![]() |
اسكريبت اتنين محو امية كامل بقلم الست نور
- أجيب منين اتنين محو أمية؟
- خديني أنا وعمك.
- بس أنتوا متعرفوش تقرأوا يا أبي.
- خلاص علمينا.
- بجد؟
- أيوة وهو إحنا يعني ورانا أي؟
أبي وعمي فلاحين لأب وأم فلاحين وعيشتنا كلها خير ورزق وبركة لأنهم بيشتغلوا ويتعبوا علشان يجيبولنا اللي نفسنا فيه بعرق جبينهم بحق وحقيقي لأن شغلانتهم صعبة وعايزة راجل عفي، فتوارثوها أب عن جد وورثوها لولادهم؛ لأن الأرض كرامة الفلاحين واللي يفرط فيها يفرط في كرامته.
- طب وشغلكم يا أبي؟
- إحنا كده كده مبقيناش نشتغل في الزرع سيبناه على أخواتك وولاد عمك والعمال وإحنا بنروح نشقّر (نتابع) على الأرض من بعيد.
- طيب عمي موافق؟
- أنا كلمته وجاي في الطريق.
- طب ثواني وجاية.
- رايحة فين؟
- هجيب أقلام وكشاكيل وسبورة
- خلاص والحقينا على البراندة.
- حاضر.
كنت متحمسة حماس عمري ما اتحمسته قبل كده وبالفعل جبت أدواتي ونزلت جري كنت هقع على وشي كذا مرة وأمي تقولّ على مهلك بس أنا مكنتش شايفة قدامي غير إن تعليمي هينفع الناس اللي حواليا وأولهم أبي وعمي ودي أهم خطوة هاخدها في حياتي كلها.
- إزاي أبي أقنعك يا عمي؟
- والله يا بنتي أبوكي قالي نور بنتي هتعلمنا نقرأ ونكتب علشان نعرف نطلع الأرقام من عالمحمول ونعرف نراجع حسابات الغلة(المحصول) ونشوف فلوسنا رايحة فين وجاية منين.
- ومش بس كده يا عمي، ده كمان محو الأمية ده يساعدكم تطلعوا رخصة عربية لو عايزين.
- قولي والله.
- والله.
- طيب يلا مستنية أي علمينا يلا واقفلي الباب ده وتعالي.
بقينا كل يوم الصبح بعد الفطار نقعد ساعة أعلمهم وأديهم جزء من الحروف والأرقام وبالليل ساعتين نراجع ونسمّع وأديهم إملاء، وأنا لأني خلصت امتحانات كليتي كلية آداب فكنت متفرغة ومش ورايا حاجة غير إني أعلمهم كل حرف وأتابع معاهم.
- ها جبت كام يا نور؟
- أممم 4 من 10 يا عمي.
- وه وه طب بحبحيها شوية كده بقيت ساقط عيبة في حق شنبي.
ضحكت أنا وأبي اللي بصلي بفضول:
- استنى يا صلاح خليني أعرف أنا جبت كام.
- أنت جبت 6 من عشرة يا أبي.
- يامانت كريم يارب طب الحمدلله.
- أنت بتذاكر من ورايا يا أحمد؟
- والله يا صلاح ياخويا أبدًا.
- إحنا فينا من كده؟ طب والله التسميع الجاي أجيب أعلى منك بإذن الله.
- استنى بس رايح فين؟
واتخاصم عمي وأبي بسبب درجتين فـ هنا كان لازم وقفة ومخسرش طلابي وأرجع الود بينهم وأشيل جدار الغيرة والمنافسة اللي ممكن تقلب بـ حقد، وجهزت اختبار تاني من قبل ما يدخلوه عارفة إن عمي هيسبق أبي فيه لأن الرياضة لعبته.
- دلوقتي اختبار الرياضة جاهزين؟
- إلا جاهزين! ده الحساب ده لعبتي.
- طول عمره صلاح يحب الحساب.
- طبعًا أومال أي! أبوك يا أحمد كان يقولّي على طول اللي يحسب الحسابات في الهنا يبات.
- الله يرحمه يارب.
أمنت على دعائهم ووزعت عليهم ورق الاختبار وعمي كان خلص في خمس دقايق وأبي خلص بعده بأربع دقايق وسلموني الورق ولقيتهم واقفين وبيبصوا لبعض ويبصولي:
- مالكم؟
- قوليلنا الدرجة.
- لأ الحصة الجاية يا عمي.
- مش هنقدر نقعد على حيلنا غير لما نطمن.
- مينفعش يا أبي النظام نظام.
