رواية عودة الذئاب الفصل السادس والأربعون 46 بقلم ميفو السلطان

 

 

 رواية عودة الذئاب الفصل السادس والأربعون بقلم ميفو السلطان

ما إن اندفع جابر يمدّ يده ليصفعها على وجهها، حتى توقفت يده في الهواء فجأة، كأنّ الزمن تجمّد للحظة.رفعت وَجد يدها، أمسكت يده بقوة، وعيناها تشعّان نارًا كأنّها جمرة تتقد في عتمة الغضب!

بُهِت الجميع...سكن المكان لحظة... كأنّ الزمن كتم أنفاسه، وكأنّ الجدران شهقت وابتلعت الصدى.... . فتح جابر عينَيه على اتساعهما، كأنّ صاعقة نزلت على رأسه.
دفعَت يده بعيدًا، ليرتدّ بخطوتين إلى الوراء من شدة الصدمة،  
عنياه كانت بتولّع شرار، ووشّه اتحوّل لكتلة لهب...
بس في عيونه، ولأول مرة، ظهر شيء مش مفهوم...
كان مزيج من الذهول، والشك، والرهبة...
زي اللي اكتشف إن البنت اللي كان فاكرها "ضعيفة"، بقت واقفة قدّامه "حُرّة"،
وإيده... إيده اللي عمرها ما اتردّت، النهاردة اتردّت.

وَجد وقفت ثابتة... عنيها ما رمشتش.
كانت بتتنفس ببطء، بس كل نفس يخرج منها كأنّه رمح،كأنها مش خايفة...كأنها تولدت من جديد. اتولدت من القهر والغلب

هنا صرخ جابر... 

— هيّا حصلت؟! يا بنت جابر.. بتمسكي يدي؟!

نظرت إليه بغضبٍ لا يُكبح، وصرخت:

— وما امسكتهاش ليه؟! يا بويا، بتمدّ يدك عليّا ليه من أساسه؟!

صرخ بعنفٍ أشدّ، والغليان يفور في عروقه:

 إنتي فاكرة إني ما أجدرش أكسّر عضمك؟! فاكرة ده؟ هتتحامي فيّ؟!

انطلقت ضاحكة... ضحكة قصيرة، جافّة، لا تحمل سوى السخرية.ثم انقلبت الضحكة إلى غضبٍ عارمٍ كالعاصفة، تفجّر في ملامحها كلها! قالت وجد بصوتٍ حارق،... 
— طب! مدّ يدك اكده... واضرب! ورّيني هتكسر عضمي إزاي؟!
عشان... والله العظيم، بورجه وسخه، أعملك محضر في القسم، وساعتها... جابر أبو الدهب هيتفضح، وإنّ بنته حبساه!

كانت كلماتها تخرج كالرصاص... لا رجفة فيها، ولا رجاء.كانت تتكلم بقوة..
جابر تراجع، خطوتين أو ثلاث، كأنها صفعته بدون أن تلمسه.بهت...
بهت بعينين لم عرفش وجها، ولا صدّق ذلك الصوت .دي مش وجد اللي كان دايمًا شايفها مكسورة، ساكتة، تحطّ عينيها في الأرض...

قال مبهوتًا، بصوت مخنوق، كأن الحروف بتتقطع جوّاه:

— هتدخّلي أبوكي السجن؟!

البيت سكن تاني...الصمت ما بقاش صمت، بقى سُخام... دخان عالق في صدر كل اللي شايفين.حتى الجدران كانت بتتفرج، شايلة من التاريخ أكتر من البشر.

ووجد؟
وقفت، صدرها بيعلو وينخفض، عنيها ما انكسرش فيهم شيء، ولا رمشت حتي. ضحكت…
ضحكة جافة، موجوعة، لم تكن ضحكة بقدر ما كانت شظية من صدرٍ احترق طويلاً حتى لم يعد يطيق الصمت.

قالت بسخرية لاذعة، والنار تتطاير من عينيها:

— أبويا؟! هو فين أبويا.. يا راجل… تفّ من بقك! أبو مين؟ صَلّ ع النبي!ده أنا لو كلب… كان بقى ليّا قيمة عندك!مش تبيعني في دجيجة لده ، لمجرد إن جدي جال إن الورث لازم نجيب بيه عيال!

خطت خطوة للأمام، وعيناها لا تفارقان وجهه. كانت كمن يخلع قيدًا قديمًا عن عنقه، كمن يتحرر لأول مرة من كفن الصمت.

