رواية نساء من بلادي ( كاملة جميع الفصول) بقلم فراقد حسن علي

 

رواية نساء من بلادي كامله جميع الفصول بقلم فراقد حسن علي 




بغداد - يوم الأحد المصادف ٧/١/١٩٧٩
الساعة العاشرة صباحًا
الجو ماطر...

من كنيسة مريم العذراء للأرمن الأرثوذكس في منطقة الميدان وسط العاصمة، كان المطر ينهمر بهدوء، كأنّ السماء تبارك ذلك اليوم.
للمطر رائحة لا تُنسى، ووقع لا يُوصف... يُشعرنا بأن الخير آتٍ، يحمل في قطراته غفراناً، ويفتح بابًا للأمل.

قالت شهلاء، وهي تنظر من النافذة 
"يا عزيزي، إذا سقط المطر، يتملّكني حنين لا يوصف... كأنّه يعيدني إلى أيّام الطفولة"

ابتسم شامل وربت على يدها:
"ششش... بعد قليل ستكونين في غرفتكِ، والمطر يهمس على نافذتكِ، وستسمعين أنفاسي إلى جانبك... قرب شفاهك..."

عند الموعد المحدد، دخل العروسان الكنيسة، وكان الأب بولس بانتظارهما ليُتمم مراسيم السر المقدّس.

عندما دخلوا سكن المكان لحظة رهبة 
دخولهم منظور، لكن ما هو غير منظور، هو حلول الروح القدس على اتحادهما.

فساد سكونٌ مهيب داخل قاعة الكنيسة،
كأن الزمن توقف احترامًا لتلك الرابطة المقدسة،
واختلط صوت المطر الخارج من النوافذ العالية
مع أنغام الموسيقى الكنسية الهادئة التي بدأت تعزف بخفوت،
وكأنها ترسم ممرًا من الروح نحو السماء.

كانت الكنيسة مزينة بأكاليل الزهور البيضاء والشموع الطويلة،
تفوح منها رائحة البخور،
وترتفع في أرجائها تراتيل خافتة،
أضفت على المكان هيبةً وطمأنينة.
الأيقونات القديمة تزيّن الجدران،
ووجوه القديسين تنظر إلى الداخلين بوقار،
تباركهم بنظرات من زمن بعيد.

المدعوون جلسوا بهدوء على المقاعد الخشبية المزخرفة،
نساءٌ بأوشح داكنة،وملونة 
ورجالٌ يرتدون البدلات الرسمية،
تملأ وجوههم ابتسامات خجولة،
وبعض العيون لم تُخفِ دموعها،
مزيج من الفرح والتأثر.

وقفت خالة العروس عند الزاوية القريبة من المذبح،،تُمسك مسبحة بين أصابعها،
تتمتم دعاءً في سرّها،
وعيونها معلّقة بأبنة أختها وهي تخطو نحو حياة جديدة 

أما اخ العريس ، فكان واقفًا بخشوع،
يراقب إخوة بعينين مليئتين بالفخر والرهبة،
كأنه يودّع ذكرياته معه كطفلٍ ويستقبله كرجلٍ في لحظة واحدة.

وقف العروسان وسط القاعة أمام الأب،
وقف شامل على يمين الأب، 
وشهلاء على يساره.
إلى يمين شامل، وقف شقيقه كامل كشاهد،
وإلى يمين شهلاء، وقفت أختها سلفانا، إشبينة لها.

قال الأب بولس بصوتٍ مهيب:
" إن سر الزواج هو من أهم الأسرار في بناء المجتمع المسيحي،
ويُعرَّف في كل الطوائف المسيحية بأنه:
شركة الروح القدس بين الرجل والمرأة 
كما يقول السيد المسيح عيسى عليه السلام في الإنجيل: (إنجيل مرقس 10: 8) 
"ويكون الاثنان جسدًا واحدًا . إذًا ليسا بعد اثنين بل جسد واحد"

معلنًا بذلك بداية المراسم.

تقدّمت سلفانا، وهي الإشبينة،
حاملةً خواتم الزواج - والتي تُعد رمزًا للارتباط -
على وسادة بيضاء صغيرة، مطرزة بنمنمٍ ملوّن.

