قصة شقة راس البر كاملة بقلم محمد عبد الرحمن شحاتة
أوِّل ما خلَّصنا امتحانات واتخرَّجنا، اقترحت على أصحابي نحتفل بالمناسبة دي، عرضت عليهم نروح راس البَر في شقّة عمّي، وقبل الميعاد اللي اتفقنا عليه بيوم، طلبت من عمّي يعطيني مُفتاح الشقّة، واللي بالمناسبة اشتراها من 7 سنين، لكنه مراحش فيها ولا مرّة، عشان كِدَه قال لي وهو بيعطيني المفتاح:
-خلّي بالك يا توفيق إن الشَّقة مقفولة من يوم ما اشتريتها، يعني محتاجة تتروَّق.
الحَماسة كانت وخداني لدرجة إنّي قُلت له:
-لمَّا أروح هظبِّط كل حاجة.
وفعلًا، رِكبت عَربيتي وطلعت راس البَر، أخدت معايا كل حاجة محتاجها عشان أجهّز الشقة وأنضَّفها، مشيت على الوصف اللي عمّي وصفه، عَشان كِدَه وصلت بسهولة..
لمَّا وصلت نزلت من العربية ووقفت قدّام العمارة، الشَّقة دور أوّل، لها سلّم على الشّارع وبلكونة كبيرة، فتحت شنطة العربية وأخدت منها الحاجات اللي جهّزتها عشان أنضّف بِها الشَّقة، وقفت قُدّام الباب، حطّيت المُفتاح وحاولت أفتح، لكن المُفتاح كان معلّق بطريقة صعبة، خُفت المُفتاح يِتكِسِر، نِزلت لبواب العُمارة وطلبت منّه شوية زيت أليّن بيهم كالون الباب.
البواب عَطاني سِرِنجة فيها زيت، أخدتها وطلعت ولقيته طالع ورايا، حطّيت الزيت على المُفتاح والكالون وبدأت أحاول مع الباب، وبعد محاولات كتير الباب اتفتح..
شَكَرت البواب بعد ما وَقف معايا لغاية ما الباب اتفتح، كان اسمه عم دسوقي، واللي قبل ما يمشي قال لي:
-لو عايز حد يساعدك في تنضيف الشَّقّة أنا خدّامك.
ابتسمت لُه و ادّيته اللي فيه النصيب و قُلت له:
-لو احتجت حاجة هكلِّمك.
دخلت الشقة وقفلت الباب ورايا، فَتحت الشبابيك، ولمّا الدنيا نوّرت وشُفت المنظر قدامي لقيتني بسأل نفسي:
-إيه كمّية التراب دي؟!
منظر الشَّقة صدمني، ولمّا عمّي قال إنها متفتحتش من ساعة ما اشتراها ماكنتش متخيّل إنها بالمنظر ده، فكّرت إن ممكن الليل يدخل عليا هنا، عشان كده حاولت أفتح النور، لكن مفيش ولا لمبة نوَّرت، في البداية افتكرت إن اللمبات محروقة، ندهت على عم دسوقي وطلبت منه يشتري كام لمبة من السوبر ماركت، ولمّا جاب اللمبات خلّيته يركّبهم، لكن برضه ما اشتغلوش، عَشان كِدَه قُلت له:
-أنا محتاج كهربائي ضروري.
عم دسوقي مكدّبش خبر، خرج ومفيش نُص ساعة لقيته راجع ومعاه كهربائي، بدأ يفحص كل حاجة عشان يوصل لمكان العُطل، لكن اتفاجئت إن الكهربائي بيقول لي:
-كُل حاجة سليمة، مُش عارف المشكلة فين!
ابتسمت بسخرية وقُلت:
-لمّا كل حاجة سليمة واللمبات جديدة، ليه النور ما اشتَغَلش؟!
في الآخر الكهربائي معرفش يوصل لحاجة، هو أكّد إن كل شيء تمام، ومكنش قُدّامه غير إنه يعتذر ويمشي!
دايمًا بتبع المقولة اللي بتقول: الجيش بيقول اتصرَّف، استغليت النور اللي داخل من الشبابيك المفتوحة وبدأت أنضَّف الشَّقّة، ومن أوضة للتانية للصالة، التنضيف أخد منّي وقت كبير، ما انتبهتش غير والشقّة بتضلّم، الليل دَخَل، ساعتها حسّيت إنّي انعزلت عن العالم، مابقتش سامع صوت حدّ في الشارع، بصّيت من شباك الصالة لقيت الناس رايحة جايّة عادي، بس المشهد قدّامي كأنه بيدور على شاشة صامتة..