— اسكت! اسكت... بس... وانت بتسكت، اعرف إن "وجد" توبها طرْفة… ماحدش هيمسّه! ومين ما يكون!"وجد جابر"؟
بقت زيّك يا بوي… مالهاش عزيز، ولا حبيب.وهعمل زيك… كل واحد يدور على مصلحته!إنما أنا، بجولها بعلو حِسّي: وجد ماعادِتش عيلة، ولا بِت صغيرة تتضرب وتسكت… تتهان وتسكت؟ لأااا!

رفعت رأسها وكأنها . كانت تنطق بقلب امرأة تكسّرت ألف مرة ولم تمت.

— وجد بقت مره بميت راجل! تنهش جلب اللي بس يلمس توبها… حتى لو كان أقرب حد ليها!بس يكفيك شر بقه إللي مالوش حد أصلا.. براني.. مالوش كبير ولا رادع.. ... إني بقى ماليش حد غير نفسي وفلوسي!

كان نديم يقف هناك، كأن الزمن توقف عليه. لم يعد يرى أمامه إلا طيفًا بعيدًا عن الحنين، غريبًا عن ملامحها القديمة.
أين ذهبت تلك التي كانت إذا ابتسمت، أزهرت روحه؟شعر بالقهر... وشيء غائر في صدره يُنتزع.

وفجأة، دوّى صوت الجد، متهدجًا كأن قلبه ينهار:

— يا حسرة جلبي... البِت الحنيّة اللي بين ولادي راحت! راحت!يا مرك يا عمران…

توجّهت وجد إليه، وفي عينيها بقايا من الحنان القديم، ذلك الذي لم يُهدر بعد، لكنه تغيّر.

قالت بهدوء، يشبه الجبر بعد الكسر:

— ماحدش راح يا جدي…اللي راح؟ الخيبة… والويبة!اللي راح هو الضعف، والجرف اللي كان بيبلعنا وإحنا ساكتين…
ما تخافش.

ثم استدارت نحو نديم، نظرتها ثابتة، صلبة، حاسمة:

— اسمع يا واد عمي…فلوسنا لينا،واللي خَدته؟ ما هيرجعش!ده ليا أنا وعيالي… وبروحهم ياخدوه! مشي دنيتك… وما تعبّرش حد!الليلة دي كلها كانت… علشان الفلوس.
صرخ نديم، والنار تتصاعد من صدره، كأن كل ما كتمه انفجر دفعة واحدة:

— بطّلي!أنا ما عملتش اكده علشان الفلوس!

ضحكت وجد... ضحكة كأنها بتنزف بدل ما تضحك، ثم قالت بسخرية موجعة:

— أمال عشان إيه؟!تنتقم من جابر أبو الدهب؟انتقمت! خدت فلوسه وبته فوج البيعة، والفلوس معاهم…بس أنا بجولك أهو…إني ما هسمحش لحد ياخد حجي!
مش بعد ده كله أطلع بلوشي…لأه! ده حج عيالي!

 دوّى صوت جابر، كالرعد المكسور، يصيح وقد اشتعل وجهه:

— إنتِ يا بت…انخبلتي؟!اتبدلتي؟!هو بالعافية؟!ما هو مش عايزك أصلاً!ده ضحك عليكي… وخدك بالرخيص!
يا رخيصة!

فانفجر نديم، وصرخ بكل ما فيه من غضب:

— اخرس!جطع لسانك!هيّا مين اللي رخيصة؟!

في لحظة هوجاء، اندفع جابر نحوه، أمسكه من جلابيته بعنف، عنف رجل جُرحت رجولته في كبريائه، وقال وهو يزفر كأن صدره يشتعل:

— اللي خدتها من سكات، هاه؟!وهتطلّجها البت!أنا عايزها…أديها لغيرك!

لكن نديم، وقد التهبت عيناه، واشتعل صوته حتى ارتجف له الحائط، صرخ:

— تدي مين لغيري؟!ده لو روحك طلعت!

في تلك اللحظة، أصبح البيت ساحة حرب...
لا شيء يُسمع سوى صوت الأنفاس الثقيلة، والعروق النافرة، والقلوب التي تنبض بصوت أعلى من الصراخ نفسه.
ظلت وجد تنظر إليهم، وعيناها مملوءتان بالقهر الذي يأكلها من الداخل.، ثم هتفت بصوت ملؤه الحزن والمرارة:

— انتو بتاكلوا بعض ليه؟
عشاني؟!
وانتو التنين… ماتفرجوش بالنسبالي!

قالت بهدوء، دون أن تفقد تماسكها:

— ما بيتكلمش غلط يا راجلي...ايوه، أنا اتاخدت بالرخيص، وازيّدك يا أبويا، نمت بالرخيص!

هنا، هاج جابر، وقال بصوتٍ مليء بالاستنكار، وهو يقترب منها:

— إيه يا محروجة؟

ابتلع نديم ريقه بصعوبة، وكأن الكلمات التي خرجت من فمها كانت رصاصًا، لكن قلبه كان ينهار ببطء.

