رواية شظايا قلوب محترقة ( وكأنها لي الحياة ) الجزء الثانى الفصل السابع عشر 17 بقلم سيلا وليد


 رواية شظايا قلوب محترقة ( وكأنها لي الحياة ) الجزء الثانى الفصل السابع عشر 


“اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك”

هناك حبٌّ يولد من بين الشقوق المظلمة للقلب؛ حبّ لا يعرف ضوء الفرح، بل يتغذّى على الوجع ويكبر بين ندوب الروح.

هو ذاك العشق الذي يُشعل فينا حرائق لا تُطفأ، ويتركنا عالقين بين رماد الحنين ولهيب الفقد.

نُحبّ فننزف، نتمسّك فننكسر، نشتاق فنحترق… وفي النهاية، لا يبقى سوى قلبٍ مثقوب بالخذلان، وروحٍ متعبة تبحث عن حضنٍ يُنقذها من الغرق.

أيّ لعنَةٍ تلك التي تجعل العشق جرحًا، والحنين سيفًا، واللقاء أمنيةً تُشبه المستحيل…

ومن هنا تبدأ الحكاية… بين شظايا قلوب محترقة، ووهج عشقٍ لا يهدأ، ووجعٍ يأبى أن يموت.

هنا حيث لا مفرّ من الألم، ولا مهرب من العاطفة، سنمضي معًا في رحلةٍ لا تعرف سوى العشق قدرًا، والروح مسرحًا، والنبض شاهدًا حتى آخر الفصول.

فلتتهيأ الأرواح… فالوجع على وشك أن يُروى.

أغلق الهاتف ببطء، وشعر بشيئٍ يعصف بروحه..نهضت ميرال واقتربت بخطواتٍ متردِّدة، وهي تسحب روبها ترتديه، مع نظراتها إلى ملامحه الشاردة، كأنَّه ذهب إلى عالمٍ آخر لا يراها فيه.

-إلياس..في إيه؟

رفع بصره إليها، بعينين زائغتين لا تفصحانِ عمَّا بداخله..لم يجب، فقط صمت، يطالعها بنظراتٍ لا تعلم ماهيَّتها، جعلتها تلمسه بخفَّة، وتلكزه في ذراعه لعلَّه يشعر بها..فجأة، جذبها إلى أحضانه بقوَّة كأنَّه يخشى ضياعها، دافنًا رأسه بعنقها يهمس بأنفاسه المرتجفة:

-مفيش حاجة..يمكن وحشتيني.
قالها ورفع عينيه إليها، يحتضن كلَّ إنشٍ بها، وهناك هوسٌ جنونيٌّ يخترق حصونه، أنَّها ستختفي مرَّةً أخرى..

مرَّرت أناملها على وجهه، وقلبها لم يطمئن، والشكُّ بدأ يتسرَّب إلى أعماقها وتساءلت:

-مين كان بيكلِّمك؟

مدَّ يده بين خصلاتها يداعبها بنعومة، وابتسامة غامضة على شفتيه:

-واحد رخم..حبّ يخرَّجني من الجنَّة.

رفعت حاجبها بسخريَّةٍ خفيفة:
-جنَّة لا والله!..

سقط على الفراش فجأةً وهو يسحبها معه، لتسقط فوقه بلا حولٍ ولا قوَّة، وعيناه تلمعانِ بشيءٍ لم تفهمه:
-آه والله…تيجي نعمل اختبار؟

لكمته بمرح تحاول الابتعاد، لكن يده كانت الأقوى، وصدره حصنًا لا يُكسر.. ومع ذلك كان شعورٌ خفيًّا يخبره أنَّ الأذى يقترب كثيرًا، دون أن تدري، وستكون في قلب العاصفة.
تعلَّقت عيناه الخائفة بعينيها البريئة وهي تتمتم:
-فيه حد قالَّك حاجة في التليفون غيَّرك كدا، صح، والموضوع يخصِّني؟.

داعب إلياس وجنتيها بأنامل مرتجفة، يخشى أن يتلاشى وجودها فجأة.. طافت عينيه على ملامحها بتفاصيلها الصغيرة، المنحنى الرقيق لشفتيها، تلك اللمعة الدافئة في عينيها، والخصلات التي تتدلَّى بعشوائية على وجهها، كأنَّها لوحةً رسمها القدر له وحده.
مرَّر أنامله بهدوء كأنَّه ينحتُ تفاصيلها، داعب وجنتيها وتعلَّقت عيناه بعينيها:

-ميرال، أنا جوَّايا مشاعر مش عارف أوصفها..فيه سعادة جوايا غريبة لمَّا بشوف عيونك بتضحك، إنتي مش بس مراتي وأمِّ ولادي..ممكن يكون جوَّايا حب أكبر من الكلام نفسه، أكبر من قلبي حتى…عايزك تصدَّقي إنِّ مفيش حد في الدنيا ممكن يخاف عليكي ويحبِّك قدِّي، شوفي..ماما فريدة، ويزن، وطارق بيحبُّوكي، بس اجمعي حبُّهم كلُّهم مع بعض… وصدَّقيني أنا بحبِّك أضعافهم.

كانت تستمع إلى كلماته التي شعرت بأنَّها تتساقط داخلها دفئًا، كأنَّها تتلقَّى مطرًا في ليلة عطشى..قطعت حديثه بقبلةٍ سريعة، شفتاها ترتجفانِ وهي تهمس:
-وأنا كمان..صدَّقني.

داعب خصلاتها بأنامل تشبَّثت بها بخوفٍ خفيّ، ثمَّ أكمل، بصوتٍ يختلط بندمٍ دفين:
-أنا مش بقولِّك الكلام ده علشان أسمعك بتقولي أنا كمان…أنا عارف ومتأكِّد..أنا لو شكِّيت فيكي يوم، ماكنتيش دلوقتي في حضني..أنا بقولِّك كده علشان عايزك تنسي الماضي يتحرق وراه بابه..عارف الضغط اللي جوَّاكي، وعارف قد إيه تعبتي..بس كلِّ مرَّة تحسِّي فيها إن الماضي راجع يخنقك..ارجعي لربِّنا، أنا ماصدَّقت إنِّك ابتسمتي من تاني..ماصدَّقت إنِّك رجعتي ميرال اللي بحبَّها..علشان خاطري..حاربي، حاربي علشان إلياس وبس، اضغطي وعدِّي..علشان إحنا نستاهل نعيش..
-زهَّقتك كلماتي..وعارف إنِّك بتحاربي وبتحاولي.

هنا شعرت بأنَّ كلماته غلَّفت روحها كوشاحٍ دافئ، لفَّت ذراعيها حوله، ووضعت رأسها لتستقرَّ على صدره، تستمع إلى دقَّات قلبه، ليهدأ قلبها وتشعر بالطمأنينة، وأردفت:

-إيه اللي حصل ياإلياس، ليه المقدِّمات دي؟

تنهَّد بعمق، رفع كفَّيه فوق رأسها، حينما شعر بأنَّ الكلمات ثقيلة على لسانه:
-رؤى هربت من المستشفى، وأنا عارف إنَّها مش هتسكت..حذَّرت يزن، بس ماسمعش، أنا مش عارف الشرِّ اللي جوَّاها قدِّ إيه..ولا مين واقف معاها، ومش عايز أعرف..عايز مراتي وبس، عايز ميرال اللي ضحكتها بترجَّع روحي من تاني..كتير عليَّا ياميرو؟

رفعت رأسها تنظر إليه، كأنَّها تحفر ملامحه في قلبها قبل ذاكرتها، اقتربت تقبِّله بعمق، قبلات متقطَّعة تحمل خوفها من الغد وحبَّها للحاضر، همست بين قبلاتها:
-وحشتني..مش كفاية نمت أربعة الفجر وسبتني أعدِّ النجوم لوحدي..يا خسارة تعبك ياطنط نعيمة، شكل نظريِّتها عنَّك صح.
هنا تغيَّرت ملامحه، ولمعت عيناه بدهشةٍ مجنونة، فجأةً وجدت نفسها تحلِّق في الهواء بين ذراعيه..

-طنط نعيمة دي بالذات، لازم أعلِّمها درس يخلِّيها ماتقيِّمش الرجالة تاني..

ضحكت ميرال بصوتٍ عالٍ وهي تتشبَّث بعنقه:
-هتعمل إيه يامجنون؟

تقدَّم بخطواتٍ ثابتة نحو الفراش، وقال بصوتٍ ينضح بالمكر والعشق:
-هفترسك ياروحي..وأحبسك في المستشفى، ونخلِّي طنطك نعيمة تسهر عليكي.

ألقاها برفقٍ متعمَّد وقوَّةٍ محسوبة على الفراش، لتصرخ بضحكةٍ تتخلَّلها شهقة:
-أنا آسفة…إنتَ أحسن راجل في الدنيا.

