رواية زهرة الهاشمي الفصل التاسع 9 بقلم سمية رشاد


رواية زهرة الهاشمي الفصل التاسع بقلم سمية رشاد

"لقاء غير متوقع"


قابعًا على مقعده خلف ذاك المكتب الصغير يتفحص حسابات الأيام السابقة ولكن قلبه العاصي يأبى تركه، فهناك أنياب جارحة تنهش بقلبه ولا يدري كيف له أن يبتعد عنه، ألا يكفيه ما يعانيه ليأتي ذاك المسمى بالضمير فيسلط أنيابه على قلبه لما فعله معها؟!


حقيقة لم يتعمد إحراجها، هو فقط يشعر بقلبه حزين وهذا ما بدى في نبرة صوته وليس الجفاء كما أنَّبه قلبه، لم يكن يقصد أبدًا أن ينأى بحزنه بعيدًا عنها ولكنه فعل ما اعتاد عليه فجميع عائلته تعلم ذلك يتركوه وحده مع مصحفه وسجادة صلاته وهما أكثر من قادرين على مواساة قلبه.


فاق من شروده على أصوات الزبائن التي ارتفعت لتكاثرهم على هذا الشاب الذي يعمل معه، نهض واقفًا يساعده في البيع ليخفف من ازدحام المكان، وجد فتاه تتشح بالأسود من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها تقف منكمشة في جانب صغير خجلًا من الرجال الذين يمتليء المركز بهم، اقترب إليها من خلف الحاجز الأسود بين الزبائن والبائعين ليقول بهدوء دون النظر إلى عيناها اللتان تظهران من خلف نقابها 

- اتفضلي يا آنسة 


ترددت قليلًا قبل أن تتحدث والتفتت بنظراتها إلى الرجال الواقفين بالمكان ولم تجد بدلًا من الحديث وهي تقول بصوت مرتجف

- عايزة نقاب أسود 


بدت الصدمة على وجهه حينما علم هويتها، شعر بالعجز يتمكن منه لعدم قدرته على فعل شيء أمام الناس وسرعان ما تنهد براحة حينما ذهب الرجال بعدما انقضت حاجتهم ولم يتبقَ سوى فتاة واحدة يبدو أنها على أعتاب المراهقة.


كي لا يثير فضول الشاب المساعد له، انتقل إلى أحد الأرفف وجذب من فوقها نقاب من النوع الذي ترتديه دون أن تصفه له ثم وجعه في إحدى الأكياس البيضاء وناوله لها.

- بكام؟


قالتها بصوت خرج مكتومًا فنظر إليها بقوة أخافتها قبل أن يقول بخفوت مستغلًا انشغال مساعده في العمل

- استنيني عند العربية البيضا اللي برا.


أومأت إليه عدة مرات بارتباك ثم أسرعت في خطواتها إلى الخارج تفر من هذا الموقف الذي وضعت نفسها به.


لم تمر دقيقة واحدة حتى وجدته يفتح باب السيارة التي علمت منه سابقًا أنها ملك له ولصديقة اشتروها لشراء بضائع المركز بها، أشار إليها للركوب فدلفت إلى المقعد المجاور للسائق مما جعله يغلق الباب بعدها ويحتل هو مقعد القيادة.


نظرت إليه بتردد حينما وجدته يطالعها بصمت دون أن يتحدث بشيء وما لبس أن قال بهدوء محلى بالعتاب

- ينفع الموقف اللي حطيتينا فيه دا؟

- أنا كنت قلقانة عليك

قالتها بصوت مرتعش فتنهد بقوة قبل أن يلتقط كفها الذي حاوكته بقفازات اليد السوداء ثم رفعها إلى شفتيه ملثمًا إياها قبل أن يقول بهدوء ونبرة مطمئنة

- أنا كويس متقلقيش.


نظرت إليه بتفحص من بين خجلها وكأنها تتيقن من صدق حديثه فصاح بمرح مصطنع

- أنتِ مش مصدقاني


لم تستطع أمام ابتسامته تلك سوى أن تبادله بأجمل منها ظهرت من تضييق عينيها خلف نقابها.

-الشيخ منتصر عارف إنك معايا؟

أومأت إليه بإيجاب فأرسل شيئًا ما لوالدها قبل أن يشعل مقود السيارة وينطلق بهدوء.