قالت، وعيونها تلمع بألم عميق:

— بجول إنّي بقيت مرته… ما تعرفش تبعني لحد تاني.خليك مع نديم، هتكسب أكتر.أهو اتوحّلنا كلنا، وبما إني زي ما جولت اتاخدت بالرخيص، المال ده حجي وحج عيالي… ودنيتي اللي ماتت!

صرخ الجد، وكأن قلبه يتفطر بين أضلعه:

— ارحمي جدك يا وجد!بطلي يا بتي، حج إيه بس؟!

نهضت وجد، ونظرت إلى الجد بنظرة مليئة بالقهر، ثم قالت بصوتٍ عميق، وحروفها مشحونة بالألم:

— مش عارف حج إيه يا جدي…حج سنين جهرتي، حج سنين سواد.عشت فيهم ده يذلّ فيا، وخلّاني مرمطون.حج سنين حبستي يا جدي، ماتخرجيش، ماتكلميش… عشان إني في نظره عار!بيستعر مني كأني كنت السبب في مرضه وعدم خلفته!
حج الجهر، وحج الظلم، اللي في الآخر أنا اللي انوحلت فيه!لما ده يجي ويلعب عليّا، وآخرته يتجلي رخيصه…لأ يا جدي!إني مش رخيصة… إني غالية وجوي!والمال ده، يا نديم، بتاعي وبتاع عيالي!ولو رجعته برضه… بورجه وسخه!هخلعك يا نديم!أنا مش باقية على مخلوج يا واد عمي!

في تلك اللحظة، اختلط الألم بالغرور، والندم بالغضب، وتحولت وجد إلى امرأة لا تُقهر، تحارب من أجل كرامتها وحقها. 
أما نديم، فكان يقف في صمتٍ مرير، قلبه بين يديه، يدور في دوامةٍ لا يعرف كيف يخرج منها.

نظر "نديم" إليها مبهوتًا، كيف تحوّلت هكذا؟
كأنها خرجت من جلدها، كأنها لم تكن تلك التي يعرفها،
فاندفع نحوها، أمسكها بقوة، وصرخ:

– "لأ! اكِده كتير!"

شدّها إلى الأعلى بعصبية، ودخل بها الغرفة، ثم دفعها بقسوة لتسقط على الفراش.
ضحكت، ومدّت يدها على السرير بخفة مستفزّة، وقالت:

– "إيه؟ مستعجل على إيه؟"

صوت "نديم" خرج من بين ضلوعه كطلقة نار:

– "لمي نفسك، هاه! عشان أقسم بالله… هموّتك!"

قامت، وتمخترت أمامه بثقة، نظرت له نظرة أنثى تعرف موضع الألم فيه، وحاوطته بذراعيها وهي تهمس:

– "طب بس، رُوق كِده... إيه رأيك؟ نسبقهم كلهم ونجيب عيال؟"

اقتربت من شفتيه، ولمست بأنفاسها روحه المرتجفة، ثم همست:

– "يلا يا راجلي، شوف شُغلك."

دفعها بغضبٍ حارق، يهتز له الكيان، وهو يهتف:

– "بطّلي! بقه بطّلي! إنتي عايزة تحرّقيلي قلبي!أنا عارفك يا وِجد… أنا…والله غصب عني! بطّلي!!"

تنهدت، وذهبت إلى المرآة، كأنها تهرب من انهياره، أو تهرب إليه،وقالت بنبرة متدلّلة وهي تتمايل:

– "طب… ألبسلك إيه؟"

خلعت عباءتها، ليظهر جسدها المتمرد من بين ملابسها البيتية، ثم استدارت تنظر له بتحدٍ:

– "ايه؟ مش عاجبك الجميص؟ أخلعهولك أكتر من كده؟ تتنحرّر يا راجل!"

وقفت أمام المرآة تتدلل، وبدأت في وضع مكياج صارخ، حولها من امرأة إلى مخلوق متوحش...
ثم قالت بثقة ممزوجة باللعب:

– "بس… أنا مش خايفة. ماني مجرّبة، وعارفة إنك تنفع... وتنفع بالجوي!"

ضحكت ضحكة صفّعت قلبه، أحس أن قلبه يحترق من جوّاه،غليان ما بعده سكوت...
اندفع نحوها فجأة، شدّها من يدها بعنفٍ يائس، وسحبها إلى الحمام،فتح الماء البارد فوق وجهها، وبدأ يغسلها عنوةً... وهي تصرخ وتضربه!

صرخ فيها:

– "اتْلَمّي! هفلقك نصين!!"