فألبست شهلاء خطيبها "شامل" خاتمًا من الفضة في بنصر يده اليسرى "ويُقال إنه الإصبع الأقرب للقلب"
وألبسها هو بدوره خاتمًا من الذهب في الإصبع نفسه 

وخلال لحظات تلبيس الخواتم،
تحدث الأب بولس قائلاً:
إن الخواتم ترمز إلى اختلاف معدن الرجل 
عن معدن المرأة،
وطبيعة الرجل عن طبيعة المرأة،
فرغم أن الزواج يجعلهما جسدًا واحدًا،
إلا أن لكلٍ منهما طباعه وأسلوبه في الحياة،
وذلك ما خلقهما الله عليه.

ثم أكمل بصوته العميق وهو يشير إليهما:
"بهذا الخاتم، تنتقلان من العزوبية إلى مقامٍ سامٍ ومسؤولية أسمى...
هذا الخاتم أصبح رمزًا مقدسًا ودليلًا على ارتباطكما، وتنالا فيه شرفًا أعظم من أن تكونا عزابًا.

وبعد إتمام مراسيم تلبيس الخواتم،
بدأت مراسم التكليل.

ويُرمز للإكليل بتاج التوقير والاحترام بين الزوجين 

وكناية عن انتصارهما في معركتهما مع الذات،
ونجاتهما من الخطيئة.

وضع الأب على رأسيهما أكاليل الزهور،
وتلا صلاة البركة:- "باركهما يا رب كما باركت إبراهيم وسارة،
باركهما يا رب كما باركت موسى وصفورة،
بارك يا رب الوالدين الذين اعتنوا بتربيتهما،
بسلامٍ إلى الرب نطلب أن يحفظ العروسين،
بالاتفاق نفسًا وجسدًا، والإيمان الوطيد، 
وحسن التوليد "

وبعد إتمام الصلاة،
تشابكت أيدي العروسين ببعضها البعض...

حيثُ قدَّم الأب على مسامع شهلاء رسالة قيمة 
و وصية للنساء أيضاً : قائلا 
"أيتها النساء، اخضعن لأزواجكن كما للرب، 
لأن الرجل رأس المرأة، لا انتقاصًا منها، 
بل تنظيمًا للأسرة..."

كانت شهلاء تنظر نحوه بإمعان، تتأمل كلماته التي تُتلى وسط رهبة الكنيسة وجدرانها العتيقة المكللة بالأيقونات والشموع.
فوجّه لها الأب الحديث مباشرةً، شارحًا بلطف واجب طاعة المرأة لزوجها،
لا كنوعٍ من التسلّط أو الانتقاص، 
بل كتناغمٍ روحيّ،
يعكس طبيعة الرجل العقلانية والحازمة،
وطبيعة المرأة العاطفية والمُحتوية،
مؤكدًا أن العلاقة بينهما تكامل ، لا صراع.

ثم التفت إلى شامل، مخاطبًا إياه بعينين ثابتتين: -"أَحبب زوجتك كما أحبَّ المسيح الكنيسة،
وابذل نفسك لأجلها...كن لها سندًا وأمانًا"
كان صوت الأب حينها كأنه يصل إلى أعماق قلب شامل،
وكأن نذرًا مقدسًا بدأ يكتب على ألواح قلبه.

ثم بدأت واحدة من أقدم التقاليد الرمزية في الكنيسة: - أخذ العروسان كأسًا من العصير ممسكين به معًا،ثم كسراه على الأرض في لحظةٍ احتفالية،
تبعثر فيها الزجاج بين خطواتهما كناية عن كسر الحياة الفردية السابقة،
وبداية عهدٍ جديد لا يُبنى على أنانية أو تفرُّد، بل على المشاركة والتضحية.

بعدها، بدأ الأب بالدوران وهو يحمل الإنجيل المقدس، متقدمًا العروسين والأشابين، 
في ثلاث دورات رمزية.
صوت الخطوات على أرض الكنيسة كان أشبه بتراتيل صامتة،
ومع كل دورة، كان الحضور يشعرون وكأنّ الأرواح تصعد نحو العُلى.

يسمى هذا الدوران "المسير نحو الملكوت والسماوات" 
ويُعبّر عن قيادة المسيح للعروسين في درب الحياة،
وانسجام الروح مع الإيمان ، ومع الرحلة السماوية للحب الزوجي.

ثم جاءت لحظة رفع الأكاليل عن رأسي العروسين ببطء،
وسط تراتيل خفيفة تُتلى من الزاوية اليمنى للكنيسة 

باركهما الأب وهما لا يزالان يُمسكان بأيدي بعضهما،
إلى أن فَصَلَ بينهما بالإنجيل،
في مشهدٍ رمزيٍّ يُظهر أن المسيح الآن هو الرابط والحد الفاصل بينهما،
والحَكم الروحي لحياتهما القادمة.

