رواية ابتليت بها الفصل الثالث عشر بقلم قطر الندي
بدأ النهار هادئًا فوق جدران القصر العتيق. شمس الصباح تسللت عبر النوافذ العريضة، تنعكس على الأواني الفضية وتلقي بلمعانها فوق مائدة الفطور في الشرفة. جلس فؤاد بوقاره المعتاد، الجريدة في يده، وفنجان القهوة يتصاعد منه بخار عطِر. بين الحين والآخر كان يرفع نظره نحو حنين، يتفقدها بصمت. جميلة كما تراها عيناه، بشعرها المنسدل وعينيها المرهقتين قليلًا، كانت تبادله نظرات قصيرة تحمل في طياتها بقايا حزن اقض مضجعها. في الوسط كانت لوجي تحرك ملعقتها على سطح الطاولة بمرح وتثرثر بعفوية فتخرج من الاثنين ضحكات خافتة.
أصوات الملاعق على الصحون، رائحة الخبز الطازج، وزهور الياسمين التي يتسلل عبيرها من الحديقة… كل شيء يوحي بيوم هادئ، مطمئن، كما لو أن العالم في الخارج لا يمكنه المساس بهذا الركن من الدفء.
لكن لو تتبعنا الظلال الممتدة على أرضية الشرفة، لوجدناها تزحف نحو باب داخلي في عمق القصر، باب ثقيل من المعدن البارد، خلفه عالم آخر مظلم وقاس... الضوء يخفت مع كل خطوة، حتى تبتلع العتمة المكان. الرائحة تتغير… رطوبة، وغبار قديم، وصدى قطرات ماء متساقطة من بعيد. وفي قلب القبو، تحت ضوء مصباح أصفر يتأرجح، كانت ديلارا تجلس على كرسي معدني، يداها مقيدتان بحبل غليظ، وعيناها تبحثان عن مخرج لا وجود له.
على بعد خطوات منها، يستند آدم إلى الجدار، ذراعاه متشابكتان، وعلى شفتيه ابتسامة مشبعة بالثقة، كمن يعرف أن اللعبة بدأت للتو. لم يتكلم…فقط يحرك علكة بين أسنانه محدثا اصواتا مستفزة و مفسدة لهدوء الصباح الناعم.
في الأعلى، كان العسل يُسكب على الخبز والشاي يُرتشف ببطء… وفي الأسفل، كان الخوف يتخمر في صمت.
والعالمان… يقتربان من لحظة الاصطدام.
انتهت وجبة الفطور على دفء أصوات الملاعق الأخيرة وكوب الشاي الذي أفرغ ببطء.
وضعت حنين المنديل على طرف الطبق وقالت بابتسامة مترددة:
– سأذهب الآن، لدي عمل ينتظرني في المكتب.
لم يرفع فؤاد نظره فورًا، بل أخذ رشفة أخيرة من قهوته وكأنه يمنحها فرصة لتغيّر رأيها. ثم وضع الفنجان على الطاولة برفق وقال بنبرة لا تقبل الجدال:
– عملك هنا في القصر اليوم.
تجمدت ابتسامتها، وحاولت تتدارك الموقف:
– لماذا؟ لكن… هناك ملفات تحتاج وجودي شخصيًا.
أطال النظر إليها، نظرة ثابتة لكنها هادئة،اقترب منها و شبح ابتسامة يتسرب من شفتيه، وقال:
– حتى أنا سأعمل من القصر. وأحتاجك معي.. أعني سنعمل معا في مكتبي.
لم تجبه، تهربت بعينيها من مدار عينيه التي تحاصرها بترقب، فركت كفيها بتوتر ثم قالت:
- ظننتك لن ترغب في عملي معك... اليوم على الأقل بسبب ما حدث يوم الأمس.
هز كتفيه بلا مبالاة و قال بهدوء يصعب فهمه:
- ما حدث بالأمس مر و انتهى. العبرة ان لا ننسى الدروس التي تمر علينا.
- كيف تقول انه انتهى... توجد جريمة قتل... ليلى... ليلى كانت تعمل هنا ثم جاءت تلك الفترة...
باغتها بحدة جعلتها تجفل من نبرته
- يوجد قانون يجيد تحقيق العدالة أما نحن فلا شأن لنا بما حدث... لدينا الكثير من الأعمال التي تجعلنا ننشغل طيلة أشهر متتالية.
- حسنا كما قلت لنلتفت للأعمال التي تنتظرنا... أين سنعمل.
- في قاعة الرياضة.
فغرت فاها وهي تراه يتحرك في إتجاه مكتبه الأرضي لتلملم شتات نفسها و تلحق به وهي تدمدم بحنق : الجنون... هذا مصيري إن استمريت بالعمل معه سنة أخرى...
في الخارج، كان المشهد مختلفًا عن هدوء الداخل.
ساحة القصر تحولت إلى خلية نحل منظمة؛ رجال الحماية يتحركون بدقة، يتبادلون إشارات قصيرة عبر اللاسلكي، وأبواب السيارات المصفوفة تفتح وتغلق بإيقاع منتظم. عند البوابة، كان السائق القديم يسلّم بطاقته لموظف الاستقبال الأمني، فيما يقف خلفه رجل آخر بزي أنيق، يقف بثقة المتمرّس الذي يعرف أنه قادم ليأخذ دورًا حساسًا. تبادل نظرات مختصرة مع قائد الفريق، إيماءة خفيفة، ثم اتجه نحو السيارة المخصصة لحنين.
كل شيء يوحي بأن ثمة تغييرًا غير معلن في خطط المراقبة والحماية، تغيير يُنفّذ بسلاسة تامة، كأنه جزء من روتين يومي. لكن خلف هذه السلاسة، كانت تُدار لعبة أكبر…
لعبة لا تعرف حنين أنها أصبحت قلبها النابض.
