رواية عودة الذئاب الفصل الثالث و الخمسون بقلم ميفو السلطان
.... كان نديم يقفُ مذهولًا، يترجّاها بعينين غارقتين في الذعر، وصوته يرتعش:
ــ "بترجاكي يا قلبي.. بالله عليكي متسيبينيش.. أنا من غيرك ميت!"
كان يشعر أن أنفاسه تنزلق من صدره، وأن قلبه على وشك أن يُنتزع من بين أضلُعه. لكن الزمن تحجّر حين دوّى صوت الرصاصة .. وانخلع قلبه وهو يراها تُطلق النار على نفسها.
صرخ بصوتٍ مبحوح، صرخة اخترقت كل شيء:
ــ "لـــ ااااااا.. واااااجد!!!"
اندفع بجنون، واحتضنها قبل أن تسقط أرضًا، ضمّها لصدره كأن روحه تحاول الانصهار بروحها. أنفاسها صارت متقطعة، تلهث في صدره، وعيناها تلمعان بنظرةٍ أخيرة.. نظرة عشقٍ تُذيب الروح.
شدّها نديم إلى أحضانه بقوة، ودموعه تتساقط بلا توقف. العالم كله تلاشى من حوله، لم يرَ سوى حبيبته. الزمن عنده توقّف، والدنيا انطفأت، وبقي هو وهي فقط.
هزّ رأسه يرفض الحقيقة، يرفض أن يصدق أنها فعلت ذلك. بينما هي.. رفعت يدها المرتجفة ومسحت دموعه، وبابتسامة باهتة مغموسة بالحب همست:
ــ "كان نفسي حبّك يبقى أقوى.. وتحبّني زي ما أنا حبّيتك.. بس أنا مش زعلانة.. أنا عملت كده عشانك إنت.. عشان تعيش."
ارتجف صوتها ثم تابعت، وكأنها تمنحه الحياة في اللحظة التي تفقد فيها حياتها:
ــ "أنا.. اللي بديك قبلة الحياه.. عشان.. عشان.. عشان بـــــعشقك."
ثم أسلمت رأسها على صدره، ونامت هناك.. تاركة نديم معلّقًا بين الموت والحياة، بين العشق والفقد، لا يملك سوى دموعه واحتضانها كأنها آخر أمانٍ في هذا الكون.
ليصرخ نديم من أعماق قلبه، صرخة تشقّ الصدر:
ــ "وجد.. وجد! حبيبتي، افتحي عيونِك.. وجد، ما تعمليش فيّ كده.. لا، لا والله! لا.. ماعرفش أعيش من غيرك، والله لا، يا وجد!"
انفجر المكان بالفوضى، واندفع أسمر وهو يصرخ:
ــ "جوم! جوم بسرعة!"
فسقط الجد أرضًا، واندفع جابر إلى أبيه مذهولًا، يحتضنه بقوة، بينما العويل يملأ البيت والصرخات تتعالى من كل جانب. لم يكن المشهد سوى فوضى من دموع ودماء وأنين.سارعوا جميعًا نحو المشفى، والليل من حولهم يشتعل بالصراخ والقلوب المرتجفة.
.
احتضن جابر أباه وهو يبكي بحرقة، دموعه تتساقط كطفلٍ فقد كل شيء. لم يكن يظن يومًا أن في صدره قلبًا، لكن في تلك اللحظة وُلد داخله قلب، قلبٌ نبت مع تلك الطلقة التي اختارت "وجد" أن تطلقها، علّها تُعيد أبًا مات من زمن أو تُطفئ قسوةً لم يعرف لها نهاية.لقد فهم أنّها لم تمت عبثًا.. بل تركت أثرًا قد يُطفئ قسوة أبيها، ويمنحهم جميعًا بدايةً أخرى، ولو كانت مغموسة في الدماء والوجع. فعدل ميزان الشر بين أبيها وحبيبها اختلّ،
هنا دفعه الجد بقسوة، نظر إليه بعينين مشبعتين بالحقد الدفين، وهو يراه يبكي قهرًا بجانبه، ثم همس بصوتٍ متحشرج:
ــ "جوم يا ابوي.. إمّا نشوف البت."
نهض الجد بصعوبة، ونظر إلى ابنه نظرةً كالسكين تخترق صدره:
ــ "تروح فين يا جابر؟! تروح إيه؟.. هتروح تعد الكفن!"
ثم اتجه إلى آثار الدماء على الأرض، انحنى ومسحها بيده المرتجفة، عاد بها إلى جابر ومد يده، ومسح وجهه بدم ابنته وهو يقول بنبرة تقطر مرارة:
ــ "افرَح يا جابر.. إيه، مش مبسوط؟! خلاص.. هتاخد فلوس بتك.. آهه، البت راحت!"
صرخ جابر بصوتٍ يملؤه الانهيار:
ــ "ماتجولش اكده.. بطل! ما أتحملش يا بوي.. ما أتحملش!"
ابتسم الجد ابتسامةً ممزوجة بالحقد والخذلان، وقال بمرارة:
ــ "إيه ده؟! جابر طلع له جلب؟!.. طلع لك جلب بعد إيه؟.. بعد ما موتها! بعد ما موت بتك يا جابر.. ارتاحت، دم بتك أهه.. أشبع بيه.
هديك فلوس تكبش وتعبّي.. يابن عمران هديك ورث كتير، يملأ عينك.. إلا العين اللي ما يملاهاش إلا التراب."
ثم صرخ صرخه موجوعة، وصوته ينهار وهو يصرخ:
ــ "أروح فين؟! البت خلعت طلبي.. بتي الحنينة موتت روحها عشانك.. يا خسيس!"
هتف جابر بصوتٍ متحشرج وهو يلهث:
ــ "بنجيب طب جوم.. إمّا نلحجها!"
لكن صرخة عمران دوّت في المكان، صرخة رجلٍ يُمزَّق من الداخل:
ــ "واد يا بكري! تعالَ خدني.. ودّيني!"
نهض جابر بخطواتٍ متعثّرة، لكن صوت أبيه اخترق ظهره كالسهم:
ــ "رايح فين؟! ماهتجيش تشوفها.. عشان تِجعِد اهِنه لوحدك. ماحدش عايزك يا جابر، ولا حد بيحبك! البِت اللي كت بتحبك راحت.. كلنا بنكرهك، وجرفانين منك. إنت عار على العيلة!
الله في سماه.. من دلوك بعتبرك ميت! لا ليك أب.. ولا أعرفك! ويوم جنازتي.. تِحرُم عليك جنازتي!"
لكن جابر لم يرد.. ظلّ جالسًا مكانه كتمثالٍ منكسر، عيناه معلّقتان في الفراغ، وصدره يعلو ويهبط بأنفاس متقطّعة. لم يصرخ، لم يبكِ، لم يتحرّك.. كأن كل صوته ودموعه قد سُرقت مع طلقةٍ واحدة.