حين أكمل الأب بولس جميع المراسيم 
رفع يده معلنًا النهاية 
وقال بصوته الجهوري المليء بالدفء:
"ليبارك الرب زواجكما،
ويمن عليكما بحياة ملؤها المحبة والإيمان والثمار الصالحة."

حينها، دوّت تصفيقات الحضور داخل القاعة،
لم تكن تصفيقات عادية،
بل كانت كأنها موسيقى فرحٍ صادقة
تحمل دعوات صافية من القلب.

ثم سلّم الأب للعروسين شهادة الزواج،
فخرجا لتلقِّي التهاني خارج قاعة الكنيسة.
ورافق الحضور العروسين بفرحٍ وتهاليل،
وخرج الجميع إلى باحة الكنيسة لتبادل التهاني.

ثم توجَّه العروسان إلى قاعة الأفراح،
حيث تعالت الزغاريد والأنغام،

وهنا بدأت تقاليد احتفالية مميزة، منها:

// قفز أصدقاء شامل ثلاث مراتٍ صعودًا ونزولاً وهو يتوسطهم،
في طقسٍ شبابيٍّ يُعبّر عن الانتقال من حياة العزوبية إلى عالم المسؤولية والرجولة.
وكانت ضحكاتهم حقيقية تنبعث من القلب وعفوية.

// توزيع الشموع المزيّنة على النساء،
كنايةً عن النور الذي تحمله المرأة في حياتها الزوجية 

// بينما وُزعت المحارم المطرزة يدويًا على الرجال،للدلالة على الرجولة المحمّلة بالقيم والكرم والستر.

ثم بدأت طقوس تُسمّى " التجلّي " 
حيث تتجلّى العروس، ويقوم العريس بإلباسها حلياً من الذهب 

حيث ازهرت العروس "شهلاء" وهي ترتدي ثوبًا أبيض ناصعًا ، وكأنها قادمة من عالم آخر،
فألبسها العريس "شامل "عقدًا ذهبيًا حول رقبتها،
ثم زيّن معصميها بأساور ناعمة،
ووضع في أذنيها أقراطًا براقة،
في مشهدٍ يرمز إلى إكرام الزوجة وتقديرها كجوهرة ثمينة.

وفي نهاية المراسم، توجّه العروسان إلى منزل العائلة،،وخرجا من الكنيسة
وقد تداخلت قطرات المطر مع ضوء النهار،
كأن السماء تباركهما بطريقةٍ خاصة،
فيما حملت الرياح نسمات رائعة وهادئة ...
كأنها تهديهما بداية عمرٍ جديد.

وكانت الأم ( عشتار ) في استقبالهم عند الباب

فأخذت العروس كومة من العجين الطريّ،
ووضعته على باب الدار برفق،
في طقسٍ شعبيٍّ قديمٍ يرمز إلى الالتصاق الأبديّ بين الزوجين،
وإلى أن البيت قد أصبح بيتها، 
والمكان قد غدا وطنًا جديدًا لهما معًا.

سادت أجواء الفرح والدفء،
واكتملت طقوس الزفاف بتقاليدٍ لا تزال تحتفظ بقداستها،
تمزج بين الروح، والعائلة، والرمز، والمحبة.

وما زالت تلك القطرات تنهمر،
تطرق نافذة غرفتهم بلطف كأنها تهمس لهم بلغة المطر 

فذهبت شهلاء تتأمل المشهد عن قرب،
وقفت بصمت أمام الزجاج، تراقب تساقط المطر وجماله الأخّاذ،
والابتسامة ارتسمت على ثغرها برقة،
ففي تلك اللحظة نسيت وجع وداع الأهل،
ونسيت الحزن الكامن خلف ذلك القبول الصامت لحياة جديدة،
شعرت بالحنين...
إلى طفولتها البعيدة،
إلى الأيام التي مضت دون أن تعود،
إلى ضحكات أخواتها في باحة البيت،
وإلى صوت أمها وهي تناديها من المطبخ برائحة الخبز الطازج،
شعرت بالحنين إلى كل شيء...

وأدركت في تلك اللحظة،
أنها ستشتاق لهذه الدقائق،
لهذا الشعور،
لهذا الشتاء الأول في حياتها الزوجية،
وستفتقد في الأيام القادمة أحاسيس دفنتها في زوايا قلبها،
ونستها وتناستها خلف واجب الطاعة،
والتزام الدور الجديد كزوجة.

