رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الرابع والسبعون
تبدّد ضباب المحيط من حولها وكأنّ روحها تبحث عن مرفأ جديد فإذا بها تنتقل من العتمة الزرقاء إلى انشراحٍ ذهبيٍ لا يُصدّق...
حقلٌ شاسع، تنمو فيه أزهار دوّار الشمس كوجوهٍ تبتسم متمايلة في نسيمٍ عذب تتراقص على نغمة كونية لا يسمعها سوى من عبر بين الحياة والموت.
هناك وسط رحاب من الأصفر النابض ركض طفل صغير، يضحك، يقفز، ويدور حول نفسه ثم هتف بصوتٍ يحمل صدق الكون:
— "ماما! تعالي... خذيني!"
صرخت روحها قبل لسانها:
*يا حبيبي... يا قطعة من قلبي...*
ركضت نحوه وكأنّ ساقيها تعرفان الطريق رغم كل ما نسيت، بعنف الشوق وهمست في أذنه المرتجف:
— "أخيرًا وجدتك يا روحي... سامحني… لن أتركك أبدًا بعد الآن… سأنتزعك من بين أنياب العالم."
ثم أدارت جسده الصغير نحوها فإذا بوجهه ينكشف كأعجوبة... وجهٌ تعرفه جيدًا، ممتلئ الملامح، غارق في الطفولة…
*كونور... هو كونور!*
لكنّ اللحظة لم تُمهلها طويلاً... إذ بدأ المطر يهطل فجأة كأنّ السماء تبكي على ما فاتها فتساقطت القطرات كأنها ذكريات تغرقهما معًا.
شدّت ذراعه الصغيرة وركضت صوب ملجأ لا مرئي، تختبئ فيه مع طفلها من السيول.
كانت غارقةً في المطر، شعرها التصق بجبهتها، وعيناها تلمعان بدموعٍ لا تعرف إن كانت من المطر أم من الحب.
... ثم، كما يُنتزع الحلم من فم نائم، فُتحت عيناها
على العالم الحقيقي.
استفاقت سارة فجأة.
وكان أول ما رأت وجهاً ممتلئًا ضاحك الملامح يُطل عليها من أعلى...
*كونور.*
كان الطفل ممدّدًا فوق الوسادة يلعق فمه الصغير وقطرات لعابه تكاد تسيل على وجهها الهزيل وقبل أن تسقط القطرة مدّ أحمد يده بسرعة ومسح اللعاب بحذر. لم يكن فعله هذا عادياً… فقد تخلت ملامحه عن قناع الرجل الصلب ذاك الرئيس المتغطرس الذي لا تُضبط عليه مشاعر.
تقابلت نظراتهما.
للحظةٍ، خيّم الصمت وكأنّ الزمن تراجع خطوتين، تبادل الاثنان نظرةً لم يكن فيها عتاب بل دهشة... كمن شاهدا بعضهما للمرّة الأولى. لم يكن الأمر محرجًا بقدر ما كان عارياً مشحونًا بصمتٍ يُشبه بكاءً مؤجلاً.
كان أحمد، ذلك الرجل الذي اعتاد العالم أن يراه الجميع محصّناً ضد الطف قد انكشف في لحظة عفوية فبدَا إنسانًا، لا ربّ شركة.
ضحكت سارة ضحكةً مرتجفة كمن يتلمّس ملامح عالم لا تعرفه كأنّ الزمان قد مزّق حدوده وتركها تتأرجح في فسحةٍ معلّقة بين الحلم واليقظة...
تأملت المكان حولها بنظرة قلقة ثم همست بنبرة ضبابية:
— "هل هذا حلم؟ أأنا ميتة؟ لماذا... لماذا أراكم جميعًا هنا؟"
نظر إليها أحمد بنظرة غريبة لا تُماثل تلك التي كان يتعامل بها مع موظفيه بل تلك النظرات التي نُطقت بالصمت... ثم قال برعب حاول طمسه:
— "أهذا ما ترغبين فيه؟ الموت؟"
أجابت وكأنها
تغوص في بحر من الحنين:
— "نعم... عند الموت سأُطلق من قيدي… أتحرر من هذا الجسد الذي يقبض على روحي."