قعدت على الكنبة في الصالة أحاول أرتاح شويّة، مدّدت وغمضت عيني وحسيت إنّي محتاج أسترخي، لكن صوت الخَبط اللي سمعته خلّاني أقوم مفزوع من مكاني!
لما فتحت عيني ماكُنتش شايف حاجة، الشبابيك اتقفلت من نفسها، باب الحمام اللي قفلتُه بعد ما نضَّفته اتفتح من نفسه! مدّيت إيدي في جيبي وطلّعت الموبيل وفتحت كشّافه عَشان أشوف اللي بيحصل، اتفاجئت إن الموبيل فصل بمجرد ما اتفتح، حاولت أفتحه أكتر من مرَّة لكن كُل محاولاتي فشلت.
اللي خلاني أنشغل عن الموبيل الأصوات اللي خرجت فجأة من الحمام، ضحكات وصرخات، ميكس مُرعب خلّى جسمي يتلبّش، واللي زوّد الخوف عندي إن الأصوات كانت بتتردّد بشكل قوي ومُخيف، وبشكل لا إرادي لقيتني بفكّر أخرج من الشَّقّة، جريت ناحية الباب، مسكت الأوكرة عشان أفتحها لكنّها مَتحرَّكتش، نَدَهت على عم دسوقي أكتر من مرّة، لكن حسّيت إن صوتي مكانش طالع، أو إن الأصوات اللي خارجة من الحمام كانت أعلى من إن صوتي يظهر وسطها.
قَعدت في مكاني ورا باب الشقة على الأرض، حطّيت إيدي على ودني وغمَّضت عيني، ومع الوقت الأصوات بدأت تختفي والدنيا بدأت تبقى هادية، وبرغم كده فضلت في مكاني، لغاية ما سمعت خبط على باب الشَّقة..
جسمي اتنفض، قُمت من الأرض وركّزت عَشان أتأكّد إن فعلًا في حد بيخبّط، ولما سِمعت الخَبط تاني قُلت بصوت واطي:
-مين؟
-أنا دسوقي .. افتح يا أستاذ توفيق.
كان على لساني أطلب منُّه يكسر باب الشقة، لكن حاولت أفتح الباب مرَّة تانية، والغريبة إنّه اتفتح معايا عادي، ساعتها لقيت عم دسوقي معاه صينية عليها كوبّاية شاي وكوبّاية مَيّه، دخل وحطّها على الترابيزة اللي في الصالة وقال لي وهو راجع:
-لقيتك اتأخّرت قُلت أعمل واجب.
قُلت له وأنا بَبُص حواليّا ومستغرب:
- كُلّك زوق يا عم دسوقي.
بعدها دخلت الصالة وسِيبت عم دسوقي على الباب، قرّبت من الترابيزة ولقيت إيدي رايحة ناحية كوباية المايّه، مسكتها وشربتها على مرة واحدة، ريقي كان ناشف جدًّا، ساعتها عيني راحت على الشباك، كان مفتوح زي ما هوّ، ولقيت نفسي سامع أصوات الناس في الشارع عادي، بصيت ناحية باب الحمام لقيته مقفول و مَفيش أصوات مُخيفة، وقفت سرحان، وانتبهت على صوت عم دسوقي وهوّ بيقول لي:
-في حاجة يا أستاذ توفيق؟!
رديت عليه وأنا مش مستوعب اللي حصل معايا وقُلت:
-ها .. لا أبدًا. مفيش حاجة.
سابني ونِزِل، وأنا قفلت الشبابيك ولمّيت أدوات التنضيف حطيتها في المطبخ وخرجت من الشقة، بس قبل ما أقفل قلت أجرب مفاتيح النور تاني، والغريبة إن النور اشتغل!
قفلت النور والباب ونزلت، قُلت: يمكن كان في حاجة معلَّقة في الكهربا لأن المفاتيح مشتغلتش من سنين طويلة، وده كان أقرب تفسير جِه في بالي.
محبِّتش أفكّر كتير في اللي حصل، رغم إنّي أوّل مرة أتعرّض لحاجة زي دي، المهم إن الشَّقة بقت جاهزة، ومعادش ناقص غير إنّي أرجع عَشان أجيب الشّلة زي ما احنا متفقين.
***
رجعنا الشقة تاني يوم بعد الفجر، وقفنا بالعربية ونزّلنا الشُّنط، كان عددنا خمسة، أنا و أمير و آسر و بليغ و محمد. عم دسوقي أوّل ما شافنا أخد المفتاح والشُّنط وطلع بيها على الشَّقة..