كان ملمس يد شامل على كتفها دافئاً،
رقيقاً يشبه تلك القطرات،
وكان صوته حين تحدث أشبه بالنسيم الهادئ،
برياح الشتاء التي تمسح الغيم من السماء،
فحملها دفء كلماته إلى أرض بعيدة،
أرض خضراء حالمة،
كأنها في المراعي الجميلة ،
حيث لا وجع، ولا خوف، ولا واجب.

ومن هنا...
بدأت عجلة الحياة تدور،
كان الأمل كبيرًا،
يطرق أبواب قلبيهما بلطف،
وبدأت فصول جديدة تتفتح أمامهما كأزهار الربيع.

ولكن...
هل يُرتجى مطرٌ بلا برقٍ ورعد؟
وهل يمر الشتاء دون زمهرير؟
وهل تمرّ السعادة دون ألم؟
فمنذ الليالي الأولى، تسرّبت سموم (عشتار) 
العمّة ( أم الزوج ) صاحبة الأحقاد القديمة..
إلى قلب شهلاء 

لكن شهلاء صبرت، وانتظرت نهاية الشتاء.

تساقطي يا قطرات المطر،
واغسلي صدورًا أثقلتها الأحقاد،
اغسلي القلوب الملوثة بالغيرة والعِداء،
فإنها أحقاد قديمة،
أحقاد العمة "عشتار" التي تسكن في قلبها نار لا تنطفئ،
نار تنصبّ على الكنة "شهلاء" دون ذنب اقترفته.

فمن يعرف سرّ هذه الأحقاد ( حقد العمة على الكنة) !؟
أهي غيرة؟
أم شعور بالخذلان؟
أم أنها لعنة النساء على النساء؟

لكن شهلاء ، كانت ثابتة ، صابرة،
غير آبهة بتلك السهام التي تُرمى نحوها بحقد وغل 
كانت تنتظر...
نهاية الشتاء،
وبداية دفءٍ جديد يحمل لها الحياة.

وبعد انتظار طويل...
وبعد ليالٍ قضتها تحت القلق والدعاء...

نزلت دموعها،
كأنها حبات لؤلؤ و ماس،
تناثرت بهدوء على وجهها الجميل،
وجه امرأة سكنت الطمأنينة في قلبها رغم كل ما حولها.

اقتربت من شامل،
وهمست في أذنه بصوت ناعم مرتجف،
كأنها تخشى أن يتوقف الزمن عند تلك اللحظة:
"راح نصير أبو وأم يا شامل..."

كانت تحمل بداخلها بشرى،
بذرة حياة ستزين أيامهم القادمة.

ضحك شامل،
عانقها والفرح يشع من عينيه،
وتعانقت أرواحهما في لحظة صفاء،
نسيا فيها كل ما حولهما،
وابتسما للحياة من جديد،
فقد جاءت النعمة التي توّجت حبهم..بطفل 

وكان كلا الأبوين ينتظران ذلك الربيع،
بكل جوارحهما، كانا يحلمان بولادة حياة جديدة، تُنبت في قلبيهما بذور الأمل، وتفتح لهما أبواب الرجاء بعد زمن طويل من الصبر.

وهنا ما زالت الحياةُ مستمرة...

وما زال الأملُ ينبض في الزوايا الخفية من قلب شهلاء ..

وما زالت تلك الدموع تنهمر، تطرق وجنتيها بخفّة كأنها تعاتب الزمان،
دموعٌ تسيل بصمت بسبب أحقاد العمة "عشتار" المستمرة 

فتمضي شهلاء لتتأمّل وجهها عن قرب 
تقف أمام المرآة تحدّق في انعكاس ملامحها الشاحبة،
ثم تنزوي في غرفتها، وحيدة، ساكنة إلا من أنين خافت،
تراقب الهواء وهو يحرّك ستائر الغرفة،
يمرُّ عليها برفقٍ كأنه يُواسيها،
تمسح دموعها التي تساقطت فوق ثيابها،
وغفت كأنها طفلةٌ في حجرها تنتظر حضنًا حقيقيًا.

تكلمت مع نفسها بهمس خافت: - أنا أعشق الشتاء دون الصيف...
لأنه عندما يسقط المطر، تُزال الأصباغ عن الوجوه،
ويعود كل شيء لأصله، بلا تصنّع، بلا كذب، 
بلا أقنعة زائفة 

ثمّ استدركت بمرارة:- مدينتي، موصل الحدباء، ليست سيئة كما تُصورها عشتار،
لمَ تعيرني بهذا الاسم وتلقّبني بالـ(الموصلية البرشة)؟

هل الجمال في نظركم عيب؟

موصلنا ، حين تغتسل بالمطر، تصبح بهيةً شهية...