لكنها، كانت تضربه بعنف، كأنها تُفرغ سنواتٍ من الوجع،لم تكن تضربه فقط... بل كانت تضرب الحياة اللي حرقتها من جواها.

 ليشق قميصها لتنكمش وتصرخ ...بعد يدك والله اموتك انت مفكرني ايه. 

فهتف غاضبا...... مش عايز تجيبي عيال وماله هنجيب ونفرح كلنا ليحملها وهيا تصرخ وتضربه. دفعها عالفراش وهجم عليها وهيا تتلوي تحته... 
 ارتعبت... فانهارت تلك القوّة المزيفة التي كانت تتوشّح بها.
لم تكن تتخيّل أن "نديم" قد يقترب منها بهذا الشكل...كان يقترب لا برغبة، بل بعقاب، بعنفٍ ينفث وجع قلبه الذي احترق بنارها.

عيونه كانت تصرخ، وإيده كانت تقبض عليها كأنها خلاصه، كأنها جُرحه اللي لازم ينزف للآخر.ارتعبت... وخافت!وفي لحظة، سقط قناعها... وعادت تلك الرقيقة من أعماقها، الطفلة التي اختبأت طويلًا خلف الادّعاء والتحدي.

قالت بقهر، صوتها مكسور:

– "نديم... بُطّل..."

لكنّه كان غاضبًا، فاقدًا للسيطرة، لا يرى منها سوى ما أوصل قلبه لهذا الاشتعال.

فانفجرت بالبكاء، وانهارت على صدره، تهمس برجاءٍ مرتجف:

– "نديم... عشان خاطري..انا وجد . أنا خايفة... إنت مش كِده."

صوتها ماكنش مجرد كلمات، كان استغاثة... كانت بتناشده يرجع لنديم اللي بتحبه، اللي كانت شايفاه سند، مش نار تحرقها.

وهنا...أحس صوتها المرتجف، بنبرتها الحاينة،كأنها تغلغلت في أعماقه... كسهمٍ لا يُرى،سكن قلبه، فأطفأ شيئًا من نيرانه.

هدأ...كتم غضبه بمرارة،ابتعد عنها ببطءٍ، كأنه يهرب من نفسه.

لكنها اندفعت مبتعدة، تشهق بالبكاء،
تنتحب كطفلة ضائعة في ليلة عاصفة،
تبكي... تنتحب حتى انهار صوتها، فشدّها إليه.

احتضنها بقوّةٍ، كأنها خلاصه وكأن الألم لا يُغسل إلا بعناقها،وهي تنتحب بقوة،وزال عنها ثوب الوقاحة، كأنها خلعته مع أول دمعة.

ظل يمسد عليها بيده المرتعشة، صوته يخرج مرتجفًا:

– "طب بس… بس! آسف، والله العظيم آسف!"

لكنها لم تهدأ،بل اهتاجت... كأن البكاء فجّر بداخلها بركانًا من القهر.بدأت تضربه بقوّة،
تنهال عليه كمن يضرب خيانته، لا صدره.

وهو؟كان يكبّلها بيدٍ من حديد، يمنعها من الانهيار تمامًا، يمنعها من تمزيق قلبها أمامه.

صرخت وهي تترنّح على صدره:

– "ليه؟! ليه؟! ليه؟!عملتلك إيه؟!ليه تعمل فيّا كده؟ ليــــــــه؟!"

صرختها ما كانتش سؤال...كانت وجع، كانت كُره، كانت كل حاجة ما اتقالتش من سنين،
وكان هو... عاجز.واقف قدام دموعها، وبيغرق معاها.

ظلّا هكذا...
هي في أحضانه، تنتفض كطائر جريح،
وهو يحتضنها بقوة، يهتف بأسفه المرتعش، يهمس في أذنها كأنه يحاول لملمة شتاتها:

– "والله... غصب عني، غصب عني... أنا آسف، آسف..."

لكنها دفعته بكل ما بقي في قلبها من بقايا كرامة،ابتعدت، ونظرت إليه بعينين دامعتين، ثم صرخت:

– "آسف؟! آسف؟! أعمل بيها إيه؟!آسف على إيه؟! إني كنت غبية؟!غبية إني حبيتك زي المجنونة؟!عشقتك، وانت غدّار؟!"

صوتها كان ينفجر بين ضلوعه، والدموع تسابق الكلام:

– "إنت أول حب ليا...أول دقّة لقلبي...
أول أمان حسيته فـ حضن حد!بس عارف؟! أنا بقولهالك هنساك... والله لَنســـــاك!"