💎💎💎
في مكتبه الفخم في قلب روما، جلس ماركو على كرسيه الجلدي العريض، نافذة بانورامية خلفه تكشف مشهد المدينة الأبدية وهي تتلألأ تحت شمس الظهيرة. أمامه، وقف اثنان من رجاله، ملامحهما متوترة.
– "لقد اختفت يا سينيور… لا أثر لها منذ مساء أمس."
لم يرفع ماركو عينيه عن فنجان الإسبريسو الذي يحرك فيه الملعقة ببطء قاتل. سأل بنبرة باردة:
– "أين كانت آخر مرة شوهدت بها؟"
– "قرب عمارة**** التي استأجرت بها شقتها الجديدة… كانت حذرة جدا، لكنها بدت قلقة، كأنها تشعر أن أحدًا يلاحقها."
وضع الملعقة على الصحن بهدوء مبالغ فيه، ثم أسند ذقنه إلى يده.
– "همم… ديلارا ليست من النوع الذي يختفي بلا خطة. إلا إذا…"
صمت للحظة، لتعلو ابتسامة جانبية على وجهه، ابتسامة رجل يعرف من يلعب ضده.
– "فؤاد…" نطق الاسم وكأنه يذوق طعمه.
ثم تابع بصوت منخفض، أقرب إلى الهمس:
– "الكل يظنه رجل أعمال أنيق، لكنني أعرف أن خلف البذلة هناك رجل آخر جعلني أتفاجأ به… السؤال فقط: كم من الوقت سيحتفظ بها قبل أن أستعيدها أو أدفنها."
أشار بيده في حركة حاسمة:
– "ضاعفوا المراقبة على كل تحركاته. أريد أنفاسه تحت مجهرنا."
💎💎💎
كانت أشعة النهار تتسلل من النوافذ الكبيرة، تلقي خطوطًا ذهبية على مكتب فؤاد المليء بالملفات والمخططات. جلست حنين مقابله، تراجع معه تفاصيل العمل بدقة، وعيناها تنتقلان بين الأوراق وتعابير وجهه الجاد. كان الجو هادئًا، لا يُسمع فيه سوى صوت الأوراق وهي تُقلّب، ونقرات خفيفة من قلمه على الخشب عندما يفكر.
انفتح الباب بهدوء، ودخل آدم بخطوات ثابتة. تقدم حتى انحنى قليلًا نحو فؤاد، وهمس في أذنه:
– "ملكة الليل ترغب في التواصل معك سيدي… فورًا."
توقف القلم في يده، ثم رفع نظره لآدم بنظرة قصيرة تحمل كل الجدية، قبل أن يلتفت نحو حنين بابتسامة سريعة متحفظة: "سأستأذن منك لدقائق."
لكن عقل حنين لم يتوقف عند كلمة "استأذن"… ما علِق في ذهنها هو اسمٌ واحد: ملكة الليل.
ارتسمت في ملامحها لمحة حادة، بينما قلبها يشتعل بتساؤلات لا تهدأ: من هي؟ ولماذا يبدو الاسم وكأنه يحمل سرًا لا يُقال؟
راقبته وهو يغادر، ملامحها ثابتة لكن أفكارها تموج كالعاصفة…لم تستطع أن تركز عينيها على الأوراق أمامها بعد أن أغلق الباب خلفه.
اسم ملكة الليل ظل يتردد في رأسها كجرس إنذار مزعج.
ملكة؟ أي ملكة هذه؟… وليل؟ اسم لا يشبه اجتماعات العمل ولا الشركاء…شعرت بوخزة في قلبها، خليط بين الغيرة والريبة، وكأن جزءًا من عالم فؤاد ما زال بعيدًا عنها، محاطًا بسياج من الأسرار التي لا يجرؤ على فتحها أمامها.
أرادت أن تطرد الفكرة، أن تقنع نفسها أن الأمر مهني بحت، لكن العقل لا يخضع بسهولة للقلب المتمرد. كل تفاصيله اليوم، ابتساماته المقتضبة، طريقته في النظر، وحتى تلك النبرة التي قال بها "سأستأذن"، بدت لها كأنها تحمل شيئًا أكثر من مجرد عمل، كان يغمرها بلطفه حتى جاء الحارس.
…
في مكان آخر من القصر، خطا فؤاد بخطوات ثابتة نحو باب معدني ضخم في نهاية ممر ضيق. فتحه بواسطة بصمة إصبعه ونظام مسح العين، فصدر صوت ناعم لآلية القفل وهي تنسحب. دخل إلى غرفة بلا نوافذ، جدرانها مكسوة بطبقات خاصة لامتصاص الإشارات، وأرضيتها من الفولاذ الصلب. على الجدار الأمامي، ارتصّت شاشات متعددة تعرض خرائط، وصور ملتقطة بالأقمار الصناعية، وبيانات مشفرة تتحرك في صمت.
جلس أمام منصة زجاجية سوداء تتوسطها لوحة تحكم مضيئة، وضع يده على قارئ خاص، فتوهجت الشاشة الرئيسية وظهرت أيقونة اتصال مشفرة.
ثوانٍ قليلة، وظهرت صورة امرأة غامضة ترتدي قناعًا أسود نصف وجهها، وعيناها تلمعان بحدة.
ابتسمت ابتسامة باردة وهي تقول بصوت منخفض:
– "كنت أعلم أنك سترد… يا فؤاد."
على الشاشة، ظهر بريق غضب في عينيها ملكة خلف القناع، وكأن النار تشتعل في صمت. صوتها جاء حادًّا، متوتر الحروف:
– – "أخبرني أنك تمزح يا فؤاد… ديلارا ليست لعبتك لتحتجزها بهذه الطريقة. أنت تعرف جيدًا أن بقائها حرة كان ورقة مهمة في خطتي."