أحبُّ رائحة المطر فيها، وأعشق نسيمها البارد،
الذي يراقص أغصان الشجر برقة 

أتأمل نهرها الذي ينساب بصمت من بين يدي المدينة،
كأنه يحمل رسائل حبّ قديمة بين موجاته 

تنهّدت، وغمغمت:
"الموصل الحدباء، موطني الجميل...
نشأتُ فيها طفلة صغيرة، وترعرعتُ فتاةً ناعمة،
أخذت من وجهها البياض، ومن شتائها الرقة، ومن قطرات المطر براءة لا تشيخ 

ثم ابتسمت بسخرية:
"لا جدوى من الاحتماء بمظلة الكلمات التي يصبرني بها شامل كلما عاد متأخرًا من عمله...
كلماته كظلّ لا يحميني من ألم كلمات أمه ...
فالصمت أمام هذا النوع من الكلام، أجمل، وأصدق...

كانت تنتظره طيلة اليوم،
تحتمل سمّ كلمات أمه،
وصوت خطواته المخمورة الذي يعبث بسكون البيت،
يشبه انتظار المطر في عزّ تموز...
حين تكون الشمسُ في ذروتها، وتأبى الرحيل.

دخل إلى غرفته مترنّحًا،
رائحته تفوح بمزيج من الكحول والتعب،
عينيه نصف مفتوحتين، ولسانه مثقل بالكلمات،
وأصدقاؤه الذين قادوه إلى هذا الطريق،
لا يحبون إلا السير على حافة المتعرجات.

اقترب منها محاولًا تقبيلها،
قفزت من الأريكة، واتجهت إلى الشرفة،
حيث الهواء ينساب ويدخل من نافذتها ،
بلّلت يديها بدموعها المنهمرة،
ورفعت كفّيها إلى السماء:
يارب اهده إلى صوابه...
يارب فرّح قلبي بقدوم طفلي...

سألها بصوتٍ ثقيل:- لماذا تبكين

أجابتْه وهي تبتلع حرقتها :- متى تترك أصحاب السوء؟
متى تختفي هذه الوجوه التي لا تعرف الخير؟
ألا ترى ما يفعلونه بك... وبنا؟ 

لم يجبها مباشرة،
لكنه اقترب منها، ووضع يده على كتفها،
وقال بكلماتٍ مظللة :- أحبكِ...
فلنجلس ودعينا ننسى لوهلة...

جلست على الأريكة،
فجلس بقربها ، واقترب من أذنها،
وهمس بلطف: - أحبُّ شمس الشتاء...
لأنها خجولة، تظهر باستحياء،
تمامًا كحياءك حين تسكنين في أحضاني...

وأعشق النجوم حين تضيء في ليلٍ صافٍ،
لأنها تشبه بريق عينيكِ،
ذلك البريق الذي يزرع داخلي فرحًا وأملًا لا ينطفئ 

هنا، تناثرت دموعها من جديد،
لكنها كانت هذه المرة أرقّ، وأهدأ...
دموع خُلطت بين الأمل والخذلان.

عاد يهمس ، وكأنّه يريد أن يحيي فيها شيئًا
: - تفاءلي...
ما زالت الحياة مستمرة،
وما زال الأمل موجودًا...

ثم مال برأسه نحو كتفها وقال:- أتعرفين؟
أنا أيضًا أحب رائحة المطر،
لأنها تنبعث من حضنك الدافئ،
الذي يحمل الحب ، والطمأنينة،
وفيه عطر يشبه رائحة الأرض المبللة،
التي تبشّر بربيع جديد"

وأضاف:-كل لحظةٍ أقضيها في قربك،
تحمل لي همساتٍ دافئة،
ولمساتٍ تُشبه غُصن زيتونٍ نديّ،
وتلك اللحظات التي احتضنتني بها،
أنبتت في داخلك سنابل حياة خضراء،
تُحيي بها غصون الأمل الذي كاد أن يموت...

وهكذا، جمعتهم لحظات لا تُشترى...
كانت كمطر الشتاء حين يعود بعد طول غياب،
تحمل بين طياتها أحلامًا بريئة،
تنتظر قدوم الربيع بكل أزهاره،
فتزهر الحياة من جديد بوجوده...