سكتت لحظة، كأن نفسها انكسر،ثم نظرت له بعين كسرت ألف وعد، وقالت بصوت أضعف، لكنه مليان وجع:

– "إنت عارف عملت فيّا إيه؟إنت عارف أكبر سوء إنت عملته كان إيه؟بسببك...عمري ما هصدّق إن حد ممكن يحبني...ولا إن فيه حب أصلًا!بسببك…عمري ما هثق في حد، طول حياتي!وهفضل طول عمري لوحدي… مقهورة… وضعيفة… وغلبانة!ما أكونش لحد… بسببك!"

شهقت كأن الكلام بيجرّحها وهي بتنطقه،
ثم ختمت، وصوتها اختنق:

– "عمري ما هنسى…إزاي فَرّطت فيّا…
ولبيّعت… وغدرت!"

صرخ بحرقة، وكأن صدره انفجر:

– "أنا آسف! والله العظيم آسف! أعمل إيه؟! أنا آسف!!"

اندفع نحوها، مسكها كأنها خلاصه، صوته يختنق بالندم:

– "قلبي، والله عارف إني طعنتك... بس غصب عني!وإنتي أكتر واحدة عارفاني… أكتر واحدة!"

لكنها لم تعد ترى فيه إلا الغدر.صرخت، مهتاجة، عيناها تتقدان لهبًا:

– "أنا ماعرفكش! ماعرفكش!!إنت... مين؟! إنت مين؟!!"

كانت تضربه بعنف، تكاد تمزق روحه،
وهو يتحمّل، لا يدافع...يُكبّلها بأحضانه كمن يتمسّك بحياته الأخيرة،ثم انفجر هو الآخر، وبكى بحرقة:

– "أنا نديم!!نديم اللي اتكتب عليه يعيش القهر، ويعيش أحبابه فيه!أنا نديم... اللي انلعن عشان يعيش حياته تعيس!ارحميني! والله غصب عني... غصب عني!"

كانت تلهث، تُنهك، وصوته يشقّ قلبها كالسيف.شعرت بوجعه، نعم...لكن وجعها أضعاف،وجعها كان أعمق، أقسى، مكسورًا بصمتٍ لا يُحتمل.

بكت... بكت بكل ما بقي فيها من حياة،
ثم دفعته بضعفٍ، واتجهت إلى الحمّام.
أغلقت الباب خلفها، كأنها أغلقت الدنيا عليه.
وجد كانت بتبكي بقهـر جُوّه الحمّام...
صوت بكاها كان مكتوم،  
وهو؟
كان واقف ورا الباب، بيترجاها بصوت راجف...
"افتحيلي يا وجد... بالله عليكي، ما تسيبينيش كده!"

كانت بتسند ضهرها عالباب، وإيدها ماسكة فبطنها من القهر،الدموع نازلة، بس فيه وجع أعمق من الدموع... وجع اسمه خيبة.
خيبة فـ اللي حبته وسندت عليه...خيبة فـ اللي قالت عليه أمان، وطلع هو الغدر نفسه.

"وجد، سامحيني... أنا غلطت، بس والله غصب عني انا غلبان مريض!"
صوته كان بيتكسر، بيغرق في رجاه، بس هي كانت غرقانة فـ دموعها أكتر...

رفعت عينيها، وبصت لنفسها في مراية الحمّام...كانت شايفة بنت مش هي،
بنت اتسرق منها الضحك، واتبدل بنظرة وجع بتقول "ليه؟!"

وجواها سؤال واحد بيصرّخ:
"ليه دايمًا لما أحب، أتوجع؟!"

وهو؟
كان لسه واقف، بيحضن الباب بكلامه،اخرجيلـي، طبطبي عَ قلبي... ده بيتكسّر من غيرك!"

بس الباب مافتحش...وهي ماكانتش ساكتة،
كان فيه وجع بيطلع معاها في كل نَفَس...

ظل واقفًا...
جسده جامد، لكن قلبه ينزف.
دموعه تنهمر بغزارة، كأنها تغسل ذنبه المستحيل.كان يعلم يعلم تمامًا أنه طعنها طعنة غادرة،ولا يعلم...كيف ستُشفى منها.

*******
قامت "مهرة" ببطء، وكأن جسدها مُثقل بما لا يُقال.
ظلت تراقب "أسمر" لفترة... تتابع ملامحه الحادة، وحركاته المسيطرة، ورغبته الغريبة في امتلاكها، لا حبًّا... بل كأنها شيءٌ يجب أن يُخضعه لنفوذه.

نظراتها كانت ساكنة، لكن جواها عاصفة.

تنهدت بقوة، كأن كل نفس بيوجعها،
وصوت جواها يهمس ليها:

"إنتَ إزاي كده؟ إزاي قلبك قاسي للدرجة دي؟مافهوش نقطة لين؟ ما تعرفش الرحمة؟!ولا أنا اللي مش مستاهلة حنية؟!"