نظرت إليه باندهاش لتسأله بخجل مازال يحاوطها

- إحنا رايحين فين؟

- هخطفك

ابتسمت قبل أن تعقد حاجبيها لتكرر

- رايحين فين بجد

- هستغل براءتك وأخطفك 


ابتسمت بخجل لتنصت إليه وهي تسمعه يتابع 

- أنا مكلتش بقالي أيام وأول ما شوفتك نفسي اتفتحت للأكل ففكرت إننا نروح نتغدى إيه رأيك 


هزت رأسها بإيجاب سعيدة بحديثه الذي عاد لطبيعته فحالته المرحة هذه لها أثرًا مبهجًا على قلبها.

************


كان "يونس جالسًا على هاتفه يتفحص منشورات الأصدقاء على موقع الفيس بوك، انتفض منتصبًا بجلسته وهو يجد أحد أصدقائه مشاركًا أحد المنشورات مع زوج خديجة السابق ليهنئه بموافقة زوجته السابقة على العودة إليه مرة أخرى، صمت قليلًا ليفسح المجال لعقله كي يتذكر تاريخ طلاقه لها ليعلم إن كانت عدتها قد انتهت أم لا، ولكنه عجز عن تذكر تاريخ ذلك اليوم، زفر بإحباط من عدم اهتمامه بحسبان وقتها، ولكن على كل حال كيف سيتمكن من معرفة عدتها إن عرف تاريخها وهي ممن تنقضي عدتهن بالقروء لا بالأشهر.


نهض من مكانه متجهًا إلى الغرفة التي كانت تحتضنها قبل ذهابها عله يصل إلى شيء ولكن قلب محتويات الغرفة كلها دون أن يجد شيء، بذات الوقت استمع إلى رنين جرس الباب يتعالى فهرول مسرعًا إليه علها تكون هي ولكن انطفأ قبس الأمل الذي كان قد اشتعل بقلبه حينما لم يجد الزائر أحدًا سوى أبيه.


سمح له بالدخول بوجه أكد إليه ما جاء لأجله فقال بصرامة

-فين زوجتك؟ أنا سبتك الفترة اللي فاتت دي بمزاجي عشان خطوبة أختك دلوقتي نادي لي خديجة عشان نشوف إيه الموضوع.


- جيت متأخر يا أبي 

وقع قلب أبيه بين قدميه حينما استمع إلى جملته فدارت عيناه بأنحاء المنزل ليقول بقلق

-فين خديجة يا يونس

بدموع لم يستطع الآخر على السيطرة عليها أكثر من ذلك قال بحسرة

- خربت بيتي بإيدي يا أبي 


كاد قلبه أن ينشق لرؤية دموع ولده التي أفصحت له عن القهر الذي يعانيه فجذبه من ذراعه ليجلس بجواره على أقرب مقعد يسعهما معًا قبل أن يقول بهدوء

- قول لي إيه اللي حصل


صمت يونس دون أن يتحدث بشيء فحثه والده بنظرته على الحديث ليبوح بما أرهق قلبه لشهور طويلة..


بعدما انتهى من قص ما أثقل فؤاده استند والده على المقعد بإرهاق وعينان مفتوحتان على وسعهما من فرط الصدمة ثم صاح بصوت مهموم 

- وأنت واحدة ست اللي تخليك تخرب حياتك كدا، إحنا إما روحنا نخطبها لك حطينا إيدنا في إيد راجل ولا ست، وبعدين لو هي مش مؤمنة بقضاء الله أنت فين إيمانك؟ فين رضاك باللي ربنا كتبه ليك؟ مش قادر تتقبل بلاء صغير ربنا ابتلاك بيه؟ أومال اللي مبيشوفش أو مبيسمعش دا يعمل ايه؟ اللي ربنا بيبتليه في أولاده ويتقتلوا أدام عيونهم دول يعملوا ايه؟ ربنا إداك كل حاجة وحرمك من حاجة صغيرة لحكمة لا يعلمها إلا هو وأنت بتعترض؟


هز يونس رأسه عدة مرات نافيًا وهو يصيح بدفاع عن نفسه

- أنا راضي والله راضي، أنا بس مكنتش عايز أظلمها معايا كنت عايزها تعيش مرتاحة، أنا من كتر حبي ليها ضحيت بيها عشان تفرح 


- صدقني مفرقتش كتير وأنا مش شايفك غير مش راضي بقاء ربنا أنا رايح أرجع بنتي لبيتي اللي وعدتها إنها مش هتشوف فيه إهانة أبدًا، هتيجي معايا ولا هتقعد تعيط وتستنى زي الحريم؟ 


لم يتردد الآخر في موافقته على الذهاب معه؟ وكيف له أن يرفض وما قرأه قبل مجيء أبيه قد زلزل قلبه وجعله يتذوق قليلًا من نيران عيشها تحت كنف غيره، ذهب برفقة أبيه وهو يتمنى ألا تكون عدة طلاقهما قد انتهت.