وبين وهمٍ ويقين رفعت يدها نحو وجه كونور الممتلئ تقرصه برفقٍ تختبر وجوده كأنّها تودّ التأكد من أن نسيج وجهه ليس من قماش الأحلام.
كان ملمسه طريًّا كحلوى الذكرى حين تذوب على لسان القلب… مستكملة دون النظر إلى أحمد:
— "البقاء على قيد الحياة... أمر مرهق."
أما كونور ذاك الكائن الصغير المغموس بالبراءة فقد كان بعيدًا عن كل ما يُقال... لم يفهم الكلمات لكنه فهم النبض. فاقترب منها زاحفًا مبتسمًا بعينين كأنّهما نجمتان لا تعرفان الظلام وهتف بصوته الطفولي كجرس صباح:
— "ماما! ماما... عناق!"
كأنّ الكلمة فتحت بوابة السيل فارتعشت شفتاها وانفجرت دموعها، دموع لم تكن موجهة لشيءٍ محدد... بل لكل الأشياء التي انهارت بداخلها.
همست محطّمةً كطفلة تُعاد إلى حضن أملٍ بعد شتات:
— "ماذا قلت؟ أعدها... أرجوك!"
لم يوقفهما أحمد... لم يمدّ يده، لم يزجرها، لم يلقِ بتعليق ساخر فقط وقف هناك ساكنًا كأنه حجرٌ يشاهد مياهاً عذبة تنبثق من باطن الأرض.
ربما أدرك في تلك اللحظة أنها إن لم تستطع العيش من أجل جيف فها هو كائن آخر قد أصبح مرساتها إلى الحياة…
*طفل صغير... أنقذها من الموت.*
— "ماما! قبلة!"
قالها كونور وهو في عمرٍ لا يعرف فيه سوى
الكلمات الأولى تلك التي يلتقطها من أفواه الآخرين كأنها شظايا نور.
والغريب... أنه لم ينطق تلك الكلمة من قبل! لم يقلها المارينا، لم يهمس بها في أحضان مربّيته رغم محاولات مارينا المستميتة حتى إنها في لحظة غضب وصفت ابنها بالغباء لأنه لم يستطع أن يقول: "أمي" لكنّه قالها الآن... قالها لسارة.
قالها وكأنه وجد فيها الجذر الأول للحنان، الوطن الأوّل الذي لم تطأه قدماه لكنه عرفه من رائحتها... من ملمسها... من شيءٍ لا يُشرح ولا يُفسّر.
أما دموعها فقد سالت بصمتٍ مزلزل كأنها تغسل سنوات من الموت البطيء…
— "يا صغيري... يا من أتمنّاه لي بكل كياني... كم كنتَ لتكون معجزة لو كنتَ ابني."
نظر إليها كونور بعينين سوداويين فيهما سحر الطفولة ومكر الحياة ثم قال بملء فمه الضاحك:
— "ماما!"
سقط لعابه على رقبتها، وكان الجو بارداً بما يكفي ليُوقظ الوعي من سباته... فجأةً تغيّر الملمس، تبدّد الحقل، وسقط الحلم.
فتحت عينيها على بياضٍ قاحل. جدران باردة، صمتٌ خافت، ورائحة مطهر طبي تكاد تخترق الجيوب الأنفية.
*إنها في المستشفى.*
رأسها محاطٌ بالوسائد، وذراعها موصولٌ بأنابيب الحياة.
وبجانبها... وقف أحمد صامتًا، وجهه لا يحمل سخريته المعتادة بل بضع تجاعيد خفية من القلق، وربما... الندم؟
قال بصوتٍ منخفض غريب عليها:
— "كيف حالكِ؟ هل... أنتِ
بخير؟"
نظرت إليه طويلاً... ثم أطلقت ضحكة خفيفة ممزوجة بالمرارة، وقالت:
— "نعم، ما زلت على قيد الحياة... لا بفضلك، بالطبع."