رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والثانى و العشرون
تجمدت نظرتها وانكمشت في مكانها كزهرة سقط عليها الصقيع.
أهذا هو ظافر؟ أحقًا نسي؟ أم من معها الآن لم يكن رفيق روحها بل يشبهه؟
وبعد صمتٍ طويل ابتسمت بمرارة تجرّ الحنين خلفها كظلٍ مثقوب:
"كانت هناك بركة صغيرة، قرب مسكن تهامي... كانت قاعدتي السرية… أظن أنني لم أخبرك عنها من قبل."
لم يعلّق ظافر فقط شعر أن الماضي يعيد ترتيب نفسه بداخلها. تساءل: لماذا كل هذا الانغماس المفاجئ في ذكريات مضت؟ لماذا بدت له اليوم كأنها تسكن في زمنٍ غير الذي يعيشه؟ مرّت السنوات وتآكلت الذاكرة
وزيفت الحقائق لكنه أدرك الآن أن بعض الذكريات لا تموت... بل تنام في الظل وتعود حين يُستدعى الوجع.
في النهاية رضخ ظافر لرغبتها شيء ما في نظرتها الخافتة المليئة بالرجاء جعله يعجز عن الرفض ربما كان يخشى أن يخذلها أو أن يخذل شيئا عالقا في قلبه لم يعترف به بعد.
كانت الليلة صافية على غير العادة. المطر الذي ظل يجلد الأرصفة طوال اليوم قرر أن ينسحب أخيرا بصمت فاحتفظت السماء بالقمر كأنها تحرسه وحده بعد انحسار الغيوم فألقى بنوره الفضي على كل ما لامسته الظلمة.
قاد ظافر السيارة بصمت وسيرين تجلس إلى جواره تهمس له ببعض الإرشادات حتى وصلا عند أطراف المدينة بالقرب من قصر آل تهامي السابق حيث كانت البركة القديمة ظهرت لهم الآن بحيرة صناعية محاطة بحديقة عامة تغير كل شيء... لكن شيئا ما ظل ساكنا في ملامح سيرين كأن ماضيها استيقظ على صوت خطى العودة.
لحسن الحظ لم يكن هناك أحد سكون تام يعانق ضوء القمر ترجلت سيرين من السيارة معطفها الطويل ينسدل حولها يحاكي حركة النسيم مشى ظافر بجانبها يتطلع إلى البحيرة ثم سألها
أهذا هو المكان
أومأت برأسها وهمست نعم... تغير كثيرا لكنه ما زال هنا.
كان ظافر يحاول أن يستعيد ذكرى واحدة تربطه بهذا المكان لكنه فشل فرغم زياراته المتكررة لمنزل تهامي في طفولته إلا أن المنطقة التي تقع خلفه كانت أرضا مجهولة بالنسبة له كأنها كانت تنتمي فقط لعالم سيرين.
تقدمت هي بخطى
واثقة نحو الجسر الخشبي ثم وقفت في منتصفه وشخصت ببصرها نحو السماء نحو القمر تحديدا.
في تلك اللحظة لم تكن مجرد امرأة بل طفلة عادت إلى أمانيها الأولى كانت هناك منذ أعوام تذكرت عندما أغمضت عينيها وتمنت أمنية خافتة أن تكبر وتتزوج ظافر.
ها هي الآن تقف في نفس المكان... تتأمل القمر نفسه... والاسم ذاته يرافقها أمنيتها تحققت لكن هل كان القلب هو ذاته
وقف ظافر متأملا ضوء القمر الذي انسكب على وجهها وجسدها وكأنها ذابت في المشهد وصارت جزءا من الطبيعة امرأة مرسومة بالنور تتماهى مع الجسر مع البحر مع الليل... لوحة لا تحتاج إلا الصمت.
استدارت نحوه ومن ثم تمتمت وشفتيها ترتجفان برقة
زاڤ لم تقف هناك
ظل واقفا كأنه مسمر بأرضه مأخوذ بها وبكل شيء لا يفهمه وأخيرا تحرك خطا نحوها ببطء ثم وقف قبالتها وأمسك بيدها.
شهق دون أن يشعر... كانت يدها باردة باردة حد القلق.
يدك... كأنها قطعة ثلج ما بك قالها بحنو خافت.
ابتسمت بهدوء وهي تجيبه بصوت كالحلم
لأن قلبي دافئ.