مشيوا وقفلوا الباب وراهم وأنا بدأت أصحح واتفاجئت بـ عمي جايب 10 من 10 في الرياضة وأبي جايب 8 من عشرة بسبب إنه نسي يكتب الناتج بس، قاطع تفكيري صوت الباب بيزيأ فضحكت وأنا بناديهم من غير ما أبص ناحيتهم:
- ادخلوا يا عمي أنت وأبي مفيش داعي تقفوا ورا الباب.
- إحم أصل هو إحنا يا بنتي كنا مستنيينك تطلعي.
- والله! مانا كنت هصحح الورق وهطلع يا أبي.
- صححتي يا نور يا بنتي؟
- صححت يا عمي.
- جبنا كام هااا؟ جبنا كام؟
- شششـ ميصحش غير في ميعاد الحصة الجاية.
- لسة هنستنا لحد الليل.
- لازم نتعلم الصبر يا عمي علشان نفرح بالنتيجة.
- بالك أنتِ لو جبت درجة حلوة النهاردة ليكِ مني أحليلك بوقك.
- وأنا موافقة.
جينا بالليل كنا اتعشينا وأنا عملت شاي ليا وليهم وروحنا البراندة والترابيزات كانت جاهزة وبدأت أشرب الشاي وأنا ببص في الورق وهما بيبصولي فمحبتش أخليهم يستنوا أكتر وقولتلهم الدرجات وعمي خبط عالترابيزة بفرحة وأبي وقف وحضنه وكأنهم أطفال وطلعوا من أوائل المدرسة وفرحانين بترتيبهم.
- قاعدة لوحدك ليه يا ستي؟
- تعالي يا بنت الغالي جنبي.
- آدي قعدة، قوليلي بقى يا ستي القمر.
- عمري ما شوفت عيالي فرحانين كده.
- أبي وعمي؟ عندك حق يا ستي دول كأنهم رجعوا لطفولتهم أربعين ولا خمسين سنة ورا.
- ومين قالك إنهم عاشوا طفولتهم زي باقي العيال؟
- مش فاهمة فهميني.
اتنهدت وهي بتاخد نفس طويل كـ بداية لـ روي حكاية من حكاوي الماضي والزمن اللي فات اللي بنفتكره اترمى ورا ضهرنا لكنه في الحقيقة جوانا عايش ومماتش.
- جدك كان قاسي وراجل عفي ميحبش الدلع الماسخ وكان شايف إن العلام لعمك وأبوكي هيفسدهم فـ من وهما عودهم أخضر يا حبة عيني سحبهم على الغيطان ومسكهم فاس في الوقت اللي العيال اللي زيهم كانوا بيلعبوا ويروحوا الكتّاب.
- يعني عمي وأبي مراحوش مدرسة من الأساس يا ستي؟
سألت جدتي بصدمة وهي جاوبتني:
- اتحرموا منها زي ما اتحرموا من حاجات كتير علشان جدك اختارهم يفنوا عمرهم في الأرض والزرع ويكبروا الأراضي ويزيدوا الملك، وزاد الملك والزرع بصرك ميلمحش آخره ماشاء الله بس حتة التعليم لسة فارقة معاهم علشان كده أول ما سمعوكي كأنهم غريق ولقى قشة.
- طيب إزاي هما متعلموش وعلموني أنا وأخواتي وولاد عمي يا ستي؟
- لأنهم شافوا حلمهم فيكم حققولكم اللي اتحرموا منه يا حبة عيني.
سكتت ستي وأنا عقلي مسكتش وأمي جت جنبنا هي ومرات عمي ومعاهم طبق تسالي وأربع كوبايات شاي وقعدوا:
- عمري ما شوفت أحمد فرحان كده.
- وصلاح والله كنّه عقله شت ومبقاش شايف غير دروس نور وينام ويصحى وهو بيذاكر ويسمّع بس.
- ليه مقولتوش من زمان إن أبي وعمي كان نفسهم يتعلموا كنت أخدت الخطوة دي من زمن.
ستي طبطبت على أيدي بحنية معهودة منها وهي شايفة الدموع بتلمع في عيني:
- مش مهم إنها جت متأخر المهم إن بعد العمر ده كله حققوا حلم اتحرموا منه ومفيش ثروة في الدنيا توازي العلام يا بنتي ولا العقل يتنور ويعرف يقرأ ويكتب.
- عندك حق يا ستي، الحمدلله يارب على تدابيرك علشان أكون سبب إنهم يحققوا حلمهم.
