رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والثاني والخمسون
حين أبصرته شادية يقترب تقدمت بخطوات مترددة قلبها يسبقها قبل قدميها وقالت بصوت مثقل بالرهبة
جاسر يريد التحدث معك على انفراد.
ثم انسحبت وتبعها الآخرون تاركين خلفهم فراغا أثقل من الحضور.
اقترب ظافر من السرير حيث يرقد شبيهه الذي فرقته عنه دقائق قليلة عند الميلاد وسأله بصوت يشوبه الحذر والاتهام
هل أنت من بعث تلك الرسالة
تبدل وجه جاسر وكأن قناعا من قسوة المرض قد انزاح عنه فأشرق بملامح أكثر رقة وأشار إليه بأصابع واهنة أن يقترب.
مال ظافر فسمع أنفاسا متقطعة تتصارع للخروج من صدر أثقلته الأجهزة حتى خرجت الكلمات كالهمس المبتور
إنها تحبني. أنا من أرادت الزواج منه.
تشنجت يدا ظافر ببطء تقبضا على الهواء حتى ابيضت مفاصله وتجمد بصره على أخيه كأن الزمن توقف بينهما.
لقد أيقن الآن أن سيرين قد أخطأت الاختيار.
أيعقل أن تظن حقا أن قلبها لجاسر يا لسخافة الأمر! ما لظافر سيظل ملك لظافر.. هكذا اعتاد.
كان ظافر لا يزال غارقا في غليانه يتخيل كل
لحظة ظن فيها أن سيرين تحبه بصدق.
أما جاسر فشعر بذبذبة العاصفة في نفس أخيه لكنه لم يتراجع بل ألقى بكلماته كمن يسكب الزيت على نار
كان ينبغي أن أكون زوجها.
قالها بصوت متهدج ملتصق بالاستماتة يعض على حروفه باستفزاز.
ارتجف حلق ظافر وانكمش صدره فلو لم يكن هذا المستلقي أمامه أخاه لسحقه بيديه لكنه قال بصرامة باردة تقطر منها القسوة
لا يهمني ما حدث بينكما. أنا زوجها الآن.
ثم نهض فجأة وصوته ينفذ كالسهم
لقد استيقظت أخيرا عليك أن ترتاح جيدا ولا تفكر في الغياب مجددا!
قالها ببرود متعمد ثم استدار تاركا وراءه ثقلا من الجليد وغادر بخطوات واسعة تحمل في صداها قرع طبول غضب مكتوم.
في الخارج هرعت شادية إليه بلهفة يائسة
الطبيب قال إنها معجزة أن جاسر قد استفاق يظنون أنه سيتمكن من الوقوف قريبا.
لكن وجه ظافر كان متحجرا لا يعكس سوى ظلام داخلي يقول ببرود جاف
أتمنى ألا ينهض مجددا.
تجمدت ملامح شادية وعيناها متسعتان كمن تلقى صفعة من السماء لكنه تجاهل ذهولها
وأدار
ظهره تاركا صدى كلماته كطعنة لا تندمل ومن ثم قاد سيارته عائدا إلى قصره والليل يتدلى فوقه كستار أسود بينما صدى صوتين يتناوبان في رأسه يطرقانه كالمطارق
أخطأت في اختيار الشخص المناسب.
إنها تحبني. أنا الشخص الذي أرادت الزواج منه!
اشتد الصداع في رأسه حتى غدا كطبول حرب تدق في جمجمته أرهقته سهراته المتواصلة أنهكته هواجسه لكن النوم أبى أن يقترب منه فالأرق أقسم أن يكون رفيقه المخلص حتى النهاية.
وأخيرا وصل ظافر إلى قصره ذلك المبنى الشاهق الذي بدا في عينيه أشبه بقوقعة فارغة لا تنبض إلا بالفراغ والوحدة.
مد يده المرتجفة إلى زجاجة الشراب الموضوعة على الطاولة يقبض عليها كما لو كانت طوق النجاة الوحيد المتبقي له في بحر عاصف ثم عاد ليهبط بجسده المثقل على الأريكة من حوله كان صمت الليل يشتد إلا من صفير الريح التي تعصف خارج النوافذ محملة ببرودة الثلج كأصوات أشباح تتآمر على عقله وتعيد إليه كل المشاهد منذ أن ارتبط بسيرين.
تذكر بوضوح لاذع تلك اللحظة
التي واجهته فيها بعينيها الممتلئتين بالخذلان وهمست له
لقد تغيرت.
لكنه يعرف تماما أنه لم يتغير قط أو لعله تغير لكن إلى نسخة أكثر صلابة وقسوة نسخة لا تعترف بالعاطفة سوى كجرح قديم يعاد فتحه كلما ظن أنه اندمل.
سكب السائل الكهرماني في كأس زجاجية يرفعها إلى شفتيه المطبقتين بغضب مكتوم يشربها دفعة واحدة يحاول ابتلاع نيرانه الداخلية كأسا تجر أخرى حتى فرغت الزجاجة بأكملها بين يديه.
