رواية نداء قلب ميت الفصل الاول
في أحد الأحياء الشعبية القديمة بالقاهرة ، حيث الأزقة تتنفس أنفاس ساكنيها والبيوت تخفي خلف جدرانها قصصا بعضها قد ظهر للنور و كثيرا منها قد واري الثري .
كانت "هند" قد بدأت يومها مثل كل يوم ، انصرف زوجها "جمال" إلى عمله مبكرا ، وهي قد بدأت بحركة آلية في تنظيف البيت .
وها هي بين صوت خرير الماء ورائحة المسحوق وروتين يبعث على الوحدة .
عند الظهيرة ، وبينما كانت تزيل بقايا الغبار من حافة النافذة وتداعب أشعة الشمس عينيها ، دوى صوت جرس الباب .
جرس بدا و كأنه يقطع سكونا داخليا أكثر من كونه يُنبّه لخارج طارئ .
فتحت هند الباب ، لتري أمامها امرأة ثلاثينية أنيقة رغم بساطتها ، نظراتها فيها شيء من التردد ، وابتسامتها خافتة .
هند : أيوه يا حبيبتي ، عايزة مين؟
المرأة : مش دي شقة أم محمود ؟
هند : لأ، شقتها اللي فوقينا .
المرأة : آسفة أوي .
هند : أتفضلي .
المرأة : يزيد فضلك يا حبيبتي ، متشكرة اوي .
تنتظر هند حتي تصعد المرأة أمامها علي درج المنزل ثم تغلق الباب وتعاود قضاء اعمالها .
بعد قليل من الوقت ...
عادت طرقات الباب مرة اخري ، نفس الصوت ، ونفس المرأة ، لكن هذه المرة بابتسامة أكثر جرأة ، وعينين تلمعان بود كبير غامض !!
بدأ بينهما حديث ، حديث بسيط في ظاهره ، لكنه بدأ يغزل خيوطًا غير مرئية بين " هند " و"سمية" ......
هند " بابتسامة " : أيوه يا حبيبتي ، أؤمريني ؟
المرأة : الامر لله ، انتي لسه ساكنة جديد في الشقة دي ؟؟
هند : أيوه ، لسه ساكنين هنا من شهر واحد بس .
المرأة : نورتوا الحتة كلها .
هند : الحتة منورة بأهلها يا حبيبتي .
المرأة : انا كنت عارفة ان الشقة اللي تحت ام محمود فاضية علشان كده استغربت لما رنيت الجرس وفتحتي و قولتيلي ان شقتها اللي فوقك !!!
هند : ولا يهمك يا حبيبتي ، أنا وجوزي لسه ساكنين هنا من شهر ، بصراحة الشقة هنا أوسع وايجارها أقل من شقتنا القديمة .
المرأة : ده من حظنا أنكم سكنتوا جنبنا ، أنا جارتك ساكنة في أخر الشارع ، الحقيقة أنتي باين عليكي طيبة و بنت بلد وجدعة .
هند : ربنا يخليكي يا حبيبتي ، أنتي الأحسن .
المرأة : حقيقي أول ما شوفتك أرتحتلك علطول .
هند " بأبتسامة " : طب أتفضلي بدل واقفتنا ع الباب كده !!!
دخلت المرأة وجلست في الصالة ونظرت يمينا ويسارا ثم أبتسمت : شقتكم حلوة وهواها حلو ، ربنا يباركلك فيها .
هند : ده من ذوقك يا حبيبتي ، أنا أختك هند ، أنتي اسمك ايه ؟
المرأة : عاشت الاسامي يا هند ، وأنا أختك سمية .
هند : أهلا بيكي يا سمية ، ثم تضحك قائلة : تحبي أقولك يا سمية ولا يا سوسو ؟؟
سمية : أي حاجة من بوئك زي العسل .
هند : تسلمي يا حبيبتي ، تشربي ايه بقي شاي ولا حاجة ساقعة ؟؟
سمية " تبتسم " : بردو أي حاجة منك حلوة .
هند : أجيبلك حاجة سقعة ، الجو النهاردة حر اوي .
بعد دقائق تعود هند مبتسمة في ود ومعها المشروب المثلج ثم يقطع أبتسامتها صوت بكاء طفلها !!
تدخل سريعا ثم تعود تحمل طفلها .