لكن الفرح لا يكتمل...
شامل رغم حبّه، لم يكن سندًا.
عمله البسيط، وإدمانه، وخضوعه لأمه 
جعل حياة شهلاء جحيمًا من الإهمال والقسوة.

كانت تتلقى طعنات الحياة بصمت، لأجل طفلتها التي كانت تنمو داخلها...

وفي ذات ليلة، تألمت شهلاء، وكادت آلام الولادة أن تفتك بها، فتمتمت بصوت متقطّع يئن من شدة الوجع:- شامل ... 
إنّي فطرتُ حبك بقلبي ، 
وغرستُ البذرة بداخلي،
كبرت في موسم المطر، 
وضمرت في قيظ الحر،
لكنها ستبقى إن شاء الرب شامخة عبر العصور...

يوماً ما ستغدو شجرة مثمرة،
تظلّل علينا من وارف ظلها،
وتطعمنا من طيب ثمرها، وتكون سبب سعادتنا وسط هذا الخراب."

وبعد العاصفة المؤلمة من آلام الولادة،
وبعد صراعٍ طويل بين الحياة والموت،
أشرقت شمس جميلة في حياة الأبوين...

كانت طفلة...

راقبت الأم أولى لحظات قدومها إلى الدنيا،
تأملت وجهها الصغير المبلل بماء الحياة،
ارتسمت على شفتيها بسمة ممتلئة بالحمد،
همست باسمها:
" هديل..."
ونسيت فجأة كلّ همومها،
نسيت الوجع والسهر والضيق،
وشعرت بالحنين لطفلتها،
كأنّها تعرفها منذ عمرٍ مضى،
ورسمت في تلك اللحظات أجمل أحلامها القادمة، وأمالها، وكأنّ الحياة بدأت من جديد مع هذه الصغيرة...

وحمل شامل طفلته "هديل" بين ذراعيه...
رفع عينيه نحو السماء،
وقال بهدوء متنهّد: "شكراً لك يا رب...

ثم نظر إلى الطفلة، وابتسم...

لقد أشرقت سماؤه برغم سوادها 

نعم ، فأيامه مصبوغة بالحزن،
بسبب قلة رزقه ، كونه يعمل في مطعم بسيط،
وبسبب الخلافات الدائمة مع والدته،
التي لا ترحم زوجته،
فكان عاجزًا عن تدوير عجلة الحياة نحو السعادة،

لكن حين لمس خد الطفلة الرقيق،
شعر للحظة، وكأنه عصفور بَنَى عُشّه،
وأخيراً وجد غصنه ليستريح عليه.

لكن حياة شهلاء أصبحت مرهقة نفسياً وجسدياً...
من تعب الفقر،
ومن السهر الطويل في رعاية صغيرتها،
ومن طلبات زوجها التي لا تنتهي،
الذي يعود مخمورًا في الليل،
وغائبًا عن البيت في النهار،
متعبة كانت،
لكن الأشدّ وجعاً...
هو حقد "العمة عشتار"

لا مطر بدون برق ورعد...
ولا بيت يخلو من المشاكل بين الكنة والعمة،
لكنّ عشتار لم تكن عمةً عادية،
كانت تحمل في قلبها نيرانًا لا تخمد،
ولم تهدأ إلا حين تبثّ سمومها في حياة شهلاء،
كانت تخلق المشاكل من العدم،
وتنصب فخاخ الكلام،
وتلعب دور الضحية بمهارة،
بينما تُترك شهلاء تصارع في صمت.

أما شامل،
فكان كالغائب الحاضر...
لا دور له حقيقي في حياة زوجته،
يسمع، ولا يصغي،
يرى، ولا يُبصر،
كان البحر مصدر الإلهام،
لكن هديل وحدها من كانت تمنحها الحياة...

ضحكات الطفلة كانت تعني الفرح،
كانت هديل الصغيرة تركض بثوبها الوردي،
وصوت ضحكاتها يملأ البيت نورًا،
لكن كل ضحكة، كانت تقابلها تنهيدة من الأم،
وكل ركضة، تتبعها دمعة على وسادتها...

حتى قطرات المطر الأخيرة،
أصبحت تمثل صبرها،
ذلك الصبر الذي تستمده من الدنيا لأجل طفلتها...