- صدق أبوكي لما سماكِ نور اسم على مسمى ، شالك أول واحد وكبر في ودانك يا حبة عيني لما اتولدتي وقالي هتبقى نور عيني يا أمي وهسميها نور ودلوقتي أنتِ النور اللي سحبه هو وعمك من الضلمة.
لأول مرة أسمع كلامها ده عني اللي فاجئني وده عرفني ليه أبي بيحبني الحب ده كله دونًا عن أخواتي الرجالة وعمره ما رفضلي طلب وحتى في محو الأمية في البداية وافق علشان يشيل هم عن كتفي، قطع تفكيري دخول عمي.
- امسكي يا نور حلي بوقك.
- الله مشبك يا عمي! كان نفسي فيه والله.
- وصيتلك عليه مخصوص علشان عارفك بتحبيه وعلشان فرحتيني النهاردة بالنتيجة.
- تسلملي يا عمي، حيث كده بقى أستنى منك هدية أكبر في الامتحان النهائي.
- غالية والغالي ياخد الغالي اطلبي واتمني بس.
دخول أبي قطع كلامنا ولقيته بيمد إيديه بعلبة بفتحها لقيت فيها حلويات مشكل:
- الله الله حلويات مشكل! ده أنا أمي دعيالي بقى النهاردة.
- دعيتلك ونسيت أدعي لنفسي يا بنت بطني إلا حتى ما جابولنا كيس فاضي.
كلنا ضحكنا وعمي وأبي اتحرجوا وبصوا لبعض:
- شاوروا عاللي ينقصكم بس.
- مانتوا عارفين خيركم سابق ومش ناقصنا حاجة بس حتى ولو ادخلوا علينا بأي حاجة.
- بس كده عنينا هبعت الوُلد يجيبولكم.
- لأ يخوي تسلم إحنا نعمل لنفسنا إحنا كنا عايزين من اللي بتجيبوه أنتوا نقاوة إيديكم.
عمي وأبي مسلموش من مراتاتهم وستي فضت بينهم وضحكنا كلنا وفي الحقيقة إن المناقرة دي والمناغشة هي اللي بتخلينا عيلة مترابطة وشوية ووصل كل أخواتي وولاد عمي ومعاهم محصول السنة فدخلنا جوا وأبي وعمي طلعوا ليهم عالبوابة.
- استنوا قبل ما تنزلوا الغلة دي، طلعتوا حق ربنا؟
- أيوة يا أبويا قبل ما نشيل المحصول طلعنا الصدقة اللي حددها الشيخ لينا.
- عال يا وِلد يلا سموا الله ونزلوا المحصول وأنا هبعت للجماعة يجهزولكم العشا.
عدا شهر ونص ومستوى عمي وأبي اتنقل وبقى في حتة تاني خالص الأول كانوا بيقرأوا كلمات وبدأت أديهم جمل وإملاء على قطع وبقوا يقرأوا أسرع وبيكتبوا كمان وبقت الكتب ملازمة ليهم في كل مكان وماشيين بالنوتة في جيبهم حتى وهم في الزرع أو الغيطان يطلعوا ويقرأوا منها ويراجعوا دروسهم.
- أنا جمعتكم النهاردة علشان حاجة مهمة.
- حاجة أي؟
- عمي وأبي بقوا يعرفوا يقرأوا ويكتبوا.
- والله! جه معاهم بـ نتيجة يعني؟
- جدًا جدًا.
- إحنا لازم نجيبلهم هدايا حلوة.
- هو ده اللي جمعتكم علشانه علشان كده لو تقدروا تشترولهم تليفونات تاتش بدل الزراير هتفرحوهم جدًا.
- بس كده! هننزل النهاردة المركز ونجيبلهم.
- بس خلوها لحد الاختبار النهائي آخر الأسبوع علشان هكرمهم وكل حد فينا يجيبلهم هدية مختلفة.
- اتفقنا.
كنت بذاكرلهم إنجليزي ورياضة وعربي والنهاردة اختبار نهائي على كل المواد، ظبطتلهم البراندة وكل واحد على مكتبه منتظر ورقة الامتحان وأمي ومرات عمي دخلوا عليهم بالعصير والميه وسندوتشات:
- امسكوا كلوا ده قبل ما تبدأوا تمتحنوا علشان تعرفوا تركزوا.
- لأ أنا مش هاكل.
- ليه كده يا أحمد؟
- علشان إذا امتلئت المعدة نامت الفكرة.
- طب وأنت يا صلاح؟ مش هتاكل برضو زي سلفي؟
- أيوة علشان إذا امتلئت البطون نامت العقول.