لم يرمش مراد للحظة، عينيه معلقتان بها كما لو كان يزن كلماتها على ميزان من حديد. ثم قال بصوت منخفض، لكنه محمّل بثقل الغضب:
– "ورقتك؟… ربما. لكن بالنسبة لي…."
تقدمت قليلاً نحو الكاميرا، حتى صار نصف وجهها المقنع أقرب، كأنها تريد أن تخترق هدوءه:
– "أنت تلعب بالنار… وأنت تعرف أنني لا أغفر لمن يفسد مساراتي."
ارتسمت على وجهه ابتسامة باهتة، من تلك التي تحمل معنى التحدي أكثر من الود:
– "وأنا… لا أسمح لأحد أن يمنعني من أخذ ثأري. أنا رجل أعمال و هذه القصة طالت و صارت عبئا على مصالحي... لدي حياة مؤجلة أرغب في مزاولتها."
أطلقت ضحكة صاخبة قطعتهاففجأة و قالت:
- سلمني الشابة فأنت لم تعد بحاجة لها.
ساد الصمت للحظة، فقط صوت أنظمة التشفير في الغرفة يملأ الفراغ. عيناها ضاقتا، وكأنها تدرس ملامحه لتقرأ النوايا، ثم قطعت الاتصال فجأة، تاركة الشاشة تغرق في سواد مطبق.
جلس مراد إلى الوراء، يزفر أنفاسه ببطء، وكأن العاصفة لم تبدأ بعد، لكنها قادمة و لا مفر.
عاد إلى مكتبه، جسده مشدود و قد أثقلته أفكار قاتمة، لكن وجهه حاول أن يحافظ على رباطة جأشه التي يعرفها الجميع. جلس ببطء، ملامحه تعبّر عن ثقل المسؤولية التي يحملها.
دخلت عليه حنين بهدوء، تحمل فنجان قهوته الخاصة، وعيناها تحملان قلقًا لم تستطع إخفاءه.
– "جهزت لك القهوة التي تحبها، خمنت أنك ستحتاجها."
أخذ منها الفنجان برقة وجلس إلى مكتبه، هذه الفتاة تظن أن فنجان القهوة المحبب إليه سيخفف ثقل المسؤولية التي يحملها، تجهل أن ما يعيشه من صراع يجعله يتمنى.........
قبل أن يأخذ رشفة، انفتح الباب بسرعة، ودخل رفعت مسرعًا، وجهه يشوبه القلق، وعينيه تبحثان عنه بلهفة، شتم في سره وهو يراه يتدحرج نحوه بجسده المترهل، كيف لا يركض إليه و قد أغلق عليه كل منافذ النجاة.
اقترب رفعت إلى الداخل بخطوات سريعة وهو يلهث:
– "فؤاد، أنا في مصيبة. هناك شبح إفلاس يقترب من شركتي… الوضع خرج عن السيطرة وأحتاج مساعدتك، أنت الوحيد الذي يمكنه إنقاذي الآن."
نظر فؤاد إليه بحذر، عيناه تتفحصان الرجل الذي لطالما كان محل شك منه، لكنه أدرك أن الوقت لا يسمح بالمراوغة.
قال بصوت هادئ لكنه حاسم:
– "مابك ؟ ما الذي ألم بك؟!."
تراجع رفعت قليلًا، ثم بدأ يسرد عليه خسارته في إحدى الصفقات الكبرى، كان فؤاد يحرك رأسه بأسف و وميض سخرية يلمع في عيناه وهو يستمع إلي خططه التي رسمها بحنكة و ذكاء حتى يطيح بخصومه واحدا تلو الآخر.
حنين، من مقعدها، تتابع المشهد بقلق متزايد، فالأرقام التي تتلى أمامها عن قيمة الصفقة تشير إلى أن من غامر بها إنسان غبي ساقه الطمع إلى حتفه.
رفع مراد حاجبيه بتأنٍ، ثم تنهد ببرود وقال:
– "رفعت، أنت تعرف أن الوضع في السوق معقد، ومجموعة طوروس ليست كما كانت سابقًا، خاصة بعد وفاة..... لا يمكنني التدخل الآن، هناك ملفات ومفاوضات جارية… المسألة ليست بسيطة كما تتصور."
ارتسمت على وجه حنين تعبير استغراب واضح و همهت في سرها:– "لكن مجموعة طوروس ما زالت في ذروة عطاءها، رغم كل شيء. لا أظن أن الأمور بهذه السوء."
أغمض رفعت عينيه للحظة، يدرك أن محاولته لن تكون سهلة، وأنه أمام جدار من الحذر والمراوغة.
– "فؤاد… من أجل ذكرى زوجتك… من أجل ما كان بيننا… لا يمكنني أن أواجه هذا وحدي."
لكن مراد ظل صامتًا، عينيه لا تخفي برودًا قاسيًا، وكأن قلبه قد تحجر. رد بهدوء بارد: "أتمنى لو أستطيع مد يد المساعدة لك لكن صرت تعلم بالوضع."
وقف رفعت للحظة، يواجه هذا الجدار الجليدي، ثم تراجع بهدوء، دون أن يصدر كلمة.
انسحب الرجل بهدوء، وخلفه بقيت أصداء الكلمات الباردة تملأ الغرفة، تاركة وراءها جوًا ثقيلاً من الصمت والخذلان.
سألت حنين فؤاد بصوت خافت لكن محمّل بالدهشة:
— لماذا رفضت مساعدة السيد رفعت وأدرت له ظهرك رغم أنه قريبك؟
نظر إليها بنظرة باردة، عميقة كبحر لا تنكشف أسراره بسهولة، ثم أجاب بصوت منخفض:
— في عالم المال لا مجال للعواطف، حين يتعلق الأمر بالربح و الخسارة، لا يمكنني أن أسمح لأي روابط أن تضعفني.
كانت كلماته تنزل كالصقيع على قلبها، وداخلها أدركت أن فؤاد لم يعد ذلك الرجل الذي كانت تعرفه. جلست في صمت وعالمها الداخلي تلاطمه أمواج من الأسئلة والقلق.