عبارة طفولية مألوفة... هو من قالها لها يوما في زمن كانت فيه الأماني تقال دون حساب لكن وجهه الآن لم يكن يحمل أي تذكر. لم يعرفها ضمها إليه فجأة يحاول أن يدفئ صقيعها أن يصدق أن كل شيء له ما زال حيا في قلبها واضعا كفيهما المتشابكين في جيب معطفه كمن يخشى
أن تفلت منه أو تتلاشى.
لديك دقيقة واحدة فقط ثم نغادر.
قالها ظافر بنبرة قاطعة كنصل انغرس في قلب اللحظة.
تأملته سيرين بعينين تختبئ فيهما بقايا الرجاء.
أهذا كل ما في الأمر
كان صوتها مزيجا من خيبة أمل وحنين ضائع كمن يحاول أن يوقظ في الآخر ذاكرة نائمة تحت رماد السنوات.
لو لمح فقط ظلا لذاك الطفل الذي كان ذاك الذي حمل أمنية صغيرة إلى هذه البركة ذات مساء لكان كافيا.
لكن عينيه كانتا صامتتين بلا ملامح كأن الطفولة طويت داخله ونسيت تماما أو ربما لم يكن هو صاحب الذكرى من الأساس.
عادت سيرين إلى غرفتها كمن يعود خاسرا من حرب لم يخضها.
حاولت أن تنام عبثا.
أغلقت عينيها بإحكام لكن الأفكار كانت تتسلل إليها كأشباح ليلية.
همسات مارلين كانت ما تزال تطرق رأسها
هناك أمر يثير فضولي قلت إنه كان لطيفا حينها أليس كذلك
شروق الشمس لم يحمل معه النور بل ألقى فوق عينيها إرهاقا مضاعفا.
لم تغف لم تستسلم للنوم كانت تتأرجح بين النبش في الذكريات ومحاولة فهم الحاضر.
قررت سابقا أن تخرج نوح من قصر الغابة وتهرب لكن تلك الرغبة بدت الآن حلم مستحيل.
كل شيء ارتبك.
هل أحبت الرجل الخطأ
أم أن قلبها كان أعمى أمام الحقائق
وجاسر لماذا لم يذكر من قبل ولماذا اسمه فقط يثير هذا الكم من الأسئلة
بعد الإفطار غادر ظافر المنزل لغرض
لم يفصح عنه وسرعان ما وجدت سيرين نفسها على باب منزل مارلين.
لم تحتج وقتا لتبحث عنها فقد وجدتها هناك في الحديقة متكئة على كرسي خشبي تترك الشمس تداعب وجنتيها وتحتسي عصيرا باردا لا شيء يعكر مزاجها.
خلعت مارلين نظارتها الشمسية ببطء ونظرت إليها نظرة امرأة تعرف ما سيقال.
ما الأمر
اقتربت سيرين خطوة إلى الأمام دون تردد دون تمهيد وقلبها يضخ تساؤلات أكثر من الدم
أريد أن أسألك عن جاسر.
ارتعشت شفاه مارلين لحظة ثم رفعتها لتحتسي ما تبقى من عصيرها.
ضمت شفتيها ولوحت بكفيها تتنصل من المسؤولية.
أنا آسفة عزيزتي لست سوى زوجة ابن من عائلة نصران. هناك أشياء كثيرة لا أعلمها وحتى لو كنت أعلم لما تجرأت على الحديث.
لكن سيرين لم تكن في مزاج يسمح بالهروب.
ظنت أن مارلين حين جاءت للحديث عن جاسر كانت تملك سببا أعمق.
كانت تشك بأن في أعماق هذه المرأة نية مبيتة وفي الحقيقة كانت محقة مارلين أرادتها أن تصطدم بالحقيقة أن تتورط أن تنهار العلاقة بينها وبين ظافر.
لم تكن تجرؤ على البوح لأن ظافر لو عرف ربما سيمزق كل شيء وربما ينهار كل شيء لهذا لم يكن أمامها سوى أن توجهها نحو الحقيقة وتتركها تسقط فيها وحدها.
لماذا لا تسألين السيدة شادية
قالتها مارلين بنبرة باردة تحمل تحتها الكثير من الحمم وزادتها من الشعر بيتا عندما
أضافت
إنها أمه ومن المفترض أن تعرف أكثر عنه أليس كذلك