رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم اسماء حميدة


 رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل التاسع والعشرون

كانت عيناها تنزلقان على الكلمات كأنها تمشي فوق طبول من الزجاج وكل سطر تقرأه في تقرير الوفاة كان كخنجر بارد يغرس في صدرها ببطء. كانت غارقة حتى النخاع في السطور تغوص في محيط من الحبر الأسود حين انفجر الصوت خلفها كقنبلة صامتة
هل تخليت عن التظاهر باللطف هل وصلت إلى السرقة أخيرا
اهتزت روحها في مكانها وسقطت الملفات من بين يديها كأوراق خريف عصفت بها ريح المفاجأة لتنثر حولها ماض لم يرد أحد أن يراه. نظرت خلفها وجف حلقها. لم يكن من المفترض أن يعود بهذه السرعة. أحمد... عادة ما يعود متأخرا كما يعود الليل بعد نهار طويل ثقيل الخطى بلا رغبة في الكلام.
فلماذا الآن ولماذا بهذه النظرة
حاولت أن تستعيد توازنها لكن قلبها كان يقرع كطبلة حرب قبل الهجوم. ابتلعت ريقها الجاف وقالت بصوت جامد كلوح من الثلج
لقد عدت.
كان أحمد واقفا عند الباب يرتدي بدلة داكنة تكاد تمتص نور الغرفة وربطة عنق مشدودة بعناية كأنها تخفي عنقه من أن يصرح بما يخفيه. قوامه النحيل بدا كرمح من صقيع ووجهه منحوت كتمثال من الرخام لا يظهر فيه أي انفعال. لم تكن عودته مجرد دخول عادي... كانت اقتحاما لصمت لم يرد أحد خرقه.
تقدم منها بخطى محسوبة طويلة عسكرية يخلع سترته ببطء كما يخلع القاتل قفازاته بعد جريمة

نظيفة. كان النبل يتدفق من حركاته لكنه نبل مسموم يختلط فيه الكبرياء بالخطر.
كانت سارة ترتجف رغم أن يداه لم تلامساها. لم يكن قد صرخ لم يمد يده لم يلوح بأي تهديد... ومع ذلك كانت خائفة. خائفة كفأر عالق في زاوية ضيقة أمام قط لا يستعجل القتل.
رغبت في الهرب في أن تهرب من تلك النظرة التي تسلخ جلدها بصمت لكن قدميها خانتاها وتحولتا إلى تمثالين من رصاص. تذكرت في لحظة كل ما قيل عن أحمد قبل أن ترتبط به... قسوته حدة طباعه قدرته على إسكات الجميع بنظرة واحدة. واليوم فقط اليوم شعرت أن تلك السمعة لم تكن مبالغة.
كان يقترب منها وهي تتراجع... خطوة بخطوة. كأنهما في رقصة عكسية هو يزحف نحوها وهي تنكمش للخلف حتى وجدت نفسها محشورة بين جسدها المرتعش وخزنة باردة من الحديد.
ثم توقف.
ركع أمامها بهدوء غريب كمن يتهيأ للصلاة أو يجهز نفسه لذبح بطيء. كانت ركبتاه تلامسان الأرض وعيناه تتسللان إلى عينيها كسكين يفتش عن موضع الطعنة القادمة.
ثم بصوت منخفض مشوب بتلك اللكنة المخيفة التي تتسلل إلى العظام
هل رأيته
تجمدت سارة كأن الوقت تحول إلى لوح زجاج. لم تفهم... هل يقصد التقرير أم شيئا آخر شيء لا تعرفه بعد ولا تدرك مدى ظلامه.
كان صوته ساكنا كصفحة ماء في ليلة بلا ريح يخلو من أي اضطراب خال
من النبرة التي تنذر بالخطر... لكن سارة التي خبرت وجهه كما تخبر الأم ملامح طفلها كانت تعلم يقينا أن هذا الهدوء ليس إلا قناعا من جليد يخفي تحته بركانا خامدا على وشك الانفجار.
عينا أحمد كحبر مسكوب في العتمة بلا قرار بلا نهاية بلا انعكاس لا تمنحانك فرصة لقراءة أي شيء... لكنهما في الوقت ذاته تسحبك إلى عمق لا ضوء فيه. الصمت فيهما كان أعلى من كل صراخ.
ابتلعت سارة ريقها كأن حنجرتها غدت ممرا ضيقا للذنب أومأت برأسها بخفوت ثم تراجعت عن إيماءتها بسرعة خائفة. لم تكن قد أنهت قراءة التقرير لم تلتهمه بعينيها كما أرادت فقط تذوقت أطراف الحقيقة... وتلك الأطراف وحدها كانت كافية لتحدث داخلها دوارا مباغتا.
فجأة امتدت يد أحمد... رفع ذقنها برفق يحمل قسوة العالم كمن يجبر وردة على مواجهة الريح. التقت عيناهما فشعرت كأنها مكشوفة تحت ضوء مجهر لا أسرار لها ولا دروع.
هل تعلمين لماذا لم أرغب في هذا الطفل
سؤاله تسلل إلى عقلها مثل دودة لزجة تلتف حول الحواس.
قضمت سارة شفتيها كأنها تمنع الكلمات من الفرار وهمست بصوت مبلل بالوجل
بسبب جودي...
كان في السطر الذي قرأته ما يكفي لإسقاط قلبها من بين أضلاعها.
تقرير التشريح...
لم يكن الغرق هو سبب وفاة جودي.
بل الخنق.
خنقت أولا ثم ألقي بها في
الماء كأن القاتل أراد أن يغسل يديه في نهر لا يغفر.
. وجه الحقيقة كان أقبح من الكذب.
اقترب أحمد أكثر ومرر سبابته على شفتيها المشدودتين بلمسة باردة تحمل تهديدا مبطنا... كمن يمرر السكين على رقبة دون أن يضغط. ثم انحنى هامسا في أذنها وصوته يقطر سخرية
لقد راجعت لقطات كاميرات المراقبة في قسم التوليد الذي كانت فيه ليا. وكان جيف هناك. في اليوم ذاته.
تراجعت سارة خطوة داخل ذاتها كمن يحاول الرجوع من كابوس لا نهاية له وقالت بعجلة يائسة
انفصل والداي منذ سنوات طويلة. من الطبيعي أن تكون له احتياجات كهذه. حتى لو كانت بينهما علاقة فقد عاملها والدي بلطف... لم يؤذها قط. لا يمكن أن يكون قد قتلها!
لكن كلماتها كانت هشة كبيت من ورق في مهب ريح سوداء.
لمعت على وجه أحمد ابتسامة لكنها لم تكن ابتسامة... كانت قناعا أو ربما سكينا ترسم به الشفاه لا لشيء سوى كي تخيف.
كانت تلك المرة الأولى منذ زمن نسي فيه الزمن نفسه التي يناقش فيها موت ليا مع سارة. وبدا كأنه يستلذ بكسر ذلك الحائط الصامت بينهما.
ترين جيف رجلا نبيلا... لأنه والدك فقط. يعاملك بلطف لأنك ابنته وليس لأنه طيب. لا يوجد شيء نقي في هذا العالم يا سارة. لا بياض ولا سواد... بل ظلال رمادية فقط.
والناس لا أحد منهم كامل. كلهم يرتدون
وجوها تريك ما يريدونك أن تريه لا أكثر.

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1