن صور "وجدي" وكلامه، وأسماء الشركات، والأوراق، والمسؤوليات، كلّها تتقافز أمام عينيه…
قال بتوترٍ مكسور:
ـــ "وجدي… وكلامه… وإحنا…والشركات…"
هزّت كتفيها بلا اكتراث، كأنّها ترمي حملًا ثقيلًا عن ظهرها:
ـــ "وأنا مالي بيه؟أنا ماعرفوش أصلاً… ولا عايزه منه حاجه.بيقسم إيه… وعلى مين؟
هو مالوش حكم عليا!أنا تقريبًا اتخرجت… وأقدر أشتغل… وأعيش.هعوز منكو إيه؟
أنا مسافة ما أخرج من هنا، هنسى كل حاجه، واقفل السكة دي.مش عايزه يبقى ليا صلة بيكو من أساسه."
صرخ "براء"، كأن الوجع داخله انفجر دفعة واحدة:
ـــ "إحنا أهلك!"
نظرت إليه بعينين ساكنتين، وأجابت باسمه، بهدوء أشدّ فتكًا من الغضب:
ـــ "أهلي؟
الكلمة دي مش مكانها هنا … إنك تكون أهل يعني تستحق.إنما انتو؟… مش كده."
خفض رأسه، كأن الحزن يُثقل كاهله، وقال بنبرة تنزف وجعًا:
ـــ "أنا مش أهل يا شجن… ده احنا ماكانش يوم بيعدي إلا لما بنتكلم،ماكناش بنقدر نبعد يوم واحد!"
تنهدت ببطء، بعيونٍ ذاب فيها التعب، وهمست:
ـــ "أهو… إنت قولت… كان.وخلصت القصّة.شوف حياتك يا براء بجد…وما تمشيش ورا جدك… وتضيع حياتك عشان شوية فلوس.الفلوس ما بتسعدش النفوس.
أنا قضّيت عمري أحلم بحاجة…وطلعت وهم… وسراب.و… جه النصيب… موجع."
اقترب منها بخطواتٍ مرتجفة، كأنّ كل خطوة تُنبت في صدره شوكة…أمسك يدها، نظر في عينيها كمن يتمسك بخيط نجاة، وقال بقسمٍ يخرج من عمق روحه:
ـــ "والله… ما وهم… ولا سراب.والله العظيم… الله حجيجه.شجن…أنا آسف… إني وجعتك."
رفعت "شجن" نظرها إليه…عيناها تلمعان بالدموع، لكنها لم تكن دموع الضعف، بل دموع من ذاق كل أنواع الخذلان.همست بصوتٍ مُتحشرج، تنزف نبرة انكسارها:
ـــ "إنت ماوعدتنيش بحاجه… عشان أحاسبك."
ثم استدارت… أرادت أن تهرب، لكنّه ضمّها فجأة، التصق بها، كأنّه يحاول انتزاع العذر من صدرها عنوة.
قال بصوتٍ خافت، يلهث من حرارة اللحظة:
ـــ "مش لازم أوعِد… النظرة وعد… والكلمة وعد."
أدارها نحوه، هامسًا باسمها:
ـــ "شجن… أنا… أنا…"
لكنها دفعته بعيدًا، نظرت إليه بعينين تفيض مرارةً وغضبًا.قالت بنبرةٍ نازفة:
ـــ "عارف يا براء…إنت بالنسبالي إيه؟وجع.
إنت وجع فوق وجعي!يا ريت تسيبني فحالي…أنا مش عايزة أعرفك بجد.أنا همشي…وأسِيب حياتكو…لأنكو مش شكلنا…ولا إحنا شكلِكُو.الله يسامحه "نديم"…كان السبب في إنكو تقطّعوا فينا!"
صرخ "براء" بحرقةٍ كأنّ قلبه يُنتزع من مكانه:
ـــ "والله ما جصدت!يا شجن…أنا شفت أخوكي داخل علينا كيف…كنت هموت… الصعيدي عنده حمية!كنت حمار…والله العظيم… ما كنت أعرفك!طب هكدب ليه؟
ليه أترجاكي؟!"
نظرت إليه بعيونٍ ممزقة، وقالت بانكسارٍ غاضب:
ـــ "وأخوك كمان كدّاب!اللي قال: خطتنا وخططتوا!بلاش تنزل من نظري أكتر من كده…أنا خلاص…ما عدتش شايفاك أصلاً!
إنت كنت حاجه… وراحت…ومش عايزاها ترجع تاني.أنا…خلاص… قفلت على روحي."
صرخ بألمٍ لا يُطاق، بنبرةٍ خنقتها الرجولة، والندم، والضياع:
ـــ "أنا مش حاجه!بجولك… ماتهببتش!
أنا براء يا شجن…فاكره لما جولتيلي إنك ما بتحسيش بالأمان إلا لما تسمعي صوتي؟!"
نظرت إليه بعينين يملؤهما القهر، وقالت بصدقٍ جارح:
ـــ "عارف يا براء…أنا عمري ما هَحِسّ بالأمان تاني…عمري ما هَحب حد بسببك.إنت خلتني أشوف الدنيا دي بأبشع صورة بسببك دنيتي ماتت.إنتو…ما عندكوش لا قلب… ولا رحمة!"
صرخ مرة أخرى، وكأن صوته هو آخر ما يملكه للدفاع:
ـــ "عارف إننا عملنا غلط!بس والله… يمين أتحاسب عليه…ما جصدتش…كنت بهيم…!"
لكنّها لم تعد قادرة على الصبر.
سالت دموعها بحرقة، دموعٌ لا تغسل، بل تلسع:
ـــ "ماقصدتش؟!تموت وتقول ماقصدتش؟
تدبّح وتقول ماقصدش؟تعايِر وتقول ماقَصدّتش؟!"