- تااايم! هدوء هبدأ أوزع الورق.
بالفعل خرجت أمي ومرات عمي ووزعت عليهم الورق وهما بدأوا يمتحنوا في هدوء وصمت وعدا ساعة ونص ولسة مخلصوش فبدأت أمرّ عليهم وأبص في ورقهم وألاقيهم مداريين الحل بتاعهم ب كُم الجلابية الواسع لدرجة مش باين من الورقة غير طرايف فضحكت وإن طبع الشاطرين ده في كل الناس حتى لو كبار وعدوا الخمسين سنة.
- أنا خلصت.
- وأنا برضو خلصت.
- تمام اتفضلوا سلموني الورق وانتظروا النتيجة بالليل.
- يارب سلم يارب.
- بالتوفيق ياعمي.
- تسلميلي ياقلب عمك يا أميرة يا بنت الأمرا.
- استودعتك ربي في ورقتي.
- بالتوفيق يا أبي.
- يباركلي فيكِ يا نورعين أبوكي.
قعدت أصحح وهما خرجوا قعدوا مع باقي العيلة اللي كانت مهتمة تعرف هما عملوا أي وكأنهم بيمتحنوا معاهم لأنهم عارفين أبي وعمي تعبوا قد أي علشان يتعملوا ويوصلوا للاختبار ده، ومسكت ورقهم ولقيت أخطاء طفيفة في الإملاء عديتهالهم وأبي جاب 100 من 100 في كل المواد وعمي نقص درجتين تاني فعلشان ده امتحان روتيني مش هخليه يزرع الزعل بينهم على حاجة متستاهلش مسكت قلم أزرق وعدلت لعمي الغلطة اللي عنده وأديته هو كمان 100 من 100 وأحيانًا كسب القلوب بيكون أولى من كسب المواقف.
- السلام عليكم.
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته تعالي يا بنتي اتعشي.
- حاضر يا أمي.
- أبويا وعمي عملوا أي يا نور؟
- بعد العشاء بإذن الله نتجمع كلنا في البراندة وهعلن النتيجة.
عمي وأبي كانوا متوترين وبيبلعوا اللقمة ويبصوا لبعض بتوتر فعرفت إن الطلبة طبعها واحد حتى لو عمرهم كبير وعدوا الخمسين لسة رهبة الامتحان ليها قوتها وهيبتها وقادرة تهزّ أجدعها شنب.
- طبعًا أنا جمعتكم علشان أعلن النتيجة قدام العيلة كلها بس لسة فيه اختبار نهائي وهو الاختبار الشفوي بس استبدلته بقراءة نص شعري لكل من أبي وعمي، مين يحب يبدأ؟
- أنا.
- اتفضل قدامنا كلنا يا أبي.
قعدنا كلنا أنا وأمي وأخواتي ومراتات أخواتي ومرات عمي وولادها ومراتاتهم بعد ما بعتنالهم كلهم يتجمعوا عندنا وبصينا ناحية أبي وقف قدامنا كلنا ومد أيده بورقة مطوية نصين على المكتب وفتحها وبدأ يقرأ النص اللي فيها ومن شروطه أنه ميكونش يعرفه وعلى حسب ما يسحب ورقة هيقرأ اللي فيها أيًا كان.
"كانت تتحاشى أن يعرف أحد اسمها لأنّها تعتبره قديما ولا يتماشى مع الموضة، فكانت تُسمي نفسها (فيفي)..
عندما أصرَّ الأستاذ على معرفة اسمها...كتبته على ورقة وأعطته إياه وهي تشيح وجهها خجلا ً.
قرر أن يُغير رأيها في اسمها..
فقام وكتب أبياتا على اللّوحة (السّبورة):
قِـفْ يا زمـانُ ألا تَـراهـــا قَادمةْ
قَمرُ الزّمـــانِ أتَــتْ إلينا بَاسِــمــةْ
تـدَعُ الحيــاةَ بإثـرهـا مأسُــورةٌ
وعلى يـديـهـا ألفَ روحٍ هــائـمـةْ
يا حُـلوةَ العَيـنينِ مالكِ والغَضَى
أفـلا نَـظَـرتي إلى عُيوني الحَالمةْ
شَـرُفَ الـزمـان بأنْ حَـوَاكِ وإنَّهُ
يَـكفـيـكِ فخراً أنَّ اسمكِ "فــاطمة"
كلنا بصينا ناحية أمي وسقفنا وصفرنا لما ختم بـ اسمها وهي اتكسفت وأخواتي وولاد عمي ومراتاتهم بدأوا يهيصوا ويسقفوا وجريوا ناحية بابا باركوله بسبب قراءته الجميلة حتى لو فيه بعض التعثرات بس نجح وعملها وقرأ ولا كأنه خريج جامعة مش شهرين اللي فرقوا معاه.