كانت ، عينيها بتدمع، بس مش بتعيط ضعف...بتبكي من وجع جواها مش لاقي مخرج.بتبص له، كأنها بتترجاه من غير كلام،

بس مافيش...كل ما تتأمل فيه، تلاقي نفس النظرة.جمود، سيطرة، قسوة، جحود كأن قلبه حجر.
وهي؟هي محتاجة كتف، حضن، كلمة "أنا جنبك" من غير ما يكون وراها تمن.

كانت واقفة، وساكنة.
لكن جوّاها صرخة، مكبوتة، خانقة...الوحدة عاملالها حفرة في قلبها، و"أسمر" واقف قصادها، لكن ما مدش إيده.وهي؟ كانت بتتمنى... تتمنى من غير كلام، من غير طلب، من غير رجاء.نظرتها ليه كانت مليانة وجع، مش بتشكي، لكن بتنزف.

كأن عيونها بتقوله:
"شوفني... بس شوفني."

إنما هو؟
ولا شاف. ولا حس.

عينه كانت فيها نفس القسوة، نفس الجمود، نفس فكرة السيطرة... كأنها عنده معركة لازم ينتصر ويسيطر.. مش حبيبة.

وهي؟
، كأنها وهم.كأن مافيش مكان ليها، لا في حضنه، ولا في قلبه، ولا حتى في خياله.
بتدور على إحساس دافي، كلمة تهوّن، حضن يطمن... ومافيش.

جواها برد.
مش برد جسم، ده برد روح، برد جاي من سنين كانت دايمًا فيها لوحدها... حتى وهي مع الناس.
وأكتر لحظة كانت فيها محتاجة إحساس، كانت أكتر لحظة حسّت فيها إنها مافيش.

مهرة، البنت اللي اتعلمت تقف على رجليها من كتر ما وقعت، كانت دلوقتي بتنهار جوّاها في صمت.

بس ما حدّش شاف.ما حدّش حاس.
وأسمر؟كان واقف، زي ما هو... حجر

أغمضت عينيها بقهر، ونفضت راسها،
كأنها بتطرد الأمل البايخ اللي لسه مُصر يعيش فيها.

لفت وسابت كل شيء،مشت بخطوة ثابتة ناحية شنطتها.فتحتها، وأخرجت "بروكتها"،
نظرت لها لحظة،ثم وضعتها على رأسها، كأنها بترجع تلبس وش القوة اللي حافظ على كرامتها سنين.

"أنا خلاص...مش هستنى حد يحس، ولا هفضل أتعشم في إني أعيش الاحساس .
أنا إتعلمت ألبس القسوة زي ما ألبس هدومي... واضح إني أبدًا مش هعيش الإحساس ده ولا هحس بدفا القلوب بتتاملي في إيه يا مهره هتخيبي علي كبر ، . 

استقامت في وقفتها.وعادت لهدوئها المعتاد،بس جواها كانت حرب.بس للأسف ..هي دايمًا، اللي بتطلع منها خسرانة.

*******

خرج "نديم" من الغرفة مقهورا غاضبًا من نفسه يشتعل صدره بنار لا تهدأ، ويده ترتجف من فرط القهر.
رزع الباب خلفه بقوةٍ كأنّه يُسكت صراخًا بداخله، فقط ليجد "مهرة" أمامه... واقفة، تنظر له بثبات ودهشة.

رفعت حاجبها وسألته بهدوء فيه ريبة:
"فيه إيه؟ ايه؟"

لفّ ليها بعيونه اللي مليانه قهر وقال بصوت بانفعال ووجع لا يملك السيطرة عليه:
"فيه طين، وانحط عليّا! ... أنا حاسس إني بموت يا مهرة! وجد... بقت واحدة تانية، وجد! مش عارف أتعامل معاها وجد مدبوحه مني ."

قربت منه بخطوة وقالت بهدوء يخبي عتاب:
– "حقها... حقها تزعل وتتغير... انت عملتك سودا يا نديم، كسرت قلبها بإيدك."
قال بغضب، وصوته متشرّب بالقهر:
– "ما إنتِ عارفة اللي كنت فيه! وماكنش قصدي أعمل كده... بس أنا النار جوايا كانت عامياني."عارف..هموت عليها أخدها بحضني. بس وجعها أكبر منّي، نظرتها قتلتني... حسّيت إني أنا اللي اندبحت. 

سكتت مهره لحظة وبعدين همست:
– "أصل الضربة لما تيجي من اللي بنحبه، بتكسر الضهر يا نديم..."