سمية : ابنك ده يا هند ؟
هند : أيوه ، زياد ابني الوحيد عنده سنتين ، ربنا رزقني بيه بعد أربع سنين جواز وجري عند الدكاترة .
سمية : ربنا يخلهولك وتفرحي بيه .
هند : أنتي متجوزة ولا لسه ؟؟
سمية : ايوه متجوزة من ست سنين بس لسه ربنا مش أراد أخلف لحد دلوقتي .
هند " بأبتسامة ود " : ان شاء الله ربنا يرزقك بعيل يطلع عينك زي الواد ده ، ده مش بينيمني الليل .
سمية : يسمع منك ربنا يا هند ، هاتي الولد أشيله شوية .
تستجيب هند لنظرات الاشتياق التي رأتها في عينيها .
أعطتها ابنها وحملته سمية علي كتفها بحنان ودفء ، ثم أعادته لها قائلة : ربنا يحفظه يارب وتشوفيه عريس ملو هدومه .
هند : اللهم امين يارب ويرزقك بولد أجمل منه أو بنوته حلوة تطلع شبهك .
سمية : تسلمي يا حبيبتي ، باين عليكي طيبة اوي ، أنا أرتحتلك من أول ما شوفتك .
هند : وأنتي كمان يا سمية طيبة اوي ، وأنا كمان أرتحتلك اوي .
سمية : تسلميلي يا قلبي ، أنا هقوم أمشي بقي لأكون معطلاكي عن حاجة .
هند : لأ أبدا أنا خلصت شغل البيت وعملت الأكل وهفضل قاعدة مستنية جوزي لما يرجع .
سمية : يرجعلك بالسلامة بأذن الله ، أنتي مش بتشتغلي يا هند ؟؟
هند : دلوقتي لأ ، جربت قبل كده لكن مش بكمل في الشغل ، خصوصا لما حملت في زياد ، جوزي قالي بلاش شغل علشان أتفرغ للولد .
سمية : مادام مش محتاجة للشغل يبقي كده أحسن .
هند : الصراحة مخبيش عليكي ، مصاريفنا كتير وجوزي دخله بيكفي بالعا.فية وساعات مش بيكفينا .
سمية : جوزك شغال ايه ؟؟
هند : جمال جوزي سواق ميكروباص ، بس معندوش عربية ملكه ، بيشتغل علي عربية اي حد في الموقف .
سمية : أنا كمان جوزي سواق نقل ، بس مش بيشتغل علطول أيام يشتغل وايام يقعد علشان كبير في السن .
هند : جوزك عنده كام سنة ؟؟
سمية : زكي جوزي عنده ٥٨ سنة .
هند " بدهشة " : معقول !!! ده أنتي شكلك صغيرة !!!
سمية : أنا عندي ٣١ سنة .
هند : و أنا أكبر منك بسنة واحدة عندي ٣٢ سنة ، لكن قوليلي معلش يعني فرق السن بينك وبين جوزك ... !!!
سمية : أيوه عارفة ، فرق السن كبير .
هند : أيوه كبير فعلا ، لكن مش مهم فرق السن كبير ولا صغير ، أهم حاجة تكوني سعيدة .
سمية : مبسوطة يا حبيبتي ، وهو بصراحة رجل طيب و حنين عليا اوي ، أنا أتجوزته لأني مليش حد وشوفته طيب وحنين قولت لنفسي يبقي سند ليا في الدنيا دي .
هند : فعلا أهم حاجة يكون الراجل حنين علي مراته وسند لها ، " ثم تضحك " ده غير الحاجات التانية طبعا .
سمية " تضحك " : أيوه عارفة ، الشهادة لله هو مش مقصر معايا في حاجة ، لكن أنا بردو بساعده وبشتغل وأهي أيد علي أيد بتساعد .
هند : جدعة يا سمية ، تفكيرك عاقل أكبر من سنك ، قوليلي بقي بتشتغلي ايه ؟
سمية : شغلانة سهلة وبكسب منها كويس ومش بتاخد من وقتي كتير .
هند : طبيعة شغلك ايه ؟ يمكن أشتغل معاكي .
سمية : بساعد الستات في بيوتهم ، يعني أنضف لواحدة شقتها ، أطبخ لها ، أغسلها الشقة .
هند : لكن دي بهد.لة يا سمية وممكن تتعرضي لمواقف مثلا راجل من اللي بتروحي ببوتهم يحاول معاكي ... !!