كيف يمكن لرجل أحببته أن يتحول إلى هذه الجبال الجليدية؟
هل هو حقًا مكسور أم أنه اختار أن يتحول إلى قسوة تحميه من الألم؟ شعرت بثقل الذنب يضغط على صدرها، لأنها لم تكن تعرف عمق المعاناة التي يحملها، ولم تستطع أن تقترب منه كما كانت ترغب.
هل سأكون قوية بما يكفي لأقف إلى جانبه رغم كل شيء؟
كانت الإجابة مجهولة، لكنها كانت تعرف أن الرحلة لم تنته بعد، وأن القصة التي جمعتها به ستتطلب منها قوة أكبر مما تتصور.
💎💎💎
في الزاوية المعتمة من القبو، كانت ديلارا تجلس على الكرسي، عيناها متقدتان بالغضب والإصرار.
– "أخبرني، متى سألتقي السيد فؤاد؟"
نظرت إليه بحدة، كأنها تتحداه بأن يرفض.
وقف آدم بجانب الباب، صارمًا كالصلب، صوته بارد لا يحمل أي تردد:
– "اللقاء ليس من صلاحياتي، ودعيني أكون صريحًا معك ليس هناك أي فرصة الآن."
أخذ نفسًا عميقًا، وأضاف بلا رحمة: "وإن حصل، لن يكون كما تتمنين. لا أحد يدخل إلى هنا و يخرج فرحا."
ارتفعت شفاه ديلارا في ابتسامة متهكمة، لكنها لم تستطع إنكار الخوف الذي تسلل إلى أعماقها.
– "قل لي متى، أو سأجعل هذا الانتظار كابوسًا لك."
رمقها آدم بنظرة ثلجية، ثم التفت وأغلق الباب خلفه دون إضافة كلمة واحدة، تاركًا إياها تغرق في صمت الوحدة، مع صوت دقات قلبها التي تملأ المكان.
اقترب المساء من المنتصف، غمر هدوء القصر أرجاء الغرفة، جلست حنين تتأمل وجهها في المرآة، وعيناها تختلط فيهما لمعة القلق والحنين. فجأة اكتشفت أن قرطها الثمين، تلك الذكرى النادرة من والدها، قد وقع منها في مكان ما داخل القصر. قررت فوراً أن تعود إلى المكتب بحثًا عنه، كأنه يحمل معها قطعة من الماضي.
تسللت بخفة من غرفتها في إتجاه المكتب، وصدرها يخفق برهبة من سكون المكان. عند وصولها إلى منتصف الدرج ، رأت فؤاد يدلف إلى هناك، فأسرعت بخطوات متسارعة تلحق به. فتحت الباب، لتصطدم بمفاجأة؛ المكان خالٍ، لا يوجد أحد في الداخل.
في الممر السري خلف الجدار، تراقب كاميرا مخفية ما يحدث في الداخل، لقد شاهدها كيف دخلت إلى هناك، وقف هادئًا ينتظر ردة فعلها، كأنه يراقب حركاتها الوجلة.
عينا حنين جالتا في أرجاء المكتب، تبحث عن أي أثر له. إحساس غامض بدأ يتسلل إلى قلبها، ممر سري، هذا ما لمع في ذهنها ما يدل أنه يوجد جانب سري و أكثر غموضا مما تظن… حدس قوي سيطر على حواسها يخبرها أن شيئًا غير عادي يجري خلف هذه الجدران السميكة. مررت أصابعها بخفة على سطح المكتب، ثم توقفت عند زاوية معينة من الحائط، كأن هناك سرًّا يتوارى عنها.
كان مراد يتابعها عبر الشاشة، يتأمل تعابير وجهها وهي تحاول ربط الخيوط. عيناه ثابتتان، فيها حذر وشيء من الفضول، بينما يضغط بإبهامه على زر الإضاءة الخافتة داخل الممر، كأنه يختبر كم ستقترب من الحقيقة.
غلبها فضولها، خطت خطوة نحو تلك الزاوية، لكن صوتًا خافتًا في الممر أعادها إلى رشدها. التفتت سريعًا نحو الباب، وتنفست بعمق قبل أن تغادر، متأرجحة بين قلقها على قرطها وبين إحساس داخلي أن فؤاد يخفي عنها أكثر مما يُظهر.
أما مراد، فقد ظل واقفًا في الظل، يراقب انسحابها بهدوء مبتعدة عن رفوف الكتب، قبل أن يهمس لنفسه بابتسامة غامضة: "قريبًا… لكن ليس الليلة."
حين همّت بالمغادرة، لمحَت انعكاسًا غريبًا في زجاج المكتبة الجانبية، كأنه ومضة ضوء خافت تحركت للحظة ثم اختفت. توقفت لثانية، عيناها تحدقان في الزجاج، لكن لم يكن هناك شيء واضح… فقط انعكاسها ونبض قلبها السريع.
خرجت وأغلقت الباب خلفها، ظل في ذهنها ذلك المشهد القصير، همست لنفسها بخفوت:
"غريب… أنا متأكدة أنني رأيت شيئًا."
في الممر السري، وقف مراد مستندًا إلى الجدار، يبتسم ابتسامة صغيرة وهو يطوي هاتفه بعد أن أطفأ الإضاءة في اللحظة المناسبة. يدرك جيدًا أن بذرة الشك قد زُرعت، وأنه لا داعي للاستعجال في حصدها… فالانتظار يزيد طعم المفاجأة حلاوة لكن لم يعد بعيدا انكشاف ما كان سرا.
💎💎💎
القبو ساكنًا كأنه خارج الزمن، لكن داخل ديلارا كل جوارحها تضج بقلق. تقف السلاسل عند معصميها كأنياب لا ترخي قبضتها، فيما عيناها لا تفارق الباب المعدني. كلما سمعت وقع خطوات في الممر، توهج أملها في أن يكون القادم فؤاد… ثم يخبو و ينطفيء.