- دلوقتي دور عمي.
- شجعوني يلا خلوني أتحمس.
- أيوة يا أبويا يا جامد.
- أيوة يا صلاح شد حيلك واثقة هتعملها يا أبو عيالي.
- والله ما فيه زيك يا مراتي يا حبيبتي، شايف يا جُعر شايف هو ده التشجيع صحيح صدق الشاعر لما قال:
إِنْ لَمْ أَمُتْ شَوْقًا إليكَ فإنَّنِّي
سأموتُ شوقًا أو أموتُ مَشوقًا
ألبَسْتَنِي ثَوْبَ الضَنَا فَعشِقْتُهُ
مَنْ ذَا رَأى قَلْبًا ضَنى معشوقًا
لا قَرَّ قَلبِي في مَقَرِّ جَوانِحـِي
إنْ لمْ يَطِر قَلبـي إليكَ خَفُوقًا
وبَرِئتُ مِنْ عَيْنِي إذا هِيَ لمْ تَدْع
للدمعِ في مجرَى الدموعِ طريقًا
بحلاوةِ الإخلاصِ جُدلِى بالرِّضَا
إنِّي رأيتُكَ بالعبادِ رفيقًا
كلنا بَلمنا وسكتنا وعمي بصلنا باستغراب وهو بيسأل:
- مالكم بلمتوا ليه؟
- الأبيات دي لمين يا عمي؟
- ابنُ العرِّيف الأصفهاني الأندَلُسِي
- حفظتها أمتى يا عمي؟
- قعد جنبي دكتور الوحدة وكان بيردد حاجة حلوة كده على مسمعي فقولتله يسمعني طلع بينشد أبيات فحفظتهم من وراه.
- لأ أنت كده مش محتاج اختبار يا عمي أبهرتني وأبهرتنا كلنا.
الرجالة قاموا حضنوا عمي وأبي معاه والستات بتزغرط فـ طلعت من وسطهم وأنا بعليّ صوتي:
- أعلنكم إنكم اجتزتوا الاختبار وبدرجة امتياز مع مرتبة الشرف يلا كله يقول مبااارك.
مبارك بتاعة عيلتنا كانت هدايا مادية فيها حب خالص ليهم، ابن عمي صلاح الكبير جابله تليفون أوبو أحدث نوع ولأبي اشتراله ساعة وأخويا محمود الكبير جاب لأبي تليفون نفس النوع جديد وجاب لعمي ساعة برضو، وباقي أخواتي وولاد عمي اللي جابلهم ساعة واللي جابلهم جلاليب جديدة واللي اشترالهم جزم جديدة والستات جابت العطور والجلاليب والشال والعمة واليوم ده معتقدش عمر ما أبي وعمي هينسوه طول حياتهم.
- الاتنين محو الأمية معاكِ جاهزين للاختبار؟
- أيوة حضرتك جاهزين.
- وريني بطايقهم.
- حاضر ثواني، عمي أبي تعالوا اتفضلوا!
دخلوا بالجلباب الصعيدي الواسع والشال على كتفهم والعكاز ف إيديهم اللي مزيناها الساعة وريحة العطر الفواحة اللي بيُعرف بيها الراجل الصعيدي هيبة حتى في برفانه، خطّوا الخطوة وسلموا عالمراقب وقعدوا بـ عزة وفخر كأنهم لأول مرة في حياتهم بيخضعوا لاختبار وهما اللي الحياة حطتهم في مليون اختبار أكبر وأقوى ونجحوا فيه.
- أنا خلصت.
- وأنا كمان.
- بالتوفيق يا حاج صلاح وبالتوفيق يا حاج أحمد.
ظهرت نتيجة محو الأمية اللي كنت واثقة هينجحوا فيه وبجدارة لأن في البداية كنت بعلمهم على قد محو الأمية بس بعد كده زودت الخطة التعليمية واهتميت أكتر علشان أعلمهم لأجلهم هما.
- هتبيع الإردب القمح بكام يا حاج صلاح؟
- نفس كلمتي هي هي والسعر اللي قولتهولك.
- على بركة الله أبعت أجيب العربية تحمل.
- تمام ماشي وخلينا إحنا نحسب الحساب لحد ما العربيات تحمل.