بأحد الأحياء الشعبية تنهدت خديجة براحة حينما تخطت هي ووالدتها تلك الخيمة المزينة بالأنوار الكثيرة والمقاعد الملونة التي كانت مرصوصة أمام بيت طليقها الأول، شعرت بدمعة هاربة تفر من عينيها وهي تتذكر نظراته لها حينما رأته، تذكرت كيف أودعها تلك النظرة الحاقدة عليها لتفضيلها أحد غيره بل يبدو أنه يصدق تلك الإشاعة التي كان قد أطلقها عليها بعد طلاقهما من خيانتها له مع يونس عبر الهاتف، فاقت من شرودها بما حدث بالماضي على صوت والدتها الذي ارتفع مرة واحدة تقول بقوة

- ما تبصي على أدك يا ست أنتِ وهي.


كادت أن تجذب والدتها كي لا تتشاجر مع النساء كما فعلت قبل ذهابهم إلا أنها لم تتعارك معهن فأراحتها، نظرت إلى والدتها الضائقة بلوم ثم قالت بعتاب

- عايزاهم ميتكلموش عليا إزاي؟ ما طبيعي يتكلموا ولا فاكرة إن الرجالة هتتخانق عليا بعد ما اتطلقت مرتين ومرة منهم كانت بفضيحة؟ يا أمي أنتِ بتحريضك ليا على طلاقي من يونس مأنقذتيش حياتي من الوحدة أنتِ هتخليني أعيش وحيدة طول عمري 


بندم فائق طالعتها والدتها دون الإفصاح عن خطئها بعدما أدركت حماقة ما فعلت، فهي لم تعتقد أبدًا أن الأمور ستنقلب إلى عكس ما أرادت وستلوك الألسنة سيرة ابنتها كلما رأوها، بل اعتقدت أنهم سيشفقون عليها من طلاقها من زوجها العقيم كما أخبرت جميع النساء في السابق، مرت من أمام تلك المرأة التي تحقد عليها دائمًا وهي تتمنى ألا يكون قد وصلها خبر طلاقها كما السابق إلا أن رجاؤها قد خاب وهي تستمع إلى كلمات الأخرى الساخرة

- واخدة لي بنتها معاها في الراحة والجاية يمكن تلقط لها عريس، مين هيبص في خلقة السودة بعد ما اتطلقت مرتين  


   وكأنها ضغطت على زر الإشعال لديها فهرولت تجاه المرأة لتجذبها من شعرها بسبب إهانتها لابنتها إلا أن خديجة أمسكت بها بقوة فاستعملت لسانها بدلًا من يدها لتسبها بأبشع الألفاظ.


التف رجال الحي ونساؤهم حولها ليرون ما يحدث بين المرأتين ويستمعون إلى منافسة الشتائم التي اشتعلت بينهن، هطلت دموع خديجة لتبلل خمارها حتى أن إحدى النساء أشفقت عليها لتقترب منها وتربت على ظهرها.


استمرت الشتائم بين الإثنتان حتى قالت المرأة بكيد 

- بس ياللي بنتك متطلقة مرتين.. خربتي بيتها يا خرابة البيوت ولا بنتك حنت للأرف اللي كانت بتعمله قبل الجواز؟


إلى هنا لم يستطع يونس الانتظار كما كان قد أمره والده بعدم التدخل بين النساء حينما وصل اعتقادًا منه أنه مجرد نقاش حاد بين النساء، ولكن حينما وصل الأمر لعرض زوجته لم يستطع سوى أن اقترب منها وجذبها من يدها أمام الجميع ليقول بصوت قوي موجه لها 

- يلا معايا.. وعرفي جيرانك إن في حق وقاعدة رجالة هتتعمل النهاردة بالليل عشان الكلام اللي اتقال في حقك لا يمكن أسكت عليه، وأنا مش هاخد حقي من ستات.