وبين ضحكها وأنفاسه المتسارعة، ظلَّ قلبه في مكانٍ آخر، يحذِّره من عاصفةٍ تقترب..عاصفة اسمها عشق ميرال.
احتضنته بعيناها
-بهزر معاك على فكرة، بحب اقلبك، لما تبقى غضبان..ياااه ببقى عايزة
وضع أنامله على شفتيها
-عايزة ايه غير انك تنامي في حضني، توسعت عيناها، فانحنى برأسه ولكن قاطعه طرقات على باب الغرفة، اعتدل وصاح
-مين ..؟!
-أنا يابابا ..حضرتك نستني، عندي امتحان بعد ساعتين، ونص الماث هسقط فيه، ياله اصحى فوق بدل ماالمدرسة كلها تعرف انك مدرس فاشل
جز على أسنانه
-اه ..يابن ال …
ضحكت ميرال بصوت مرتفع
-عجبك اوي لسانه الطويل
-هو حضرتك قسته يابابا، انا منتظر حضرتك تحت في الجنينة حتى الشمس حلوة اهي تنشط عضمك اللي التكييف كسره
-امشي يامتخلف من هنا
-حاضر ياابو المتخلف
اعتدل ينزل من فوق السرير، امسكته ميرال
-وحياتي ماتزعله ..ابتعد متوجها إلى الحمام
-كملي نومك لما انزل للحيوان دا، امشيه للامتحان

بفيلَّا السيوفي…
كان يتمدَّد على الفراش، يستند برأسه إلى ساقيها وكأنَّما يبحث عن الأمان في حضنها..راحت أناملها تنساب بين خصلات شعره بحنانٍ صامت، كانت تستمع إلى حديثه عن صفية، حاولت أن تهوِّن عليه الآم قلبه، ولكنَّ هناك آلامًا داخليَّة لا تُشفى أبدًا، ظلَّت تستمع إليه إلى أن شعرت بحرارة دموعه تتساقط، فارتجف قلبها وجعًا..وأردفت بنبرةٍ حانيَّة:

-حبيبي، ادعي لها..هيَّ محتاجة دعواتك وبس، إنتَ ربِّنا بيحبَّك أوي
يابني علشان وقَّعك في حضن صفية.. وأنا متأكدة إنَّها محظوظة بيك كمان.

اعتدل فجأة، ووجهه يقطر ألمًا وهو يطالعها بعينينِ غارقتينِ بالدموع:
-تعبان ياماما..حاسس إنِّي أنا اللي ودِّيتها للموت، راحت من غير
ماأودَّعها.

لم تحتمل كلماته، فمدَّت يديها تحتضن وجهه كما لو كان طفلها الأوَّل، ومسحت دموعه بحنانٍ غامر:
-حبيبي، مش تغلى على ربِّنا..وتأكد إنِّ دا قدرها، وكلِّ الأسباب من عنده سبحانه..متخلِّيش الشيطان يلعب بيك..صدَّقني، ربِّنا دايمًا عنده الأحسن.

أمسك بكفَّيها وقبّلهم طويلًا، والابتسامة الحزينة تعلو محيَّاه، وعيناه تفيض أسفًا:
-إنتي أحسن أمِّ في الدنيا..عارف إنِّي قصَّرت معاكي، بس واللهِ غصب عنِّي.

طوَّقت جبينه بقبلةٍ أموميَّةٍ حانية، وكلماتها تتقطر حبًّا:
-إنتَ نور عيني..ومستحيل أزعل منَّك أبدًا.
قبلات عديدة على كفيها مع ارتفاع بكاؤه، وارتجاف شفتيه
-سامحيني ياماما..انا مااستهلش اكون ابنك
سحبته بقوة لاحضانها
-حبيبي ماتقولش كدا، انت احن ابن في الدنيا دي كلها ربنا يباركلي فيك

قاطعهم طرقات على باب الغرفة، ثمَّ دخول غرام تحمل كوب قهوته:
-عملت لك قهوة ياأرسلان، ثمَّ اتَّجهت بنظرها إلى فريدة:
-أعملِّك قهوة ياماما فريدة؟.
-لا ياحبيبتي..قالتها وهي تهبط من فوق الفراش ثمَّ اقتربت تربت على كتفها:
-لو احتجتوا حاجة كلِّميني على طول، ماتنسيش البيت بيتكم، مش ضيفة علشان تتكسفي.
ابتسمت غرام وقالت:
-ربِّنا يخلِّيكي لينا حبيبتي يارب.
استدارت ترمقُ أرسلان الذي يراقبهم بصمت وقالت:
-وغرام دي نعمة برضو ياحبيبي، ربِّنا بيحبَّك أوي يابنِ جمال.
ابتسم يهزُّ رأسه بتأكيد:
-أوي ياماما..قالها وهو يقترب من غرام حتى سحبها إلى تحت ذراعيه:
-عندك حق، غرام دي الدنيا الحلوة اللي طلعت بيها.

تورَّدت وجنتاها وهي تهرب من نظراته، تتظاهر بالانشغال بوجود فريدة..

مدَّت فريدة يدها بحنان، ومسَّدت على خصلات شعرها بحنان:

ربِّنا يبارك لك فيها يابني، ويخلِّيكم لبعض دايمًا يارب…

ابتعد عن غرام خطوة، واقترب من والدته، يدمغ جبينها بقبلةٍ عميقةٍ محمَّلةٍ بالامتنان:

ربِّنا يخلِّيكي لينا ياستِّ الكلّ، ومايحرمناش منِّك أبدًا يارب.

لمعت عيناها بالسعادة وهي تتابع ملامحه كأنَّها تحفظ تفاصيله في قلبها:

تعرف إنتَ نسخة تانية من أبوك
ياأرسلان…نفس الحنيَّة ونفس الطيبة، تعرف يابني، أبوك برضه ربِّته مرات عمُّه بعد ماوالدته الله يرحمها تعبت… سابته وهو ابن عشر سنين بس كان راجل أوي، بيحبِّ الخير للكلّ..ربِّنا يرحمه.

ارتعشت نظرات أرسلان للحظة، وترقرقت عيناه بالدموع وهو يحاوط كتفيها بحنانٍ عميق:

حبيبتي ياماما..ربِّنا يبارك لنا في عمرك ويخلِّيكي لينا.
اتَّجهت الى غرام وسألتها:
-والدك عامل إيه حبيبتي؟.سامحيني موضوع إسلام نسَّاني أسألك..
غيَّمت عينيها بالحزن وردَّت:
-تعبان والله ياماما، صفاء قاعدة معاه، وزياد جابله ممرضة قاعدة معاه طول الوقت.
-ربِّنا يزيح عنُّه الألم يارب.
تمتمت بها فريدة واستدارت تغادر الغرفة قائلة:
-هسيبكوا بقى..توقَّفت والتفتت إلى أرسلان:
-كلِّمت ملك النهاردة واطمِّنت عليها؟.
ابتعد بنظراته عن والدته وتمتم:
-لا..ومش عايز أدَّخل في موضوعها مع إسلام، لأنِّي مش مقتنع.
-ليه يابني؟.دا أنا بقول هتكلِّمها وتحاول تصلَّح!!.
زوى حاجبيه وقال بذهول:
-ماما حضرتك عايزاني أوافقها على اللي عملته، لا طبعًا غلطت ولازم تتحاسب.
قاطعته غرام:
-بس هيَّ صغيرة ياأرسلان، ولازم نعذرها، أه غلطت بس أكيد اتعلِّمت من غلطها.
هزَّ رأسه رافضًا حديثهما:
-لا..أنا مش هدَّخل..رفع عينيه لوالدته:
-كلِّمي إلياس هوَّ اللي ممكن يساعدك، أنا مش مقتنع بحاجة.
أومأت فريدة بصمت وتحرَّكت للخارج، بينما مسح أرسلان على وجهه بعنف، يزفر أنفاسًا غاضبة..

دنت منه بخطواتٍ خجولة، حاوطت جسده من الخلف وكأنَّها تبحث عن أمانها الضائع، أسندت رأسها على ظهره الدافئ وهمست بصوتٍ مبحوح:

على فكرة..زعلانة منَّك، وأوي كمان.

استدار نصف استدارة، يسحبها تحت ذراعيه كمن يسرقها من العالم بأسره، ثمَّ اتَّجه إلى الأريكة وتمدَّد عليها، يجذبها إلى أحضانه كأنَّما يعيد ترتيب فوضى قلبه بحضورها..طبع قبلةً عميقة، محمَّلة بكلِّ الاعتذارات غير المنطوقة على جبينها:

آسف..حبيبتي.

رفعت كفَّيها على وجنتيه بملامح متعجِّبة:

بتتأسِّف على إيه، مش لمَّا تعرف أنا زعلانة ليه الأوَّل؟

أغلق عينيه، يحتضنها بقوَّة وكأنَّ خوفه من فقدها أكبر من أي تفسير:

– مش مهمِّ ليه..المهمِّ إنِّك زعلتي، وأنا اتأسَّفت..يمكن زعَّلتك من غير قصد.