ثم نظرت إليه نظرةً غاضبة…نظرة امرأة انتهت من الحلم، وصحَت على الكابوس:
ـــ "إنت…إنت خدتني بالعرفي يا جاحد!
أنا إزاي… ماكنتش شايفااااك؟!قول!
لميتوا الناس، صح؟إنت وأخوك…كنتو عاملين تمثيلية… عشان تمضّوني، صح؟!"
صرخ "براء" بحرقة، كأن قلبه يحترق تحت رماد الخطايا:
ـــ "يمين الله… ما حصل!اسمعيني!"
اقترب منها، كأنّه يتمسّك بآخر رمق للغفران، لكنه ما إن أمسك بيدها، حتى صرخت فيه بعنفٍ مفاجئ، صوتها كالسوط:
ـــ "ما تلمسنيش!ما تقربش مني!إنت إيه؟!
أنا بكرهك!إنت خلّيتني أكره روحي!نفسي أموت… بسببك!لا… بسببكو كلكو!إنتو مش بني آدمين!جاي تتكلّم في الشركات؟
إنتو… ما بتحسوش؟!"
كانت تصرخ بقوة… صرخة من تمزّق صدرها من الداخل، صرخة بنت اتكسرت، اتعرّت من حلمها، ورمت قدّامهم كأنها ولا شيء.
وفي تلك اللحظة…
كان "أسمر" يحمل "مهره" بين ذراعيه، يتّجه بها نحو حجرته، عنيدًا كعادته، جسورًا في وقاحته، لكن عينيه تلمعان بنارٍ أخرى.
صرخت "مهره" وهي تضربه:
ـــ "نزّلني يا زفت!واخدني فين؟!هموّتك!"
ضحك وهو يحتضنها بقوة:
ـــ "واخدك أهدّيك يا وحش…هتفطسي مني أكده؟!"
صرخت بعنف أكبر، تنكمش بين ذراعيه:
ـــ "بقولك نزّلني!بلا افطس بلا زفت!
مالك بيا؟!"
أنزلها أمام باب الحجرة، أسندها إليه، كانت أنفاسها تتسارع، كأن قلبها يسابقه في الغضب.
همس بلينٍ غير معتاد منه:
ـــ "ولما مرتي تروح مني…أجعد من غيرها؟
إياك…"
صرخت، تنفجر في وجهه:
ـــ "إنت تعبان!بعقلك؟برضه مش راضي ترتدع!تهدّيني إزاي؟!أوعي!..."
ضحك… ابتسم بجرأةٍ متهوّرة، ثم ركنها التصق بها، وصوته يغزل نارًا:
ـــ "عندي أفكار…لو جولتها ليكي…ماعرفش رد فعلك إيه!"
قطّبت جبينها بريبة، فزاد من وقاحته:
ـــ "أجولك؟نبتدي بالشفايف دول؟أنا عريس جديد…وعايز أتهنّى."
اهتاجت، صرخت به، بعينين تقدحان شررًا:
ـــ "العرسهكملتلك والله لأموّتك!باسك حنش يقطعك!هيّا مين اللي هتتباس؟!"
غمز لها بوقاحة، مدّ يده ولمس شفتيها:
ـــ "إنتِ…يا وحش!"
نظر لها بلهيب الشوق، وأضاف بنبرة صادقة رغم غلظتها:
ـــ "ما كنتش أعرف إن مرَت أسمر تبقى اكده…بس عارفة؟ما ينفعش معايا غيرك.
الأسمر مش أي حد يخش حياته."
دفعتْه بعنف، بجسدٍ ترتجف فيه الكرامة والغضب:
ـــ "خش عليك عفريت!إنت مالك؟!محسسني إنّي اللي عايزة أكون معاك!
ولا طايقاك أصلاً!إيه ده؟إنت… مش طبيعي!"
لكنه لم يتراجع، بل شدّها مجددًا، واحتضنها بقوة، ثم همس، كأنّه يفضح خفايا قلبه:
ـــ "مين جال إنّك مش طايجاني؟ده الجلب بيرجف…والجسم بيرعش…حاسك بين إيديا…عايزة إيه؟ومتأكد من جواتك ؟
ما تجوليش كلام ما يعجّلش…بُصيلي كويس…واعرفي إنّك بتاعتي."
نظرت إليه، كان كلامه يهزها من الداخل… قوته، جنونه، تمسكه الغريب بها… شيءٌ فيها تزعزع.ابتسم.مدّ يده ولمس خدّها بحنان غريب لم تألفه منه.
هنا…انتفضت فجأة.
سمعت صراخ أختها "شجن"، صرخة ممزّقة، حادة، من مكانٍ ليس بعيدًا… كأنها ضربة سكين وسط الصدر.اهتاجت "مهره"،تملصت منه بعنف،وصرخت بأعلى صوتها:
ـــ "بيعمل إيه في البِت؟!والله لاقتلكو!إنتو إيه؟!كفرة؟!"
كلبشها "أسمر" فجأة، جسده يغلّفها كدرعٍ من الغضب والتمسّك:
ـــ "رايحة فين؟!أهمدي بقه! اتخبلتي إنتِ؟
كل واحد هتعضّي فيه إنتِ هتجي وتجعي مني أكده؟!"
صرخت به بجنونٍ يفيض قهرًا:
ـــ "أوعي بلااااااا…أقع بلا اتهبّب!أشوف البت!يا كفرة!إنتو فاكرينها تستحملكو؟
دا إنتو… جبااااااابرة!أوعي!"
ضمّها بين ذراعيه بعنادٍ يشبه الرجاء:
ـــ "طب اهدي…وشّك احمر…اهدي..."