مدّ يده إلى وجهه الملطّخ بدم ابنته، نظر إلى الدم كأنه لا يصدق أنه دمها، ثم أغلق قبضته عليه بقسوة، كأنه يحاول أن يُمسك بها للحظةٍ أخرى.
وفي صمته الموحش.. كان أبلغ من أي صراخ.
لقد مات جابر حيًّا، ومات معه كل ما تبقّى من الدنيا.تركه الجد ومضى، يجرّ خلفه صوته المجلجل كالحكم الأخير.
فانحنى جابر على الأرض، وارتجف جسده كله، وبكى لأول مرة بحرقةٍ حقيقية، بكاء يقطع الروح. دماء ابنته لا تزال على وجهه، تنزلق مع دموعه، كأنها لعنة لا تُمحى.
شعر أنه في الدنيا وحيد.. لا أحد له. قلبه مخلوع، وروحه مهدومة، ومن كانت له بالدنيا كلها.. رحلت فقط كي يعود هو.
اندفع نديم كالمجنون، كالمسحور بروحها، يحتضن "وجد" بين ذراعيه. جسده كله يرتعش، خطواته مضطربة، وأنفاسه متقطّعة، كأنه يسابق الموت قبل أن يخطفها.
طوال الطريق إلى المشفى كان فاقد الاتزان، يلهث، يترنح، والدموع تنحدر على وجهه بلا توقف.
تلقّفها الأطباء مسرعين، انتزعوها من بين يديه وأدخلوها إلى غرفة العناية المركزة، بينما بقي هو واقفًا كالمهزوم، جسده يترنح، وعيناه مشدوهتان للباب الذي ابتلعها.
اقترب أسمر منه، ثم جذبه بقوة إلى صدره، ليكلبش نديم فيه، وينهار باكيًا كبكاء طفلٍ ضاع منه حضن أمه.
وفي لحظة أخرى، جاء الجد محمولًا، ضعيفًا، وعلم أنها في غرفة العمليات.. فسقط هو الآخر بين أيديهم. حقنوه بالمهدئات، علّها تخفف قليلًا من ثوران قلبه الموجوع، لكن لا شيء كان يطفئ الحريق.
صار بيت "أبو الدهب" غارقًا في سوادٍ قاحل، كأن السماء انطفأت فوقهم.
أربعة من العائلة على فراش المرض:
منهم من غاب عن الدنيا بعقله، ومنهم من يتقلب على وجعه، ومنهم من يلفظ أنفاسه الأخيرة.
وبقي الرجال واقفين في صالة المشفى، وجوههم مطفأة، لا حول لهم ولا قوة.. كأنهم أشباح في عالمٍ ينهار.
أتى جابر، ولم يمتثل لنداء أبيه.كان يقف بعيدًا، مذعورًا، ينظر بعينين زائغتين: أبوه في حالٍ خطر، وابنته في الداخل تلفظ أنفاسها الأخيرة بسببه.وقف كالغريب المنبوذ، كفأرٍ مذعور لا يلتفت إليه أحد، لا يريد قربه أحد.
كان يظن أن المال هو الحياة، وأن الذهب وحده يكفل له البقاء، لكن ابنته خَلَعت قلبه من جذوره. أيقظت فيه ما ظنّه قد مات. أدرك فجأة أنه لم يكن بلا مشاعر، بل كان غارقًا في قسوةٍ تُشبه الغفلة.
وكما فعلت "وجد"، ربما كان موتها هو الطلقة الأخيرة التي ستطرد شيطانه بعيدًا، وتُجبره على خلع عباءة السوء عن كتفيه.
جلس منزوياً، مهزوزًا، كمن انكشف أمام نفسه للمرة الأولى.
لم يستطع أن يتخيل القادم.. لم يستطع أن يتصور حياته شريدًا، وحيدًا، بلا سند، بلا حضن، بلا يدٍ حنونة تمتد إليه. كان يرى أمامه عمرًا فارغًا، وخرابًا داخليًا لا دواء له.
أما ذلك الذي تحطّم تمامًا، فقد وقع أرضًا بجانب باب العمليات، يسند ظهره إلى الحائط، والدموع تسيل على وجهه بلا توقف. عيناه معلّقتان بيديه الملطختين بالدماء، يقلبهما في دهشة، غير مصدّق أنه يرى دمها.. دم "وجد". كان قلبه يعتصر حتى يكاد ينفجر، يتحسس كفّيه المرتجفتين كمن يلمس خطيئته بيديه.
اقترب منه أسمر، وضع يده على كتفه وهمس بصوتٍ مخنوق:
ــ "شد نفسك يا نديم.. وادعيلها."
رفع نديم رأسه، نظر إليه بعينين دامعتين كعيني طفلٍ ضائع، وصوته يتفتت:
ــ "ما عادش ليا حد يا أسمر.. خلاص، ماعتش.. بقيت لوحدي. خلعت قلبي ومشِت! ما كنتش عارف إني هموت بعدها كده. هي كانت عارفة إني بعشقها.. بس أنا ما كنتش حاسس باللي جوايا. قالتلي: هتتعدل وتنسى التار والغضب.. نسيت والله يا أسمر! نسيت! بس ترجع! مش عايز حاجة.. بس ترجع!
لو عايزني أشيل جابر على راسي هشيله! أسامح في حقي.. هسامح، بس ترجع! حتى ذلّي.. هسامح، بس ترجع! عارف لو جه وداس برجله على وشي.. والله ما يهمّني! ماعتش عايز حاجة، بس ترجع!"
ثم انحنى أكثر، يضرب رأسه بالحائط، ينوح:
ــ "بتقولي: كان نفسي حبك يبقى أقوى.. وأنا ما كنتش عارف، والله ما كنت عارف إني هموت بعدها كده!
حبيبي رجّعوها لي.. عايز حبيبي! أجيبها منين؟!
تموت روحها عشاني! تروح عشاني! جالها قلب تمزّعني كده؟! دانا ما اسواش من غيرها.. قلبي بينعصر.. آه يا قلبي يا أسمر! هموت.. هموت والله!"
أجهش بالبكاء، صوته يتقطّع:
ــ "هي روحي.. هي اللي سحبتها مني. أنا حاسس إني ميت، مش عايش. قلبي بيدق عالفاضي، ما حبيبي نايم جوا.. نايم في الفستان! آه يا أسمر.. لبست فستانها، يوم ما شُفتها فيه، تكفّنت بيه! كان نفسها تلبسه لي.. طب وأنا؟! مين هيلبسني؟! مين يا أسمر؟!
فستانك يا قلبي.. اللي اشتريناه مع بعض.. تموتي فيه؟! قلبي.. قلبي يا عالم، هموت!"
ثم ارتعش جسده، وصوته يتهدّج كالمجنون:
ــ "حد يجبلي حبيبي.. اللي راح! أنا حبيت غلط! أنا قرف! ما استاهلتهاش.. قليلة عليّا.. ضحّت بروحها! يا قهرك يا ابن عامر! هتكمّل إزاي؟!.. إزاي؟!.. إزااااي يا رب! وجع.. وجع كفاية! ضلوعي بتمزّعني!"