بعدها طلعنا وراه، أوّل ما دخلنا بدأت أفتح الشبابيك، كل واحد من الشلة حطّ شنطته جنب السرير اللي اختاره، أمير و آسر بدأوا يجهّزوا الصَّب في البلكونة، و بليغ و محمد نزلوا شارع السوق عشان يجيبوا فطار، وأنا بدأت أشوف الحاجات اللي ممكن نحتاجها في المطبخ.
اليوم كان ضايع، فطرنا وشغّلنا أغاني في البلكونة، شَباب بقى وبيحتفل، والضُّهر طلعنا البحر ورجعنا قبل المغرب مهدودين، طلبنا فراخ مشوية من مطعم كان عامل إعلان على العمارة اللي قُدَّامنا، ولمّا الأوردر وصل أكلنا وكل واحد دخل زي المقتول من التعب على سريره.
"تيك تاك، تيك تاك"...
صوت ساعة اليَد اللي أنا لابسها كان مسمَّع، الدنيا هادية وضلمة، كُنت مغمَّض عيني لكني صاحي وإيدي تحت راسي، بصّيت في عقارب الساعة اللي كانت منوّرة في الضلمة، كانت 12 صباحًا، فِضِلت صاحي ومركّز مع صوت عقارب الساعة، لكن بعد شوية سمعت صوت باب الأوضة التانية بيتفتح، وسمعت حد خارج، لمّا ركزت مع خطوته عرفت إنه رايح الحمام.
ومفيش ثواني و سمعت صوت خبطة وبعدها صرخة، كان صوت آسر، قُمت من السرير وكُل اللي نايمين قاموا، لمَّا خرجنا لقينا آسر واقِع في الأرض قُدّام المطبخ، شيلناه من الأرض وحطّيناه على الكنبة في الصالة، جسمه كان بيرتعش بطريقة صعبة، ولمّا بدأ يهدا سألته:
-مالك يا آسر؟!
أخد فترة على ما بلع ريقة وبصوت مهزوز قال:
-المَقَشَّة .. وأنا داخل الحمام شُفتها بتتحرّك في المطبخ لوحدها.
وقفنا نِبُصّ لبعض، إحنا نعرف عن آسر إن تركيزه قوي، صعب جدًّا إن يكون بيتهيّأ له، وده خلاني أروح المطبخ وأفتح النور عشان أتأكّد، وفعلًا؛ المَقَشَّة كانت مرمية في الأرض، ساعتها شريط الأحداث اللي حصلت معايا دار قُدَّام عيني، ماكنتش قادر أقول لآسر إنه بيتهيأ لك، عشان تقريبًا كده أنا كمان مكانش بيتهيأ لي.
أخدت المقشّة من الأرض ورجّعتها مكانها، ورجعت قعدت معاهم، مُش عارف أوصف كمّيّة الصّمت اللي كُنّا فيه، رغم إني كُنت شايِف لا مبالاة على وِش أمير وبليغ ومحمد، لكن أنا كُنت واخد الموضوع بجد، لأني ببساطة كُنت بَربُط بين كلام آسر وبين اللي حَصَل لي وأنا بنضَّف الشَّقة.
مع الوقت الدُّنيا بدأت تهدا، الصمت والقلق اللي كنّا فيه بدأوا يروحوا، النهار كان قرّب يطلع، بليغ دخل البلكونة وفَتَح صوت الصَّب على الآخر وقال:
-إيه جو الكآبة ده! إحنا جايين هنا نحتفل.
آسر راح في النوم على الكنبة مكانه، لكن أمير وبليغ ومحمد كانوا عاملين مهرجان في البلكونة، وبرغم إني كنت معاهم لكن حسّيت إنّ دماغي مفصولة عنهم وعن أي حاجة حواليّا، القلق بدأ يزيد عندي، أنا عمري ما كنت بعترف بالخرافات، لكن لقيت نفسي بدأت أصدّق إن الشقة ممكن تكون مسكونة؛ لأن عمّي من ساعة ما اشتراها وهي مقفولة محدّش دخلها؟!
لمحت عم دسوقي قاعد على الدِّكة قدّام العمارة، أخدت نفسي بدون ما حد يحس ونزلت قعدت معاه، أوّل ما شافني قام يعمل لي كوباية شاي، ولمّا رجع حبّيت أفتح معاه أي حوار فقُلت له:
-أنت هنا من كام سنة يا عم دسوقي؟
-أنا ماسك العمارة من ساعة ما كانت بتتبَنى.
كلام عم دسوقي خلّاني أسيب كوبّاية الشاي من إيدي وأركزّ أكتر، أكيد لو الشقة كان حصل فيها حاجة هيكون عارف بيها، عَشان كِدَه كمّلت كلامي وقُلت:
-عل فكرة يا عم دسوقي لمّا كنت بنضّف الشَّقة في حاجة غريبة حصلت معايا.