سمية : لا لا ، أنا ليا شرط ان أي شقة أدخلها لازم تكون صاحبة الشقة موجودة وتفضل موجودة لغاية ما أنزل من عندها .
هند : وبتكسبي منها كويس ؟؟
سمية : أيوه الحمد لله بكسب كويس اوي .
هند : و الناس اللي بتروحلهم يعرفوكي منين ؟؟
سمية : رقم تليفوني معاهم لما يحتاجوني بيتصلوا عليا .
هند : ده أنتي شاطرة يا سوسو ، تصدقي أنا هفكر أشتغل أنا كمان ، يمكن أشتغل معاكي وأساعد جمال شوية في مصاريف البيت .
وهكذا أمتدت يد صداقة مغلفة بالحنان والدفء والود وقد وجدت الترحيب خاصة حينما وجدت هند في سمية عذوبة وكأنها تعرف الطريق جيدا لقلب طيب مشتاق لأي صوت حنون .
وفي لحظة يفتح باب الشقة ليفاجئوا بزوجها عائدا !!!
جمال : مساء الخير .
هند : مساء النور ، حمدلله ع السلامة .
جمال : الله يسلمك .
ثم ينظر لسمية في حيرة !! فيظهر عليها الأضطراب والخجل !!
ثم يقول : أنا أسف لو جيت قطعت كلامكم .
سمية : لا أبدا ، أستأذن انا يا أم زياد علشان أتأخرت ع البيت .
هند : أتفضلي يا حبيبتي وأبقي تعالي تاني .
سمية : حاضر هجيلك تاني بأذن الله .
تنصرف سمية وتغلق هند الباب فيسألها جمال : مين دي يا هند ؟؟
هند : دي واحدة جارتنا هنا أتعرفت عليها النهاردة .
جمال : مش قواتلك الف مرة بلاش مواضيع مصاحبة الجيران دي ؟!! مش بييجي من وراها غير المشاكل !!
هند : لأ يا جمال ، دي ست محترمة و جدعة وطيبة اوي .
جمال : أنا نصحتك وانتي حرة ، مش عايز أرفض علشان متقوليش جمال قافل عليا في البيت لوحدي ، لكن نصيحة لازم تخلي بالك خصوصا من الناس اللي لسه منعرفهمش كويس .
هند : لأ يا حبيبي ، متخافش عليا هي ست كويسة ولو أنا حسيت منها بأي حاجة مش مظبوطة هقطع معاها علطول .
جمال : ماشي يا هند اللي تشوفيه ، قوليلي فين زياد ؟؟
هند : نايم جوه علشان كان صاحي طول الليل .
جمال : أنا هدخل أصحيه وألعب معاه شوية علي ما تجهزي الأكل أتغدا وأنزل أعمل فردتين علي العربية أخر النهار .
في اليوم التالي
وقبل أن تعلن الساعة التاسعة عن تمامها ...
دقّ جرس الباب بخفة كأن من طرقه يحمل معه نسمة صباح ضاحكة وليست يدا بشرية ، فتحت هند الباب لتجد سمية واقفة تحمل كيسا بلاستيكيا صغيرا فيه بعض الطعام وابتسامة واسعة تُضيء وجهها .
قالت هند بترحيب ناعم : أهلا يا سوسو ، تعالي اتفضلي .
ضحكت سمية بمرح : قولت أجيب الفطار ونفطر سوا علشان يبقى بينا عيش وملح .
هند، وقد لمعت عيناها بود صادق : وتعبتي نفسك ليه؟! الفطار موجود .
سمية : دايما عامر يا حبيبتي... ربنا يزيد و يبارك .
جلستا على المائدة يلتهمان الفطور كما تلتهم الصداقة المسافات الأولى بين غريبين التقيا على غير ميعاد ، وضحكت هند وهي لا تدري سر الراحة التي شعرت بها تجاه تلك المرأة !!!
هل كانت بساطتها الصافية؟ أم ذلك الدفء الذي يشبه نسمة تتسلل بين شقوق الوحدة فتُفسد على القلب عزلته؟!
تبادلت الصديقتان النكات ثم همست سمية بشيء من التردد : البارح وأنا ماشية كنت خايفة يكون وجودي ضايق جوزك !!