ثم رفع رأسه للسماء، يصرخ بنشيج يقطع القلوب:
ــ "انتقمت يا نديم! ألف مبروك.. خدت نيشان! بص لنفسك.. يابن عامر، لوحدك! بطولك! سندك نايمة.. مش حاسة بحاجة! البِت الصغيرة مرمية.. بتموت على اختها! وحبيبك.. آه يا حبيبك راح!
دي دنيتك.. ده اللي كنت عايش تخططله؟! سنين غل وسواد.. سنين قهر.. وفي الآخر موت! طب هتعيش إزاي؟!.. عملت إيه؟!.. كان غصب عني؟!.. وده جزاتي!"
هز رأسه، ودموعه تفيض:
ــ "آه.. جزاتك يا نديم.. القلب الأسود خدت تمنه. مات قلبك.. كان أسود ومليان غل! وحبيبك.. كان بيعالجك. آه.. بيعالجك! بس راح.. راح، وكل حاجة راحت.. راحت!"
ظل يبكي وينوح، ونشيجه يعلو حتى ملأ المكان، حتى احتضنه أسمر بقوة، يشدّه إلى صدره كمن يحاول أن يُنقذ غريقًا.. لكن الغريق كان يغرق في قلبه، يصرخ وهو يختنق:
ــ "قلبي! آه يا قلبي يا رب ماليش غيرك ردهالي !"
مرّ الوقت، وأفاق عمران من أثر المهدئات، وخرج يجلس بجوارهم رغم اعتراض الأطباء.
ألقى نظرة على جابر الجالس بعيدًا على الأرض، منهارًا.. لا يدري هل يشعر بالأسى عليه أم بالغضب منه.
أتت ممرضة، فأشار إليها الجد وأسرّ لها بشيء. لحظات وعادت تحمل فستان "وِجد".
نهض الجد، واتجه بخطى متثاقلة نحو جابر، ثم دفع بالفستان في وجهه وهو يصرخ:
ــ "فستان بِتك يا جابر! احضنه.. احضنه قبل ما ييجي يوم تدور فيه على طرفه وما تلاجيش!"
عندها انفجر جابر بالبكاء أكثر، وكأنه انخلع من روحه، واحتضن الفستان بقوة كأنه يحتضن ابنته. دموعه أغرقت القماش، وصرخة مكتومة خرجت من صدره.
التفت الجد إلى أسمر وقال بغلٍّ:
ــ "خرّجه برّه!"
صرخ جابر برجاءٍ يائس:
ــ "لاه.. بالله عليك، سيبني! جاعد أطّمن عليها.. بالله!"
لكن الجد صرخ أشدّ، صوته يزلزل المكان:
ــ "بجولك خرّجه برّه! ما يخشش أهنّه.. وخلي الغفر يمنعوه!"
امتثل أسمر وهو يجرّ جابر بعيدًا، بينما جابر يُساق كالمنبوذ، قلبه يتفتت، يشعر بالرعب والوجع أن يفقد ابنته إلى الأبد وهو بعيد عنها، ممنوع حتى من النظر إليها.
مرّ وقتٌ طويل.. ثقيل كالأعوام، حتى خرج الطبيب أخيرًا. اندفع الكلّ نحوه، والأنفاس متقطّعة.
قال الطبيب بصوتٍ متهدّج:
ــ "والله الحالة صعبة.. ونتمنّى ترجع. بس الخطر كبير.. دخلت في غيبوبة، والله أعلم حالتها إيه. أهم حاجة دلوقتي إن أعضائها الحيويّة تصمد.. وبعدها نشوف موضوع الغيبوبة."
هنا تهالك نديم، لم يعد قادرًا على الوقوف، كأن الأرض ابتلعته. جلس وهو يرتجف، والكل في حزنٍ شديد، يذوبون على حال تلك الوردة التي ضحّت بروحها.. فقط من أجل أن تُطفئ فتيل الغضب بين الحبيب والسند.
وقف الجد عمران مقهورًا، يشعر أن قلبه يتمزق على ما آلت إليه العائلة.
ابتعد بخطوات ثقيلة إلى الخارج، ومعه أحد الأقارب. هناك، لمح جابر جالسًا على الأرض، محاصرًا بالغفر كالمسجون.
هبّ جابر واقفًا، واندفع نحو أبيه باكيًا:
ــ "إيه يا أبوي؟ البِت فاجت.. بالله عليك قولِّي.. إني هموت!"
مدّ عمران يده في جيبه، أخرج مفتاحًا، ووضعه في يد جابر.
تجمّد جابر، نظر إلى المفتاح ثم إلى أبيه، عيونه زائغة، كأنه يهذي:
ــ "إيه ده؟ إيه… إيه؟!"
نظر إليه عمران بجمودٍ قاتل، لا رمشة ولا دمعة.
فصرخ جابر بذعرٍ مخنوق:
ــ "لاه يا أبوي، لاه! ما تجولش… ليه بتديني ده؟ ليه يا أبوي بتديني ده؟!"
صرخ جابر بصوتٍ كالرعد:
ــ "!… بتديني مفتاح المجابرليه. يا سوادك يا جابر… بتك راحت. آه يا حزنك يا ابن عمران.. موت بِتك بيدك! أدي آخِر غِلّك وشرّ نفسك. عشِجت مرّة؟ راحت لغيرك. خلاص… خلاص! يا اللي عمرك ما هتورد على جنّة. دي آخِرِة السواد… آخِرِة الغل… آخِرِة الشيطان! بتي…اللي حِيلتي… راحت."
تهالك جابر، وقع يضرب كفوفه على دماغه، ينوح كالمجنون:
ــ "بتك راحت! بتك راحت! موت بِتك! بدل ما تلبسها فستان، هتلبسها الكفن… لأه يا رب، خدني! خدني أني.. إنما هيّا صغيرة.. ما خدتش حنيّة.. يا رب لااااااه!"
اقترب منه عمران، وفي عيونه زعل دفين، وقال بصرامة:
ــ "زعلان علي غياب بِتك يا جابر..هتدفنها بيدك هتمسك. حتتها الصغيره وتدفنها.. روح بقه خلصت اكده… روح افتح المجبرة، وخليك هناك. بات فيها، وما تتحركش. وبُكره الصبح أكون عندك. ولو عرفت إنك اتحركت من المجبرة… الله في سماه… ما تشوف طرفها أبدًا. يا بكري، خدوه.. وجهّزوا له المجبرة. وإياك يتحرك."
تهالك جابر، كالميّت الحي، وامتثل لأمر أبيه. ذهبوا به، فتح باب المقبرة بيديه المرتجفتين، وجلس ينتظر رفات ابنته كما أوهمه أبوه.