- أنت اللي هتحسب يا حاج صلاح؟
صلاح طلع النوتة والقلم من جيبه وبدأ يكتب:
- أيوة أنا اللي هحسب.
- أصل بالعادة بتخلي ولدك يحسب.
- عادي محصلش حاجة.
الراجل كان مستغرب الحاج صلاح الجاهل اللي لا بيعرف يقرأ ولا يكتب ولا يفك الخط بقى يكتب وبخط حلو ومنسق وبيحسب وأسرع من أجدعها آلة حاسبة أينعم هو دماغه آلة حاسبة لوحدها من زمان بس دلوقتي اجتمع الحساب والدماغ مع الكتابة والتنظيم.
- ألو أيوة يا نور.
- أيوة يا أبي معاك.
- انزلي تحت البيت معايا حاجة ليكِ.
نزلت أشوف فيه أي لقيت أبي داخل بعربية ملاكي سودا وهو بيسوق وبينزل منها بعزة وهيبة وبيرفع رخص العربية قدامي وبيقولّي:
- أخدت الرخص وجبت عربية ليا وأول واحدة هاخدها بيها مشوار تكون أنتِ.
- بجد يا أبي! الله ماشاء الله تبارك الله ربنا يديك خيرها ويكفيك شرها يارب.
- يلا روحي البسي بسرعة.
- فوريرة.
طلعت ألبس بسرعة ونزلت وأخدني للمحافظة ووداني مطعم أكلني وبعدها وداني مول كبير دخلناه سوا وبدأ يختار معايا هدوم ليا خروج وكنت بقوله كفاية راح وقف عند محل هدوم بيتي وقالي ادخلي اختاري اللي يعجبك ووقف هو برا.
- أنا خلصت يا أبي.
- أهاا.. طب حاضر جاي أحاسب.
- خلاص خد راحتك وأنا هدخل المحل ده أتفرج شوية تكون خلصت.
- ماشي يا بنتي بس متبعديش.
- حاضر يا أبي.
- بنتك دي يا حاج أحمد؟
- أيوة الدكتورة نور.
- هي دكتورة ماشاء الله؟
- لأ بس لسة هتبقى في المستقبل هي اتخرجت من آداب وهتكمل بعدها تاني علشان تبقى دكتورة.
- ماشاء الله وأنا أخويا دكتور ورئيس قسم هناك وابني مُعيد في كلية آداب ومعاه ابن عمه مُعيد في قسم تاني والعميد والوكيل نفسهم معرفة قديمة تاني خلاص ياعم يعني ملحوقة ونوصي على بنتك.
- هي مش محتاجة توصية ماشاء الله عليها شاطرة ومجتهدة وهي اللي علمتني أنا وعمها مانا حكيتلك.
الراجل سرح كده وهو بيبص عليها وهي بتلف في المحلات وتخيلها زوجة ابنه:
- عايز أتكلم معاك في موضوع كده يا أحمد.
- قول معاك.
خلصت شراء وروحنا وأنا مبسوطة وشايلة الأكياس ومش راضية حنى أسيبهم من أيدي وأبي بصلي وابتسم وهو ساكت:
- كبرتي يا نور.
- مسير الصغير يكبر يا أبي.
- بس أنتِ كنتي صغيرة وهتفضلي طول عمرك بنتي الصغيرة في نظري وعمري ما أفرّط فيكِ.
- أنت حبيبي.
- وأنتِ نور عيني وحبيبتي اللي نورتي حياتي من يوم ما شرفتي.
حياتنا في العيلة بقت ألذ وجمعتنا بقى أحلى وبقينا نلم العيلة كل جمعة ونسمع حكاوي أبي وعمي والقصص اللي بيقرأوها وهما بيشاركوها معانا وعمي وحبه للأشعار اللي لقى فيه دليله وبقى يُلقي علينا أبيات شعرية من وقت للتاني.
- محتاجة أقدم في الدراسات العليا إذا سمحت.
- اسمك أي؟
- نور أحمد عبد الرحمن آل صياد.
- أنتِ بنت صاحب والدي؟
كان فيه حد ورايا قال الجملة فبصيت لقيته دكتور يونس كان سبق وادامي سيكشن قبل كده، فاستغربت كلامه وبصيتله وسكت:
- بعتذر إذا كنت خضيتك بس والدي الأسبوع اللي فات قالي إن بنت صاحب غالي عليه عندي في الكلية ووصاني عليكِ وأنا معرفش غير اسمك، بس أنتِ كنتِ طالبة عندي في سيكشن قبل كده صح؟
- أها يا دكتور، بعتذر جدًا بس أنا لازم أكمل ورق الدراسات العليا.