بَص لي بصّة طويلة وهوّ ساكت وقال بعدها:
-إيه اللي حصل معاك بالظّبط؟!
-حسّيت إن الشَّقة معزولة عن الدنيا، أصوات مخيفة كانت طالعة من الحمام؛ لدرجة إنّي اتحبست في الشَّقة لغاية ما أنت خبَّطت على الباب.
-الشَّقة مقفولة من زمان، وأي مكان بيتقفل سنين طويلة بتكون لُه رهبة أوّل ما يتفتح.
-أنت مكنتش بتفتح الشَّقة يا عم دسوقي؟!
-محدّش يقدر يدخل شقّة غير بإذن صاحبها؛ دي مسؤولية، وعمّك كمان مكانش سايب المفتاح، و كان بيتواصل معايا بالتليفون من وقت للتاني بس عشان يطَّمن، وأنتم أوّل ناس تدخل الشَّقة من بعد ما عمّك اشتراها.
-يعني طول فترة شغلك هنا مشوفتش حاجة حصلت في الشَّقة؟
-خالص، بس صاحب الشَّقة اللي فات كان راجل طيّب ما يتخيَّرش عن عمّك كِدَه، هوّ كمان كان قافل الشَّقة لمّا اشتراها، كان بييجي كتير في الأوّل، وفجأة معادش بيظهر لحد ما باع الشقة لعمَّك.
شَكَرته على الشاي وقُمت، بس ماكنتش مقتنع بكلامه، حسِّيت إنه بيلف ويدور عليا، ما هو لو فعلًا في حاجة في الشَّقة يبقى مُش هتيجي من فراغ، ولو كان حصل حاجة أكيد بنسبة كبيرة هيكون عارف بيها.
لمّا طلعت الشقة أول حاجة عملتها إني اطَّمنت على آسر، حالته مكانتش طبيعية ومكانش قادر يتكلّم، وكُنت ملاحظ إنه من وقت للتاني بيسرح وبيبُص ناحية المطبخ، ولمّا كنت بكلّمه كنت بحسّ إنه في عالم تاني.
مكانش قُدّامنا غير إننا نروح بيه المستشفى، شيلناه ونزّلناه العربية، ولمّا وصلنا المستشفى اتعمل له فحوصات، الدكتور اللي كشف عليه قال إنه اتعرض لصدمة، وإنه لازم يمشي على العلاج لحد ما حالته تتحسّن.
خرجنا من المستشفى واشترينا العلاج ورجعنا الشقة، آسر أخد العلاج، فضلنا صاحيين لتاني يوم، لاحظنا إن حالته اتحسّنت، قرَّرنا نروح البحر وناخده معانا يمكن لمّا يغيّر جو يساعده إنه يتحسّن أكتر، لكنّه رفض ييجي معانا ودَخل نام من غير ما يتكلّم.
مَحبّيناش نضغط عليه، سيبناه على راحته وخرجت معاهم، كُنت عايز أفضل مع آسر لكن خفت عدم خروجي يعمل توتّر أكتر ويبوّظ الليلة كلها أكتر ماهي بايظة.
رِجعنا من البحر قبل المغرب، طلبنا أكل من المطعم، ولمّا الدليفري وصل صحِّينا آسر من النوم، كان في عالم تاني، حالته كانت بتسوء برغم إنه أخد العلاج، رفض ياكل ودَخَل ينام، وإحنا بعد ما أكلنا دخلنا نمنا.
الشَّقة كانت ضلمة لأنّي قفلت الشبابيك كلها، حاولت أنام لكن معرفتش، القلق كان عامل عمايله معايا، واللي حصل لآسر كان مطيّر النوم من عيني.
"تيك تاك، تيك تاك"..
بصّيت في الساعة، وبرضه كانت 12 صباحًا، ومن تاني سمعت صوت باب الأوضة التانية بيتفتح، وصوت خطوات على الأرض، وبعد ثواني، سمعت صوت خبطة وبعدها صرخة، كان صوت بليغ، خرجت أجري من الأوضة ولقيته مرمي في الأرض في نفس المكان اللي وقع فيه آسر، دخلت أصحّي أمير ومحمد عشان يشيلوه معايا، حطّيناه على الكنبة، نفس المشهد كان بيتكرَّر بكل تفاصيله، ولمّا بدأ ياخُد نَفَسه سألته:
-إيه اللي حصل؟!