كانت تصارعه بجنون، تضربه، تدفعه، وصدرها يعلو ويهبط كأنها تختنق من الهواء.
كان يُمسكها… لا ليُقيّدها، بل ليحميها من انهيارها.
لكنّها… دفعته بعنف.ثم اندفعت نحو الباب، تطرقه بعنف هستيري، وكأن النجاة تختبئ خلفه.
فُتح الباب فجأة، و"براء" يقف مبهوتًا… عينيه تنظران لها دون فهم، وقلبه يعتصره القلق.
اندفعت "شجن" إلى حضن أختها… ارتمت فيه، تبكي كأن قلبها ينزف من بين ضلوعها.
واحتضنتها "مهره" بشراسة الأمّ، لا الأخت. تربت عليها بحنانٍ مجروح:
ـــ "اهدي…حبيبتي… اهدي…أنا جنبك…
عمل فيكي إيه؟!"
كان "أسمر" يقف خلف "مهره"، وكأن نيراناً تتصاعد من عينيه.
همست "شجن" وهي تحتمي بالأمان الأخير:
ـــ "تعبانة… قوي… وخايفة…"
لكن "مهره" انتفضت، شدّتها من كتفها بقوة، وقالت بصوتٍ كالرعد:
ـــ "خايفة من إيه؟!تخافي… ومهره موجودة؟
أخصّ عليكي!أنا طول عمري ضهر ليكي…
ولا حد يهوب ناحيتك!القلم لو نزل…ينزل عليّا قبل ما ييجي فيكي!"
تنهّدت "شجن" بنحيبٍ يوجع القلب:
ـــ "إنتي تعبتي…قوي…إنتي طول عمرك ورايا…وواقفة ليا…لحد إمتى؟!"
ملست عليها "مهره"، بأنامل مشققة من الحياة، لكنها حنونة، واحتضنتها:
ـــ "وأشيلك العمر كله.إنتي هبلة؟إنتي قلبي…يا شجن! بنتي…عمري كله.ولا أستحمل عنك حاجة.إنتي مش زيي…
أنا… ميتة من جوا.إنما إنتِ؟لسّه بقلبك الأبيض…فاكراني هسيبك ليهم؟يسوّدوه؟
ياخدو روحي الأول."
رفعت "شجن" عينيها نحو "براء"، وعينيها تمطر وجعًا وخرابًا:
رفعت "شجن" عينيها إلى "براء"… كان في نظرتها انطفاء، كأن الحياة قد لفظت فيها أنفاسها الأخيرة، كأن البياض الذي كانت تراه في الناس قد اتّسخ للأبد.
عينها تقول ما لا يُقال… وشفتيها تمتمت بألمٍ يقطّع الروح:
"أبيض؟!… ماعتش… خلاص… كل حاجة راحت."
لكن "مهره" لم تتركها تسقط في هاوية الانكسار، شدّتها بقوةٍ مفاجئة، وكأنها تنفض عنها رماد الحزن، تهزّها حتى توقظ ما تبقّى فيها من بقايا النور.
لم تكن تلك اليد مجرد ذراعٍ شدّها… كانت صوتَ الروح ينادي:
"مافيش حاجة راحت…عشان ماكنش فيه حاجة أصلاً!فاهمة؟!لتكوني فاكرة إن أختك ضعيفة…أو إن حد يقدر ييجي جنبك!"
ثم اقتربت منها ببطء، بملامحٍ مطبوعة بالقهر والحماية، وانحنت تُقبّل رأسها…
نهضت، واستدارت، بخطوات امرأةٍ لم تُكسر رغم كل ما مرّ، ووقفت قبالة "براء"، نظرتها صلبة، صارمة.نظرت إليه كمن يرى الحقيقة أخيرًا، بلا أوهام، بلا حنين، بلا مبررات.
"ها… ناوي على إيه يا بن أبو الدهب؟!"
في تلك اللحظة، كان "أسمر" واقفًا في الخلف، عيناه تتابعان المشهد بصمتٍ مكلوم.
شيء في قلبه ارتجف… أي وجعٍ هذا الذي تحملته "مهره"؟كيف صمدت دون أن تنهار؟
كيف انتقلت من نزفٍ إلى نزف، دون أن تنحني؟
ومع كل خطوةٍ اقتربت فيها "مهره" من "براء"، كانت تلك القوة تتجلّى أكثر… لم تكن خطواتها عادية، بل كانت تمشي ووراءها تاريخٌ من الصبر والانكسارات التي لم تهزمها.
ثم وقفت أمامه، لا تترجّى، لا تتوسّل، بل تأمر بثباتٍ هائل، كأنها تحمل في كلماتها كل ما تبقّى من كرامتهم:
"هات الورقة يا بن الناس."
كان الغضب يتطاير من عيني "مهره" كشررٍ مشتعلٍ من نارٍ لم تخمد منذ زمن، اقتربت بخطواتٍ محسوبة، بعينٍ لا تعرف الخوف، بصوتٍ لا يعرف الرجاء، وقفت أمام "براء" ، شامخة، متحدية، وقالت بحدّةٍ كأنها تُسدل الستار على كل ما تبقى من المسرحية:
"هاتها… عشان نفضّ القصة، وآخد أختي وأمشي من هنا."
صرخ "براء"، كان الصوت يتكسر بين الحنجرة والقلب:
"إنتي جايه تاخدي مرتي؟!"
لم تبتسم "مهره"، لم تترنّح، لم تتردد، بل اقتربت وخبطت على كتفه بخفةٍ تُخفي وراءها جبالًا من السخرية والغضب:
"لا يا حيلتها… مش مراتك!بأنهي عين؟ بأنهي وش؟ هاه؟!لما تاخدها سرقه… ماتكونش مراتكولما تاخدها غدر… ماتكونش مرأتك ولما توجع أختي… تلاقي قدامك مهره تاكل قلبك، وتنهش عظمك."