أحس بالصداع يفتك برأسه ينبض في جمجمته كطبول حرب لا تهدأ لكنه استسلم لثقل جسده المتهاوي على الأريكة وأسند رأسه للخلف.. وخرجت الكلمات من بين شفتيه متكسرة أشبه بصرخة مكتومة
لقد كذبت علي سيرين!
تلاشت أنفاسه شيئا فشيئا وغلبه النعاس أخيرا ربما من أثر الشراب وربما من ثقل الحقيقة التي أنهكت روحه أكثر من أي سم وها قد تسلل إليه النوم كوحش متربص يجره إلى أعماق حلم مشوه لا يميز فيه العقل بين الوهم والحقيقة إذ وجد نفسه جالسا في قصره لكن كل شيء حوله بدا باهتا كأن الألوان
سرقت من المكان ستائر ثقيلة تتحرك بلا ريح وسماء سوداء تطل من النوافذ كفم مفتوح يوشك أن يبتلعه.
وفجأة ظهرت سيرين أمامه كانت أجمل من أي وقت مضى شعرها ينساب كسيل من الليل وابتسامة خفية ترتسم على شفتيها.
تقدمت نحوه بخطوات بطيئة حتى شعر بأن قلبه يكاد يخرج من صدره جلست بجانبه تمد يدها برفق على وجنته ثم همست له بصوت رخيم
اشتقت إليك يا ظافر...
لم يتمالك نفسه أطرافه ارتجفت بين يديها وشعر بأن جسده يتفتت
أخذت تداعب شعره تقرب شفتيها من أذنه كأنها ستسكب سرا سماويا لكن فجأة تغير كل شيء ابتسامتها تحولت إلى قهقهة ساخرة صداها ارتطم بالجدران كالسياط وإذا بها تسحب يدها من على وجهه بعنف تنظر إليه بعينين باردتين وقالت
هل ظننت حقا أنني اخترتك
ثم التفتت... وإذا ب جاسر يقف خلفها
بوجه واهن لكنه مغمور بالانتصار فمدت سيرين يدها إليه وتشابكت أصابعه ما وبخطوات واثقة رحلت معه تاركة ظافر في الظلام.
حاول النهوض لكن قدميه التصقتا بالأرض كأنها تحولت إلى وحل يغرق فيه صرخ باسمها
سيرين!
لكن صوته خرج مبحوحا بالكاد يسمع.
وما إن أوشكت الظلال أن تبتلعها حتى استفاق فجأة جالسا على سريره يتصبب عرقا أنفاسه تتلاحق عيناه متسعتان كمن رأى شبحا قلبه يخبط في صدره كالطبول الضارية وأذناه ما تزالان تصدحان بسخريتها
هل ظننت حقا أنني اخترتك
في مكان آخر كانت كوثر تعرف التي خطت سيرين طريقها نحوها لذلك لم تتردد لحظة عندما هاتفتها وابتاعت تذكرتين للطائرة ورسمت في ذهنها خطة مغادرة قبل أن يفيق الليل من سباته.
رفع زكريا عينيه إليها يتثاقل
القلق في صوته كظل يتبع صاحبه
كوثر هل سنغادر الآن حقا ألن يبدو الأمر غريبا للآخرين
كان صوته الطفولي يختبئ خلف السؤال لكن المعنى كان أوضح من كل شيء كان يحاول أن يلمح إلى الخوف الذي ينهش صدره من أن يلتفت ظافر إلى اختفائهما المفاجئ.
ابتسمت كوثر ابتسامة مثقلة بالوجع وقالت
أمك تنتظرنا يا صغيري وكل دقيقة نتأخر فيها تزيد جراح قلقها.
سكت الصبي فهو لمذا يملك ردا كان قلبه يعرف أن ما يشغل سيرين أكبر من قدرته على الفهم والمواجهة ومع ذلك نحت في داخله عهدا صامتا
حين يكبر سيعود ليقف أمام الجميع وسيقتص من كل من تجرأ على إيذائها.
قبيل انبلاج الفجر اصطحبت كوثر الطفل بين يديها إلى السيارة وانطلقت به نحو المطار.
كانت المدينة لا تزال في
سبات والسماء تصحو ببطء كما لو كانت تراقبهما في صمت حائر.
في تلك الأثناء كان الحارس الشخصي الذي يتعقب خطواتهما كظل ثقيل يرفع الهاتف متصلا بظافر.
رد ظافر بصوت رخيم يحاول أن يتجاهل الدوار الذي يعبث برأسه يثقل
ماذا هناك
جاءه الصوت البارد عبر الأثير
كوثر أخذت الصبي إلى المطار.
انتفض ظافر ينهض عن الأريكة كأن صاعقة سرت في جسده وقال بصرامة كمن يطلق رصاصة
اتبعهم اعرف إلى أين يتجهون.
أجاب التابع برضوخ
أمرك سيدي.
وما إن انقطع الاتصال حتى قفز من مكانه يمسك بمعطفه وارتداه بعجلة ومن ثم اندفع نحو الباب كان ذهنه قد بدأ يستعيد شيئا من صفائه بعد غفوة قصيرة لكن القلق الآن ينهش وعيه كذئب جائع وشك ضج في عقله بأن هذين الطفلين ليسا أبناء
كارم!
يا جدع لقد هرمنا بربك!!