رفعت رأسها، واقتربت تطبع قبلةً فوق خاصَّته، همست بصوتٍ منخفضٍ كأنَّه سرُّ عاشقَين:

أنا كنت بقول زعلانة عشان حطِّيت القهوة ومشربتهاش..بس ردَّك فاجئني.

فتح عينيه، والتقت النظراتُ في صمتٍ طويل يفضح ماتخفيه القلوب..وردَّ بنبرةٍ مكسورة:

– بس أنا لازم أعتذر عن الأيام اللي فاتت..عارف إنِّي قسيت عليكي كتير.. فوق حملك مسؤوليِّة الولاد لوحدك.. كمان تعب باباكي..وبعدي عنِّك طول الوقت، من غير حتى ماأشوف منِّك نظرة عتاب.
اقترب أكثر، وهمس أمام شفتيها بتقطُّع:

– غرام..إنتي كبيرة أوي في حياتي.. صدَّقيني، لو طلبتي عمري..عمري كلُّه، مستحيل أتردَّد لحظة إنِّي أفديكي بروحي.

وضعت أناملها المرتعشة على شفتيه، وانفجرت الدموع التي كانت تقاتل لتبقى خلف جفونها:

أرسلان..أنا من غيرك أضيع، ماليش وجود بلاك..مقدرش أعيش يوم واحد في دنيا إنتَ مش فيها..ومستعدَّة أتنازل عن كلِّ حاجة، المهمِّ أشوفك وسط ولادك..وإنتَ واخدني في حضنك.

هنا صمتت الكلمات، وانتهت كلُّ الحوارات، ولم يتبقَّ سوى العناق الطويل..نبضات القلوب تصطدم ببعضها، والأنفاس تختلط، كأنَّما يعلن الجسد قبل الروح، في حضنه بدا الزمن وكأنَّه يتلاشى، تصير اللحظة أبدًا لا ينتهي..كلُّ شيءٍ فيها كان ينطق بحبِّه، لمسة أصابعه على ملامحها كانت كاعترافٍ صريح أنَّها الحياة ولا حياة دونها، أنفاسه القريبة من عنقها كانت ترتِّل قصائد حبٍّ صامتة، وخفقات قلبه تحت راحة يدها كانت تشبه الوعد بأنَّه هنا لن يبتعد مرَّةً أخرى..

بعد عدة ساعات بالأسفل وخاصَّةً بحديقة الفيلَّا..
كانت ضي تجلس بجوار إسلام المنشغل بالعمل على جهازه، ظلَّت تراقب عمله إلى أن قطعت تركيزه:
-عمُّو إسلام ليه طنط ملك مش موجودة؟..كانت بتلعب معايا كتير.
توقَّف عمَّا يفعله واستدار إليها:
-هيَّ عند باباها حبيبتي، المرَّة الجايَّة لمَّا تيجي هتلعب معاكي.
زوت الطفلة حاجبيها بعبوس:
-طيب ليه مارجعتش تاني، هيَّ بقالها كتير أوي، أنا جيت مرِّتين وهيَّ لسة مجتش؟.
قاطعهم وصول فريدة التي انحنت تقبِّل ضي بعدما استمعت إلى جزءٍ من حديثها:
-حبيبة تيتا بتعملي إيه؟.
رفعت كتفيها للأعلى وردَّت:
-ولا حاجة قاعدة مع عمُّو إسلام.
سحبتها فريدة إلى أن أجلستها على ساقيها، تمسِّد على خصلاتها وتقبِّل وجنتيها قائلة:
-بلال فين؟.
أشارت إلى حمَّام السباحة:
-بيعوم في البيسين..استدارت إليها
وتساءلت:
-بابي كان بيقول شمس ويوسف هيجوا يباتوا بس ماجوش ليه؟.
-طنط ميرال رفضت، بس شوية وتلاقيهم جايِّين، إيه وحشوكي؟.
هزَّت رأسها بالنفي وقالت:
-لا..بس زهقت من القعدة لوحدي، وفي الإجازة بنلعب مع بعض، حتى بلال قالِّي عايز يعوم.
-أممم..فعلًا مشكلة كبيرة، طيب أنا هتِّصل بعمُّو يجيبهم عشان ضي الجميلة متزعلش، إيه رأيك؟.
صفَّقت ضي بكفَّيها ثمَّ انحنت تقبِّل فريدة:
-أحسن تيتا في الدنيا.
كان أسلام يتابع حديث فريدة مع ضي، وتاه في ذكريات طفولته فقال:
-بتفكَّرني بينا وإحنا صغيَّرين لمَّا كانت ميرال تتأخَّر وعايزين نلعب، ويجي إلياس يسدِّ نفسنا..
لكزته فريدة بابتسامة:
-مين دا اللي يسدِّ نفسك، هوَّ أنتوا كنتوا بتخلُّوه ينام..مابلاش نتكلِّم قدَّام البنت، إنتَ نسيت ميرال كانت بتعمل إيه؟.
-رفع حاجبه ساخرًا:
-لا منستش برضو هوَّ كان بيعمل إيه، إيه يافريدة هانم نسيتي ولَّا إيه؟.
قاطعهم وصول غادة..ألقت تحيَّة المساء ثمَّ جلست بوجهٍ شاحب..نهضت ضي وتساءلت بحيرة:
-عمِّتو غادة هنا، أومال ليه بابا قالِّي مسافرة؟!.
رفعت غادة عينيها الحزينة إليها:
-كنت حبيبتي بس رجعت، يمكن بابي مايعرفش.
دقَّقت فريدة بملامحها وتساءلت:
-مالك حبيبتي وشِّك مخطوف ليه؟.
سحبتها ضي:
-قومي ياأنطي نلعب مع بعض أنا زهقت.
-مش قادرة ياضي..قالتها غادة ثمَّ سحبت هاتفها:
-إيه رأيك تلعبي على الفون؟.
-زهقت..أجلستها بجوارها:
-العبي شوية لحدِّ ماأشرب قهوتي ونلعب شوية..قاطعتها فريدة:
-العبي حبيبتي وأنا هتَّصل بعمُّو..

سحبت فريدة هاتف إسلام وتوقَّفت لتُجري اتِّصالًا بإلياس..رفع إسلام حاجبيه متسائلًا:
-هتكلِّمي مين؟.
-إلياس، أرسلان كان بيقول هييجي الصبح، ودلوقتي المغرب دخل..
أومأ إسلام بتفهُّم، ثمَّ أشار إلى ضي تقترب منه، وأعطاها هاتف غادة، وعيناه لا تفارق غادة الشاردة ثم قال:
-دودو، مش كنتي هتعملي قهوة، قعدتي ليه؟
تراجعت بجسدها، وأسندت رأسها على المقعد:
-طلبت من البنات في المطبخ…
أغلقت عينيها بتعب، فنهض إسلام واقترب منها، جلس بجوارها وسحبها إلى صدره:
-مالك ياقلبي..حاسس إنِّك مضَّايقة.

وضعت رأسها على كتفه، وأردفت بصوتٍ خرج متحشرجًا بالدموع:
-تعبانة أوي ياإسلام…عايزة أبعد عن الكلّ.

ارتجف قلبه من حالتها، فرفع رأسها ينظر إليها بقلق:
-من يوم ما نمتي عند إلياس وحالتك كدا…هوَّ مزعَّلك؟

هزَّت رأسها نفيًا، بينما دموعها تنساب على وجنتيها حتى تحوَّلت شهقاتها إلى بكاءٍ مكتوم، تدفن رأسها أكثر في صدره:
-هوَّ اللي زعلان منِّي ياإسلام…عارفة إنُّه مش هيسامحني أبدًا.

ضيَّق عيناه، والتساؤل يقطر من ملامحه خوفًا وقلقًا وهو يهمس بصوتٍ مبحوح:
-ليه..عملتي إيه؟

لم يسعها الوقت لترد، حينما وصلت فريدة تحدِّق في وجه غادة المبلَّل بالدموع، شهقت شهقةً مذعورة:
-غادة..مالك حبيبتي، إيه اللي جرالك؟

بتر حديث فريدة صوتُ طارق الذي انبثق من الهاتف الموضوع بين يدي ضي..صوتٌ رجَّ المكان رجًّا، ورغم ذلك إلَّا أنَّه كان دافئًا، مفعمًا بالشوق:
-دودو…أنا خارج، هستناكي في مكانَّا… متتأخَّريش حبيبتي وحشتيني.

استدار إسلام فجأة، كأنَّ أحدهم باغته بطعنةٍ في قلبه قبل أذنه، اهتزَّت عيناه بحثًا عن المصدر، حتى وقعتا على هاتف غادة في يد ضي..خيَّم الصمت لحظةً ثقيلة، قبل أن يقطِّب جبينه بعنف، وصدره يعلو ويهبط يحاول أن يكذِّب مااستمع إليه في تلك اللحظة، جاء صوت غادة بالردِّ على رسالته:
-قدَّامي خمس دقايق ياطارق..يادوب خلصت من البنات…سين وجيم، وعايزين يخرجوا يعملوا جولة مشي دلوقتي، المهم عايزة يخت نلفِّ البحر زي ماوعدتني.