أشاحت بوجهها، ونبرة صوتها تصفع الكبرياء:
"لو فاكر إن الفلوس والهيصه والهوليله تهمّنا… تبقى غلطان.الست اللي مالهاش مالكه… صعب تجبرها،وأنا وأختي مالناش روح.شوفلك واحده من توبك يا بن الناس،
وكوشوا على فلوسكوا براحتكوا…يلا، هات الورقه!"
في تلك اللحظة، تدخل "أسمر"، ضاق صدره من هذا التصعيد المفاجئ:
"وانتِ ليه تحكمي بالنيابة عنها؟! هِيّه! ما تسيبيها!… انتِ مالك؟!"
التفتت إليه بحدةٍ لا تخلو من الجرح القديم، صوتها خرج متهدّجًا، لكنه مليء بالإصرار:
"مالي؟… هي كلها مالي وحالي!أنا عشت عشانها…وعشان نديم…واستحالة أسيب حاجة تأذيهم!"
ضحك "أسمر" بسخرية ممتزجة بالغضب، كانت كلماته كصفعةٍ أخرى:
"طب… وانتِ مين عاش عشانك؟!"
صرخت بعنفٍ :
"انت مالك؟! بتدخلنا في إيه؟!انت كمان… هات الزفت!"
اندفع "براء"، أمسك بـ"شجن"، صوته ينفجر:
"شجن مرتي… ومش هتروح في حته!"
تقدّمت "مهره"، النار تشتعل في نظرتها، تهزّ الأرض تحت قدميها:
"نعم؟ نعم؟!جرا إيه يا شاطر؟!لتكون فاكر إنك هتعمل عليا راجل وتقفلي؟!لاااا!
انت ما تعرفنيش!ده أنا لما بقلب… بطيح في الكل!وسيب البت…بدل ما أخلي اللي ما يشتري… يتفرج عليك!"
نظر "براء" إلى "أسمر"، وجهه يشحب، وصوته يرتجف ما بين الحرج والانفجار:
"هتسيبها طايحة اكده؟! ولا أتصرف أنا؟!"
اقتربت "مهره" منه، تقدّمَت بخطى من نار، كلماتها تلدغ:
"حوش! حوش!أنا بخاف…واكش!إيه؟! هيمدني؟!ولا يعلّق لي الفلْكة؟!"
ثم أمسكت بطرف قميصه، تجرّه لتعيده إلى واقعه:
"اتعدل! وشوف بتكلّم مين!"
حينها رفع "براء" يده، قبض على يدها، صوته أكثر عقلانية، لكنه محمّل بالحذر:
"لمي نفسك، هاه…أنا عامل حساب لأخويا!"
صرخت وهي تدفعه بعنف، لا تكترث بأي حساب:
"إذا كنت أنا… مش عاملاه حساب!!ده إيه البجاحة اللي انتوا فيها دي؟!عايز إيه منها؟!"
صرخ "براء" يدافع عن بقايا زيفٍ لا يصمد:
"مالك انت؟! مرتي!"
صرخت بصوت أعلى، ينفجر من أعماقها، فيه كل قهر السنين:
"يا واد! ده إنت كنت بتكتب تحت على واحدة تانيه!إيه الفُجر ده؟!وأخوك فضحك!
وقال عنكوا مافي الخمر!إيه؟! ما انتوش رجالة!عايز منها إيه؟!لا إنت شكلها…ولا هيّا شكلك!"
صرخ آخر ما تبقّى له من تمسكٍ واهن:
"بنت عمي! وليا!ومالك إنتي؟!وكل الكلام اللي اتجال… ما هواش حجيجّة!بطّلي حرابه!"
صرخت "مهره"، وانفجر صوتها كالرعد، يكسّر كل ما تبقى من صبرها:
"أنا؟! أنا اللي أبطّل حرابه؟!ليه؟!مش أنا اللي وقفت وسط الناس وفضحت أختي،ولا أنا اللي قلت خَدتها بالعرفي،ولا أخوك اللي قال خطّطنا قدام الخلق…كأنها كلبة… اتاخدت بالرخيص!"
كان صوت "براء" يصرخ محمّلاً بالغضب والتناقض:
"واخوكي؟! مش هو اللي جال اكده؟!
أنا مش زيه داني حتى رايدها!"
نظرت إليه "مهره" بوجعٍ تقطّر من العين قبل الكلمة، وردّت بصوتٍ تخنقه الدموع:
"أخويا؟!بتكلم عن اخويا... انت تيجي إيه فـ أخويا؟!قول… تيجي إيه؟أخويا بيحب وجد، وعايزها عشانها…أخويا حب بنت عدوه، وعايزها،لا جه فضح، ولا اتجنّى،أخويا خَدها برضاها، آه غلط…بس كانت راضية… وحابه،أخويا كتب لها مهر، وجه قدام الناس،
وعزّزها… وطلبها!أخويا غلط، لكن جه يصلّح غلطه،
إنما انتو… انتو قرف!عملتوا عيبةوكملتوها بفضيحة!"
اقتربت أكثر، وهي تلوّح بيدها في وجهه:
"تعال يا واد! امسح للريالة اللي عايزها،
هاتلي أمارة!اللي يفضح واحدة كده…ما حدّش يأمن له!بنت عمّك؟!بنت عمّك اللي كنت هتتجوزها رسمي قدّام الخلق،
إنما دي؟!دي جيت وصرخت بأعلى صوت، كأنها رخيصة، ومالهاش قيمة!حلوة بنت عمّك دي؟!وسعت منك قوي يا بيه يا عالي…ويلا من سكات،هات الورقة،
بدل ما أطلع روحك!"