- أنا ممكن أساعدك.
- لأ مش عايزة أتعب حضرتك.
- تعب أي بس!
بالفعل خلصلي كل الورق وفهمني كل حاجة وقالي إنه هيساعدني لما تبدأ المحاضرات وطلب رقمي علشان يبعتلي الجدول وأي جديد بس أنا رفضت بـ ذوق وأعتقد هو تفهم ده بصدر رحب.
- مالك يا أبي متعصب ليه؟
- الراجل مش راضي يفهم بالذوق وعايزك لابنه.
- راجل مين وابنه مين؟
- أبو دكتور يونس عندك في الكلية وأبوه عايز نحط أيدينا في أيد بعض وأوافق على جوازك منه.
- ....
- أنا مش عايز أديكِ لأي حد والسلام يا بنتي.
- حضرتك مش عايز تديني لأي حد يا أبي وعمومًا اللي تقول عليه سيف يمشي على رقبتي، عن إذنك.
أنا يمكن معنديش مشاعر من ناحية د. يونس تخليني أقف في وش أبي علشانه بس أنا اتكلمت لأني شايفة أبي عايزني أفضل جنبه العمر كله ولأنه بيحبني حب مش قادر إني أبعد عنه وأسيب البيت وأمشي في يوم على بيت راجل تاني.
- أي اللي عملته ده يا أحمد؟
- عملت أي يعني؟
- علام وعلمت البنت وبقت عروسة وزي القمر مستني أي تاني؟ عايز تقعدها جنبك؟
- وأنا هكلّ منها ومن قعدتها أاخ يكش تفضل جنبي العمر كله وأنا أكره!
- أنت مش هتكره يا أخوي بس هي هتحس بظلمك ليها بعدين وهتكرهك.
- تكرهني! علشان بحب بنتي تكرهني؟
- اللي بيحب حد بيفرحله ويحب يشوفه مبسوط وبنتك مش هتبقى مبسوطة وكل اللي في سنها فتحوا بيوت وعملوا أسرة وهي محلك سر.
- اسكت يا صلاح اسكت.
- أنا عارف إنها بنتك الوحيدة وغالية عليك زي ماهي غالية عليا بس إحنا عايزين نفرح بـ بنتنا.
- أنت شايف كده يا أخوي؟
- خلي الفرح يدق بيتنا يا أحمد.
زار الفرح بيتنا وجه يونس وسط ناسه وأحبابه يقابل ناسي وأحبابي وقعدنا وش لوش وخمس دقايق خلونا نقرر عن حياتنا كلها أهم قرار وهو ميثاق غليظ ورباط ليوم الدين.
- اختيارك ولا اختيار أبيك؟
- اختيار أبي ولما قالي عنك وشوفتك يومها تأكدت إن أبي اختارلي بنت اخترتها لنفسي من زمان.
- بمعنى؟
- إني اخترتك وأنا اللي خليت أبي يكلم والدك مرة واتنين وتلاتة لحد ما وافق وجينا هنا.
- بس أبي ...
- بيحبك وبيغير عليكِ من أي حد هياخد مكانه في قلبك وأنا مقدر إحساسه لأن لو عندي بنت زيك هخبيها في عيوني ولا إني أوافق أخليها تبعد عني.
- يعني أنا أسيب أبي هنا ألاقيك أنت!
- مَــن شبه أباه فما ظلم.
- بس هو أبي أنا.
- وأبيكِ أبايّ.
- ودارك داري وسكنك مسكني.
كانت جملة قولتها في قلبي ردًا على كلامه وعيون فهمت اللي نطقته عيوني فـ ابتسم ودي كانت بداية الموافقة موافقة القلوب عندما تجتمع لتترابط معًا.
- كده يعتبر خلصنا يا عروسة.
- تسلم أيدك والله تحفة.
- نوور يا بنتي!
- اتفضل ادخل يا أبي.
دخل أوضتي وأنا كنت جهزت لكتب كتابي وأول ما شافني عيونه دمعت، أبي اللي الشقا والمسئولية رسموا خطوطهم على تقاسيم وتعابير وشه الدمعة شقت طريقها ونزلت على خده.
- كبرت حبيبة قلبي وبقت عروسة.
- أنا مش مصدقة إني هبعد عنك والله يا أبي.
- ومين قال إنك هتبعدي؟ أنا هفضل أجيلك ووقت ما ترفعي سماعة تليفون عليا وتحتاجيني هتلاقيني عندك.
- أنا بحبك أوي والله.