كان بيبُص لنا وهو بيرتعش، وبصوت مليان رُعب بَصّ ناحية الحمام وقال:
-شُفت واحدة لابسة أسود عند باب الحمّام، عينها بتلمع في الضلمة، ظَهَرت فجأة قُدّامي وأنا داخل، ولقيت بعدها الدنيا لفّت بيّا واتنطرت في الأرض.
بصِّينا لبعض، لكن المرة دي ما أخدناش الكلام باستهتار، لدرجة إنّي دخلت عند الحمَّام وفتحت النور، واتصدمت من اللي شُفته. لأني شُفت آثار رجلين حد واقف على الباب!
ندهت لأمير ومحمد عشان يشوفوا المنظر معايا، وكمان أتأكّد إني مُش بيتهيّأ لي، وكُنا على يقين إنها مش أثر رجلين حد فينا لأن أثرها صغيَّر. والغريب أكتر إن آثار الرجلين كانت في مكان واحد بس، زي ما يكون حد واقف على باب الحمّام وباصص بَرَّه، بالظبط زي ما بليغ قال، ولو كان اتحرَّك كان زمان في آثار رِجلين تانية على الأرض.
حاولت أتكلّم مع بليغ تاني، لكنّه بعد ما قال اللي حصل فَقَد النُّطق وحالته بقت زي حالة آسر !
قرَّرنا ناخده المستشفى، ولمّا الدكتور كشف عليه كتب له نفس العلاج اللي كتبه لآسر، وكان التشخيص برضه إنه اتعرض لصدمة!
رجعنا وبليغ أخد علاجه قبل ما يروح في النوم، وقعدت في البلكونة مع أمير ومحمد، محدّش فينا كان بيتكلّم مع التاني، الخوف بدأ يتمكّن مننا، كان ممكن أقول لهم إننا هنمشي الصُّبح، بَس خُفت حد يفهمني غلط ويقول بيتحكّم عشان شقّة عمّه، دا غير إنّي واعدهم إننا هنقضي 10 أيّام معدَّاش منهم غير يومين بس، وحصل فيهم اللي حصل.
النهار طِلع علينا، مكانش في نِفس لِفطار ولا أي حاجة، لدرجة إن مفيش واحد فينا قام من مكانه، اليوم كلّه كان في البلكونة، كل واحد فينا بدأ يخاف يدخل الشَّقة من جوّه، لغاية ما اتفاجئت بِـمحمد و أمير بيقولوا:
-إحنا هنمشي.
ماكُنتش مستغرب كلامهم، لكني رديت وقُلت:
-هتمشوا تروحوا فين؟!
محمد رد عليا وهو مستغرب سؤالي وقال:
-أنت مُش شايف اللي حصل؟! كل ليلة واحد يحصل له حاجة غريبة، يعني الدور علينا.
ردّيت وأنا مُش مقتنع باللي بقوله:
-أنتوا ليه واخدين الموضوع إن فعلًا في حاجة غريبة؟!
رد أمير على كلامي وقال:
-أومّال تفسَّر اللي بيحصل بإيه؟!
مكانش عندي رد، عشان كِدَه أصرّوا إنّهم ياخدوا آسر وبليغ ويمشوا، دَه اللي خلَّاني أعطي مفتاح العربية لأمير، وقُلت لهم أنا هقعُد شويّة عشان أقفل الشقة وأرجّع كل حاجة زي ما كانت وبعدين هرجع مواصلات.
قبل المغرب كانوا واخدين آسر وبليغ وماشيين، وطبعًا أنا مقعدتش عشان أعمل حاجة من اللي قلت عليها، أنا كنت عايز أعرف إيه الحكاية.
الليل كان هادي جدًّا، مُش عارف ليه فتحت موبايلي وشغَّلت موسيقى هادية وقعدت في البلكونة، يمكن كُنت عاوز أطرد الخوف اللي جوّايا، أو يمكن عاوز حاجة توقَّف تفكيري شويةّ، لكن الكهربا فصلت فجأة، افتكرت إنها فصلت عن المنطقة كلها، لكن لمّا بصّيت حواليّا لقيت إنها اتفصلت عن الشَّقة بس! ومفيش ثواني وسمعت صوت خبط جوَّه الشَّقة!
أوَّل مرة يكون قلبي جامد كِدَه، دخلت من البلكونة وفضلت ألِفّ في الشَّقَّة، صوت الخَبط مكانش له مصدر محدد، كان جاي من كُل ناحية، كأن في حد ماسك آلة حادّة وماشي يخبَّط في الحيطان.
كُنت بتلفِّت حواليّا في كل مكان، لكن الضلمة منعتني إنّي أشوف اللي بيحصل، حتّى الضلمة نفسها كانت غريبة، كأنّي في قبر مقفول عليّا، لدرجة إني ما كُنتش شايف إيدي قُدّامي.