بصّ لها وكأنه بيطلب منها تصالحه مع نفسه،
لكن مفيش تصالح، فيه حرب... بينه وبين نفسه،بينه وبين اللي عمله فيها،وبينه وبين اللي لسه بيحبه فيها رغم كل شيء.

تنهدت "مهره"، واقتربت منه بهدوءٍ يشبه حنوّ الأم:
– "بتحبها يا نديم؟ بجد؟"

أحنَى رأسه ولم ينطق. رغم إنها بنت عدوه اللدود، إلا أن قلبه لم يعرف غيرها.
يعشقها... بكل ما فيه من ضعف، وقوة، وتناقض.

قال أخيرًا، بقهرٍ يشقّ صدره:
– "دي مراتي يا مهره... وأنا ما هسيبهاش."

تنهدت من جديد، وقالت بصوت رخيم فيه حزن دفين:
– "مش هتقعدلك عشان أي سبب... غير إنك تبيّنلها عشقك يا نديم، العشق اللي أنا متأكدة إنه ماليك.
يا نديم، "وجد" مالهاش ذنب إنها بنت "جابر" يا نديم...
بس فكّر، يا حبيبي، إنت عايزها ليه؟
بتحبها بجد؟ ولا بتاخدها كيد في أبوها؟
سيبها يا نديم، سيبها لو مش هتقدر تحبها زي ما تستحق."

هتف "نديم"، كأن روحه اتفتحت على صرخة:
– "أسيب مين؟!
دي مراتي! ماقدرش أسيبها... وعايزها يا مهره،
"وجد" هي اللي مخلياني عارف أتنفس!"

نظرت إليه "مهره"، بعين فيها رجاء وصدق، وهمست كأنها توصيه على آخر ما تبقّى له من روحه:
– "خلي بالك يا نديم...
لازم تزيح أي قسوة ووجع من بينكم،
لأن غير كده... هتسيبك.حسس "وجد" إنها غالية، مهما علا غضبها منك.هي دلوقتي مقهورة...ما تغضبش وتقول مش عارف تتصرف، وتجبرها على البُعد.لازم تحسسها بحبك عشان تلين...إحنا بنلين بالحب، بس لما نحس بيه يا نديم."
سكت نديم لحظة، صدره بيعلو وينزل، وكإن الكلام اللي سمعه من "مهره" خبطه في قلبه،غمغم بصوت مبحوح وهو مبحلق في الأرض:
– "بس هي مش راضيه تسمعني... كل ما أقرب، تبعد أكتر... وكل ما أمد إيدي، ترجعها بقسوه عارف استاهل بس غصب عني وإنت آكتر وآحده عارفه ."

قالت مهره وهي بتحط إيدها على كتفه:
– "ماهي موجوعه يا نديم... انت جرحتها وفتحت فيها جرح أعمق من الكلام...
وجع الحب ما يتداواش غير بحب أكبر منه... ماينفعش تهرب، ولا تتعصب، ولا تغضب عشان صدّها ليك...
اثبت يا نديم، اثبت عشانها لو بتحبها بجد."

رفع راسه ليها، عينه فيها دمعة مكبوته، وقال بصوت متكسر:
– "أنا غلطت... بس ما أقدرش أعيش من غيرها.
كل تفصيله فيها بقت فيا، ضحكتها، غضبها، لمستها، حتى وهي ساكته... كانت بتكلمني.
مشيت من قدامي النهارده وكإني اتسحبت روحي."

ابتسمت مهره بخفه وقالت:
– "خلاص يا نديم..، روح لها، خبط على بابها بهدوء... مش كزوج، كعاشق.
حط دماغك في الأرض وقلّها: آسف يا وجد، سامحيني.وان ما فتحتش... استنا، ولما تفتح، قولها اللي جوّاك كله."

سكت نديم لحظة، مسح وشه، وقف وقال:
– "هروح... هروح ... وهاقولها إن قلبي عمره ما نطق غير باسمها، وإن كل اللي عملته غباوة خوف... مش كره."

ابتسمت مهره وهي بتبعد عنه وتهمس لنفسها:
– "يا رب تلين... يا رب قلبها يسمع اللي جواه..."

كانت "شجن" نائمة، تغطّ في سكون،
حين شعرت بلمسات دافئة تُداعب وجهها بلينٍ لم تألفه،
فتحت عينيها، وخفق قلبها بعنف...
كان "براء" يتأمّلها بعشقٍ صامت، يمرر أصابعه على خدها بحنانٍ مجنون.
همس بصوتٍ مفعم بالدفء:

– "يا صباح أحلى حاجة في دنيتي..."
أمسك يدها، ورفعها إلى شفتيه، وقبّلها بشوق:
– "وحشتيني."