كانت تمسك بتلابيبه، تهتزّ كالبركان، و"براء" يصرخ ويدفعها عنه:
".. اني غلطت آيوه بس كل إللي جولتيه ده غلط …لمي يدك بدل ما أجطعها لك!
أنا ما بضربش نسوان!"
لكنها لم تتراجع، هجمت عليه بعنف، تدفعه وتصرخ:
"أنا هعرّفك!طالما مش راضي تلمّ نفسك!
أنا هعرّفكوا يا عيلة مافيهاش راجل!
النسوان هتعرفك مقامك يا بن سلطان!"
اندفعت تضربه، فيما تدخل "أسمر" على الفور، يبعدها، يحاول السيطرة…
شهقت حين وجدت نفسها محمولة على ظهره فجأة، فصرخت تهزّ جسدها بعنف:
"نزّلني يا حيوان!هطين عيشتك!انتو فاكرينا إيه؟!نزّلني والله أجيبّ قلبك نصين!
انت يا زفتة!… أحدفيه بحاجة!"
اقتربت "شجن" تضربه، لكن "براء" كان أسرع، أمسكها، يحاول تهدئتها،بينما "مهره" تصرخ، تشتم "أسمر" وتحاول الإفلات منه،
وشجن تتملص من "براء"، تصرخ بصوتٍ تخنقه الدموع:
"أوعي! أوعي!ما تلمسنيش!"
لكن "براء" شدّ عليها، احتضنها بقوة، كأنّه يحاول التعلّق بالحياة:
"أهمدي… والله ما هسيبك…ولا هتاخدك مني!"
كانت تصرخ، ترتجف، تنهار…و"مهره" تصرخ من بعيد، لا تهدأ،و"أسمر" يحملها ويخرج،
و"شجن" تصرخ، تتملّص من ذراعين لا تريدها:
"أوعي!أنا بكرهك… بكرهك!"
شدّها "براء" بقوة، يصرخ وقد انفجر قلبه:
"كفاية بقى!جلبي هينفجر!يا شيخة افهميني!
أنا ما قصدتش!أنا كت… كت بكيد أخوكي!"
لكن الكلمات لم تُطفئ نارها، بل أشعلتها أكثر، فصرخت تمزّق بها الهواء:
"أوعي!والله لأموتك!أنا بكرهك!أوعي!
انت عايز إيه؟!أنا قرفانة منك!إيه ده؟!
عبيد فلوس!روح خليهم يرمولك فلوس…
واتجوز واحدة تجيبلك منها عيال!
إيه القرف ده؟!أنا بطني قلبت!"
تقدّمت نحوه، والدم يشتعل في عروقها:
"انت بتعمل كل ده عشان فلوس جدك، صح؟إنا أموت، ولا أكون ليك!روح هاتلك واحدة بالفلوس،تنام معاها…دانتو حاجة تقرف!"
صرخ وقد فاضت به الكلمات، صوته يجلجل في المكان:
"بطّلي… واتلمّي!أنا ما بحايلكيش عشان تجهريني كده!ومش عشان بجولك ما كانش قصدي…تجلي أدبك!"
هتفت "شجن" بغضبٍ اجتاحها، ودمعها يحترق على حافة الكلمات:
"وأنا مش عايزه منك كلام،ولا عايزه أشوف خلقتك،وهمشي…ال يجيب عيال…
مالقتش غيرك؟!"
تقدّم منها "براء"، أمسَك وجهها بين يديه، وصوته يفيض بتهديدٍ مكسور:
"لآخر مرّة… اتلمي!أنا كل اللي اتجال ما هواش حجيجه،بطّلي غباوة…وعيال هنجيب،وهتنكتمي بقه،انت بتاعتي… فاهمه؟!"
دفعته بقوة، تصرخ وكأن روحها تنسلخ من أعماقها:
"بتاعتك؟!بأمارة إيه؟!بنت عمّك اللي كانت هتبقى مراتك؟!يا كدّاب… يا قليل الأدب!
لا أنا مش بتاعتك،ولا عايزاك،وهمشي…
وهخلّي أخويا يبعدك،وهروح أدوّر على واحد يستحقني…يحبني،أنت واحد…
مستحيل يقرب مني،أنا مش عايزاك!"
صرخ بجنون، كأن شيطانه انفلت من قيده:
"هو مين اللي يبعدني؟! هاه؟!مين؟!ومين اللي هياخدك؟خده ربنا؟!
كان مهتاجاً،فصرخ مجدداً:
أنت بتاعتي،فاهمه؟! بتاعتي!وإنتي كنتي موافطة إنك تكوني ليا…ولو حد خدك مني…أموته فاهمه؟!"
صرخت في وجهه، تكاد تمزّق صدرها:
"مش فاهمه!وابعد عني،لو قربت… هموّتك!
أنا بكرهك!"
اشتعل، كأن شرارة مسّت بركانه، فشدّها إليه بعنف:
"لأ… ما بتكرهنيش!عيونك بتطول غير اللي جوّاتك،زي اللي جوّا جلبي…وإني رايدك،
واستحالة أسيبك!أنتِ… بتاعتي!ما تروحيش لغيري… فاهمه؟!"
اندفع نحوها، وقد اجتاحته مشاعره كإعصار، فشهقت "شجن"، جسدها يرتعد… كانت تقاومه، تقاوم ما في قلبها، وما في ضعفها… لكنه كان يقبّلها بشوقٍ مرّ، كأنّه يغرس اعتذاراته في كل لمسة.
كانت لا تتحرّك، وقلبها يضجّ، يتخبّط، يكاد ينفجر…تحاول أن تبتعد، أن تستعيد مقاومتها، لكنّها لم تحتمل…هي تعشقه… وتريده.