الهواء في الممر المؤدي إلى القبو كان ثقيلاً، يختلط فيه عبق الرطوبة ببرودة الخرسانة، والإضاءة الخافتة المنبعثة من مصابيح صغيرة متدلية تزيد المكان رهبة. خطوات مراد كانت بطيئة، لكن كل وقعة حذاء تُدوّي في الجدران كنبضات طبل الحرب.
باب فولاذي ضخم انفتح بصوت معدني غليظ، ليكشف عن الغرفة المعزولة. هناك، جلست يارا على كرسي معدني، يداها موثوقتان، وعيناها تتبعان خطواته بثبات متصنّع، وإن كان قلبها يلهث تحت ملامحها الصلبة.
دلف بخطوات واثقة، يحمل هدوءًا مستفزًا لرجل يعرف أنه صاحب الكلمة الأخيرة. أغلق الباب خلفه بإحكام، ثم وقف على مسافة قصيرة منها، يراقبها كما يراقب صياد فريسته قبل الانقضاض. اقترب منها، جسده يفيض قوة وهيبة، وعيناه تلمعان ببرود قاتل. لم يتعجل بالكلام، بل ترك الصمت يثقل الجو حتى شعرت بثوانيه كسكاكين تخدش أعصابها.
وقفت ديلارا، معصماها مربوطان، عيناها تتلمسان ظلال الخوف والارتباك، لكنها تحاول أن تظهر صلابة رغم الواقع المرير الذي يحيط بها.
وقف مراد أمامها دون أن يحرك ساكنًا، ثم قال ببرود جليدي:
"هذا المكان يليق بك، لا مهرب، هنا نهاية الرحلة لكل خائن."
رفعت رأسها، صوتها يرتجف لكن عينيها تحملان أملًا مريبًا:"أرجوك لماذا جئت بي إلى هنا...."
ابتسم فؤاد ابتسامة قاسية، تحوي كل السخرية والعنف:
"أتسألين بعد كل الذي فعلته؟! الخيانة.... الخيانة يا ديلارا لها ثمن واحد في جميع الأعراف و النواميس."
ديلارا: لا.... لست كما تظن.... لقد تعرضت للتهديد....خفت أن يتخلصوا مني كما فعلوا مع المحامي نذير... ثم جاءت وفاة مراد فجعلتني أخاف منهم أكثر... "
فؤاد: اممم... جيد ما تبررين به موقفك، أثرت اعجابي حقا بذكاءك الذي عرفت به... أخبريني ديلارا لو كان الذي يقف أمامك الآن أخي مراد كيف تتعاملين معه."
ديلارا، ببؤس: مراد..... كان حب حياتي، لا أستطيع أن اؤذيه.
اطبق على فكها يهزها بعنف حتى شعرت بعينيها تكاد تخرجان من محجريهما: لكنك فعلت أيتها الخائنة....خمس سنوات من العمل معه، حوافز و امتيازات و سفر في كل أرجاء العالم لم يشفعوا له فركضت و وضعت يدك في يد أحقر أعدائنا.....
أطلق سبيلها فترنحت للخلف و سقطت على الأرض تسحب أنفاسها بعنف و رعب من هيأته التي جعلته أقرب للشيطان منه للبشر. نظر إليها باشمئزاز و أضاف: ثم جلبت تلك الخادمة و أقحمتها في لعبة غبية ثم تخلصت منها و حاولت الصاق التهمة بمساعدتي...لماذا ما ذنبها؟!!
ديلارا: لأنها طماعة و أرادت ابتزازي، كانت خائنة لي.
فؤاد: لا أسألك عن ليلى فقد حذرتها فيما سبق لكنها لم تصغي لي فحصدت ما قدمت يداها.
ديلارا: ااه تعني مساعدتك حنين....تلك الفتاة أخذت مكاني الذي عملت على الوصول إليه ليلا نهارا لكن لأنها تلميذتك منحتها منصب لا يليق بها لهذا قررت الإنتقام منها.
فؤاد: أنا لم امنحها أي صفة لا تستحقها، إنها أذكى منك و تفوقك مهارة بمراحل إلى جانب امتيازها في دراستها...
ديلارا: أعتقد أنه لديها مهارات كثيرة لا نعرفها.
أدرك ما تلمح إليه فقال بمكر: ربما ستنجح فيما فشلت فيه لكن مع الأسف لن تشاهدي ذلك اليوم لأن ورقتك احترقت ف ماركو أصدر فرمان التخلص منك.
جحضت عيناها برعب جعلته يتسلى برؤيتها مثل الفأر المذعور و قال بلؤم: أما أنا فلا حاجة لي بك أو بجثتك، ربما غيري قد يرغب في الاحتفاظ بها... آدم!!!!
ركض آدم إلى الداخل بهدوء، وخفض رأسه احترامًا،
قال فؤاد بنبرة حازمة لا تقبل الاعتراض:
"خذها و سلمها لملكة الليل قد تجد فائدة في القبض عليها."
أدار ظهره بهدوء، تاركًا إياها في ظلمة القبو، حيث تتلاقى الوحدة مع الخوف، ويغرق الأمل في بحر من اليأس.
بعد أن غادر مراد القبو، بقيت ديلارا تنظر إلى أثره في صمت موحش، صوت دقّات قلبها يتعالى في الفراغ.
شعرت بثقل الوحدة يضغط على صدرها، كأن العالم بأسره تحوّل إلى زنزانة لا مفر منها. رغم محاولة استدعاء شجاعة ما، كانت أعينها تذرف دموعًا مخفية، دموعُ حرمان من حياة كان من الممكن أن تكون غير هذه.