هنا لم يعد للصبر في قلب إسلام سوى اسمه، لينهض من مكانه كمن لدغته أفعى، مدَّ يده يخطف الهاتف، أمسكه بأصابع مهتزَّة كأوراق الخريف، يقلِّب محتوياته بجنونٍ يقترب من الانفجار..عيناه تتسعانِ مع كلِّ رسالة، كلِّ كلمة، هنا لم يجد سوى خيانة الثقة التي أعطاها إياها تتسرَّب إلى قلبه كنصلٍ مسموم، حتى ضغط على مقطع فيديو مخبَّأ في أحد البرامج السريَّة.

في تلك اللحظة، لم يبقَ للعقل سلطانًا على جسده..رفع رأسه ببطء، ورمقها بنظراتٍ أقسمت أنَّها شعرت بها سيوفًا مسلَّطة على عنقها، وجحيمًا مشتعلًا يوشك أن يلتهمها، سحبت عينيها
وخفضت بصرها، لينهار جسدها بالاهتزاز، ودموعها تنهمر كأنَّها تسعى لمحو خطاياها قبل أن تُدان، لكن دموعها لم تكن قادرة على إخماد النيران التي بدأت تتَّقد في عروقه..

صار الصمت ثقيلاً كالرصاص، بينما فريدة تجمَّدت في مكانها، تنقل عينيها بين الاثنين في ذعرٍ مكتوم، بوصول الخادمة بفناجين القهوة:
-القهوة ياأستاذة غادة..تمتمت بها الخادمة..ابتلعت فريدة ريقها بصعوبة، ورغم صعوبة الموقف، وذعرها من حالة إسلام..التفتت إلى الخادمة:
-خدي ضي ياحنان، اعمليلها تشكوليت .
-حاضر ياهانم.
مدَّت يدها لضي التي توقَّفت تتابع حالتهم بصمت ثم تحرَّكت بجوار الخادمة..لحظات مرَّت كالسيف على العنق مع اقتراب إسلام بنظراتٍ ناريَّة كادت أن تلتهم غادة..

اقتربت فريدة من إسلام الذي تصلَّبت عضلات وجهه وهو يصرخ بصوتٍ يهدر كالبركان:
-إيه اللي سمعته وشوفته دا..دا طارق؟..طارق اللي أقسمتي إنَّك قطعتي علاقتك بيه!..

انفجرت غادة باكية، وارتفع صوتها بتقدُّم فريدة تقف أمام إسلام، ومدَّت يديها تستجدي هدوئه:
-إسلام، اهدى…اسمع لأختك ياحبيبي.

لكنَّه صرخ بصوتٍ كالرعد، يزلزل المكان:
-أسمع لمين ياماما، حضرتك ماسمعتيش ولَّا إيه؟!

أبعد فريدة عن طريقه بحركةٍ غاضبة، واقترب من غادة كمن ينقضُّ على فريسته، وقبض على كتفيها بعنف يهتزُّ له الجسد، وعيناه تقدحان شررًا:
-كنتي بتسافري معاه، بحر!! ركبتي يخت معاه!.خرجتي مع راجل غريب، ضحكتي عليَّا ياغادة! لبَّستيني طرحة، وإنتي ماشية على حلِّ شعرك؟!

شهقت فريدة، وصرخت بصوتٍ مبحوح:
-إسلام…اتجنِّنت، إنتَ عارف بتقول إيه؟!

التفت نحو فريدة بوجهٍ اشتعل غضبًا، وانفجر صوته كالقذائف:
-إيه ياماما…حضرتك ماسمعتيش ولَّا إيه! ولَّا لسه مش مصدَّقة إنِّ بنتك دفنت راسنا في الطين؟!

أشار إلى غادة بغضبٍ كاد يحرقه قبل أن يحرقها، وهتف بكلماتٍ كانت كالسياط:
-بنتك طلعت مش متربيَّة…قليلة الحيا، أنا مش شايفها دلوقتي غير واحدة خانت الثقة، ولعبت بينا كلِّنا..

انفجرت فريدة في وجهه تحاول سحبه بعيدًا عن غادة المنهارة، بعدما بات صراخه يملأ أرجاء الفيلَّا، حتى ارتجَّت الجدران من هول الغضب، لكنَّه دفعها بقوَّة، وصوته يخترق كلَّ شيء:
-ممكن تهدى ياحبيبي؟ إنتَ مش شايف حالتها؟.

صرخ بجنون :
-مالها حالتها! إيه الباشا مش فاضي يقابلك! بقى أنا أختي تصاحب راجل، وياترى عملتوا إيه تاني غير خروج البحر يابت؟!.

في لحظةٍ انفلتت فيها كلَّ أعصابه، سحبها بعنف من عنقها، وخرجت كلماته بهسيسٍ مرعب كأنَّما خرج من جوف جحيم:
-انطقي…انطقي قبل ماأعمل فيكي مصيبة.
-إسلام اهدى بقى..قالتها فريدة تسحبه بعيدًا عن غادة..
-غادة اطلعي أوضتك دلوقتي لمَّا أخوكي يهدى.

هنا اهتزَّ صوته كالعاصفة، وهدر بكلماتٍ كسياطٍ تلسع قلبها قبل جسدها:
-تطلع فين ياماما، مش لمَّا تقولِّي كان بيقعد معاها إزاي، اتعامل معاكي يابت زي البنات اللي كانوا بيباتوا في حضنه، انطقي..ولَّا الكلام مابيطلعش غير للواطي التاني، ردِّي على أخوكي… واضحكي عليَّا زي كلِّ مرَّة! ياترى المحترمة كانت من ضمن البنات بتوع ليالي الأنس؟..

دوى صوت لطمةٍ قاسية من يد فريدة هوت على وجهه بكلِّ ماتملك من غضبٍ وحُرقة؛ ثم دفعت جسده للخلف وهي تصرخ بحرقةٍ تكاد تشقُّ صدرها:
-اخرس ياحيوان، دي بنت مصطفى السيوفي، عارفة إنَّها غلطت…بس عمرها ماتخون ثقة أبوها وأمها!..

رغم أنَّ كلماتها كانت تنزف بداخلها دمًا قبل أن تخرج، ولكن قلبها ارتجف بالحزن وهي ترى غادة تنكمش باكية، ودموعها تتحوَّل إلى نحيبٍ هستيريّ يزلزل أركان المكان..

لم يُعر إسلام للَّطمة أي اهتمام، بل اشتعل وجهه بدمٍ حارٍ يوشك أن يفجِّر عروقه، واقترب بخطواتٍ غاضبة، وقال بصوتٍ خرج ممزوجًا بالقسم والانتقام:
-وحياة رحمة أمِّي…لأموِّته الحقير.

قالها ودفعها بيدٍ مرتجفة من فرط الغضب، فسقطت على الأرضيَّة بقسوة، شهقة من فريدة دوت وهي تندفع نحو غادة..وهي ترى وجهها شحب كالأموات، وارتعاش جسدها للحظةٍ قبل أن يهوى على البلاط البارد فاقدةً للوعي، كأنَّ صرخة روحها قرَّرت الرحيل

وصل أرسلان على صوت فريدة باسم غادة بينما اتَّجه إسلام إلى سيَّارته وخرج بها كالمجنون، أشارت إلى أرسلان..
وقعت أعين أرسلان على غادة التي هوت على الأرضية كجثَّةٍ هامدة، اقترب متسائلًا:
-مالها غادة ياماما؟.
تطلَّعت إليه كالغريق وأشارت عليها:
-شيلها حبيبي ندخَّلها جوَّا، قالتها وتعلَّقت عيناها بخروج إسلام..
تحرَّكت للداخل تنادي على الخادمة:
-اعملي عصير ليمون لغادة بسرعة، قالتها وصعدت إلى غرفة غادة، وجدت أرسلان قد وضعها في سريرها:
-أتِّصل بالدكتور.
ربتت على كتفه ودنت من غادة وهي تحمل عطرها:
-لا ياحبيبي، اطلع إنتَ وأنا أفوَّقها.
أومأ بتفهُّم وتحرَّك للخارج..دقائق معدودة وفتحت عيناها بتأوُّه، تراجعت فريدة تحمل هاتفها وخرجت إلى شرفة غرفة غادة، حاولت الاتِّصال بإلياس عدَّة مرَّاتٍ ولكن لا يوجد رد.

عند إلياس قبل قليل..

كان جالسًا على فراشه، عينيه مندمجتانِ في شاشة جهازه، دلفت ميرال بخطواتٍ ناعمة تحمل فنجان قهوته:

-حبيبي، عملت لك قهوة.

رفع عينيه إليها، وارتسمت ابتسامةٌ دافئة على وجهه وهو يلتقط الفنجان من يديها:
-تسلم إيدك ياحبيبتي.