بدأت ترتعش، تتشنّج بين يديه،وحين ابتعد أخيرًا،انفجرت في البكاء،شعر كأن الدمع ينبت من فؤادها.
شدّها إلى صدره، يحتضنها بقوّة، وهي تضربه، تبكي، تنزف ألماً،وهو… يتحمّل،
يُمسّد على شعرها بحنان،يحاول أن يرمّمها بنظراته، بأنفاسه.
همس بلين... وآلله أسف حجك عليا والله اني براء اللي جلبه حلبم مايفرجش.. حجك عليا اني مجهور..
كانت قد أُنهكت… لم تعد تقوى على الوقوف،فتنهّد،حملها برفقٍ،ووضعها على الفراش…لكنّها انكمشت، انسحبت منه، كأنّ جرحها يرفض لمسته.
اندسّ بجوارها، وهمس… بصوتٍ حاول أن يُبقيه ثابتًا، لكنه خانَه الوجع:
"اهدي…وارجعي جُطة زي ما كنتي،براء ما ينفعش تروحي بعيد عنه،إنت بتاعتي…ومهما حصل، بتاعتي."
نظرت إليه نظرة ساهمة، غائمة، وقالت بصوتٍ خافت، كأنّها تنزف بهدوء:
"كل ده… عشان تجيب عيال، صح؟عشان أرضي، صح؟مش هرضى يا براء…
مش هرضى…"
استدارت، واحتضنت وجعها، وانكمشت في طرف السرير…
ثم غفت على الفور، تهرب من كلّ شيء إلى نومٍ ثقيلٍ من التعب.
ظلّ جالسًا… ينظر إليها، مقهورًا،اقترب منها…أمسك يدها المرتجفة،قبّلها،
وهمس بصوتٍ انكسر:
"وأنا… هاجطع حالي،عشان ترضي.وإني عارف…عارف إني جوّا جلبك،وعارف… إنك اتوجعتي."
قبّل رأسها، ابتعد إلى طرف الفراش جلس هناك كتمثالٍ محطّم،يُراقبها بصمت…
إلى أن غفى،وقلبه… يئنّ وجعًا.
********
صعد "نديم" الدرج كمن يحمل وزنه ووزن ماضيه فوق كتفيه، يحملها بين ذراعيه، تدلّت منه كعروس… كذكرى… كجرحٍ قديمٍ تأخّر عن النسيان.
دخل بها إلى حجرتها…فابتسمت، كأنّها تسخر من كلّ ما كان، وقالت بخفةٍ ساخرة:
"حلوه يا واد الشيله دي…أيوه أكده،
العروسة لازم تنشال…"
لكنّه فجأةً… صرخ، كأنّ الغضب احترق في صدره فجأة، ودفعها بعيدًا، فهوت على الفراش كأنها ذنبٌ يُلقى في وجه الزمن:
"بس بقه!"
ضحكت، وهي تترنّح بين العبث والدلال:
"براحه… خليك حنين طيّب…صحيح جرّبنا جبل سابج،بس الحنية حلوه."
لكنّ صوته ارتفع كالزلزال:
"بطّلي كلامك الزباله ده!أنتِ مش كده!
وافهميني…أنا… أنا عارف إني غلطت،
عارف إني أجرمت في حقك،بس أنا ماخدعتكيش،أنا… بعتلك!أنا لو كنت واطي، كنت كتبتك عرفي،وماقولتش إني خدتك من جدك.أنا عارف إنك مقهورة،بس أنا كنت بتقطع… والله كنت بتقطع!"
استلقت على الفراش، ونظرت إليه بجمود، ثم قالت:
"طب أنا جولت غير أكده؟أهوه… جدامك،
اعمل ما بدالك،بس نخلّصو…ونجيب عيال…جبلهم،عشان جدي يدينا الكوم الكبير."
صرخ بها بجنون، كأنّ النار تشقّ صدره:
"محروق أبو الكوم يا شيخه!وجد… اعقلي!
إنت عامله كده ليه؟!"
فقامت تتمايل أمامه، بدلالٍ أحرَق دمه:
"إنت عايز إيه بس؟ جول لله."
استدارت… فتحت عباءتها،ثم عادت تنظر إليه…كأنّها تلقي به في بحيرةٍ من العذاب.
رآها… تلبس له عروسًا تشع انوثه.
ابتسمت، وهي تملّس على جسدها:
"هاه… إيه رأيك بقه؟يلا؟"
صرخ… كمن أصابه مسّ:
"هو إيه اللي يلا؟!يا بت!إنت… إنت مخبوله؟
إنت جرالك إيه؟!"
شدّها إليه، يئنّ من الغيظ:
"اسمعي!مش معنى إني عايزك،تقلّي أدبك!"
ضحكت بخفةٍ جمرها لا يبرد:
"طب إيه؟مش جولت… عايزني؟إيه… مش عاجب ده؟طب استني…"
ذهبت إلى دولابها، أخرجت قمصين من حرير ناعم، رفعتهما أمامه، بابتسامةٍ مواربة:
"طب يلا…إنت تختار!عايز أبو ريش الأحمر…ولا أبو ترتر الأسود؟"
بدأت تضعهما على جسدها:
"أنهي واحد هينحررك أكتر؟بص… هو الأحمر عريان أكتر… ألبسهولك؟"
صرخ بها، صوته يقطر وجعًا:
"ارحميني بقه!والله ماعت قادر…أنا حاسس إني هنجلط!"
تنهدت… واقتربت، داعبت جلبابه بأناملها:
"لا تنجلط إيه؟استني أجيب منك عيال الأول…هيا هتتحسب عليا جواز بلوشي؟
يلا بقه…هبسطك… اتنحرر،يا واد أسمر، تحت غضنفر هيسبقنا!"