مرّت أمامها صور الماضي، لحظات كانت فيها قوية، مستقلة، لم تكن يوماً ورقةً محروقة. تساءلت كيف يمكنها أن تحوّلها الأقدار إلى شيء بلا قيمة، مجرد أداة تُستخدم ثم تُلقى جانبًا.
💎💎💎
طلع صباح اليوم مشرقًا، إستيقظت حنين على وعد إجازة كانت تنتظرها بفارغ الصبر. قررت أن تقضي هذا اليوم بعيدًا عن زخم القصر، بعيدا عن الأفكار السوداء التي تتقاذفها، مع عمها في الحي الشعبي الذي يحمل ذكريات طفولتها الجميلة.
خرجت من باب القصر بخطوات رشيقة بعد أن استبدلت زي العمل الفخم بزي مريح مع حذاء رياضي، تملؤها حماسة الخروج ونبضات القلق الخفية. لكنها لم تلبث أن اصطدمت بآدم الذي وقف أمامها بهدوء لا يخلو من حزم.
قال لها بصوت منخفض لكنه صارم:
"السائق ينتظرك انسة حنين حتى يقلك إلى الحي."
تململت محاولة أن تظهر بعض المقاومة، لكن آدم لم يتراجع، وأضاف:"هذه أوامر السيد فؤاد، ولا مجال للتفاوض."
تنهدت بإحباط ورضخت بهدوء، لكنها حين وصلت إلى السيارة، فوجئت بوجود سائق مختلف عن الذي كان معها بالأمس؛ رجل في منتصف الأربعينات، وجهه يشي بخبرة طويلة ومهنية عالية، عيونه تنظر إليها بحذر لكنها محترمة.
عادت إلى القصر على عجل، وقلبها ينبض بقوة لم تعهدها، وعقلها يعج بالأسئلة التي لا تجد لها جوابًا.
دخلت المكتب حيث كان فؤاد جالسًا ينهي بعض الأعمال، ينظر إليها بعينين تحملان ثقة وحرصًا غير معلن.
سألته بنبرة فضولية:
"لماذا غيرت السائق؟ أين ذهب السيد مسعود، هل قمت بطرده."
ابتسم فؤاد، محاولًا تخفيف التوتر و عدم الدخول معها في جدال قد يجعلها تحجم عن اصطحاب أي من أفراد الأمن معها:"هذا إجراء روتيني، فقط. أريدك أن تكوني بأمان، وأنتِ تعرفين أنني لا أحب المفاجآت."
نظرت إليه، لكنها لم تشعر بالطمأنينة. قلبها كان يدق بألف دقة، وأفكارها تتسابق بحثًا عن معنى خفي وراء هذا التغيير البسيط: "سأكون في غاية الأمان هناك في الحي فأنا ابنته و جئت من هناك، كما أن وجود سائق معي سيجعلني محل ثرثرة، أظن انه لا داعي له."
احتدمت نظراته فهاهي تعمد إلى العند بنبرة لطيفة لكنه لن يسمح لها بافساد خططه و جعل يومه يمر في قلق : رافقي السائق حنين حتى إذا احتجت إليك في العمل اتصل به فيجلبك على جناح السرعة كما تعلمين العمل في وضع حساس هذه الأيام ولا يحتمل التأجيل."
استدارت و غادرة القصر مع السائق تلحق بها سيارة متخفية كانت تركن بعيدا عن واجهة القصر.
وصلت حنين إلى الحي الشعبي، تنشق عبق الذكريات والمأكولات التي تملأ الأجواء بدفء خاص. كانت الأزقة تهمس بأصوات الحياة اليومية، ألوان الحيطان المتهالكة تتقابل مع ضحكات الأطفال العابرة، وأناس الحي يرحبون بها بابتسامات صادقة و عيون لا تخلو من الفضول جعلتها تشعر بالاحراج.
عند باب المنزل، استقبلها عمها بالاحضان وابتسامة لا تفارق ملامحه، عيونه تلمعان من الفرح لرؤيتها رغم شحوب وجهه: "أخيراً جاءت حبيبة عمها.. تزدادين جمالا أيتها الفتاة." قال وهو يحتضنها بحنان.
قبلت حنين يده باحترام وهي تمازحه: " مالي انا و الجمال يا عمي.. أنت تضخم النسب البسيطة و هذا يضر سمعتك في السوق."
انفجر ضاحكا وهو يقرص خدها بود:" اليوم لا أرقام ولا حسابات، لدينا مهام كثيرة تنتظرنا مثل رقعة الشطرنج. "
حنين:" اممم جعلتني متحمسة لكن لن اتردد في هزيمتك أن صح لي."
دلفا إلى الداخل، حيت زوجة عمها التي استقبلتها ببرود رغم أنها حاولت أن تلتزم بتعليمات زوجها الصارمة فقد دفق يلقي عليها التنبيهات ترافقها قائمة من الأطعمة التي يرغب في إكرام ابنة أخيه بها.
قضت حنين نصف اليوم بين أحضان العائلة المتبقية لها، تجنبت الحديث مع كنتهم المتعالية قدر المستطاع، سيطرت حكايات عمها على اهتمامها الذي أخذ يروي لها أخبار الحي وأحداثه، بينما كانت تتذوق طعم الأكلات التي تشعرها بالحنين والسكينة بعيدًا عن كل ما يشغل بالها في القصر.
انتهت زيارتها الأولى، خرجت من منزل عمها وهي تحاول أن تتخلص من ثقل الأفكار التي لا تنفك تلاحقها رغم قضاء ساعات بعيدة عن مصدرها أم أن طيف صاحبها هو مصدر تفكيرها الأساسي.
ما إن وصلت إلى الشارع، حتى لمحت السائق الجديد يقف بهدوء بجانب السيارة الجديدة. عيناه محترفتان، تنظران إليها بترقب صارم و تناظر الأرجاء بحذر.