حسّيت بصوت خطوات بتتحرّك حواليّا، كُنت واقف ثابت مابتحرَّكش، لاحظت إن الخطوات اللي حواليّا كانت لأكتر من حد بيتحرَّك، ومع الوقت بدأت تقرَّب منّي، وبدأت أحسّ بأنفاس سُخنة على وشّي، وأنفاس زيّها عند راسي من ورا، كأنّ في حد واقف قُدّامي و ورايا في نفس الوقت!
طلّعت تليفوني من جيبي وحاولت أفتحه بكُل الطُرق، لكن للأسف الموبيل مَتفتحش!جسمي ارتعش أكتر والخوف بدأ يزيد معايا، كُنت خايف أوصل لمصير آسر وبليغ، دا غير إني لوحدي ومحدّش هيلحقني، وممكن يبقى مصيري أسوأ من المصير اللي شافوه.
اتحرَّكت بالراحة ناحية باب الشَّقة، الأنفاس كانت ملازماني ومعاها صوت الخطوات، مدّيت إيدي في الضلمة عَشان أوصل لمقبض الباب، لكن أول ما وصلت له ولمسته حسّيت بصعقة كهربا نفضت جسمي من مكانه، دراعي وَقَف وجسمي اتلبّش من الصَّعقة اللي أخدتها، ورغم كده حافظت على اتّزاني عشان ما اسقَطش على الأرض، نزلت على ركبي وحاولت أنظّم أنفاسي عشان مفقدش الوعي، دراعي كمان أخد وقت طويل على ما بدأ يتحرّك بطريقة طبيعية تاني، ولمّا قمت وحاولت أفتح الباب مرة تانية، أخدت صعقة كهربا أقوى من اللي قبلها، كأن في حاجة بتقول لي:
-متحاولش!
نفس الموضوع اتكرَّر لمّا بعدت عن الباب وحاولت أفتح الشبابيك اللي اتقفلت من نفسها لمّا الكهربا اتقطعت، وكان في سؤال بيلحّ عليا مُش لاقي له إجابة، هو أنا محبوس في الشَّقة وممنوع من الخروج؟!
قعدت متكوّم راسي مابين رجلي على الأرض في الصالة، ماكنتش حاسس غير بالضلمة والصمت والخوف والرعشة اللي في جسمي، والوقت حسّيته كأنّه واقف مبيمشيش.
"تيك تاك، تيك تاك"..
رفعت راسي وبصّيت للساعة في إيدي، لكن لأوّل مرة العقارب متكونش منوَّرة في الضلمة، بس من صوت التنبيه عرفت إن الساعة بقت 12 صباحًا، ساعتها صوت الخطوات رجع تاني، دا غير إن الأنفاس بدأت تقرّب مني وحرارتها كانت أعلى من المرة اللي فاتت، كُل حاجة مخيفة من حواليا بتزيد، حتى الخوف اللي جوايا زاد لدرجة إن جسمي كان بيتزلزل.
وسمعت صرخة! كان صوت واحدة بتصرخ في الحمام، بعدها صوت خبطة زي ما يكون صوت حد وقع في الأرض، وسمعت صوت عم دسوقي بيصرخ وبيقول "فكريّة!".
الصوت زي ما يكون جاي من برّه الشَّقة، لكن اللي حسِّسني إن قلبي هيُقف إين لقيت حاجة زي البَرق نوَّرت الشَّقّة لثواني واختفت، ساعِتها شُفت واحدة سِت لابسة أسود واقفة على باب الحمّام و بِتبُص ناحيتي!
جِسمي كان زي لوح التلج بعد ما شُفتها، لأوّل مرة أحمد ربنا إن الدُّنيا ضلّمت تاني، هيئة السِّت كأنّها متخشِّبة، وشّها مليان عروق لونها أزرق، دا غير عينيها البيضا اللي كانت بارزة، وساعتها سمعت صوت عم دسوقي من تاني بيقول "فكريّة!".
ساعِتها البَرق رِجع تاني، بس المرّة دي استمر مدَّة أطول، ساعِتها شُفت السِّت وهي بتنضفَّ في الحمام ومفاتيح الكهربا نازل منها سِلك عريان، ولما السِّت قرَّبت منه من غير ما تاخُد بالها الكهربا مِسكتها.
الست صرخت وجسمها اتخشّب، في اللحظة دي كان عم دسوقي بيجري ناحيتها وبينده عليها وهو مرعوب، ومن صعوبة الموقف معرفش يفكّر، حاول يشِد السِّت بإيده، وكانت النتيجة إن الكهربا مِسكِته معاها، لغاية ما دمّهم نِشِف، ووقعوا الاتنين جثث في الأرض!
