رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل التاسع والتسعون
استشاط برنت غيظًا من كلمات إيفرلي التي نطقت بها كأنها تطعن ولا ترفق.
ولكنها لم تعبأ بل قالت، وهي تتابع بصوتٍ متهكّم:
"على فكرة هذا الكريه ليس وسيماً مثلك، وجهه دائمًا عبوس... كأن الغيوم عالقة فوق ملامحه."
ثم قلدت نظرات أحمد الباردة بطريقة ساخرة، بينما هو واقفٌ لا يحرّك ساكنًا، يرقبها تُسحب جرجرةً إلى السيارة كدميةٍ من قماشٍ بيد برنت.
وما إن استقرت على المقعد الخلفي حتى ربتت على المقعد المجاور لها، وهمست لبرنت بنبرةٍ متكسّرة
"تعال... أنت وسيم. دعني أعتني بك."
ثم أضافت وهي تضحك بصوت خافت مترنح:
"أنا بارعة في رعاية الأشياء... آخر كلب اهتممت به صار بدينًا ومبتهجًا!"
بقي برنت صامتًا، لا يعرف أيرد بابتسامةٍ تحاكي جنون هذه الخرقاء أم بصمتٍ ثقيل.
أما سارة فما كانت لتتوقع ظهوره في هذا المكان.
أخفت توترها بحذرٍ مدروس، وسألت بصوتٍ خفيض:
"ماذا سيحدث لإيفرلي؟"
أطفأ أحمد سيجارته بعنف كأنما يُطفئ شيئًا في داخله، ثم قال:
"برنت سيوصلها إلى المنزل."
لكن الحقيقة أن قلب سارة لم يكن منشغلاً بمصير إيفرلي فبرنت أهل للثقة... بل جل ما يشغلها ذاك الذي يلوح بينها وبين أحمد من صراعٍ لم يُحسم بعد.
كان الثلج قد بدأ يتساقط، ينسج من رقاته مشهدًا مسرحيًا هادئًا، لا يليق به سوى الصمت.
في زاوية الطريق، وسط العتمة المتوهجة ببعض
الأضواء، ظل واقفًا بكل شموخه، كأنه جدارٌ من الزمن، لا يهتز ولا ينكسر.
مرّت لحظات، ثم التفت أحمد إلى سارة بنظرةٍ ثابتة، وقال بنبرةٍ تلامس الجليد:
"هل يمكننا أن نتحدث؟"
لكنها لم تمنحه حتى نظرةً عابرة بل قالت وهي تشيح بوجهها عنه:
"سيد ميلر، كنت فتاةً مهذبة مؤخرًا. لم أتحدث مع رجلٍ واحد، ولا حتى باسل. حذفت رقمه من حياتي. وإن صادفت رجلًا من بعيد، فسأهرب ."
غمغم أحمد من بين أنيابه، كأن الجرح يصرخ بداخله:
"وحذفتِ رقمي أيضًا؟"
ردّت بهدوءٍ جليدي:
"لا... رقمك لا يزال محفوظًا. أستطيع الوصول إليك متى شئت."
تشنج فكه، ثم انفجر غيظًا باسمها الذي خرج منه كزئيرٍ مكتوم:
"سااااارة!"
لكنها لم تلتفت، بل قالت ببرودٍ قاتل:
"لا داعي لأن تأتي لأخذي، سيارتي هنا."
ثم انطلقت إليها بخطى متسارعة.
وفي اللحظة التي كادت فيها أن تُغلق الباب، امتدت يدٌ قوية لتمنعها.
لم تكن يدًا عادية، بل يدٌ ارتدى معصمها ساعةً باهظة، تلمع تحت ضوء الشارع كأنها نجمةٌ سقطت من السماء، قيمتها وحدها تُقاس بملايين… ومن غيره؟!
وقف أحمد، حاجبًا الضوء والثلج، جسده العالي يملأ باب السيارة كأنه سدّ لا يُخترق.
كان الثلج قد غطى كتفيه ورأسه، وذراعه الطويلة التي ارتكزت بثقلٍ على السيارة كأنها إعلان غير منطوق عن امتلاكه للموقف وربما لها… ومن ثم قال بصوتٍ عميق لا يقبل الرفض:
"
قلتُ: لنتحدث."