اقتربت منه، وهمست بنبرة بها مزيج من الغضب والفضول:
"لماذا أنت هنا؟ ألم تعد إلى القصر كما طلبت منك؟"
أجاب بهدوء لكنه بحزم:
"أنا هنا لأن هذا هو عملي بناء على أوامر السيد فؤاد."
حاولت أن تحبس غضبها، لكنها لم تستطع إخفاء تململها:
"سأذهب لزيارة خالتي ثم المرور على شقتي، اتصل به و أخبره بمسار رحلتنا، سأمدك بالعنوان!"
فتح لها الباب الخلفي قبل أن تصل إليه و قال:
"أنا فقط أنفذ التعليمات. إذا كان هناك شيء آخر تودين قوله."
تنهدت بضيق وأجبرت نفسها على الدخول إلى السيارة، وقلبها ينبض بعنف، وعقلها يغوص في دوامة من الأسئلة: ما السر وراء هذا الحذر الشديد؟ وماذا يخفي فؤاد حقًا؟
دخلت حنين إلى بيت خالتها البسيط الذي يعج بدفء الألفة والذكريات. رائحة القهوة الطازجة تملأ المكان، وألوان الجدران البسيطة تذكرها بأيام الطفولة.
جلست مع خالتها فريدة التي رحبت بها بابتسامة حنونة، وبدأتا تتبادلان الأحاديث عن الحياة، بعيدًا عن ضجيج القصر وأحداثه المربكة.
بعد وداع المرأة التي ربتها، توجهت إلى شقة والدها، حيث تشعر بأن الزمن يتباطأ. جلست على الأريكة القديمة، تتأمل ألبوم الصور العائلية التي تحكي قصة الماضي، شعرت بدفء الذكريات يملأ قلبها. هذه اللحظات خاصة، منحتها فرصة لاستعادة ذاتها بين جدران تعجّ بالحب والحنين.
في الأسفل، كان السائق، أو الحارس المتخفي، يمد السيد فؤاد بجميع خطواتها منذ خروجها من منزل عمها إلى حين الصعود إلى شقتها. أنهى الإتصال و اعتدل حين رآها تنزل بخطوات متزنة من شقة والدها، ووقفت أمامه، نظرت إليه بحدة، وقالت:"خذني إلى محل التجميل في شارع****."
ابتسم السائق باحترافية، وأجاب بهدوء:"حسنًا، سيدتي."
جلست في السيارة، وعينيها تحملان مزيجًا من الترقب والرغبة في الهروب من ثقل الأفكار.
💎💎💎
دخلت حنين محل تجميل عصري أخبرتها عنه إحدى الزميلات في العمل، حيث استقبلها عبير الزيوت العطرية وألوان الديكور الهادئة التي تبعث على الاسترخاء.
الأضواء الخافتة والموسيقى الهادئة تغلف المكان بجو من السكينة، بينما تلمع المرايا المحاطة بإطارات ذهبية تعكس وجهها المتعب.
جلست على الكرسي المريح، وأخذت تتأمل نفسها للحظة، وكأنها تحاول استعادة صورة لم تعرفها منذ فترة.
بينما كانت الأيدي الماهرة تعمل على تنسيق شعرها والعناية ببشرتها، ظل السائق واقفًا بهدوء في الخارج، عيونه ترصد تحركاتها، وجسده مشدود كأنه حارس صامت.
كان وجوده يذكّرها بأن كل خطوة تخطوها مراقبة، وأن الحرية التي تسعى إليها قد تكون أبعد مما تتصور.
تجلس على كرسي الصالون، تحيط بها أجواء الهدوء والعطر، لكنها لم تستطع اراحة ذهنها من العاصفة التي تزمجر بداخله.
فؤاد... الرجل الذي تعهدت أن تثق به، أصبح لغزًا معقدًا يتعذر فك رموزه.... كأنها لا تعرفه.... كأنه شخص آخر.
بعد ما حدث في المكتب، وبعد ذلك الاختفاء المفاجئ، وجدت نفسها غارقة في بحر من الأسئلة التي لا تنتهي تحيط بها دوامة من الأسرار.
هل هو فقط يحميها؟ أم أن هناك شيئًا ما أعظم من ذلك؟ شيئًا مخفيًا خلف ملامحه الهادئة وصمته العميق؟
كانت تتخيل ملامحه وقد تبدلت، عيناه التي تظلم فجأة و تتحول إلى لغز يصعب فك شيفرته، تخشى أن تعرف الحقيقة التي قد تزعزع كل ما بنته من ثقة وأمان.... تحسست قلبها المتمرد بلطف، تخاف عليه أن ينكسر ذات يوم.
لكنها تعلم أن الفضول هو نار لا تطفئها إلا الحقيقة، مهما كانت مُرّة، الأوهام لا تؤسس حياة. لن تكون ضعيفة و لن تخشى المواجهة ستسعى إليها و ان كانت ستدفع الثمن.
كانت تتنفس ببطء، تحاول أن تهدئ قلبها المتسارع، إلا أن كل نبضة تحمل معها مزيجًا من الخوف، الترقب، والرهبة.
بعد ساعتين، خرجت من مركز التجميل بخطوات متسارعة، مبتعدة عن المدخل الرئيسي حيث ينتظر السائق، متسللة عبر الباب الخلفي الضيق، الذي كان يختزل في ظلاله أسرارًا لا تريد لأحد أن يكتشفها.
برد المساء لامس وجهها كلمسة خفية، لكنه لم يكن ليخفف من ثقل التوتر الذي يجثم في صدرها، نبضات قلبها ارتفعت مع كل خطوة في ذلك الشارع المهجور. وقفت على رصيف مظلم يكتنفه صمت متقطع، ورفعت يدها لتوقف سيارة أجرة عتيقة تعبر بهدوء، دون أن تلتفت الأنظار نحوها.