صرخ وهو يغلي،كأنّ دمه فاض:
"إنت عايزاني أقتلك؟صح؟ما أنا مش هتحمل قلة أدبك دي!ما تحترمي نفسك…
إنت مش كده!وعارف إنك موجوعه!
وجد… أنا نديم!بُصيلي!ما تموتنيش…
أنا فيّا كتير،أنا مدبوح،وعارف إني دبحتك،
وما ليّش عذر…بس إنتِ قلبك غير…
وعارف إني جوا قلبك!"
تنهدت، رمت القمصان على الأرض:
"باين الريش والترتر… مش نافعين!"
اقتربت منه، داعبت جلبابه:
"طب خفّ… الهدوم دي أكده،هتفوج وهتبقى عسليه…"
بدأت تلامس صدره لكنّه فجأة صرخ:
"أنا مش هتحمل!احترمي نفسك بقه!
أنا فيّا اللي مكفّيني…يا وجد…أنا شوفت سواد،إنتِ أكتر واحدة عارفه بيّا إيه،أنا ما عشتش،وجاي لحدك…نفسي أبقى إنسان،
ما تردنيش…وجد… أنا آسف!"
ابتسمت، فلانت ملامحه… ابتسم لها بحبٍ منكسر:
"والله ما غدرت،ولا فكرت أغدر بيكي…
يمين الله."
شدّها إلى صدره… حاوطته،دفن وجهه في شعرها… يستنشق رائحتها كما لو أنها وطنه، ومرقده، ونجاته.
"وحشتيني…أنا كنت مدبوح من غيرك…
وحشتيني قوي أنا حاسس إني تايه لوحدي مستني حضنك يحسسني إني عايش."
تنهدت، تهاوى قلبه وهيا بين بين ذراعيه، ضمها أكثر يعتصرها بحب هامسا.. وحشتيني قوي مش مصدق إنك في حضني
وبينما هيا في احضانه وهو هائما بها...
همست ، بصوتٍ عبثيّ:
"ما تيجي نكمّل عالسرير…وانت سايح أكده؟"
تجمّد…دفعها برعب،نظر إليها وكأنّها غريبة عنه،شعر بقلبه يصرخ، يضرب أضلعه من الداخل:وضع يده على صدره…كأنّه سيفقد الوعي.لمعت عيناه بدموع القهر والوجع..
صرخ بحرقة:
"إنتِ عايزاني أعمل إيه؟!أموّتك؟عايزاني أموتك؟!صح؟احترمي نفسك بقه!والله…
والله…أفلقك نصين!"
هنا…تحوّلت "وجد"، وظهرت مخالبها،
هدرت كأنها عاصفة:
"لاااااا…شوف بقه يا نديم… يا بن عامر!
هاه…افتح ودانك… وصحصحلي كويس!"
صوتها كان سكينًا تُسنه على عنقه:
"أنا آه…أديك حالي،أنام معاك،نجيب عيال،
أدلّعك…لأجل العيشة تمشي حالها،ونكوش على الفلوس،ونخلص!"
لكنها تابعت، تصفعه بكلماتها:
"بس…تجِل أدبك؟تطيح؟وتفتكر إنّي ضعيفه؟ولا هبله؟لااااا…دانتا تجف حدّك!
وتبص تشوف بتكلم مين؟
كانت واقفة أمامه كأنها جبل من نار... لا تهتز، لا تنكسر، لا تُروَّض. اشتعلت عيناها بلهيبٍ قديمٍ مكبوت، وجسدها كله يفيض غضبًا ونارًا من سنين الألم والخذلان. وقفت كأنها بنت الغضب، من نسلٍ لا يعرف الركوع، لا يعرف الخضوع.
كتمت تنهيدة، لكن صوتها خرج كزئيرٍ في وجهه... زئير أنثى ظُلمت، لكنها لم تُكسر، ولن تُكسر.
لقد صارت وجد شيئًا آخر، لا تشبه التي أحبّها، بل أقرب لنسخةٍ من أبيها... من دم جابر، الذي يُقال إن صمته كان موتًا وإن نطقه كان طوفانًا.
وقفت تنظر إليه من أعلى، كأنها تحاكمه باسم قلبها، باسم جرحها، باسم كل وجعٍ سكنها ولم يجد مَن يضمده.
ثم اقتربت خطوة... وربّتت على كتفه، وعيونها تلمع كبريق الخنجر لحظة الغدر، وقالت بصوتٍ هادئ كهدوء ما قبل العاصفة:
"أنا وجد…هاه… يا نديم! وجد جابر…بنت جابر! شاربة منه وشكله،واللي يجرّب وييجي على توبي؟
أهرسه!" بنت جابر... شاربَه سِمّه كلّه، وشرّه بفلوسي! أجيب اللي يجفلك ويتشَدّلك بفلوسي اللي إنت إدتهالي... أجدَر أشتري ألف سَند وألف ضَهر يِبقالي حامي!
_وجدَ... إنت عرفتَها لوحدها، وخدتها لوحدها، وضحكت عليها لوحدِك... بس وجد دي، وهيا لوحدها دلّوك، هتعرف تجفّلك وتآكل حجلبَك، واللي يِجرب ويدوس طَرَف توبي... أُخطِّي عليه بمَداسي."
اقتربت منه، ربتت على كتفه، وقالت بابتسامة جارحة:
"خلّيني حلوه ورايجه…ونخلصو من الجصه دي،ما تجلّبهاش عفاشة…إلا بت جابر عفاشتها حزن وجهر!"