جلس طول الليل في المقبرة، الظلام يلفّه، والبرد يعصره. هناك، حيث لا سلطان ولا مال، مرّ شريط حياته الأسود أمام عينيه: صفقات، خيانات، قسوة، دماء. كل شيء عاد ينهش قلبه.
في حضرة الموت، في مكان تزول فيه النفوذ وتنتهي الكبرياء، بدأت إنسانيته تعود.
جلس جابر أمام قبرٍ يظنّه لابنته، يستعيد فطرته بعد أن جنح طويلًا، بعد أن تملكه شيطان النفس.
جلس جابر داخل المقبرة، والبرد ينهش عظامه، والظلام يطبق على أنفاسه. لا صوت إلا أنين الريح وهي تحتك بأبواب الحديد الصدئة.
عقله يتخبط، ودموعه تنزل على التراب في خطوط متقطعة، كأنها تكتب وصيّته الأخيرة.
مدّ يده، لامس جدار القبر، وهمس بصوتٍ مبحوح:
ــ "هنا… هنا هتكوني يا وِجد… هنا يا ضيّ عيني… يا خسارة العمر يا بِتي… يا خسارة روحي."
بدأ يضرب صدره، ثم رأسه بالجدار، يصرخ بلا وعي:
ــ "غلطت… غلطت! طتلتك يا وِجد! موتِّك بإيديا! أنا السبب… أنا السبب!"
أطبق القبر عليه أكثر، كأن التراب يزحف نحوه.
جلس منكفئًا، يحتضن نفسه، وعيونه شاخصة في العدم.في تلك اللحظة… لم يعد جابر يرى مستقبلًا، ولا يصدق أن هناك غدًا.
كأن الليل انغلق عليه إلى الأبد… وانتهت الحكاية عند قبرٍ ظنه قبر ابنته، ليُدفن فيه قلبه قبل أن تُدفن هي.
، جلس ليلته يتخيل كيف سيحمل ابنته إلى هذا القبر، وكيف سيضعها فيه.. بينما قلبه يتهشم، كأن القبر هو صدره، والموت يسكنه قبل أن يراها داخله.
استفاقت "شجن"، فدخلت عليها الممرضة مسرعة، فهتفت بصوتٍ مرتجف:
ــ "فين أهلي؟!"
نظرت إليها الممرضة بحرج ثم بدأت تحكي ما جرى.
فصرخت "شجن" بصوتٍ يشق جدران الغرفة:
ــ "وجد موتت نفسها! وجد راحت! وجدي وقع… ومهرة نايمة! كلو راح… كلو راااح… أنا هافضل لوحدي!"
اندفعت من سريرها تصرخ كالمجنونة، يرتجف جسدها من الرعب، ثم تسقط مغشيًّا عليها.
مر وقت، ثم استعادت وعيها، وما إن فتحت عينيها حتى عاودت الصراخ والهلع.
اقتربت منها الممرضة:
ــ "اهدي يا شجن… اهدي يا بنتي… مالك عاملة كده ليه؟"
دخلت ممرضة أخرى تسأل بقلق:
ــ "مالها يا عنايات؟"
فأجابت وهي ترفع صوتها:
ــ "كل ما تقوم تنهار تاني! ده غُلب… غُلب مابعده غُلب!"
تنهدت الأخرى، ثم أخرجت حقنة من جيبها، وغرزتها في ذراع شجن وهي تصرخ وتنتفض.
اعترضت "عنايات" بفزع:
ــ "فيه إيه يا بت؟! إديتلها إيه؟!"
ضحكت الممرضة ببرود:
ــ "حاجة جديدة لسه جاية… جولت أجربها. البنت دي تعبانه خلاص… ننجّدها. دي بنت عم الأسمر، وعارفاه يا بت."
صرخت "عنايات":
ــ "نهارك اسود! هنتجفش يا مصيبة إنت!"
ضحكت الأخرى بسخرية وهي تغادر:
ــ "مش لما تهدى؟ خليكي إنت معاها وراجبيها… وجولي بعدين."
…
دخل "براء" على شجن، فأشار للممرضات أن يخرجن.
وجدها جالسة تحدّق في الفراغ، عيناها زائغتان، كأنها تنظر من وراء حجاب.
اقترب منها بحذر، وجلس بجوارها، ثم احتضنها هامسًا:
ــ "حبيبتي… عاملة إيه؟"
نظرت إليه ساهمة، وهمست بصوتٍ متلاشي:
ــ "هاه…"
شدّها إلى صدره، يهمس مطمئنًا:
ــ "اطمني… أنا جنبك… ما تخافيش."
أرخَت رأسها على صدره، بلا دمعة… بلا نبضة شعور. كانت كمن يسكن عالمًا آخر، عالمًا من سكينة باردة، كأنها تطفو داخل هلام لا يصلها من الواقع شيء.
ظل براء يحدّثها، يبثها حبه ويهدهدها بيديه، يظن أنها ترتاح بين أحضانه، بينما هي ليست معه أصلًا.
لينتهي بها الأمر مستسلمة للنوم في حضنه، فيطبع قبلة على جبينها، ويضعها في فراشها، ثم ينهض مغادرًا نحو نديم وأسمر.
اتجه الجد "عِمْران" وبعضُ الأقارب إلى المقابر مره اخري، فوجدوا "جابر" جالسًا بجوار القبر، عيناه متورمتان من البكاء، وصوته يخرج مبحوحًا وهو ينهض فجأة:
ــ "يا أبوي… جبتوها؟! أشوفها… فينها بتي؟!"
نظر عمران إلى ابنه نظرةً قاسية، ثم أشار إلى الرجال من حوله.أمسكوه من ذراعيه، وهو يصرخ متهالكًا:
ــ "سيبوني… بتي! عايز أشوف بتي!"
اقترب منه الجد بجمود، وقال بصوتٍ غليظ:
ــ "ما عادش ليك بنات عندنا يا جابر… اللي ضيّع نفسه وضيع عرضه ما يبقاش ليه حد. من النهاردة إنت غريب… وتيجي تتحبس جوارها وتستاهل أكتر."
واندفع الرجال يسحبونه بعيدًا، وهو يتلوى كالذبيح ويصرخ من جوف قلبه.بتي طب اشوفها أودعها..
أمر عمران بقفل التربة، وكتبوا اسم "وجد" على جدارها.
مر الوقت، وأعيد جابر إلى المقبرة، فاندفع راكضًا نحو التربة، التصق بالحجارة كالمجنون، أخذ يتحسسها بيديه المرتجفتين، وهو يصرخ:
ــ "وجد! بتي… سامعاني؟! حجك عليا يا بتي… هموت والله هموت! يا رب ليه؟! بخت كنتُ أنا المدفون مكانها… ليه.. ما شُفتكيش ولا كفّنتك بيدي؟! ما أستاهلش السماح… يا سوادك يا جابر… دي آخرتك، دي آخرت دُنيا الغِل!"