قالها وسحب كفَّيها برفق حتى جلست بين ذراعيه، حاصرها بقلبه قبل جسده، ثمَّ طبع قبلةً سريعةً على كتفها العاري، كأنَّها وشمُ حنانٍ لا يُمحى.
قشعريرة لذيذة لتعود بجسدها إليه..
وضع ذقنه فوق كتفها وتساءل:
-بتعملي إيه دا كلُّه تحت؟

وضعت كفَّيها فوق كفَّيه اللذين التفَّا حولها، ابتسامة بريئة مليئة بالمحبَّة، ثم ردَّت:
-كنت بشوف الولاد…يوسف مافطرش، مستنينا، وطبعًا شمس ماعرفتش تاكل لوحدها…عملت لهم أكل سريع.

شدَّ عليها أكثر، كأنَّه يودُّ لو يحتفظ بها في حضنه إلى الأبد، نظراته تلتهم ملامحها بحبٍّ لا يشبع.

تراجع مستندًا بظهره إلى الفراش، فارتخت أنفاسه قليلًا قبل أن يقول بصوتٍ عميق:
-يوسف بغير أوي ياميرال.

تنهَّدت ميرال، وهزَّت رأسها وردَّت بحنانٍ أمومي:
-عارفة ياإلياس…علشان كدا بحاول أكون قريبة منُّه معظم الوقت.

استدارت إليه، وقالت:
-بلاش تقولُّه كلام يضايقه، حبيبي اتحرم منِّي سنين طويلة..ونفسه يعوَّض السنين دي، بس مكسوف.

مدَّ يده يجمع خصلاتها على جنب، هدأت نظراته أمام رقِّة ملامحها:
-هوَّ فعلاً كبر، مبقاش ينفع ينام في حضنك…وبعدين ماتنسيش، جوزك بيغير.

قهقهت بخفَّة واستدارت بكامل جسدها في حضنه، ولمعت عيناها تداعبه:
-مين دا…إنتَ بتغير؟ قول والله!.

ضحك إلياس بخفوت، وعيناه تلمعان بالحبِّ والغيرة معًا:
-مالك يابت، لازم أكتبها يعني.

-لا ياسيدي مش تكتبها…بس بحسِّ غضب، مش غيرة.

أدار جسدها أكثر نحوه، وأصابعه تتسلَّل إلى خصلاتها وهو يقول بنبرةٍ فيها دفء واهتمام:
-شعرك رجع تاني، شوفي اهتمام جوزك الحلو عمل إيه.

تمسَّحت بصدره كقطَّةٍ أليفة، ورفعت ذراعيها تطوِّقان خصره:
-جوزي أحسن راجل في الدنيا.

ابتسم بخفَّة وهو يهمس قرب أذنها:
-طيب لفِّي…عايز أضفره.

قطبت جبينها بدهشةٍ ممزوجةٍ بالضحك:
-تضفر إيه، شعري! إحنا مش هنروح فيلَّا السيوفي؟

-بالليل هنروح ونبات هناك…ماما نفسها في كدا، بس خايف إنِّي أرفض علشانك..إنتي إيه رأيك؟

رفعت نظرها إليه بحنانٍ واضح:
-موافقة ياحبيبي..على فكرة أنا مش زعلانة من بابا مصطفى، حقُّه طبعًا… ودا أبوك، مانقدرش ننكر دا.

ابتسم إلياس بعشق، ووضع جبهته تلامس جبينها، وأنفاسه تختلط بأنفاسها:
-كدا أحبِّك أكتر وأكتر…وأكتر، أنا عايزك تفهمي دا، هوَّ أبويا، ومكنش يقصد يزعَّلك…وإنتي عارفة بيحبِّك قدِّ إيه.
-عارفة، وأنا سامحته.

ضحك فجأةً و أردف :
-يلَّا قبل ماابنك الحيلة يقرفنا ويقول مش فاهم الدرس.

لكزته في صدره بضحكةٍ صغيرة:
-بس ماتغلطش في الولد.

-حاضر…هاحترمه، كدا كويس..ياله بقى لفي

رفعت حاجبها بسخريَّةٍ لطيفة:
-إنتَ بتعرف تضفَّر الشعر؟

-هتعلِّم ياستي.

-إنتَ بجد عايز تضفَّرلي شعري؟

-آه…كانت طموحاتك كدا من الأوَّل، وأنا متأكِّد.

لكزته في بطنه بخفَّة، عيناها تلمعان بالضحك والحبِّ معًا:
-ضفيرة شعري منَّك طموحات! ليه، هنري كافيل؟ حبيبي أنا أصلًا ماحلمتش بيك…ولا عمري فكَّرت فيك..بس النصيب.

تجمَّد للحظة، ولم تلاحظ غضبه وهي تكمل بمرحٍ طفولي:
-ممكن يكون فيك شويِّة غضب من هنري…فدا اللي خلَّاني أتنازل وأوافق عليك.

سحبها بقوَّة من خصلاتها يلفُّها حول معصمه، حتى سقطت على ساقيه، ونظر إليها:
-إنتي بتتغزِّلي في راجل قدَّامي يامحترمة؟!.
ضحكت بصوتٍ مرتفع، ممَّا زاد غضبه، وانحنى إليها وعيناه تحوَّلت إلى كتلةٍ ناريَّة..

-اهدى أهدى واسحب نفس
رفعت أناملها تمرِّرها على وجهه بحب:
-ياله علشان نروح لعمُّو مصطفى علشان أقولُّه أنا مش زعلانة منُّه علشان أنا بحبِّ ابنه أوي أوي، بس وهوَّ لطيف، ياريت تقول لابنك بلاش يقلب الوشِّ التاني..ابتعد ينظر إليها بصمت، سحبها من خصلاتها يقربها اليه وتعلَّقت العيون التي نطقت بالعشق الذي يتسلَّل إلى كيانهما كما يتسلَّل الضوء إلى العتمة، لا يطرق بابًا، ولا يستأذن، فقط يقتحمها بجلالٍ يربك أنفاسهم.. اختفت من نظراته، فدفنت رأسها بعنقه، فلم يعد قلبها وحده مَن ينبض به، بل صار جسدها بأكمله يردِّد تراتيل الهوى؛ عيناها تمتلئانِ ببريقِ عشقه كأنَّهما تحتفظانِ بأسرار الكون، شفاهها المرتعشة تبوح بما عجز عنه الكلام، ودماءها تسري في عروقها كأنَّها مهرجانٌ صاخبٌ يحتفل بوجودها بين ذراعيه، بعد ليلةٍ داميةٍ بصخب القلوب، هل هذا حلمًا أم حقيقة، شعرت بأنَّ قلبها سيتوقَّف من شدَّة نبضه، رفع ذقنها بعدما شعر بدقّّاتِ قلبها العنيفة تحت كفَّيه..ارتجفت شفتاها وحاولت الحديث لكنَّها لم تقو من جمال ما تشعر به، رفَّت أهدابها حتى كادت أن تغلق عينيها من أنفاسها الحارَّة، لم يرحم ضعفها ولا ارتجافها بين أحضانه كأنَّها المرَّة الأولى لينحني يقبِّل نبض قلبها العنيف، لتتوه أكثر في عالمٍ شعرت به أنَّه جنَّتهم، قطع جنَّتهما رنين هاتفه عدَّة مرَّاتٍ متتالية، مدَّ يده يلتقطه كي يغلقه ولكن فتح الخط بالخطأ فاستمع إلى صوت فريدة وهي تلهث:
-إلياس الحق أخوك ياحبيبي، راح لطارق وهيموُّته.
هنا اعتدل سريعًا يضع الهاتف على أذنه:
-أخويا مين؟.
-إسلام..قالتها ببكاء.
-تمام اهدي، وأنا هتصرَّف، قالها بعدما تيقَّن أنَّ إسلام علم بعلاقة غادة بطارق..سحب ملابسه سريعًا ونهض متَّجهًا إلى الحمَّام..
اعتدلت ميرال تجمع خصلاتها، وتسحب الغطاء على جسدها وتساءلت:
ماله إسلام ياإلياس؟.
-طارق وغادة على علاقة ببعض وأكيد إسلام عرف.

مش فاهمة قصدك إيه؟.
توجَّه إلى الحمَّام:
-لمَّا أرجع هفهِّمك، دقائق معدودة داخل الحمَّام ثم خرج سريعًا يرتدي ثيابه بعجلة، بينما نهضت ميرال واقتربت تساعده:
-إسلام جاي يتخانق يعني مع طارق؟.
اومأ له وقال:
-إسلام عصبي وممكن يعمل فيه حاجة ويخسر نفسه، لازم أنزل حالًا.
-طيب أنا كمان هجي وراك..توقَّف وهو يغلق زارير قميصه:
-إيَّاكي، مش عايز يكون ليكي يد من قريب ولا من بعيد.
-إيه اللي بتقوله دا، إنتَ ناسي الاتنين أخواتي؟.
-لا مش ناسي، بس لمَّا أقول كلمة تتنفِّذ من غير ولا كلمة، ويالَّه ادخلي البسي هدومك، ابنك ممكن يجي في أي وقت.
لمعت عيناها بالدموع من صراخه عليها..أومأت برأسها وتمتمت وهي تنظر بعيدًا:
-حاضر..قالتها وتحرَّكت إلى الحمَّام بينما هو غادر يزفر بأنفاسٍ مرتفعة.