تابعت، تسحب الهواء وتطعن به:
" خلّص… وشوف حالك!وحتة عايزني دي وسعت شويه!إنت عايز الشركات،عايز ورث عيلة أبو الدهب،وعايز بت جابر اللي علّمت عليه!بس تخطيطك؟عجبني…واد بتعرف!"
ثم، انقلبت السكينة خنجرًا:
" بس كلمة زياده؟هنزل لجدي…وأجوله أروح لراجل تاني.إنت بالنسبالي وسيلة خلف…
عشان الورث!أكتر من أكده؟مش شايفاك!
إنت بالنسبالي…حاجة أنام معاها،عشان يبقى ليّ عيل…ماتفرّج إنت مين!المهم…
تنام معايا…آخد غرضي منك!"
هنا…لم يحتمل.صفعها.
وقفت تنظر إليه… بغلٍ، بحدّةٍ مرعبة.
ظلّ واقفًا… ينهج،ينظر إليها وكأنّه فقد طريق الرجوع.أين تلك النسمة التي مرّت بقلبه ذات ليلة؟هو الآن في مواجهة عاصفة،
لا تُبقي ولا تذر.
هتفت، تمسح أثر الصفعة:
"تمام…هي ليله مش معدّية،وانت ما هتنامش… شكلك!"
ثم أضافت ببرود:
"هعديهالك المرادي…بس المرة الجاية؟
هجطعلك يدك…وفوجها؟هجطع خبرك!"
ظلت واقفة، تلقي عليه نظرات ساخرة، ثم تابعت:
"أنا مره…صحيح،بس مره صعيديّة…تعرف كويس تجيب حقّها!لمّ نفسك…ولمّ يدك…
أنا لا هخاف،ولا بخاف،وهتلاجيك مخلوع… في لحظه!"
كان يقف مقهورًا، لا يعرفها، ولا يعرف من تكون، فقط شيء ما فيها حرق قلبه دون سابق إنذار. همس بصوتٍ مشوبٍ بالرجاء والقهر، كمن يشعر بالخذلان من قدرٍ لا يملك تغييره:
– "ممكن نتكلّم بهدوء؟ وتسمعيني بس…"
تأففت، التفتت إليه بملامح غاضبة متماسكة، لكن عينيها خانتها للحظة، ارتجفت الرموش كأنما قاومت دمعة على وشك السقوط، ثم هتفت بحدةٍ مكبوتة:
استدارت، وذهبت للفراش، تمدّدت:
"نديم…لو مش هتنام، جُول…أنا صدّعت!
تعبت!عايز تتكلم؟روح… اتكلم مع خيتك!
ولا شوفلك حد!أنا خُلقي ضيّق،لا بتاعة كلام،
ولا نحنحة!"
أجفلت النور، واستدارت لتغرق في نومٍ ثقيل.
وظل هو… واقفًا.يبتلع ريقه…ينظر إليها…
بقهر،بألم،بدونيّة.
اقترب…همس بصوتٍ مخنوق:"هيا… اتحولت كده ليه؟آه قهرتها بس… والله غصب عني!" والله انا مريض واحد مش طبيعي بس ماقدرش اكمل كده هو فيه ايه شعر بالغضب ..
كان داخله ياكله.. كان الصمتُ يُثقل صدره، والوجعُ يمسك بتلابيب قلبه ككفٍّ خفيّة لا تترك له مهربًا. راح يُحادث نفسه، بصوتٍ خافت، يكاد يتهشم بين حروفه:
"نديم... انت بتحب وجد؟مين دي؟
دي ماعندهاش قلب!وجد راحت فين؟
انت منك لله... انبسط، وخدت حقك دلوقتي، أهوه... حرّقت قلبها... وحرّقت قلبك."
استدار نحوها، كأنما يبحث في ملامحها عن بقايا تلك النسمة التي كانت يومًا تلوّن أيّامه. اقترب، وتمهّل بخطاه المتعبة، ثم اندسّ بجوارها.
ظلّ يراقب ملامحها الغافية... يتلمّس بأنامله الحائرة قسمات وجهٍ حفظها في قلبه قبل ذاكرته.
تذكّر ليلته معها... كانت كالنَسَمة التي عبرت روحه، لامست قلبه، وأزاحت عنه بعضًا من ركامه.
ركن بجوارها.
مدّ يده، أمسك يدها التي باتت غريبة، ووضعها فوق صدره، فوق قلبه الذي أضناه التعب.
ظلّ يحدّق فيها بعشقٍ باكٍ، كأنّه يُناجيها بعينيه، قبل أن تُغلِق جفنيه من التعب... لا من عانقها بنظراته…
سرح فيها… "وجد" التي عرفها ذات مساء.
"وجد" التي غزلت قلبه بخيوط الحنان.
لكنه الآن…
لا يعرف من هذه.
ولا يعرف من هو.
وغفا بجوارها ... لكن القلب لم يهدأ.
القلب تمزّق أشلاء.
وكأنّ شيئًا من النديم، ذاك الذي كان، لا يزال حيًّا، يئنّ في صمتٍ لا يسمعه أحد...
هل كان الحب لا يزال هناك؟
أم أن ما تبقى... كان مجرد أطلالٍ تهفو لمن رحلوا عنها؟كان داىما هو "النديم"…
لا زال،
يبحث عن "وجده".
***********
هذا الفصل يفيض بالألم، ينبض بوجعٍ يسكن قلوب العاشقين بصمتٍ موجِع. ورغم كل الانكسارات... ما زال في القلوب ذاتها جبرٌ كبير، يد خفية تُرمم دون أن تُرى. والسؤال: متى ستشعر العاشقة؟ متى تؤمن أن أحدهم يُجبرها بحبٍ صامت؟ سنرى...
شكرا لزيارتكم عالم روايات سكيرهوم