اقترب عمران ببرود، ونظر إلى ابنه المهزوم:
ــ "إيه يا جابر؟ أخيرًا انخلع جلبك؟! خلاص… عيش مع بنتك اهنه، ابقَ ، واديها حنانك اللي ما عرفتهوش وهي حية. وما تطلعش من هنا إلا بإذني."
جلس جابر على الأرض منهارًا، يحتضن جدار التربة، وهو ينتحب بحرقةٍ لا تهدأ:
ــ … روّحوا إنتو… روّحوا… دنيتي راحت مع بتي، الوحيدة اللي كانت بتحبني وماعتش ليا حد ."
وبقي صوت بكائه يملأ المكان، كأنه نواح أبدي على ضياع قلبه وموته حيًّا مع ابنته.
جلس جابر داخل المقبرة، وقد انكمش كطفلٍ مذعور في حضن التراب. كان يضع رأسه على الجدار البارد، ودموعه تتساقط بلا توقف، تتساقط كما لم يعرفها يومًا. لم يعد في يده سلطان، ولا حوله رجال، ولا يحيط به مال، فقط هو والتراب وصدى أنفاسه المقطعة.
كل لحظة كان يستعيد وجهها.. ضحكتها الصغيرة.. يده التي مدت إليه يومًا وهي تقول له: "يا بوي.. أنا بحبك"، لكنه كان وقتها غارقًا في سواد قلبه فلم يلتفت.
صار يهمس لنفسه وهو ينتفض:
"ليه يا رب.. ليه ماخدتنيش أنا؟ ليه راحت هي؟ دِه ماكانش جلب، ده كان حجر.. وهي دفعت التمن."
بدأ يشعر أن جدران المقبرة تضيق عليه، كأنها تعصر قلبه لتخرج ما تراكم فيه من غل وشر. رفع يده المرتجفة، مسح دموعه بكمّه الملطخ بالتراب، ثم همس بصوت مبحوح:
"يا وجد.. يا بتي.. من النهارده إني خدام عند جبرك. لا مال ينفع ولا جاه، خلاص.. هعيش هنا لحد ما ربنا ياخدني.. يمكن يغفرلي."
وضع جبهته على باب التربة، ثم أخذ يعاهدها باكيًا:
"عهد عليّا… من النهارده أنا خدام الجبر
"مش هسيبك يا وجد.. إنتِ ضي عيني.. إني هعيش عمري اعفر وشي بتراب دفنتك يا بتي ."
وهكذا بات جابر تلك الليلة أسيرًا للتربة، لا يرى إلا التراب، ولا يسمع إلا صدى بكائه، فيما كان قلبه الأسود يتفتت شيئًا فشيئًا.
مرّت الأيام ثقيلة كالحجارة على صدورهم، ولم يبقَ إلا الرجال الذين أكل الوجع قلوبهم وأثقل كواهلهم.
نديم لم يعد يُشبه نفسه، صار ظلًّا باهتًا لرجل كان يومًا يملأ المكان صخبًا وغضبًا. لم يعرف للنوم طعمًا ولا للراحة معنى، يفترش الأرض أمام باب العناية، يضع رأسه على الحائط كطفل يتيم، يقتات على كسرة خبز تُدفع له دفعًا، ثم يعود ليحتضن الأرض بدموعه. لم يُسمح له بالدخول، ومع ذلك ظلّ مرابطًا، كأنما بوابته الوحيدة إلى الحياة خلف ذلك الباب.
أما الجد عمران، فقد انحنى ظهره أكثر، وصارت خطواته مثقلة. كان كل حين يصرّ أن يدخل غرفة العناية، يجلس دقائق بجوار سريرها، يمد يده المرتعشة يلمس أصابعها الباردة، ثم يخرج مثقلاً بالأنين.
وأسمر، كلما دخل عليها جلس يحدثها عن الغد، عن الأحلام، عن البيت الذي سيجمعهما، عن الفرح الذي ينتظرها.. لكن كلماته كانت ترتدّ إليه صدى أجوف، لا حياة لمن ينادي. ومع ذلك، لم يتوقف عن البوح، كأن صوته وحده جسر بينه وبينها.
وأما جابر... فقد انسلخ عن دنياه انسلاخًا تامًا.
شهرٌ كامل قضاه في المقابر، لا أنيس له إلا التراب والريح، ولا زاد إلا فتات يُلقى له، ولا عمل إلا كنس المقابر وسقاية زرع غرسه بيديه المرتعشتين قرب التربة. صار وجهه شاحبًا، وعيناه غائرتين، لكن صوته لم ينقطع عن تلاوة القرآن لابنته. كان يجلس بالساعات أمام القبر، يقرأ ويبكي، ثم يرفع يده بالدعاء أن يغفر له ربه، أن يقبل توبته.
لكن "وِجد" الجميلة لم تكن تستحق أبًا كهذا.. هي ضحّت لتعيد له قلبه، ضحّت لتطفئ فتيل الغلّ الذي أكل روحه.
شيئًا فشيئًا، تلاشى الجبروت، وتهاوى الغرور، وحلّ مكانه انكسار صادق. كان يشعر أن عذاب الضمير نارٌ تحرقه من الداخل، وأن كل نفس يتنفسه هبة جديدة لم يكن يستحقها.
وفي ليلة من الليالي، وبينما جلس جابر بجوار القبر منهكًا، غلبه النوم فرأى في منامه ابنته بثوب أبيض، وجهها يضيء كالقمر، تبتسم له وتقول:
"يا بوي.. ربنا كريم.. هيرجع قلبك ..هيرجع وهتبقى إنسان."
فاستيقظ جابر على شهقة، والدموع تنهمر بغزارة، كأنما أُعيد نفخ الروح في صدره من جديد فطره الإنسان .
كانت شجن كلما شعرت بالوجع، مدّت يدها إلى الفتاة التي لا تتأخر عن إعطائها الحبة السحرية، تلك التي تسحبها لعالم الهلام واللاوعي، حيث لا وجع ولا صوت. ومع الوقت لم تعد شجن تنتظر، بل صارت هي من يطلب، والفتاة تبتسم بخبث وهي تُناوِلها ما تريد.
وبراء يقف في المنتصف، يراقب في صمت. يندهش من هدوئها الزائد، من استسلامها لقربه وعدم اعتراضها، من صمتها الذي يخنقه أكثر من صراخها. شيء ما لم يعد طبيعيًا في زوجته.
وجاء اليوم الذي رفضت فيه الفتاة أن تعطيها الحبة. صرخت شجن بجنون:
ـ إنت هاتيلي حقنة أنا تعبانة!
ردت الفتاة بخبث:
ـ والله يا أُبلة خلصت، وكنت بشتريها على حسابي.
صرخت شجن بجنون أكبر:
ـ فلوس.. طيب هجبلك فلوس!
اندفعت كالمجنونة إلى نديم، طلبت منه مالًا، فأعطاها دون نقاش، قلبه منشغل بألمه الأكبر. ومن هنا بدأت رحلة جديدة، رحلة غياب من نوع آخر، خراب لم تعرف العائلة مثله من قبل.