خرج الياس من منزله متَّجهًا إلى منزل طارق، عند وصول إسلام في تلك اللحظة، توقَّفت السيارة بعنف أمام البوَّابة، وترجَّل منها بخطواتٍ غاضبة، وملامحه تشتعل بالغضب، عيناه لا تبصرانِ سوى منزلِ طارق، أوقفه صوتًا جهوريًّا صاخبًا :

– بتعمل إيه عندك؟
تجمَّد إسلام في مكانه، وانتفض قلبه فورًا..استدار ببطء، فوجد إلياس يقترب نحوه بخطواتٍ ثابتة بنظراتٍ تشتعل بغضبٍ مكتوم.

– اركب عربيتك وارجع على البيت من غير ولا كلمة…اتجنِّنت، عايز اللي ميعرفش يعرف؟

كوَّر قبضته، وارتجفت أنفاسه غضبًا، وصدره يصعد ويهبط كبركانٍ يوشك على الانفجار:

– لا والله! دا اللي ربِّنا قدَّرك عليه؟ بدل ماتدخل تكسَّر دماغه!

رمقه إلياس بنظرةٍ باردة:

اسمعني يالا من غير رغي كتير…أكسر دماغ مين، ليه أختك لسة مراهقة ولَّا إيه، ولَّا هوَّ خطفها؟.جنان مش ناقص..أنا عملت اللازم والموضوع انتهى.

ارتفع صوت إسلام ساخطًا:

-إيه اللي بتقوله دا ياإلياس؟

رد إلياس بصوتٍ كالجليد الحاد:

– اللي بقوله إنَّك ترجع على بيتك ومسمعش صوتك…ولَّا أقولَّك، روح صالح مراتك..إيه، نسيت إنَّك متجوِّز، مش عيب في حقَّك ياأستاذ تسيب مراتك دا كلُّه؟

تشنَّج فكُّ إسلام، وعيناه تشتعلان نارًا:

– حياتي وأنا حرِّ فيها…أنا مابدَّخلش في حياتك الخاصة..

اقترب إلياس منه حتى لم يعد بينهما سوى خطوة، ووضع كفَّيه بثقلٍ على كتفيه، وأردف بنبرةٍ ممزوجةٍ بالسخريَّةً والبرود:

– الليلة مراتك تبات في بيتك ياابن مصطفى السيوفي..ودايمًا المشاكل الخاصَّة دي تبقى بينكم…مش لازم العالم كلُّه يعرف بيها، فيه الشامت أكتر من الحبيب ياسيادة الدكتور الغبي.

ربت على كتفه باستخفاف، ثم أشار إلى سيارته بأمرٍ حاسم:

ودلوقتي يالا…اعمل اللي قولت عليه.. مش عايز تخلِّف، عيب أوي في حقَّك تكون دكتور جامعي وتعملِّي بلطجي..
وأه هدخَّل في حياتك الخاصَّة، ولو مش عاجبك اخبط دماغك في مليون حيطة..لكزه بإصبعه:
-ياله ياعمِّ البلطجي، كان ناقص تجبلي مطوة في جيبك.

ظلَّ إسلام يحدِّق به لحظات، ورغم أنَّ عروقه تتنبض بالغيظ من كلماته الباردة، إلَّا أنَّه استدار بصمتٍ ثقيل، وصعد إلى سيارته وغادر بسرعة، في تلك اللحظة تتسلَّلت سيارة يزن، وبجواره رحيل التي كانت تنظر إلى خروج سيارة إسلام وتوقُّف إلياس أمام منزل طارق بتساؤل:
-فيه إيه يايزن؟.
هزَّ كتفه بجهل، لحظات ووصل يزن إلى حيث يقف إلياس أمام منزل طارق..ترجَّل بخطواتٍ متردِّدة، واقترب منه:

– فيه إيه؟

لم يلتفت إلياس نحوه، وتساءل بصوتٍ جافّ:

-طارق فين؟

– مسافر شرم.

أومأ إلياس دون تعليق، ثم تحرَّك مبتعدًا خطواتٍ قليلة قبل أن يتوقَّف فجأةً ويستدير بحدَّة، وتطلَّع إلى يزن بنظراتٍ تصيبه كالسهام:

– عرفت إنِّ رؤى هربت من المستشفى؟

شهقت رحيل بصدمة:

– هربت إزاي؟!

ابتسم إلياس بسخريَّةٍ مُرة، وأشار إلى يزن بنظرةٍ لاذعة:

اسألي جوزك العبقري..البتِّ مادام هربت يبقى مخطَّطة لحاجة..ولو وقعت تحت إيدي مش هرحمها.

تقدَّم نحو يزن خطوةً واحدة، وعينيه تتوهَّجان بوعيدٍ لا يعرف الرحمة:

– لو قرَّبت من حدِّ من عيلتي…هموِّتها من غير ما يرفِّلي جفن، خلِّي بالك.

مرَّت عدَّة أيّامٍ على الجميع في هدوءٍ ثقيل، وكأنَّ العاصفة تختبئ خلف السكون..عند رحيل، خرجت من شركتها، تتحدَّث بهاتفها بصوتها الهادئ رغم تعب النهار:

– تمام ياطارق، طيب إنتَ هترجع إمتى؟

جاء صوته من الطرف الآخر، متعبًا كمن أنهكته الحياة:

– مش هرجع يارحيل…خلِّيني هنا أباشر الشغل، وأنزل القاهرة بس لو فيه اجتماعات مهمَّة.

تفهَّمت نبرته، وابتسمت بخفوتٍ وكأنَّها تحاول تخفيف العبء عن كاهله:

– هسيبك كام يوم تغيَّر جو وترجع.

سلِّميلي على يزن.

– حاضر…فيه حاجة عايزة أقولَّك عليها..مش عارفة المفروض تعرف ولَّا لأ…بس لازم أقول.

ساد صمتٌ ثقيل وهو ينصت، حتى انتهت كلماتها، فجاء صوتهِ مختنقًا بالغضب:

معرفش رؤى عايزة توصل لإيه…بس إلياس ممكن يموِّتها فعلًا المرَّة دي.

المهم خد بالك من نفسك وطمِّني عليك.

قالتها وأغلقت الهاتف، ثم صعدت سيارتها وقادتها عائدةً نحو منزلها..

تتبعت الطريق أمامها الذي كان خاليًا، والهواء يصفر على جانبي السيارة، إلى أن شعرت بشيءٍ باردٍ يلتفُّ حول عنقها.. بعد خروج رؤى من بين المقاعد الخلفيَّة، عيناها مشتعلة بالجنون، وصوتها يقطع السكون:

-أهلًا يامرَات أخويا…

توقَّفت السيارة فجأة، أصدرت الفرامل صرخةً حادَّة، والسكين يلمع فوق حجابها، يتحرَّك ببطءٍ مُهدِّد.

– هتعملي أي حركة ندالة…هدبحك. لازم أحاسبك على كلِّ حاجة، امشي من غير نفس على المكان اللي أقولِّك عليه.

– تمام…ابعدي السكينة علشان أشغَّل العربية.

– امشي يابت، مش عايزة شغل المدير بتاعك.

استدارت راحيل إليها بغضبٍ حارق، صرخت في وجهها بسخرية:

– واحدة زبالة…هنتظر منها إيه؟

-طيب ياستِّ الحسن والجمال ، عدِّي الدقايق والساعات..
لم تجبها رحيل، عيناهافقط كانت تلمع ببرودٍ غامض، بينما رؤى دفعَت السكِّين بقسوةٍ أكبر نحو رقبتها:

– يلَّا يانضيفة…دلوقتي تعرفي الزبالة دي بتعمل إيه.

تحرَّكت السيارة في صمت، دقائق معدودة وانتهى الطريق إلى مكانٍ معزولٍ، أرضه قاحلة، والظلال فيه موحشة..دفعتها رؤى بعنفٍ للخارج، فترنَّحت رحيل قليلًا ثم استقامت، تنظر حولها بعينينِ ثابتتين رغم الاضطراب في صدرها
ارتفعت صوت ضحكات رؤى مع صوت الهواء:

-إيه، خايفة؟

زمَّت رحيل شفتيها بسخريةٍ باردة:

-ممكن…مش مجنونة.

رفعت رؤى كفَّها لتلطُمها، لكن رحيل سبقتها بصفعةٍ قوية أطاحت بها أرضًا، ليرتفع صوت ارتطامها بالتراب، فاقترب أحد الرجال بسلاحه نحو رحيل، لكن رؤى صرخت فيه بجنون:

– ماتدخلش من غير ماأطلب منَّك!.

