رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الواحد والثمانون
تصلّب الهواء من فرط التوتر كأن أنفاس الغرفة اختنقت في صدرها، والجدران نفسها حبست زفيرها انتظارًا للانفجار.
كان الصمت أثقل من صوت الانفجار نفسه، وكأن الغضب القادم كان له ظلٌ يسبق خطاه.
تدخل كريس محاولًا إنقاذ ما تبقّى من ملامح للمشهد قبل أن يتشظى إلى فوضى دامية… فقال بصوت حاول أن يكتسي الحياد لكنه لم يخفَ رجفه:
"سيد ميلر... نحن جميعًا سعداء بتحسُّن حالة السيدة سارة."
لم يكلّف أحمد نفسه عناء النظر إليها وكأنها أصبحت هواءً يمر عبره دون أن يترك أثرًا… فخفض بصره يرمق الأرض بنظرة خاوية ثم قال ببرودٍ يجرح دون دماء:
"من الأفضل لكِ أن تتصرّفي بطريقةٍ لائقة."
كانت الجملة كالقشة الأخيرة التي أنهت هدنة هشّة فتلاشت القيود التي كبّلت روحها، وانفجرت لا بصراخٍ فقط بل بالفعل إذ التقطت وعاء الحساء بكل غضبها الكبوت… بيدي امرأة سُرقت منها
ذاتها وألقت به نحو صدر الرجل الذي توهّم نفسه دائمًا على صواب…
وصرخت من بين أنياب المرارة:
"أحسنُ التصرّف؟ تبا لك أيها الأحمق!"
ذاك الذي سلبها اسمها، ومستقبلها، وحرية قراراتها، ذاك الذي قدّم لها الزواج مغلفًا بالذهب ثم رماها في زنزانة باردة من الشك والسلطة لم يكن يكفيه أنها تلفظ أنفاسها على حافة المرض بل جرؤ على نزع آخر ما تبقى من كرامتها، متهمًا إياها بالتمثيل.
شهق ميلر وهو يمسح على وجهه بيأس إذ انسكب الحساء كدماء حمراء داكنة على بدلة أحمد الفاخرة، بينما لعن أحمد تحت أنفاسه بعد أن تسللت الحرارة إلى جلده كما تسللت الإهانات إلى روحه… فثبت نظراته عليها، وبعينين تحترقان سار نحوها بخطواتٍ لم تكن تحمل الرحمة.
التقط كريس الشرر في الهواء، وشعر بالشجار يتصاعد من الأرض كبركانٍ خامد شارف على الانفجار… فاندفع يقف بينهما كجدار بشري يفصل
بين النار والرماد، وقال بنبرة ملؤها القلق:
"سيد ميلر، لا بدّ أن الحساء انزلق من يدها... سيدتي ميلر أرجوكِ قولي شيئًا!"
رفعت سارة رأسها ببطء، واستقامت من جلستها كمن يحمل جراحه على كتفيه لا ليخفيها بل ليرفعها راية.
ثم قالت بصوتٍ لم يعرف الندم:
"نعم... لقد انزلق."
ابتسم كريس بارتياحٍ زائف كمن نجح في تأجيل الكارثة لحينٍ آخر، وقال مخاطبًا أحمد:
"سيد ميلر، لقد سمعتها... هي—"
لكن الجملة لم تكتمل إذ كان في الأفق ما هو أعظم من الكلام وذلك عندما أضافت سارة بجرأةٍ تستفزّ الصمت ذاته، وبنبرة لا تشبه سوى من قرّرت أن تخلع القيد وتكسر الجدار، قالت وهي تحملق في أحمد بعدائية ترشقه بالكلمات المهينة:
"لو لم تكن قد انزلقت من يدي... لوجهتُها إلى مؤخرة رأسك مباشرة، أيها اللعين!"
تجمد كريس مكانه كأن ما خرج من بين شفتيها سهامًا لا أصواتًا فابتلع ارتباكه
دون أن يجرؤ على النطق… على أي حال لم يجد كريس ما يبرر به ما لفظته سارة تواً… كانت كلماتها واضحة ولا مجال لردع صداها، فهي بجنونها النقي تُغرق السفينة التي لا تزال تتشقق.
احتدمت النيران بصدر أحمد الذي دفع كريس عن طريقه بعنفٍ صامت وتقدم حتى اقترب منها ثم همس من بين أسنانه المتقلصة كالفخ:
"سارة..."
لكنها لم تكن تابعة له بعد الآن وإذا بها تلتقط زجاجة الدواء من أعلى لوح رأس السرير وبطرفة عين انقضت تقفز وقبضتها مستميتة على ما بيدها تستهدف منتصف جبهته كمن قررت أن تشعل الحرائق بيديها، ثم هتفت:
"يا لك من و…! سأمزقك بيدي!"
قالتها واندفعت نحو رأسه كعاصفةٍ مُصمّمة على العطب لكن أحمد كان أسرع منها… إذ قبض على معصميها، وثبتهما خلف ظهرها بقسوة خافتة.
في لحظة، انهارت...
انهارت كما تغفو النجوم البعيدة في عمق السماء بصمتٍ ينبض وجعًا.
سكنت وقد
احمرّ وجهها واختنقت عيناها بضبابٍ لا يُبكي بل يخنق.
ورغم إحكامه عليها لم يكن منتصرًا.
كان يرى أمامه وجعًا نَحَت ملامحه ببطءٍ قاتل.