لاحظ براء أن شيئًا يتغير فيها؛ هدوءها الذي يشبه الموت، ثم انفجارات غضبها التي تكسر ما أمامها عندما لا تحصل على ما تريد. طلبت من نديم المال أكثر من مرة، وحين نهَرها آخر الأمر، ظلت تفكر كيف تجد مصدرًا آخر.
وذات ليلة، دخل براء غرفتها. وجدها تأكل روحها بنظراتها الزائغة، جسدها يرتجف، شفاهها تهمهم بكلمات غير مفهومة. اقترب منها واحتضنها:
ـ حبيبتي.. مالِك متعصبة؟ مالك يا قلبي.. ساعات تبقي هادية وكويسة.. وساعات مش على بعضك.
رفعت رأسها فجأة، عيناها تلمعان بجنون، وصوتها يقطع السكون:
ـ عايزة فلوس!
قطب جبينه في دهشة:
ـ إيه؟ فلوس؟!
صرخت وهي تضرب صدره بيديها:
ـ مش مراتك أنا؟ وتصرف عليّ؟ عايزة فلوس.. دلوقتي!
قال براء بلينٍ وهو يمدّ يده إليها:
– عيوني يا حبيبتي، مش هتأخر عنك. طبعًا هديك فلوس… بس ليه؟ ناوية تشتري حاجة؟
صرخت شجن بعصبية:
– إنت هتحاسبني؟
تجمّد براء من وقع كلماتها، وقال مذهولًا:
– لأ، والله ما هحاسبك… كنت بس بسألك عادي.
فصاحت بعينين مضطربتين:
– ليه هااه؟ عشان تذلني؟ عشان تتحكم فيا؟ مانا أصلاً مش قابلاك… صح يا سي براء؟
رفع حاجبيه بدهشة، فأكملت بانفعال:
– إيه! هتساومني على الفلوس عشان أبقى مراتك؟ أكيد! طبعًا أنا هتذلّ ليك. ماشي يا براء… أنا موافقة أبقى مراتك بالفلوس.
ظل براء ينظر إليها في صدمة، صوته متحشرج:
– فلوس إيه يا شجن؟ إنت اتجننتي؟
صرخت في وجهه:
– أمال بتحقق معايا ليه إنت!
هتف مذهولًا:
– أنا حققت معاكي فين؟
تنهدت بغيظ وقالت:
– هتديني ولا لأ؟
هز رأسه بأسى:
– حاضر يا حبيبتي… عيوني.
اقترب منها واحتضنها وهو يضع النقود في يدها، لكنها دفعته بعنف وخرجت من الغرفة لا تحتمل قربه. اتجهت مباشرة إلى الممرضة، وما إن أخذت منها الجرعة حتى هدأت وسكنت ملامحها. عادت بخطوات واهنة، صعدت إلى الفراش، أغمضت عينيها متكئة إلى وسادتها.
اقترب منها براء بحنان، يحيطها بذراعيه هامسًا:
– مالك يا روحي؟
فتحت عينيها قليلًا، ابتسمت له ابتسامة باهتة، ثم وضعت رأسها على صدره وغفت بهدوء. ابتسم هو وهو يضمها أكثر:
– حبيبتي… والله أنا آسف. والله بحبك. عارفك موجوعة، وأنا جنبك هون، مش هسيبك. وأختك إن شاء الله هتفوق وتبقى بخير.
أغمضت عينيها مطمئنة، ولم يكن يعلم أن صمتها ذاك لم يكن راحة، بل كان استسلامًا للحالة التي باتت أسيرةً لها.
مرت الأيام، وأفاق الجد وعاد الجميع إلى القصر، ما عدا نديم وأسمر اللذان استأجرا غرفًا بجوار حبيبات قلبيهما، يزوران القصر بين حين وآخر. أما الجد فكان يشعر بقهرٍ يمزق قلبه؛ أحفاده يتساقطون واحدًا تلو الآخر في هاوية الضياع، وجابر انزوى لا يغادر حجرته، ينهشه الندم ويُقصيه الجميع. وشجن… ازدادت ريبتها، تتنقل في طلب المال مرّةً من جدّها، ومرّة من نديم، ومرّات من براء، ثم تذهب لتزور أختها وتأخذ الحقنة وتعود كأن شيئًا لم يكن.
بدأ براء يحس إن في حاجة غلط، لحد ما جه اليوم اللي شجن فيه احتاجت فلوس. قربت منه تهمس:
– براء… كنت عايزة…
قاطعها بسرعة:
– فلوس مش اكده؟
بلعت ريقها بتوتر:
– هو إنت كل مرة كده! إيه؟ مالك؟
انفجر صوته غاضبًا:
– ماليا؟! إنتي بقالك شهور باردة، ساكتة! يا إما بتاكلي روحك وتاكليني معاكي، يا إما تطلبي فلوس. لازم أفهم في إيه!
اهتاجت فجأة وهي تصرخ:
– عايز إيه؟ عشان ماخدتش مقابل الفلوس؟! عندك حق…
اقتربت منه وبدأت تفك أزرار قميصه بجنون:
– يلا هبسطك…
ارتبك براء، زاحها بعيدًا وصاح بذهول:
– إيه الطرف ده! إنتي اتجننتي ولا إيه؟!
هتفت بعصبية:
– عايز إيه! مش هتاخد مقابل فلوسك نومه؟ ما تخلص! أنا عايزة أروح لأختي… إيه القرف ده! قلتلك هنام معاك، عايز إيه تاني!
اقترب منها وصفعها بغضب:
– إنتي عايزة قطم رجبتك؟ خلاص…دانا هطلع روحك بإيدي!
أمسكها بعنف يهزها:
– جولي! فيكي إيه؟ هااه؟ طولي ولا والله ما هسكت!
وفي تلك اللحظة، كان الجد يمر بجانب الباب، ففتحه على صراخهم ليفاجأ بالمشهد.
– إيه ده يا طين! ماسكها كده ليه؟!
اندفعت شجن تبكي في حضن جدها:
– ضربني يا جدو! طلقني منه!
تجمد الجد مكانه للحظة، ثم صرخ في وجه براء بعنف:
– إنت يا زفت! إزاي تمد يدك عليها؟! إنخبلت؟! أجي أكسرلك دماغك؟!
صرخ براء وهو يكاد يفقد صوابه:
ـ عشان ما بقتش طبيعية يا جدي! اتبدلت.. بقت وحدة ملبوسة! مرة هادية ومؤدبة.. ومرة شيطان مولّع! دا غير الفلوس.. بتاخدها مني بالهبل ومش عارف بتوديها فين!