نهضت وهي تمسح التراب عن كفَّيها، وعيناها تشتعلان، ودنت من رحيل التي وقفت شامخة، بملامح تفيض كبرياءً وهدوءًا مخيفًا.

– بصِّي ياحشرة…أنا قابلت من عيِّنتك كتير..أوعي تفكَّري إنِّي خايفة منِّك
يابت..أنا بس عايزة أعرف آخرك إيه.

هنا اشتعل جنون رؤى، وصرخت بأوامر مجنونة:

اربطها، وعايزة ميِّة نار…وعايزة نار!

حرَّكت رحيل رأسها باستخفاف، ثم انحنت نحوها وهمست بنبرةٍ جعلت قلب رؤى يضطرب للحظة…
-اعملي اللي تقدري عليه، قالتها رحيل..
اقتربت رؤى تشير إليها بالسكِّين:
-هدبحك.
ولكن وقفت رحيل شامخة رغم تهديدها، وعيناها ثابتتانِ لا تعرفان خوفًا، وأردفت بصوت ساخرًا ممزوجًا بالازدراء:

– حقيرة، ولا يهمِّني..على الأقل أنا أنضف منِّك..ماموِّتش أختي ولا غدرت بيها، لو مت..هيقولوا ماتت مقتولة بغدر من أخت جوزها المجرمة..أمَّا إنتي…هيقولوا كلبة وراحت، حتى يمكن مش يدفنوكي.

صرخة هستيريَّة انفجرت من حنجرة رؤى، واقتربت بجنون، لكن وصول سيارتين بحركةٍ مفاجئة، لتصرخ أصوات الفرامل في المكان، جعلها تتراجع مذعورة..توقَّفت السيارتان أمامهنّ، ونزل إلياس بخطواتٍ ثابتة، ومالك خلفه، ورحيل تبتسم ببرودٍ يشوبه الانتقام:

– ياااه ياإلياس…كنت متأكِّدة إنِّك هتيجي.

– رفع الرجل المسلَّح سلاحه في وجه إلياس، وصرخ بجنون:

– لو قرَّبت…هموَّتك.

طلقة واحدة اخترقت ذراعه، فسقط سلاحه أرضًا قبل أن يكمل تهديده، بينما ركضت رؤى تحاول الفرار كالوحشِ الجريح..أشار إلياس ببرود إلى مالك:

– هاتها…مش عايزها تهرب.

لم تمر دقائق حتى كانت تصرخ بين قبضتي مالك، تحاول التملُّص بلا جدوى..استند إلياس على سيَّارته، أخرج سيجارة، أشعلها بهدوءٍ مرعب، كأنَّه لا يلتفت لعويلها ولا لجراحها.. دفَعها مالك أمامه فسقطت عند قدميه، اعتدل ببطء، ووضع حذائه بقسوةٍ على كفَّيها:

– بإيدك دي، كنتي بتدِّي حبوب المخدَّرات للممرضة علشان تحطَّها في دوا ميرال..رغم إنِّي كنت راجل معاكي…بس إنتي طلعتي واطية..غبية! يزن دخَّلك المستشفى علشان يحميكي منِّي…لكن كالعادة، الشرِّ اللي في دمِّك لازم يفضحك.

انحنى نحوها، مازال يضغط بقدمه على يديها، وأردف بهمسٍ باردٍ يجمِّد الدماء:

– عارفة، هعمل فيكي إيه؟

ارتجف جسدها محاولةً سحب كفَّيها من تحت حذائه، وأردفت بصوتٍ خرج متقطِّعًا:

– إلياس، صوابعي اتكسرت..

ضحك دون أن يصل الضحك لعينيه:

– لا والله، يعني كده مش هتحتاجي إنِّي أقطَّعهم واحد واحد؟

ارتفع صوت بكاءها، فأشار إلى مالك بلا اكتراث:

– ارفعها، يمكن تصعب عليَّا.

كانت رحيل تراقب بصمت، وهاتفها بين أصابعها، أرسلت رسالةً قصيرة إلى يزن ثم أعادت النظر ببرود إلى المشهد..رفع مالك رؤى من خصلاتها، أوقفها أمام إلياس الذي نفث دخان سيجارته ثم ألقاها أرضًا، دعسها بحذائه واقترب، يجذُب شعرها بقسوة، وهمس في أذنها بنبرةٍ مرعبة:

تعرفي..نفسي أعمل فيكي إيه؟ أحرقك…أولَّع فيكي، بس مش قادر.. بس وحياة ميرال عندي..لأموِّتك موتة تصعب على الكلاب نفسها.

لكن أوقفه صوتًا لسيارة شرطة توقَّفت أمامه، وخلفها سيارة يزن، نزل يزن أوَّلًا، وركض بخطواتٍ غاضبة، بينما ابتسم إلياس ساخراً وهو ينظر إلى رحيل:

– مش بلطجي يعني…بس كنتي تصبري..آخد حقِّي منها وبعدين أبعتهالهم يربُّوها.

أطرقت رحيل رأسها قليلًا، قالت بصوتٍ هامس:

آسفة ياإلياس…محبتش تخسروا حاجة على شخص مايستهلش.

بعد بلاغ يزن عن اختطاف زوجته، تقدَّم الضابط وقبض على رؤى وسط صراخها وعويلها، بينما تقدَّم يزن نحو رحيل القابعة في صمت:

-إنتي كويسة؟

أومأت برأسها، قالت بصوتٍ خرج بنبرة تحدٍّ خافتة:

صدَّقتني لمَّا قلتلك إنَّها هتحاول تقتلني؟ طيب…لو ماكنتش عملت حسابي واتَّصلت بيك أوَّل ماشوفتها بتركب عربيتي؟

استدارت بنظرها نحو إلياس، ابتسمت بسخريَّة:

عارفة إنَّك كنت موصِّي الأمن بالمراقبة…علشان كده كنت متوقِّعة..

مرَّت أسابيع..
بعد عدَّة أيامٍ بفيلَّا السيوفي..
طرقت باب الغرفة ودلفت إليه كان منكبًّا على جهازه، اقتربت منه بتردُّد:
-ممكن نتكلِّم؟.
-مشغول..قالها ببرود وهو يتابع عمله.
-طيب لمَّا إنتَ مش طايق تشوفني، ليه رجَّعتني؟.
رفع رأسه وتطلَّع إليها بهدوء رغم صخب قلبه وقال:
-علشان محدش يعيِّب في إسلام السيوفي بس، إنَّما إنتي لسة قلبي مش قادر يسامحك، وياله اطلعي برَّة عايز أكمِّل شغلي.
انسابت دموعها مع ارتجاف شفتيها، رفع كفَّيه يشير إليها بالخروج:
-برَّة..واعملي حسابك لو خرجتي من البيت دا من غير إذني، ورقة طلاقك هتسبقك..أغمضت عينيها تبتلع إهانته بصمت ثم استدارت وغادرت الغرفة بخطواتٍ ثقيلة تتمنَّى من ربِّها أن يسحب روحها..

زفر باختناقٍ بعد خروجها، خلع نظَّارته وتراجع بجسده للخلف يمسح على وجهه بعنف يستغفر ربَّه، ثم نهض من مكانه..

في ملعب كرة السلة بالحديقة، كانت غادة تجري بخفة ورشاقة، تتنقل بين خطواتها وكأنها نسمة، تصارع يوسف وبلال بحماس طفولي يملأ المكان ضحكًا وصيحات. رفعت الكرة بمهارة، لتصيب هدفها وسط صفير طويل أطلقه يوسف بحماسة:
-اوووه عمتو القمر!

ابتسمت، وسحبت يوسف إليها وقبّلت رأسه قائلة:
-عندي شغل.. نكمل بكرة، تمام؟
ردّ الاثنان بصوت واحد:
-تمام.

بعد قليل، خرجت من الفيلا بخطوات سريعة، متجهة نحو سيارتها، وما إن صعدت حتى ارتفع رنين هاتفها. جاءها صوت شقيقها حادًّا:
-مالك هيوصلك.. انزلي من العربية حالًا.

لم تتجادل، نزلت بهدوء لتجد سيارة مالك قد توقفت أمامها. وقفت تنتظر نزوله ليفتح لها الباب، لكنه ظلّ في مقعده، يحدّق أمامه بوجه جامد لا يشي بشيء. تنفست بغضب، فتحت الباب بنفسها وجلست، ترمقه بعيون ملتهبة:
-مش من وظيفتك إنك تنزل تفتحلي باب العربية؟

نقل نظراته إليها عبر المرآة، وأردف بنبرة تنضح بالسخرية:
-الاستاذة شكلها شاربة حاجة على الصبح. أنا مش شوفير. أنا أوصلك عشان أمانك وبس، لأن أخوكي أعداؤه أكتر من أصحابه. إنما لو هتغلطي، عادي أسيب الوظيفة كلها. معاكِ المقدم مالك عثمان البحيري.

-زادنا شرف يا أستاذ مالك.