لكن الحياة... أصبحت لا تُطاق.
كأنها تعيش داخل فقاعة ضيقة من القهر،
تخنقها كلمات العمة الجارحة،
وتطعنها نظرات الحقد المستمرة،
وكل يوم تُفاجأ بكارثة مصطنعة،
لتحيا في مسلسل لا نهاية له،
اسمه "الصبر الطويل".

كانت تجاهد في النهار،
وتنتظر في الليل قدوم زوجها،
لعلّه ينطق كلمة طيبة،
تعيد لها أنفاس الأمل،
وتشعرها أن ما تعانيه ليس بلا جدوى.

وفي لحظة سكون،
حين كانت مستلقية في أحضانه،
وعلى ذراعها تغفو الطفلة هديل ببراءتها،
تمنت...
أن يفك الرب طوق دنياهم الخانق،
وأن يعيشوا حياة بسيطة،
مليئة بالسعادة، كما يلعب الطفل في الحديقة،
ويضحك من قلبه دون همّ،
تمنت بيتًا صغيرًا،
تغمره الطمأنينة،
ويبنيه الرب لهم حجراً حجراً،
بأمانٍ وحُبٍّ لا ينتهي.

ومضى من عمر "هديل" ستُّ سنوات...

فحنّ قلب "شهلاء" إلى وجوهٍ غابت عنها، وإلى أحاسيس خمدت في أعماقها منذ زمن بعيد...
أغمضت عينيها، واستسلمت لذاكرةٍ لا تهدأ...
تتقلّب في صور قديمة، وتوقظ حنينًا غائرًا ما عاد الزمن يُخمده.

نعم، ستة أعوام مرت، ولم تعرف "هديل" طعم قُرب أخوالها ولا دفءَ خالتها. 

هاجروا جميعًا خارج الوطن، وتركوا لأمّها بضع رسائل وباقات من الذكريات...
وليتهم أخذوها معهم!
بل رحلوا وتركوها وحيدةً، بين "عمة" تنفث السمّ في حياتها، و"حموات" لا يرحمن،
ينشرن أحقادهن في كلّ زاوية من زوايا يومها،
ينفثن الكراهية في تفاصيلها،
ويقطرن الحقد قَطرةً قَطرة، حتى سئمتهم الروح، وضاق بها القلب.

عادت "شهلاء" من سرحانها إلى واقعٍ مرّ،
لكنها، كعادتها، كابرت على جراحها، وتناست سواد الأيام حين وقعت عيناها على ضحكة صغيرتها النقية.
نظرت إليها، حدّقت في تفاصيل وجهها كما لو تراها لأول مرة،

فتذكّرت: نعم، إنها تشبهني...إنها منّي وفيني... إنها طفلة "برشة" 

طفلتها كفراشةٍ صغيرة، تتمايل على أوراق الشجر بخفةٍ وبلا خوف،
هي بذرةٌ نَمَت بحُبٍّ وصبر،

كزهرةٍ نَدِيّة فتحت قلبها على نور الفجر 

كانت بمثابة "الابتسامة" التي عادت إلى الشفاه بعدما غادرتها طويلًا.

براءتها أنستها آلام الحياة،
وجعلت من ليالي السهر المُبكِي لحظات يُمكن احتمالها...

ولكن...

قالت الطفلة بخفّة:
"ماما... ما أعرف ليش بچيتي أول ما نزل المطر؟ كأنه كان وقت فرج!"

سحبت "شهلاء" يد طفلتها برفق،
وأدخلتها إلى الغرفة بهدوء،
جلست على الأريكة،
وهي تمسح دموعها المتساقطة كزخات المطر على وجنتيها،

وهمست بصوتٍ منكسر:-أنزل يا مطر... واغسل قلوبهم من الحقد 

أنزل... وانثر بذور الحبّ والوفاء في عالمٍ ما عاد يعرف غير الكراهية

أنزل... وداوِ جراحنا وآلامنا،

أنزل... وبدّد كلّ ما فينا من حزن وكسرة،

أنزل... قبل أن يجتاحنا الجفاف والشتات 

أنزل... فلعلّ لحظةً منك تُعيد العمر، تُرجع الروح، قبل الممات..."

وقفت أمام النافذة،
وسحبت "هديل" إليها،
وقالت والدمع لا يزال يتساقط من عينيها بصمت: -تعالي نشوف المطر سوا، 
ونسرّ دعواتنا للسماء... يمكن تُستجاب !

كان صوتها حزينًا، يتقطع بين شهقةٍ وزفرة،
أنفاسها مثقلة بعُمق الألم،
وكلّ حرفٍ منها يحمل بين طيّاته وجع امرأة خذلها الجميع...