ارتبكت شجن وتراجعت للخلف، عيناها متسعتان من الرعب. انعقد جبين الجد بشدة وهو ينظر إليها:
ـ إيه الكلام دا يا شجن؟! إنتِ كمان بتاخدي من براء فلوس؟! ليه يا بنتي؟! وإيه الحكاية؟! أنا نفسي اكتشفت إنك بتاخدي مني ومن نديم… دلوك
هتف براء بصرامة، صوته ممتزج بالغضب والخذلان:
ـ سيبنا يا جدي دلوك.. شكل الموضوع كبير!
تردد الجد لحظة وهو ينظر إليهما بقلق، ثم خرج بخطوات مثقلة، فأغلق براء الباب خلفه بعنف، وأسند ظهره إليه لحظة قبل أن يستدير نحوها بعينين تقدحان شررًا:
ـ من سكات اكده.. تجولي! الفلوس اللي بتاخديها بتوديها فين؟ عشان والله ما أطلعش روحك بإيديا!
نظرت إليه شجن بغضب وعناد، وكأنها وحش محاصر:
ـ وإنت مالك؟! باخدها ليه.. ليك إيه عندي؟ قلتلك خد تمنهم مارضيتش! يبقى تخليك في حالك يا تطلقني!
اشتعلت عروقه، وانقض عليها، قبض على شعرها بعنف، فصرخت:
ـ لااا!..
زمجر في وجهها:
ـ نهدي بقه! تعلي صوتك تاني هفلجك نصين! شهور وأنا صابر، وأجول البت مكسورة عشان أختها.. يوم هادية زي التمثال، ويوم تهيج زي الطور! والهانم طلعت بتلم فلوس من الكل! جولي .. الفلوس بتروح فين؟!
شدها بعنف أكبر، فانفجرت تصرخ بجنون:
ـ مالكش دعوة! أنا حرّة! واوَعَى تمد إيدك عليا تاني! أنا رايحة لأختي!
اندفعت نحو الباب، تحاول فتحه وهي تلهث وتصرخ، لكنه أمسكها من جديد، فتفجرت كالبركان، صرخت وهي تضرب بيدها على صدره:
ـ سيبني! عايزة أروح! سيبنييي! آه.. عايزة أخرج!
لم يفهم حالتها، لم يدرك أنها لم تعد قادرة على السيطرة على نفسها. فجأة استدارت نحوه، التصقت به بجنون، تلهث والدموع تغرق عينيها:
ـ طب هات فلوس!.. وخدني! أنا تحت أمرك! بس اديني فلوس!.. أنا قدامك أهوه، ليه ما بتاخدنيش؟!
بدأت بخلع ملابسها بعشوائية، ممزقة قميصه وهي تصرخ:
ـ اديني فلوس! أنا هنا قدامك!.. خدنييي!
ارتبك براء، عيناه تملؤهما الصدمة والرعب، يمسكها محاولةً أن يوقف هيجانها، لكنها كانت كالعاصفة، تهتز وترتعش وتصرخ بجنون:
ـ عايزة أمشي!.. وديني لأختي!.. عايزة فلوس!.. آه هموووت! ودوني المستشفى!
كانت تقاومه وتضربه وهي تنهار بين ذراعيه، حتى لم يجد أمامه إلا أن أمسك رأسها بقوة وضربه برفق براسه، فقط ليوقف انهيارها. فجأة تراخت يداها، وسقطت مغشيًا عليها بين أحضانه، وهو يلهث ويرتعش، قلبه يكاد ينفجر من هول ما رأى.
حملها براء على الفور، لم يفكر، لم يتردد… ركض بها كالمجنون نحو المشفى، والجد خلفه مبهوت لا يقوى حتى على الكلام.
الوقت مرّ ثقيلاً، والجميع في انتظار كلمة واحدة تريح قلوبهم. وأخيرًا خرج الطبيب، وجهه متجهم وعينيه تُشيعان الأسى.
اندفع براء يسأله، وكان نديم قد وصل في تلك اللحظة ليلحق بالمشهد.
وقف الطبيب أمامهما، زفر بعمق ثم قال:
ـ والله… مش عارف أجولكم إيه… الهانم بتتعاطى حقن مخدرة.
بهت براء وكأن صاعقة سقطت فوق رأسه، بينما نديم تجمد في مكانه لا يصدق.
صرخ براء:
ـ إيه؟! حقن مخدرة؟!
أكمل الطبيب بحزم:
ـ آه… ومن فترة مش قصيرة كمان. شهور… يعني الإدمان تمكن منها.
تجمدت الكلمات على ألسنة الاثنين، لم يعدا قادرين على النطق.
أخذهم الطبيب إلى مكتبه وجلس يشرح لهم الوضع، تفاصيل العلاج، مرارته، قسوته، وكيف يحتاج لصبرٍ وجلد لا حدود له.
لكن قلب نديم لم يحتمل… خرج من المكتب مترنحًا، وانفجر بالبكاء كطفلٍ مكسور:
ـ يا سوادك يا نديم… أخواتك الاتنين ضاعوا! واحدة راحت، والتانية اتدمرت… وحبيبتي مرمية في عالم تاني! آه يا مصيبتي… يا عصره قلبي!
اقترب منه براء وربت على كتفه، عيناه دامعتان لكن صوته حاول أن يكون ثابتًا:
ـ الغلط غلطي أنا، يا نديم… أنا اللي ما حافظتش عليها، أنا اللي سبْتها لوحدها وخوّفتها. كان لازم أقرب أكتر… بس خلاص.
رفع رأسه، عينيه تلتمعان بدموع وإصرار:
ـ أنا بعاهدك… بعاهد نفسي… هارجّعها، هارجّع شجن اللي نعرفها. والله ما هسيبها للضياع.
ثم استدار وعاد إلى الغرفة.
فتح الباب بخطوات مثقلة… ليصرخ فجأة!
شجن… حبيبته… كانت قد حاولت الانتحار أمام عينيه!
اندفع إليها بجنون، أمسك يدها الملطخة، وهي تهتز من الألم وتصرخ، وجهها شاحب وعيونها زائغة.
صرخ برجاء هستيري:
ـ لاااا! شجن! إنتي بتعملي في نفسك اكده ليه؟!
تدافع الممرضون والأطباء إلى الغرفة، أصوات الأجهزة تعلو، محاولات إسعاف عاجلة… بينما براء التصق بها كأنه يحاول أن يحميها من نفسها.
جلس بعدها إلى جوارها، يده لا تفارق يدها، عينيه غارقتان بالدموع لكنه أقسم في سرّه:
"مش هسيبك… مش هسيبك لحظة واحدة."
علم نديم الحقيقة… فعندها انتهت آخر ذرة قوة بداخله. لم يعد يعرف أين يذهب ولا كيف يقف على قدميه. الدنيا ضاقت عليه حتى لم تعد تتسع لأنفاسه.
جرّ جسده المنهك نحو غرفة رفيقة دربه… مهره.
دخل وأغلق الباب خلفه، وعيناه تائهتان، يبحثان عن الأمان الذي ضاع منه.