في نفس الوقت ده ظهر شخص كبير في السن، كان بيخبط بإيده على راسه وهو شايفهم واقعين في الأرض ميّتين، وبعدها شُفت نفس الشخص وهو قاعد في الأرض وكان في شرطة بتعاين الشقة، ومسعفين بيشيلوا عم دسوقي وفكرية وبيلفّوهم في ملايات بيضا عشان ينزّلوهم في عربيات الإسعاف اللي كانت واقفة تحت في الشارع، وساعتها سألت نفسي: هي إيه التخاريف اللي أنا بشوفها في الضلمة دي؟! معقول الشخص اللي ظهر ده ممكن يكون صاحب الشقة اللي عمي اشتراها منه؟! وبعدين أنا لسّه مكلّم عم دسوقي تحت النهاردة! الواحد من اللي شافُه اليومين دول دماغه طارت وبقى بيخرّف كتير.
صوت الخطوات رجع من تاني، والأنفاس حسّيتها أٌقرب من كل مرة، لسّه الدَّوّامة اللي أنا فيها ما انتَهِتش، حسّيت إني مُحاصَر، فضلت قاعد في مكاني، وفضل الوضع مستمر على كِدَه لغاية ما سمِعت أذان الفَجر.
كُل حاجة اختفَت مع الأذان، قمت وروحت عند باب الشقة وحاولت أفتحه، كُنت خايف أمسك الأوكرة من اللي حصل في المرتين اللي فاتوا، لكن أخدت نَفَس عميق وقرَّبت إيدي بالرَّحة ومسكت الأوكرة، والحمد لله، الباب اتفتح من غير ما يِحصل أي حاجة.
أوِّل حاجة فكّرت فيها هي إنّي أنزل أخبّط على أوضة عم دسوقي، كان لازم أحكي له اللي حَصَل، و لازم يعطيني تفسير، ازّاي أنا شُفته جوَّه الشَّقّة أصلًا؟! وإيه علاقته باللي بيحصل؟!
لمّا خبطت على باب أوضة عم دسوقي خرج لي واحد بشوفه لأوّل مرة، والغريبة إنّي لقيته بيقول لي:
-اتفضل يا أستاذ توفيق .. حصلت البَرَكة!
من غير ما أهتم هو مين ولا عرف اسمي منين سألته:
-فين عم دسوقي؟
الراجل أخد خطوتين لوَرَا وهوّ مصدوم، ولقيته بيقول باستغراب:
-عم دسوقي تعيش أنت من زمان يا أستاذ توفيق.
ردّيت بانفعال وقلت له:
-إزّاي وأنا لسّه مكلِّمُه النهاردة! وهو اللي شايِلّنا الشُّنط لغاية الشَّقة فوق! أنا من ساعة ما جيت هنا وأنا بشوفه!
الراجل باندهاش قالّي:
-يا أستاذ توفيق، عم دسوقي تعيش أنت من زمان، أنا اللي كُنت شايل الشُّنط، وأنا اللي كُنت بخبَّط على حضرتك في الشَّقة، وأنا اللي جبت لحضرتك الكهربائي، عم دسوقي مات، و من بعد ما مات أنا استلمت مكانه.
-لا أنا عاوز أفهم بقى، مات ازّاي وامتى؟!
-مات بالكهربا هو و مراته "فكريّة!" في الشَّقة قبل ما عمّك يشتريها.
كُنت واقِف مصدوم، لكن بعد اللي حصل مقدرتش أنكر كلامه وسألته:
-طيّب وعمّي يعرف بالموضوع؟!
-عمّك ما يعرفش حاجة، همّا ماتوا قبل ما يشتري الشَّقة؛ لأنهم بعد ما ماتوا صاحب الشَّقة القديم بدأ يشوف فيها حاجات مُرعبة؛ عشان كِدَه باعها برُخص التُراب، عمّك لقى الشَّقة سعرها لُقطَة فاشتراها بعفشها، وعلى حد علمي إنه قضّى فيها ليلة واحدة، و من اللي شافُه فيها قفلها ومدخلهاش تاني، والشَّقة ريحتها فاحت، حتى وهي مقفولة بيتسمع فيها أصوات بالليل، ومحدّش راضي يشتريها عشان كِدَه عمّك قفلها وخلاص.
وقفت مُش لاقي كلام أقوله، لدرجة إن الراجل قال لي:
-يا أستاذ توفيق، اقفِل الشَّقة وامشي عَشان متتأذاش.