شدّت يدها بعنف، ونظرت إليه بغضبٍ مباغت.
ابتسم بلين، وكأنّه لا يرى سوى ملاكٍ غاضب:

– "شوف... أقول صباح، يقوم مكشّر كده!
أنا حلوف، واستاهل، بس قلبي جايِد نار."

هبت بعنف، وهمّت أن تصرخ...لكنها صمتت فجأة، وابتلعت ريقها بصعوبة.صدرها بدأ يعلو ويهبط...
ما هذا؟
نظرت حولها بذهول، فقد كانت تنام وسط كومٍ هائلٍ من الورود الحمراء،الفراش لا يُرى منه شيء... سوى الزهور.

جلست ببطء، تنظر لما حولها بذهول،
وبدأت – لا إراديًا – تمسك الورود،
تبتسم بخجل، وتداعب الفراش وما عليه،
وبراء يتأملها بسعادة، يعلم يقينًا أن قلب حبيبته... قلب ملاك أبيض.

اقترب منها، وهمس برقة:
– "عجبِك؟ من خمسة الصبح جايبها، وشايلها، عشان الجمر يصحى يلاجيه..."

نظرت إليه، وارتجف قلبها.همست بصوتٍ مكسور:
– "ده عشاني؟"

ابتسم، واقترب منها أكثر وهمس في أذنها:
– "عشان الجمر... والله."

أحنت رأسها بخجل، فاقترب وقبّل خدها قبلةً خاطفة،
لكنها انتفضت كأن شرارة أيقظتها من حُلم،
صرخت بغضبٍ مهزوز:

– "ابعد عني! أنا بكرهك!إيه؟ عبيطة أنا؟ تضحك عليا بورد؟صح... أنا هيفة في نظرك! عايز تكمّل تخطيطك؟أوعى... أوعى!أنا مش لعبة، مش رخيصة!"

دفعتُه بقوة، ووقفت غاضبة،أزاحت الملاية عن الفراش بعصبية، وصرخت:

– "لو فاكرني هبلة ورخيصة، إبقى اعمل كده!ابعد... أوعى من وشي!"

دفعتُه مرة أخرى، وركضت خارجة من الغرفة،مرتعبة من نفسها... خائفة أن تلين، أن تضعف،فرغم وجعها، كانت رقيقة... حالمة...تتأثر من أبسط لمسة حنان.

تنهد "براء"، ومرّر يده في شعره بيأس:
– "ده إيه السواد ده؟ده أنا من الفجر بتهبّب فيه!أعمل إيه؟"

تنهد ثانيةً، كأن الكلام يخنقه:
– "حجها... أيوه، تغضب.منّك لله يا طين،
كانت كلمة خرجت بختي، كنت اتشلّيت ساعتها.خلي بقى الحلفنة تنفعك!"

ثم اندفع خلفها، ينوي ألا يتركها بعد اليوم،
أن يلتصق بها كظلّها،لا يفلتها من يديه...
ولا من قلبه.

*******
نزلت "مهره"، وعيونها كلها تصميم.
اتجهت إليه بخطى ثابتة، حتى وقفت أمامه، وقالت بنبرة هادئة لكنها حاسمة:
– "إزيك يا جدو؟"

ابتسم الرجل، وعيناه تلمعان بحنوّ يعرفه جيدًا:
– "بخير يا بتي... طول ما إنتِ بخير."

ردّت وهي ترفع رأسها بثقة:
– "طب اسمع بقى يا جدو...
حكاية ولاد العم وعيال وخِلف وعيلة...
دي ما بتمشيش معايا أنا وأختي، ماشي؟
أنا لو اتجبرت، هاخد أختي وأمشي... ومن سكات كمان."

صمت الرجل لحظة، تأمل في عينيها القوة اللي ورثتها من سلالته، ثم قال بصوت هادي لكن فيه نبرة غير معتادة:
– "طب اسمعي يا بتي...أنا عندي ليكو عرض،
وليكو حَقط الموافجة... أو الرفض..... نظرت اليه تنتظر عرضه بقلب يخفق لا تعلم اتريد من داخلها حل لوجعها ام تكمل حياتها كما خططت لها... لتكمل حياتها وحيده كما كانت.... 
وما بين كلمة ما نطقتش، ونظرة ما تشرحتش… سكن الصمت الحكاية.
لكن الحكايات الصامته عمرها ما بتعدي بسلام.
الليلة دي، كانت أول سطر في صفحة مش مكتوبة…
وكل واحد فيهم، دخل الحكايهة بشروطه.
بس الحكايه ة ليها قانون تاني… وقلب ما بيسامحش بسهولة.
الساعة دقت… والحساب قرب.
فهل كل واحد فيهم مستعد يدفع التمن؟"سنري


شكرا لزيارتكم عالم روايات سكيرهوم
تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1