جلست في المقعد الخلفي، محاولة أن تحبس أنفاسها خلف هدوء مصطنع، وعيونها تتأمل الطريق، تتتبع أضواء الشوارع المتراقصة على زجاج النافذة كراقصة تنسج خيوط الحكايات، آخر زيارة لهذا اليوم و لا تريد لأحد أن يعلم بها.
في القصر، كان آدم يعرض شاشة ايباد أمام فؤاد الذي يتابع مسار السيارة بمرح و الفضول يتملكه لمعرفة أين وجهتها القادمة يكتنفه بعض الحذر من مغبة خطوتها الجريئة، توقفت سيارة الأجرة فقال فؤاد متسائل: هذا سوبر ماركت معروف، ماذا تفعل هناك في هذا الوقت.
عادت السيارة للتحرك كما يبينها جهاز التعقب الذي زرع في هاتفها دون أن تعلم به، توقفت مرة أخرى أمام ميتم للأطفال.
شعر فؤاد بغصة تطبق على روحه، داهمته ذكريات الملجأ و سعادة الأطفال حين يتلقون بعض الإهتمام. ما أقسى حياة اليتم و الحاجة. دفع صوته عبر حنجرته بقوة و قال: " أجري بحث عن هذا المكان و قم اللازم."
آدم : حاضر سيدي... ماذا بشأن الآنسة حنين. "
فؤاد: أظن أنها الآن ستعود إلى القصر، واصل المتابعة ولا تجعلها تغيب عن عينيك.
بدأت رحلة العودة إلى القصر، ذلك الصرح الكبير الذي يقبع على أطراف المدينة كأنه مارد يحمل في داخله خزائن من الأسرار. كانت السيارة العتيقة تسير بهدوء عبر الشوارع المكتظة. ما إن انحرفت إلى الجادة التي تقود إلى القصر، تملكت حنين رعشة خفية حين رأت في مرآة السيارة الخلفية ظلاً أسود يتسلل وراءها، سيارة سوداء تلاحقهم بخطى ثابتة وصمت مخيف، تلتقط كل انعطاف وتحاكي كل حركة كطيف لا يرحم. ارتجفت يدها، وضغطت على حافة المقعد بشدة، تحاول كبح موجة الخوف المتصاعدة، لكنها لم تستطع أن تخفي الرهبة التي بدأت تجتاحها.
في الطريق عادت الأفكار تتقاذفها: هل هذه مجرد مراقبة عادية أم تهديد مستتر؟ هل فؤاد يعلم؟ وهل سيتصرف؟
أمرت السائق أن يسرع، وبدت السيارة السوداء تزداد قُربًا، حتى اقتربت من بوابة القصر، حيث شعرت بالأمان على بعد خطوات قليلة.
نزلت مسرعة، تخطت أعتاب القصر الرخامية دون توقف إلى أن بلغت الصالة حيث كان فؤاد ينتظرها، يقف كتمثال من الصلابة والهدوء، عينيه تشعّان بقوة لا تخطئها العين.
اقتربت منه حتى كادت تصطدم به، صوتها مرتجف و يداها لا تتوقفان على الحركة:
"هناك سيارة تلاحقني…لقد رأيتها بوضوح هناك أمام القصر."
أجابها بنظرة هادئة، كأنه يقرأ كل خفايا نفسها:
"هل هربت قبل أن تنقدي السائق."
حنين: اااه.... لقد كنت مذعورة..... لكن لماذا لا تتصل بالحراس حتى يأخذو حذرهم من تلك السيارة المجهولة. "
رد ببرود ساخر: لماذا انت خائفة، ألم تتهربي من السائق عندما خرجت من صالون التجميل."
حنين: أنا لا أحب تعد علي خطواتي، انزعج من ذلك، حتاج إلى أن أتنفس، أحتاج أن أشعر أن لي صوتًا وقرارًا.... لكن ماذا بشأن تلك السيارة. "
فؤاد، ببعض الحدة: سلامتك تأتي قبل أي شيء، نحن شركة مهمة و أنت مساعدتي لهذا قد يفكر أحدهم أن يصل إليك بطريقة ما. "
حنين: ولكن..... هل تفعل ذلك مع بقية الموظفين.... ديلارا هل كان شقيقك يضع لها حارس أو سائق.... "
فؤاد: الإجابة لا.....حنين اصعدي إلى غرفتك.
استدار إلى مكتبه و تركها تستعيد كلماته في عقلها ثم اندفعت خلفه مثل الإعصار لتدركه قبل أن يدلف إلى الداخل، امسكت ذراعه تستجديه أن يتوقف و يضع حدا للتيه الذي تعيشه.
لمسة يدها على ذراعه جعلته يستدير بغتة ينظر إلى هذا الكائن الصغير الذي تجرأ أن يأتي بما عجز عليه اعتى الرجال، تنظر إليه بعيون متوسلة و خائفة ليس منه بل من إعصار الحقيقة الذي قد يهز أركان فؤادها المتيم، تنفس بعمق يستدعي سكينة روحه قبل أن ينفرط عقد الحقيقة من بين يديه، ارخت قبضتها و أنزلت يدها بتراجع. هم أن يحيك عبارات تعيد لها هدوءها لكن ركض كامل جعل جوارحه تتتحفز فنظرات صديقه القلقة لا تبشر بخير.
"أخي."... تمتم العبارة بخفوت التقطه سمعها المرهف، وصل كامل إلى فؤاد و عرض شاشة هاتفه أمامه، رسالة مشفرة بعبارات قليلة تغني عن آلاف السطور:
"الثمن قادم، والأمان سراب... التوأم في خطر."
ركض إلى الخارج يتبعه صديقه الذي صرخ يعطي التعليمات بصرامة، وقفت حنين في الردهة تنظر إلى أثر ذلك الغامض الذي جعلها تغرق في حيرتها أكثر فأكثر:
لقد قال أخي... هل يعني السيد كامل أم أنه...... "
شكرا لزيارتكم عالم روايات سكيرهوم