هند هزت رأسها نفيا : لأ، جمال مش بيتدخل في شئون البيت و بيحب يسيبني على راحتي .
سمية : ربنا يخليكم لبعض... طب وفين زياد؟؟
هند : نايم جوا .
قالت سمية بابتسامة مفعمة بالحيوية : يلا بينا نوضب الشقة سوا قبل ما الواد يصحى .
هند " بخجل " : لأ... عيب اللي بتقوليه ده !!
ضحكت سمية : عيب إيه بس؟! اذا كنت بشتغل في بيوت الناس الغريبة ، وانتي والله حاساكي زي أختي بالظبط .
هند : وأنا كمان ، بس مش عايزاكي تتعبي نفسك .
سمية : تعبك راحة يا حبيبتي ، يلا يلا قبل ما الولد يصحى ويعطلنا .
وفي أقل من ساعة ، كان البيت قد ارتدى حُلته الجديدة من النظافة والنظام ، فنظرت إلى سمية بإعجاب :
أنتي شاطرة أوي يا سوسو .
سمية : وانتي كمان... بس قوليلي قلتي لجوزك على الشغل؟ ولا لسه بتفكري؟
هند، وقد تسرب الحماس إلى صوتها : لسه بفكر... بس بصراحة ، اتشجعت أجرب... يمكن يكون وش السعد علينا .
ضحكت سمية ومدّت يدها لتُريها السلسلة والأساور الذهبية : شايفة دول؟! جبتهم من الشغل ده .
هند، وقد تأملت المجوهرات بعين حالمة : حلوين أوي عليكي ، بصراحة كان نفسي أجيب بس للأسف أجيب منين !!!
سمية : لو عايزة تشتري زيهم يبقي تكلمي جوزك ، ولو وافق ، ومتشليش هم الشغل ، أنا هجيبلك الزباين .
في تلك اللحظة ، شعرت هند أن الحياة ربما تكون على وشك أن تفتح لها نافذة جديدة تطل منها على أمل كانت تظن أنه بعيد .
في المساء
عاد جمال من عمله مرهق الجسد ، لكن عينيه أضاءتا حين رأى ابنه بانتظاره . أسرع إليه ، وضمه اليه بشوق ، وكأن ذلك الكائن الصغير يعيد إليه توازنه بعد يوم عمل شاق طويل .
حمله على ذراعه ، وجلس إلى المائدة يطعمه بنفسه ، بينما تجلس هند تراقبهما بعينين تفيضان بالسعادة ، وتحت جفنيها ظل من تردد !!!
كانت كلمات سمية تدور في رأسها ، تهمس داخلها كوسوسة الحلي الذهبية تُغريها وتربكها .
قطعت أفكارها بابتسامة مترددة وهمست : بقولك يا جمال... كنت عايزة أخد رأيك في حاجة .
رفع رأسه إليها وهو يمسح فم الطفل من اثر الطعام : حاجةايه يا هند... في إيه ؟
هند : أنا... كنت بفكر أشتغل .
جمال " بدهشة " : تشتغلي !!! تشتغلي ليه؟ و فين ومع مين ؟؟
هند : أشتغل مع سمية... صاحبتي.
نظر إليها باستغراب : هي بقت صاحبتك في يومين؟!
هند ؛ أيوه... دي طيبة وجدعة أوي ، بجد أنا حستها زي أختي بالظبط .
جمال : وبتشتغل إيه "صاحبتك" دي؟
هند : بتساعد الستات في البيوت... تنظيف و غسيل وطبيخ .
رفع حاجبيه بدهشة : خدامة يعني؟!
هند : لأ يا جمال... مش خدامة . دي بتشتغل بالطلب... الست تتصل ، تروحلها و تخلص شغلها وتاخد أجرها وتمشي .
جمال : لأ يا هند... أنا مش موافق .
هند : ليه ؟!
جمال : دي بهدلة ليكي ، وأنا مش مقصر في البيت علشان تشتغلي كده .
هند : ما قلتش إنك مقصر با حبيبي... ربنا يرزقك ويقويك ، بس الشغل ده سهل وممكن نحوش منه حاجة للزمن .
جمال : الزمن بيد الله يا هند .
هند : ربنا مش بيضيع تعب حد يا جمال ، وافق علشان خاطري يا جمال .