سِيبت الراجل ومشيت بدون ما أرد عليه بعد آخر حاجة سمعتها منه، قعدت على سلم العمارة لغاية ما النهار طلع، حسّيت إن مفيش فُرصة قُدّامي أنسب من دي عشان آخد حاجتي بسرعة وامشي، طلعت الشّقة ولمّيت شنطتي وأنا بسأل نفسي: ليه عمّي مرفَضش إنّي آجي الشَّقة برغم إنه عارف باللي فيها؟!
منتظرتش ألاقي إجابة مناسبة، أخدت شنطتي ونزلت بعد ما قفلت باب الشقة ورايا، ساعِتها لقيت البواب واقف، اللي عرفت في الآخر إن اسمه علي، واللي أصرّ إنه ييجي معايا على أوّل الشارع ويشيل الشنطة لغاية ما أركب عربية توصَّلني للموقف.
وقفنا على أوّل الشارع، لغاية ما عدّى قُدّامنا سرفيس رايح موقف العربيات، علي حط لي الشنطة فوق السيرفيس، وبدون ما أرد عليه دخلت السرفيس اللي كان فاضي وقعدت جنب الشّباك..
السّرفيس اتحرَّك، ولقيت علي بيشاورلي بإيده وهوّ بيقول:
-مع السلامة يا أستاذ توفيق.
مكانش صوت علي!بصّيت من شبّاك السّرفيس واتصدمت! اللي واقف كان عم دسوقي، والصوت اللي قال لي مع السلامة كان صوته، لكن وِشّه كان ظاهِر بشكل غير اللي كُنت بشوفه بيه، كان متخشّب ومفيهوش نقطة دَم ومليان عروق زرقا، وعينه كانت ممسوحة ولونها أبيض.
غمَّضت عيني لأنّي مُش مستوعب اللي بيحصل، وفجأة سمعت صوت الصرخات اللي كنت بسمعها في الحمّام، حطّيت إيدي على وداني وغمّضت عيني، مفيش دقايق ووصلت الموقف.
نزلت من السرفيس وناولت السّواق أجرته، أخدت شنطتي وجريت، لأن وأنا بحاسب السّواق، كان اللي ظاهر في المِرايا وِشّ عم دسوقي!
دخلت المَوقَف، كانت في سيارة بتنده على اسم البلد اللي أنا منها، كان ناقصها راكب واحد، سلّمت شنطتي للسّواق يربطها فوق العربية ودخلت قعدت في المكان اللي كان فاضي، محسِّيتش بنفسي غير والعربية بتتحرّك، كُل الرُّكّاب كانوا ساكتين، الدُّنيا هادية، افتكرت اللي حصل من شوية وأنا بركب السرفيس، وحسّيت إنّه تحذير من إني أرجع الشقة، سندت راسي على إزاز الشباك اللي كان جنبي وغمضت عيني، وقرَّرت إنّي مُش هاجي الشَّقة تاني!
بعد ما رجعت وسلِّمت المفتاح لعمّي وحكيت له عن اللي حصل، عرفت إنه سمع أصوات غريبة في أول ليلة له في الشقة بعد ما اشتراها، وعرفت منُّه كمان إن الشقة بيتقال عنها إنها مسكونة، لكنه واقف يعطيني المفتاح لأننا شباب وأكيد وجودنا مع بعض مش هيعطي فرصة إن حاجة تحصل، لكن اللي حصل كان العكس.
أما بالنسبة لأصحابي؛ فحالتهم اتحسّنت بعد ما خرجوا من الشقة ورجعوا لطبيعتهم، ولمّا سألنا في اللي حصل لنا عرفنا إن أي مكان بيحصل فيه موت بطريقة مش طبيعية بيتحوّل لنقطة جذب لأي طاقة سلبية وأي كائن هايم مالوش مأوى، واللي بدوره بيعتبر المكان مِلكه وأي حد يدخله بيعتبره دخيل، وبالتالي بيحاول يأذيه عشان يسيب المكان.
أما عن الشقة نفسها؛ فبعد اللي حصل عمي باعها برخص التراب، اللي اشتراها جاب شيخ وطهَّرها، لكن عمّي فكَّر بطريقة تانية وقال إن الخسارة القريبة أحسن من المكسب البعيد، وقال كمان جايز مفيش شيخ يقدر على اللي فيها، عشان كِدَه قرَّر يريَّح دماغه ويخلص منها.
***
تمت...
انتهت احداث الرواية نتمني أن تكون نالت اعجابكم وبانتظار آراءكم في التعليقات شكرا لزيارتكم عالم روايات سكير هوم