التفت بعينيه نحوها مباشرة، ابتسامة واثقة ارتسمت على شفتيه:
-شكرًا أستاذة غادة، عارف إني شرف لأي حد يعرفني.

اتسعت عيناها بذهول من وقاحته:
-دا إيه الغرور دا!

شغّل السيارة بهدوء، ثم قال بثقة لا تهتز:
-ثقة يا أستاذة، وحياتك مش غرور.. أعوذ بالله من الغرور.

بمنزل إلياس..

كان جالسًا يحتسي قهوته بشرفته القريبة من مدخل الحديقة، استمع إلى صوت يوسف:
-بقولَّك يابلال مين مثلك الأعلى؟ أنا قدوتي أبو تريكة، نفسي أكون لاعب زيُّه.

فتح الآخر فمه ووضع حبَّة الكريز يلوكها ثم قال:
-مثلي الأعلى يلا، الباشا تلميذ، نفسي أطلع زي كريم عبد العزيز في فيلم الباشا تلميذ.
-أهييه، لا ماتقولش.
-ماأنا قولت يامتخلِّف، نفض الآخر ثيابه وتوقَّف:
-طيب ماتيجي نعمل مشهد بروفة.
قطب بلال جبينه:
-بروفة على إيه؟..انحنى يوسف يسحبه من ملابسه:
-أنا أقولَّك بسيوني بسيوني، وإنتَ تقولِّي حازم حازم.

-إنتَ عبيط يابني، أنا الباشا إزاي أقولَّك بسيوني؟.
-ياعم مادوقِّش..المهم نمثِّل صح، بس استنى عايزين واحدة تمثِّل إنجي، أشار إلى شمس التي ترسم وقال:
-أختك وأهو أحبِّ فيها شوية.
حكَّ يوسف رأسه من الخلف ثم قال:
-إن كدا ماشي، أهمِّ حاجة أمثِّل معاك علشان نوصل العالمية.

هبط إلياس إليهما بعد سماع حديثهما:
-أه وأنا أعمل اللواء عزمي، فين الكاميرا؟.
-كاميرا إزاي ياعمُّو مش لمَّا نجيب لك مايا..رفع بلال من ثيابه حتى شعر بأنَّه طائر، فقال بمزاح:
-ياسلام ياولاد كان نفسي أشوف مصر كلَّها من فوق بيت عمُّو إلياس.
تركه إلياس حتى سقط فوق الأرضية متأوِّهًا
-أااه..ضهري ..قالها بصراخ، فتراجع يوسف بضحكاته:
-ألف سلامة عليك يابسوني، حلو المشهد، أنا صوَّرته بس خايف ياخدوا أبويا ويسيبوك.
رمقه إلياس بنظرةِ صارمة:
-لو لقيتك قدَّامي..
هتعمل إيه يعني غير إنَّك تاخد أمِّي إجازة وأنا برضو أطلع لك.
-امشي ياحيوان..انحنى يسحب بلال:
-ماتقوم ياأخويا هيَّ النومة عجبتك ولَّا إيه؟.
-نهض متأوِّهًا:
-آه ياعالم ياظالمة، أبوك دا بياكل إيه يلا؟..توقَّف يوسف بعدما ابتعد عن والده:
-بقولَّك إيه يابلال، ماتيجي نرجع نشتغل شغلانة أبوك.
-أبويا، ليه هوَّ أبويا كان شغَّال إيه؟.
-كان بيقول تمرجي باين، تعال الأوَّل نعرف التمرجي دا بيعمل إيه؟.
هزَّ إلياس رأسه بيأس مع اقتراب أرسلان منه:
-إيه اللي حصل؟.
-من بكرة تروح تحوِّل للعيال دي مدرسة حكومي، والله لأربِّيهم الحيوانات دول.
-هبِّبوا إيه تاني؟..رمقه بصمت ثم تحرَّك وهو يقول:
-أنا رايح أنا وميرال نزور رانيا ورؤى، المحاكمة بكرة، و الظابط طلب ميرال للشهادة..
أومأ بتفهُّم، بعد ساعاتٍ بغرفة وكيل النيابة بعد قصِّ ميرال ماحدث..خرجت من غرفة وكيل النيابة إلى إلياس الذي كان بانتظارها بالخارج، بوصول رانيا ورؤى..توقَّفت رانيا تتطلَّع إليها باشتياق:
-عاملة إيه حبيبتي؟..لم ترد عليها واختفت بأحضان إلياس تبتعد عن نظرات رانيا ورؤى..
-الناس دي مش عايزة أشوفها، أنا بكرهم، يالَّه نمشي ياإلياس.
-استني لحظة عايز أتكلِّم مع وكيل النيابة..بعد دقائق دلف للداخل بوقوف رؤى تنظر إليه بكره، رفعت عيناها إلى رانيا وبدأت تقصُّ لهم ماصار، وقامت باتِّهامها بكلِّ ماحدث، لم تصمت رانيا واقتربت منها تنظر إليها بغلّ:
-مين دي يابت، أنا مكنتش أعرف حاجة..اتَّجهت بنظرها لوكيل النيابة:
-والله ياباشا ماأعرف ولا عمري فكَّرت أأذي بنتي.
-كذابة..قالتها رؤى واتَّجهت بنظرها إلى ميرال التي تنظر إليهم بصمت وقالت:
-هيَّ كانت عايزة تنتقم من بنتها أصلًا، علشان اختارت فريدة وابنها حبِّت تكسرهم ..اقتربت رانيا كالمجنونة..

لحظة صمت مميتة وهو يراها قد وضعت تلك الآلة الحادَّة بعنقها، تصرخ بجنون بها:
-كان لازم آخد حقِّي منِّك من زمان..
ذهول من الجميع وهم يرونها تسقط بجسدها والدماء تنزف من عنقها كالطائر المذ. بوح، مشهد رغم قوِّة عنفه إلَّا أنَّه أراح قلوبًا كثيرة، استدار سريعًا يسحب تلك التي وضعت كفَّيها على أذنها تصرخ من كلمات التي سبحت بدمائها، يخبِّئها بأحضانه، علَّه يخفِّف من رؤيتها لمشهد سيظلُّ حافرًا بالقلوب..

عامٌ آخر مضى بحلوه ومرّه، وها هي الآن تقف أمام المرآة تتأمل انعكاسها بفستان الزفاف الأبيض، كزهرة تتفتح في ليلة العمر. رفعت يدها تُصلح خُصلات شعرها المتناثرة، وفي تلك اللحظة دلفت ميرال بخطوات مفعمة بالحياة، عيناها تتألقان بسعادة حقيقية.

-الله الله.. إيه الجمال والحلاوة والشقاوة دي؟

ضحكت غادة بخجل:
-ميرسي يا ميرو.. حلوة بجد ولا إيه؟

اقتربت ميرال وقرصت وجنتيها بخفة:
-زي القمر يا روحي، بس أهم حاجة بقى.. عايزين نعمل زي ما اتفقنا.

نزلت ببصرها نحو الأرض، وهمست بصوت متردد:
-أوعدك.. إن شاء الله.

اقتربت ميرال تحتضنها بحب، في تلك اللحظة انفتح الباب لتدخل فريدة، تحمل بعينيها بريق الدموع ودفء الأمومة. اقتربت تضمها بقلبٍ يرتجف:
-ما شاء الله عليكي يا حبيبة ماما.

ابتسمت غادة رغم دموعها:
-خلاص بقى يا ماما، كدا الميكب هيبوظ.

قبّلت فريدة جبينها برفق:
-خلاص.. سكت اهو.

بعد دقائق ، دلف مصطفى، عيناه تتفقدان صغيرته التي كبرت، وتألقت كالأميرات. توقفت الكلمات على طرف لسانه

-بابا… قالتها بصوت مرتجف وركضت إلى أحضانه.

ضمّها بحنانٍ أبوي، وقبّل جبينها طويلاً:
-ربنا يسعدك يا حبيبة بابا.

التفتت غادة خلفه، لتجد اسلام يقف مستندًا إلى الجدار، عينيه تلمعان بالحب والوجع معًا. اقتربت منه ببطء، توقفت أمامه بصمت، فابتسم واقترب هو الآخر، يسحبها إلى أحضانه حين لمح دموعها المتساقطة.

-بس بقى.. بطّلي عياط، مفيش عروسة بتعيط.

تمتمت بخفوت:
-لسة زعلان مني؟

طبع قبلة على جبينها هامسًا:
-ربنا يسعدك يا حبيبتي.. يلا، اجهزي، عريسك تحت مستعجل.

رفعت عينيها حول الغرفة، تبحث عنه:
-فين إلياس؟ مش المفروض ييجي؟

ابتسم إسلام وأشار إلى نفسه مازحًا:
-وأنا ما ينفعش؟

هزّت رأسها بالرفض، وشعرت بقبضة قوية تعتصر فؤادها، ثم استدارت إلى ميرال بصوت متهدّج:
-إلياس مش هيحضر الفرح.

تعليقات