ورغم الغضب الذي يحفر صدره شعر بشيءٍ أكثر فتكًا... شعورٌ غريب كأنه يخسر معركة لا يعرف متى بدأت.
تنفس ببطءٍ عميق يحاول إطفاء حريقٍ يشتعل في قاع روحه. ثم أطلق سراحها فجأة، يدفعها نحو السرير كما يُلقى بالذاكرة المؤلمة في بئرٍ معتم، وقال بصوتٍ أشبه بالخنجر:
"تذكّري ما فعلتِ اليوم يا معتوهة.. صلّي وتدرعي ألا تقعي بين يديّ مرةً أخرى."
لم تكن مجنونة بل فقط غارقة في هشاشةٍ تتخبط بها كمن يركض على حقل ألغام دون أن يدري أين سينفجر أولها. وكان هو في تلك اللحظة على وشك أن يُمسك بعنقها لا رغبةٍ في الأذى بل كقهرٍ لا يجد له مخرجًا.
لكنها لم ترتدع بل زمجرت بعنادٍ يوشك أن يتحول إلى لعنة:
"لن أطلب منك المساعدة... حتى لو اضطررتُ للقفز من الطابق السابع."
رمقها بنظرة أخيرة…
كانت تلك النظرة آخر خيطٍ بين ندمه وغضبه، ثم التفت وغادر دون أن ينطق مغلقًا الباب خلفه بقوةٍ اهتزت لها الجدران مصطحباً حراسه وترك خلفه العاصفة في كامل جنونها.
ركض *برنت* خلفه بخطى مضطربة كأن الأرض تهتز تحته وصوته يلاحق صدى الخطوات الثقيلة:
"سيد ميلر... ألا تخشى أن تُقدِم السيدة أحمد على إيذاء نفسها مجددًا؟"
توقف *أحمد* دون أن يلتفت وخلع سترته بحركة حادة كمن يزيح ثقلًا من على صدره ثم قال بجمودٍ يشبه صقيع كانون حين يقتل آخر نبض في ورقة شجر:
"امرأة مثلها؟ لا تموت... بل تُمثّل الموت… لا أظنها تمتلك الجرأة الكافية لتعانق النهاية أنا لن أُهدر دقيقة أخرى من عمري في عبثها."
كانت نبرته باردة حدَّ القسوة لكنَّ *برنت* لم يرَ في كلامه سوى محاولة يائسة للهروب من مشهد يؤلم الروح ولو بدا متماسكًا كالصخر.
برنت بصفته شاهداً رأى الحقيقة
بلا أقنعة.
امرأةٌ أُلقيت بين الحياة والموت، وسقطت من علُوٍّ سابع كأنها تتحدى قوانين الجاذبية والعقل.
لو لم يكن *أحمد* قد لحق بها، ولو لم تكن الوسائد الهوائية التي جهزها *كيلفن* في التوقيت ذاته، لكانوا يكتبون لها الآن شهادة وفاة لا تقريرًا طبيًا.
لكن *أحمد*، وبإصرارٍ عنيد ظلّ يفسّر ما جرى كمسرحية رخيصة كتبتها امرأة بارعة في التلاعب، بارعة في التمنُّع.
عاد *كريس* إلى الغرفة حيث كانت رائحة الألم تملأ المكان والفوضى تسكن كل تفصيلة ومن ثم أشار للممرضة أن تبدأ بتنظيف الغرفة من آثار الانفجار النفسي.
ثم توجّه نحو *سارة* وجلس بجوارها بصبر الطبيب الذي تمرس في معالجة ما لا يُرى وقال لها بصوت يشبه العتاب الرقيق:
"سيدة ميلر، الحوار الهادئ قد يُنقذ أرواحًا.. صدقيني لا حاجة للمبالغة أو التطرّف... السيد أحمد رغم كل شيء
لا يزال يهتم. لولا ذلك، ما وقف كالحارس خارج بابك طوال الليل. لذا—"
قاطعته *سارة* بصوتٍ متوتر لكنه محمَّل برجاءٍ مبطن:
"سيد كريس، هل يُعقل... أن يكون هناك خطأ في النتائج؟"
ارتسمت على وجه *كريس* ابتسامة أشبه بابتسامة والد يطبطب على كذبة طفل، ثم أجابها وهو يعقّب نظراتها بإشفاق مهني:
"سيدة ميلر، لكِ مطلق الحرية في الاعتراض عليّ، بل وحتى في كراهيتي،
لكن لا تشكّكي في عملي. لقد أرسلنا تحاليلكِ إلى نخبة من الخبراء،
ومع ذلك... لا وجود لخطأ."
ثم أطلق زفرة طويلة كأنها تُفرغ داخله من عبء ظلّ يثقل قلبه منذ الأمس،
"عندما رأيتُ انخفاض عدد خلايا الدم الحمراء لديكِ الليلة الماضية، شعرتُ بالخطر يدق ناقوسي للحظة إذ ظننتُ أن الأمر أعقد بكثير.
بالمناسبة هل تلقيتِ أي علاج مسبق؟ شيءٌ غير مذكور في ملفكِ؟"
كان سؤاله نابعًا من يقظة الضمير قبل
أن يكون من مقتضيات المهنة.
لقد دخل هذه المعركة بروح الطبيب لكنه الآن... كاد يغوص في قاع إنساني أكثر مما ينبغي.