كانت كلماته تحمل جرسًا من الخطر كصدى نذيرٍ آتٍ من عالمٍ آخر.
تأملته سارة تُحاول أن تُفسّر تلك الهالة المُهيبة التي تحيط به، أحمد لم يكن رجلًا عادياً... بل عاصفةً تمشي على قدمين.
الهواء البارد، الضوء الخافت، حتى السيارة... كل شيء بدا أصغر بوجوده.
طوال زواجهما، كانت دومًا تقف في ظله، كما تقف زهرةٌ ضعيفة تحت شجرةٍ جبارة، لا يصلها الضوء ولا يُسمع لها صوت.
رفعت عينيها، وواجهت نظرته بثبات:
"هل أتيتَ لتنفّذ شرطك من أجل إنقاذ والدي؟ هل هذا هو كل ما تبقّى بيننا؟"
سؤالها انطلق كنصلٍ مسنونٍ في صدره، وجمّد الكلمات على لسانه.
بقي صامتًا، مذهولًا، كأنها باغتته بكشفٍ يعجز عن تفسيره.
استغلّت سارة الفرصة، وبحركة حاسمة، أغلقت باب السيارة تُسدل ستارًا نهائيًّا على مشهد لم تشأ له أن يكتمل. ومن ثم أمرت السائق بالتحرك، فانطلقت العجلات على الثلج الناعم تمزق آخر خيوط الندم.
في المرآة الخلفية، تلاشى أحمد شيئًا فشيئًا… ذائبًا في عتمة الليل ودوامات الريح والثلج، تمامًا كما كانت تراه في أحلامها القديمة حين كانت طالبةً، والآن تجلس خلف نوافذ العمر وتُحاكي المستحيل.
لكن قلبها لم يعرف السكون تلك الليلة. ظلّ يتأرجح بين القلق والخوف كشمعةٍ في مهبّ العاصفة… تخشى انتقامه… تخشى أن يُطلّ من الظلام بثأرٍ لا يرحم، لكن أحمد لم يظهر كأن الأرض
قد ابتلعته أو كأن الغضب ذاته قد دخل في غيبوبة.
في المقابل لم تكن مارينا من أولئك الذين يعرفون الانتظار أو الصمت. كانت كالعاصفة التي لا تطرق الأبواب بل تقتحمها… فسرعان ما علمت سارة أن مارينا تخطط لهدم منزلها العائلي وتحويله إلى مأوى للحيوانات...
صرخت إيفرلي من أعماق غضبها، وهي تشتم مارينا بكل ما أوتيت من شراسة:
جملة "الجلد" خرجت من فمها كطعنة، حادة، عارية من الرحمة.
تغيرت ملامح سارة وتلاشى الوميض في عينيها… لم تكن مارينا مجرّد امرأة قاسية بل تجسيدًا حيًّا للطغيان، مارينا شيطان يرتدي ثوبًا بشريًّا وقرر أن يستقرّ قرب قبور أجدادها.
ذاك البيت لم يكن مجرد بناء من الطوب والخشب… كان تاريخًا حيًّا، مرسومًا على الجدران، تسكنه أرواح مضت، وتركت خلفها رمادها المبارك… وفي فناءه الخلفي كانت قبور أجداد سارة تستكين، وقد وُوريت أجسادهم هناك منذ أكثر من مئة عام.
أرادت العائلة ذات يوم أن ترحل، أن تُبدّل الديار، لكن عرّافة عجوز ظهرت من العدم، ونصحتهم بعدم نبش الماضي.
قالت، بنبرةٍ كمن يحدّق في الغيب: "إذا تحرّك الموتى... تحرّك الحظ العثر معهم."
لم تكن سارة تؤمن بالعرافات. بل لم تكن تعبأ بما تقوله مارينا من تهديدات أو استعراضات للقسوة.
لكن هذه المرة... لم تكن قادرة على أن تقف صامتة… لم يكن الأمر مجرد نزاعٍ على ملكية. لقد وصل الأمر
إلى مقابرالذكريات…لذا لا بد أن تنهض لا لتدافع عن أرضٍ بل عن ماضٍ مقدّس وشواهد ترابٍ لا تُشترى بثمن.