***********

جلست زهرة على المقعد المجاور له على الطاولة بعدما جهزه لها ثم صمتت تنتظر أن يبدأ بالحديث معها، ضيق عينيه بذهول من خجلها الذي عاد إليها مرة ثانية، فهي كانت تمزج معه بسيارته منذ قليل فكيف عادت لما كانت عليه الآن، سألها بهدوء 

- مالك يا زهرة أيامي؟


تفاقم خجلها كما يحدث معها كلما تغزل بها بإحدى الكلمات ثم أجابته بخفوت

- أنا بتكسف أقعد في الأماكن العامة 

نظر حوله قبل أن يقول بتفهم وطمئنة

- بس مفيش حد هنا إلا ناس بعيد عننا لأننا جايين في وقت شغل ومش غدا أصلًا والمطعم بيكون فاضي دلوقتي 


- عارفة بس برتبك شوية

- طيب تحبي نروح نقعد في العربية تاني 


هزت راسها عدة مرات بالنفي قبل أن تقول 

- لأ شوية وهتعود الجو هنا كويس 


أومأ بإيجاب وسرعان ما تبدلت ملامحه للجدية قبل أن يقول

- أنا آسف على جفائي معاكِ في الايام اللي فاتت، صدقيني مكانش قصدي أكون كدا، بس أنا إما بكون متضايق من حاجة بنفرد بنفسي ومع الوقت برجع لواحدي


تنهدت بقوة قبل أن تجيبه 

- على فكرة أنا مزعلتش لأني عارفة إنك متضايق بس غلط إنك تنفرد بنفسك بحزنك أومال أنا لازمتي إيه وفين دوري؟ إما أنت تخفف عن نفسك بنفسك طيب وانا هعمل ايه؟ أنت كدا بتاخد مني حق على فكرة.


عقد حاجبيها بتفكير ليقول 

- أكيد مبيكونش قصدي لكن أنا اتعودت على كدا


- وأنا متعودتش حد عزيز عليا يكون زعلان وأسيبه.. لازم أفضل معاه عشان ممكن أتضايق لدرجة تتفوق على الضيق بتاعك وبعدين إزاي مهونش عليك وأنت زعلان وأنا عارفة إنك مجرد ما تكلمني ضيقك هيروح


رفع أحد حاجبيه بمرح بعدما استمع إلى جملتها الأخيرة وسرعان ما تبدلت ملامحه إلى الهدوء وهو يقول بصوت هائم

- ومن ذا الذي يخالط الزهور ويبقى حزينًا.. أفقدت الأزهار أريجها أم أن الأنوف أصابها الشذوذ.


ابتسمت بخجل شديد وهي تخفض رأسها إلى الأسفل بعدما كان ينظر إلى عينيها حينما أسمعها كلماته فتابع بمرح

- وزهرة إذا تبسم ثغرها خجلًا.. شعرت بالعجب من بريق حلَّ بالأزهار دون أن تضيء.


كاد أن يشفق عليها من خجلها الذي أحل بها إلا أنه صدم بها تصيح بتهديد مرح

- طب خلاص يا عم عشان أنا إما بتكسف بضحك بصوت عالي وهفضحك في المكان هنا.


رفعت نظرها إليه بعدما استشعرت صمته فوجدته يطالعها بنظرات مضحكة مما جعلها تضحك بخفوت قبل أن تتابع بمرحها

- أنا كنت مخبية عنك وفضلت هادية الأيام اللي فاتت بس خلاص لا مفر كدا كدا هتعرف الحقيقة ما أنت خلاص كتبت الكتاب واتدبست


فاق من تلك الحالة التي أصابته بسبب هذه الزهرة الرائعة التي يراها للمرة الأولى، تبسم بهدوء وهو يشعر بها تعامله بطبيعتها شيئًا فشيء، فتح فمه ليسخر من كلماتها بمرح هو الآخر إلا أنه لا يعلم كيف أجبره قلبه ليقول بنبرة هائمة

- وأنا الذي كنت أظنني قد زهدت الأزهار كلها.. لتأتي أصغرهن لتنكس العهود وتعيد للقلب الحزين بريقه الذي ظن أنه لن يحورا.

الفصل العاشر من هنا


تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1