رآها جالسة على أحد الكراسي، ساهمة، ساكنة كأنها في نومٍ عميق.
اقترب ببطء، ثم هوى بجسده أمامها، جلس على الأرض، وأسند رأسه فوق قدميها، أمسك يدها ووضعها على شعره، وكأنها لم تتتوه، وكأنها ما زالت قادرة أن تربّت عليه.
وانهار بالبكاء… بكى كما لم يبكِ طفل من قبل.
دفن رأسه في صدرها الخالي من الحياة، يبحث عن قوته الضائعة… فهي كانت دائمًا ظهره، كانت عزوته وسنده.
همس بصوت متهدج:
ـ قومي يا مهره… تعبت… ماعتش قادر أعيش. قومي يا حبيبتي… والله أخوكي اتكسر. الدنيا مسحتني… بهدلتني… وشوهتني. قومي… أنا آسف.
غلبتي تقولي "كفاية"… وأنا قلبي أسود، الغل مالي كياني… أنا السبب! أختك التانية حاولت تموت نفسها عشان ملقتش حد يسندها… وأنا ضايع، ضايع يا مهره.
شهق بأنفاس متهالكة، دموعه تبلل ملابسها الجامدة:
ـ أنا خايف… من غيركو أنا ولا حاجة. قومي اسنديني… مش كنتي دايمًا تقولي "ما تبصش وراك، أنا في ضهرك"؟ طيب فين ضهري دلوقتي؟
أنا محتاجك… محتاجك يا قلبي… قومي… مش كفاية شهور بعيدة عني؟ مش كفاية الألم اللي فيا؟
قعد نديم على الأرض، دموعه مغرقه وشه وصوته متهدّج، مدّ إيده في الفراغ كأنه بيلمسها وقال:
"يا مهره… قومي أنا تايه من غيرك، تايه ومكسور… والذنب واكل في روحي، أنا اللي قصرت، أنا اللي سبتك تنهاري من غير ما أسندك، كنتي محتاجاني وأنا غايب، وضيّعتك بإيديا.
يا مهره، حبيبتي، والله قلبي بينهار من غيرك، بحس إني غريب، إني ماليش وطن، إني ماليش روح.
قومي يا أختي بالله عليكي، حتى لو لحظة، قوليلي إنك سامحاني… قوليلي إنك لسه معايا… أنا والله مش قادر… أنا محتاجك ، محتاجك أكتر من نفسي.
، أنا من غيرك ولا بني آدم ولا حاجه."
رفع رأسه قليلًا وهو يهمس:
ـ صوتك لوحده كان أمان… قومي… حطي إيدك على كتفي… قوليلي إنك لسه هنا.
بكى حتى جف صوته، وانكمش كطفل مكسور.
وفجأة أحس بيدٍ دافئة تُوضع على كتفه. ارتجف، رفع رأسه ببطء… لم تكن مهره.
كان الأسمر قد أتى… يقف فوقه، عينيه دامعتان، وصوته مبحوح:
ـ أنا هنا يا نديم… مش هسيبك.
ربت الأسمر على كتف نديم، وصوته واطي:
ـ براحه يا بن عمي… براحه، هتموت اكده.
رفع نديم عينيه المبللتين بالدموع، وقال بانكسار:
ـ أموت؟ ماموتش؟ هو فاضل إيه! كل حاجة راحت… أنا دمرت إخواتي… دمرت حبيبتي… دمرت نفسي… أنا انتهيت. والله ما استاهل غير الخراب.
شده الأسمر من كتفه بقوة، وصوته خرج حاد:
ـ لا يا نديم! اسمعني… إنت ما تستاهلش غير كل خير. اللي صار غصب عنك، قسمه ونصيب. أني لو مكانك… كنت جتلت عمي وخلصت عليه من زمان!
رفع نديم عينيه إليه، وصوتُه متقطع:
ـ والله يا أسمر… ولا عاد فاكره من أساسه. ولا عاد جوايا أي حاجة. خلاص… اتربيت. وحبيبي رباني صح.
ابتسم الأسمر ابتسامة باهتة، وقال:
ـ حبيبك الحمد لله بدأ نسبه الغيبوبة تحل… بنقول: "يا رب". انت بس استنى، وأنا جارك، وأنا ضهرك… ولا ينفعش غير اكده.
نظر نديم في عينيه بامتنان، وهمس:
ـ إنت نعم الأخ يا أسمر. معرفش أردلك جميلك ووقفتك جنبي.
ابتسم الأسمر وشده في حضنه:
ـ أنا كان ليا براء أخويا الصغير… دلوقتي بقوا اتنين: براء ونديم. هتلاجيني في ضهرك لحد آخر نفس، يا أخويا.
ربت نديم على كتفه، وخرج متجهًا نحو حجره حبيبته.
أما الأسمر، فاستدار حيث كانت مهره، عشق روحه، جالسة بجوار الشباك، ساهمة لا حراك لها.
اقترب منها بخطوات بطيئة، كأن قلبه يترجف مع كل خطوة. جلس أمامها، مسك يدها الباردة، وقبّلها قبلة طويلة، ثم رفعها وقبّل خدها.
ـ حبيبتي… وحشتيني والله. عاملة إيه؟ مش عارف ليه حاسس إنك سامعاني… حاسس بيا يا جلبي.
مسك يدها بكل قوته كأنها طوق نجاة، ورفع وجهها بين كفيه، وعيناه تفيض دموعًا:
ـ نفسي أشوف عيونك… عيونك اللي وحشوني. جومي بقى… أني اتبهدلت من بعدك. عايز أفرحك، والله. محضرلك حاجات كتيرة… حاجات كان نفسك فيها. طاعد شهور أفكر إزاي أفرحك أول ما تصحي.
ضحكة موجوعة خرجت منه:
ـ آه يا جلبي… من غيرك بقيت ضايع. طدام الكل ببان جوي، بس والله من جوه مرعوب. ماليش حد… كنتي إنتِ اللي بتطبطي عليّ… وماليش دلوك حد يطبطب عليّ.
اقترب أكثر، عيناه تلتمعان وهو يهمس:
ـ نفسي عيوني تسرح في عيونك. نفسي أرجع روحي اللي اتسلبت مني. إنتي ضلع الأسمر… ولما رحتي، ضلعه انكسر… وسهام الدنيا غرزت في جلبي.
دموعه سالت بحرارة وهو يضم يدها إلى صدره:
ـ جومي يا مهره… بالله عليكي جومي. والله أني بقيت غير… وهفرحك… وأستاهلك. مش عايز حاجة… غير أكون جارك.
قبّل يدها مرة أخرى، ثم شدها إلى صدره واحتضنها بقوة، يمسد على شعرها ووجهها كأنه يترجاها تسمع.
وفجأة… تجمد الأسمر.
ارتعشت أصابعه، وجسده كله تسمر مكانه.
لقد أحس بـــ حركة خفيفة و.... .
شكرا لزيارتكم عالم روايات سكيرهوم