تنهد جمال ونظر إلى السقف في ضجر... فهو يعرف طباع زوجته العنيدة ، فإن أصر على الرفض فالعاصفة قادمة لا محالة !!
قال أخيرا باستسلام : حاضر يا هند .... موافق بس بشروط !!!
هند : شروط أيه ؟؟
جمال : لو قصرتي في أي حاجة في بيتنا ، مش هتشتغلي يوم واحد بعدها .
هند وقد نطقت أبتسامة عيناها بالشكر : أكيد يا حبيبي ... إنت وابني أهم من أي حاجة تانية في الدنيا كلها .
جمال " بحسم " : وكمان مليم واحد من شغلك ما يدخلش في مصاريف البيت... شغلك لنفسك ، مفهوم؟
هند : ليه بتقول كده؟! أنا وأنت واحد يا حبيبي .
جمال : أحنا واحد اه ، بس مش في مصاريف البيت ، مصاريف البيت مسئوليتي انا لوحدي ، مفهوم ؟؟
هند : ماشي يا حبيبي... زي ما تحب .
وهكذا، بدأت هند تطل برأسها على عالم جديد ، يقف على بابها في صورة صديقة بسيطة ، وأمل لم تنطقه بعد ، لكنها تشعر به يرفرف داخلها كفراشة خرجت لتوها من شرنقة الصبر .
في منزل سمية
في تمام الحادية عشرة مساء انفتح باب الشقة ببطء وكأنه لا يريد إزعاج السكون الراكد في المكان .
دخل " زكي" بخطوات متثاقلة ، يحمل على كتفيه ما يقارب من ستة عقود من الزمن مثقلة بتعب السنين !! كل سنة منها تركت أثرها على جسده المنهك .
كان وجهه يبدو شاحبا ، يتصبب عرقا بينما أنفاسه تتردد بين التعب والحنين .
بينما كانت "سمية" تنتظره على مائدة العشاء ، ترتدي قميصا من قماشة ناعمة نعومة جسدها المفعم بالنضارة والشباب !!!
حقا كان ردائها بسيطا و لكنه مُغري ، وقد تعمدت أن تختاره لهذا المساء !!
نهضت من مكانها و اقتربت منه وسحبت حقيبته عن كتفه و ألصقت قبلتها علي احد خديه : حمدلله ع السلامة ، " تعبت النهارده في الشغل ؟"
أومأ برأسه دون كلام ، وجلس على الكرسي كمن يريد ان يسلم نفسه للراحة .
تناولا عشائهما بصمت ، تقطعه ابتسامتها بين الحين والآخر مع محاولاتها لفتح باب حديث لم يفتح بعد .
زكي كان حاضرا بجسده ، غائبا بعقله ، كأن هناك جدارا زجاجيا بينه وبينها .
حين دخلا غرفة النوم ، خففت سمية الإضاءة لتبدو اكثر رومانسية .
ساد نوع من الترقب الصامت ، قطعته برقة منها حين وضعت يدها على صدره و همست : "وحشتني قوي..."
ضمها برفق ، ماسحا على شعرها بحنان ، لكن جسده ظل ساكنا ، كأن بينه وبين الرغبة مسافة لا يستطيع اجتيازها !!
أدار وجهه كأنه يبحث عن مخرج من سجن غير مرئي ، حاول أن يخفي ارتباكه بابتسامة باهتة ، ثم قال : "يمكن التعب واخدني شوية النهاردة..."
صمتٌ ثقيل ساد الغرفة ، لم ترد بصوت مسموع لكن عينيها كانتا تتكلمان بصوت أعلى من أي كلمة !!
مزيج من الخيبة ، والخجل، والحزن الأنثوي العميق ، الذي لا تعبر عنه الكلمات .
مدت يدها ، أطفأت المصباح ، واستدارت واضعه ظهرها نحوه ربما استطاع النوم ان يخمد ثورة الرغبة بداخلها .
و في العتمة ، شعر زكي بثقل أكبر من جسده ، ثقل العجز حين يكون صامتا، حين تكون الخسارة خفية ، لا يعلنها الجسد إلا عند النوم .
وبينما امتدت أنفاسه إلى عمق الوسادة، لم يشعر بدمعتها التي تسللت بصمت ، ولا بحيرتها التي بدأت تكبر.
الليل ، هذه الليلة ، لم يكن طويلا ... بل كان صامتا فقط . صامتًا حد الألم !!!