- وأنا بحبك يا بنتي وهفضل أحبك العمر كله يا نور عيني وياوش الخير عليا.
وقفت مع الستات في بلكونة البيت وأنا شايفة أبي إيده في إيد يونس وساندين على طبلية في وسط ساحة بيتنا على السجاد المفروش وحواليهم الرجالة و المأذون وسطهم بيكتب الكتاب.
- بعد إذنك يا شيخ حابب أوصي العريس.
- اتفضل طبعًا يا حاج أحمد.
"أسميتها نور وهي نور عيني ووجه السعد وحبيبة القلب وروح أبيها،
قرة عيني و روح فؤادي، صديقتي بلا شبهة و حبيبتي بلا غيرة، رفيقة العمر مضمونة، و القلوب بحبها مسكونة، سبب الرزق رغم ضعفها، أم أبيها رغم صغرها، سَبيلي إلى الجنة بإذن ربها،
جاءت فبشرني الله بها فـ سال الخير وامتلأ البيت بالحب والمودة فهي زينة بيتنا وتاج رأس أبيها،
علمتني ونورتني فكان لها من اسمها نصيب فلطالما توغل نورها ثقوب قلوبنا،
أعطيكَ إياها وهي أغلى ما لدي وكل ما أملك فإن خُيرت بينها وبين كنوز الدنيا لاخترتها هي،
من آمن الرجال في أخلاقهم لم يسألهم عن مال ولا جاه وإنما سألهم عن مودة ورحمة وحُسن معاش فـ احفظ ابنتي تعرف معها كيف الحياة تُعاش"
مفيش حد كان موجود إلا ودموعه غرقت وشه ولأول مرة راجل صعيدي الهيبة يتهزّ لفراق وفراق مين؟ فراق بنته وكلامه المرتب والمنظم واللي بيقوله بقلبه خلى كل أب يبكي لأنه يا فارق حبيبته يا تخيل أنه سيفارقها يومًا لبيت زوجها أو أنه لم يُرزق بالبنات فـ بكى لأنه حُرم.
- ادخل شوف مراتك يا يونس.
- بعد إذنك يا عمي.
- اتفضل يا بني، روح معاه يا محمود.
ضرب النار اشتغل بيحيّوا الحنة اللي اتفقوا يخلوها حنة وكتب كتاب والشباب بالخيل بدأوا يرقصوا والأغاني اشتغلت وكله اندمج وبدأ يشارك الكل الفرحة.
- فين نور يا أمي؟
- نورا جوا في البراندة يا حبيبي.
- يونس عايز يشوفها.
- تعالى يا حبيبي تعالى يا غالي أنت خلاص بقيت ابني وغلاوتك من غلاوة ولادي.
دخلت كانت مدياني ضهرها وهي بتبص للسبورة اللي كان مكتوب عليها أبيات شعر:
"ولو أنَّ الأبوةَ حِفظُ بنتٍ
حفظتُك بينَ أهدابي سِنينا
ولكنَّ الزواجَ لنا سبيلٌ
وهديُ الأنبياءِ المرسلينا
ولو أنَّ السعادةَ بذلُ مالٍ
بذلتُ التِّبْرَ والدُّرَّ الثمينا
ولو أنَّ السعادةَ في متاعٍ
حملتُ لكِ القوافلَ أجمعينا
ولكنَّ السعادةَ في تقاةٍ
وحبِّ قرينةٍ ألِفَتْ قرينا"
باس راسي من ضهري ومن غير ما ألفّ ليه كان حاوطني بـ دراعه وهو بيهمس ليا:
- البنت الغالية عند أهلها بتبقى غالية حتى وهي ماشية وعزيزة الفراق، لذلك داري دارك وسكني مسكنك وقلبي ملك لكِ ولا أُحزن لكِ قلبًا ولا أبكي لكِ عينًا، بحبك.
مشاعر كتير متلخبطة لكن الأهم هو إني أكتر بنت محظوظة في العالم بـ حُب عيلتي وإني وجدت رجلًا أكن معه بشكل أقرب من عائلتي ويحبني فوق حُب المُحبين حبًا.
- اسكن إليٌ فنعم السكن مسكني.
- ءانسي بي فنعم الأُنس أُنسي.
- آنستُ بكَ حبيبًا.
- وسكنتُ بكِ حبيبةً.
"حبيبة كل الرجال: هي نور عين أبيها ولُب فؤاد عمها وذويها فازت بـ حب ودلال راعي نصيبها؛ فحبيبة الرجال لا يفوز بها إلا رجلٌ مُحبٌ مُغرمٌ بلا شك"
لـ الست نور