- تدرين، يا عمري، شكد أشتاق يقرع المطر زجاج نافذتي؟
يرجعني لأول يوم دخلت به لهذا البيت،
كان بيه حلم... وأمل... بس كلشي تلاشى 

-أتمنى من قطرات المطر أن تحملني إلى جنات الموصل،
حتى أشمّ ريحة أشجارها، وأزقتها

الموصل إللي بيها كبرت، وضحكت، وركضت، وتعلّمت شلون أحب وأخاف وأحلم...

-المطر... يا صغيرتي، مو بس مي ينزل من السما،،لا هو غُسل للروح، هو رَجعة لبراءة أيامنا،
إحنا إللي كنا نركض ونقهقه تحت سمائه،
ما نعرف همّ، ولا خيانة، ولا دمعة غدر،
كانت ضحكتنا تكفينا عن ألف لعبة،
وكنا نتهجّى الأمل من قطرات المطر 

-المطر يوجّع قلبي، يرجعني لأحضان أمي،
لما كنت أركض عليها وأختبئ بصدرها،
أتمنى أرجع جنين ببطنها، ما أشوف أحد، 
وما يسمعني أحد...

صمتت قليلاً، ثم قالت بصوتٍ مخنوق:
- تعرفين شنو هو المطر؟
المطر إذا نزل بوقته، يعني ربنا راضي،
بس إذا نزل بغير أوانه، يعني سخطٌ نزل على الأرض 

لأن مفاتيح الغيب خمسة، ما يعلمها إلا الله...

لا أحد يعلم ما تغيض الأرحام إلا هو،

ولا يعلم ما في الغد إلا هو،

ولا أحد يدري متى ينزل المطر إلا هو،

ولا تدري نفسٌ بأي أرض تموت إلا هو،

ولا يعلم أحد متى تقوم الساعة إلا هو... "

ثم نظرت إلى صغيرتها، وربّتت على خدّها برفق وقالت: -تذكريني بالخير يا طفلة أيامي، يا أحلى ما عرفت من هالدنيا 

فضمت "هديل" بصدرها 
ومن ثم طبعت قبلاتٍ كثيرة على وجهها ،
تبكي وتضحك في الوقت نفسه،
وتردّد:-ليأذن الربّ لي باللقاء مع أبوي 
وأخوي الشهيد،
ماما هناك نلتقي سوا تحت زخات المطر، بالفردوس الأعلى،
ونضحك، ونلعب، ونرجع مثل قبل... مثل ما چنتِ طفلة صغيرة..."

لكن...

ذلك الحديث أوجع قلب "شهلاء"...
أيقظ فيها وجعًا أكبر من قدرتها على التحمّل...

حبّها لشامل انتهى،
فلم يكن يومًا سندًا لها،

وحلمها بتكوين أسرة سعيدة تحوّل إلى ركام، بسبب أحقاد "العمة عشتار" 

ووسوسة من الشيطان فاقت كلّ تصور...

نعم تراكمت المتاعب،
وتكاثفت غيوم اليأس،
حتى نسيت "شهلاء" رحمة ربها الواسعة...

وفي لحظة ضعفٍ قاتلة...
أنهت حياتها أمام عيني طفلتها...
تركتها تواجه الحياة وحدها،
تُكمل سطور الوجع،
وتحمل ميراث الألم وحدها...

نعم شهلاء أنهت حياتها أمام نواظر صغيرتها.
التي تعاني من (( الهبل )) 

وصمتت الدنيا...

هديل، الطفلة ذات الأعوام الستة، بقيت واقفة لا تتحرك،
لم تفهم ما حدث تمامًا،
لكنها شعرت بأن شيئًا كبيرًا قد انكسر...
شيئًا لم ولن يُصلحه أحد.

ومن بين كل هذاك الضجيج من شامل بعد فوات الاوان ...

اقتربت الطفلة من جسد والدتها الممدد بصمت...
جلست على ركبتيها الصغيرة،
وقبلت رأس أمّها كأنها تحاول أن تعيد إليها الحياة...

همست لها بصوتٍ مرتجف:-ماما... كومي نكمّل نحجي سوا... ما خلصنا سوالفنا عن المطر...

رفعت يدها الصغيرة، تمسح دموعها التي لم تعرف كيف تتوقف،
ثم قالت بخفوت، وهي ترتجف:- ماما... انتي وعدتيني نلعب تحت المطر... ليش هسة نايمة


تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1