رواية صرخات انثي الفصل المائة والرابع عشر 114 بقلم آيه محمد رفعت


 رواية صرخات انثي الفصل المائة والرابع عشر 


جل المنادي
جل المنادي
ينادي ينادي
ينادي ينادي
ياعبادي أنا ماحي الذنوب والأوزار
جل المنادي
ينادى ينادي
جل المنادي
ينادى ينادي
ياعبادي أنا ماحي الذنوب والأوزار
إلهي إلهى
بنورك اهتدينا
وبفضلك استعنا
وبك أصبحنا وأمسينا
بين يديك نستغفرك. 

رأسه مسنود للحائط، دمعاته تنهمر على وجهه، رغم أنه يغلقهما باسترخاء لصوت الشيخ نصر الدين طوبار، يشعر بالسكينة حينما يستمع لصوته، لقد انتهى من صلاة قيامه وقراءة ورده، وجلس يستمع لما أطرب به قلبه. 

حرر عن رماديتاه القاتمة، ووخزة قلبه يزداد ألمها، لقد شارف على تنفيذ أبشع جزء كان يهرب منه، سحب "عُمران" هاتفه، يفصل التواشيح عنه، فإذا به يبتسم ويتجه للاستديو مشتاقًا لملامح الصغيرة، التي ظن أنه نساها، دقق النظر في ملامحها وابتسامته تزداد، حتى أنه أراد الصعود ليراها، ولكنه تراجع حينما تفقد الوقت المتأخر. 

مرت عليه الدقائق، ومضى فيها يرتب نشر الفيديوهات التي أرسلها له فريق متخصص، قد عملت لانشاء فيديو يضم أزياء بوتيك "إيثان" بشكلٍ احترافي. 

رفعه على حسابه الشخصي، وما كاد بغلق هاتفه حتى وجد عمه يضع قلبًا وتعليقًا على المنشور، فتشجع ليراسله كاتبًا. 
«حضرتك صاحي؟» 
رد عليه
«فيروزة هانم مش راضية تبطل عياط،  فريدة لما زهقت إدتهاني ونامت هي!» 

«أنا سهران لحد الفجر، ينفع أطلع أخدها» 

«أنت بتستأذن عشان تطلع، معقول، راحت فين وقاحتك!!» 

تجاهل رسالته، ونهض يصعد للدرج، وقف يطرق باب الجناح، ففتح أحمد وتعجب لبقائه بالخارج: 
_مدخلتش ليه! 

عبث حينما لم يجده يحملها: 
_هي فين؟ 

رد وهو يتثاءب بتعب: 
_جوه هجبهالك وراجع. 

توجه للداخل وحملها بارهاقٍ شديد، ثم خرج يناوله إياها ويديه تهتز باجهاد، انحنى يحملها منه والضيق قد نزع مرءه، فقال: 
_شايل كيس جوافه أنت، ما بالراحة عليها!!  وبعدين ده غطى تغطيه بيها. 

وزع نظراته المندهشة بينه وبين صغيرته، وبرر بصدقٍ مضحك: 
_معرفش، أنا معنديش خبرة تعامل، دي أول مرة ليا! 

منحه نظرة ساخرة، وكأنه يمتلك عشرة الأطفال،فتأهل  بشهادة خبرة، فهم أحمد مضمون حديثه، فضحك ساخرًا من ذاته: 
_هحاول أكتسب الخبرة، هدخل أجبلها بطانية تقيلة حاضر. 

غاب لدقائق وعاد يضع حولها ما يحمله، وما كاد بأن يطبع قبلة على جبينها، سحبها عُمران وهو يحذره: 
_قولتلك البوس ممنوع، لما قدامي بتعمل معاها كده من وراها بتهبب أيه؟؟! 

فتح فمه ببلاهةٍ، وقال: 
_عُمران دي بنتي!!  غيران عليها من أبوها!!! 

وكأنه جن ليفعلها، ضم الصغيرة له وقال: 
_لو إتنقلها البرد اللي عندك ده ولا أي عدوى، هتبقى تقول للدكتور ببوسها عشان أبوها!! 

ابتسم وهو يحاول أن يرسم الاقتناع على وجهه: 
_عندك حق، خلاص يا سيدي ممنوع البوس، ها كده مرضي. 

أحاط الصغيرة وهو يطول بنظرته إليه، وبخبث ماكر قال: 
_عشان ترضيني التمن غالي. 

استعد لمواجهته بقوةٍ، وشجاعة تحلى بها أخيرًا: 
_حبيبي هما بيدوك عمولة على حالات الانفصال، لو كده هديك أنا العمولة وتسبني أعيش اللي باقي في حياتي بسلام. 

توقع أن يشاكسه ردًا على حديثه، فخالف توقعاته حينما قال: 
_لو عايز تراضيني خلي بالك من فريدة هانم، ومن فيروزة، متخليش شغلك يبعدك عنها، متفكرش إزاي تأمن ليها مستقبلها وتنسى تكون ليها أب وأخ وصديق، من حقك تفكر في شغلك اللي هيكون ميراث ليها بعد عمرًا طويل، حاول تلغي النقطة دي لإنها عمرها ما هتحتاج لحاجه طول ما علي موجود

وأضاف بعمق بدد النوم الذي كان يسيطر على أحمد منذ قليل: 
_صدقني يا عمي المشاعر أثمن وأرقى بكتير من الثروة والأملاك. 

قطع "أحمد" مسافتهما الفاصلة، والخوف والتوتر يحلقان فوق بقعته، فلفظهما: 
_نبرتك غامضة بشكل يرعب، أنت ناوي على أيه يا عُمران؟؟ 

ضم الصغيرة لكتفه، وبابتسامته التي لم تصل لعينيه قال: 
_هو عشان بنصحك نصيحة يبقى عندي نية لحاجة!  أنا بفوقك من دلوقتي عشان متكنش نسخة من سالم الغرباوي ولا من عثمان الحقير اللي بسببه مايا بتعاني، أنا كل ما بشوف دموعها ببقى هاين عليا أروح أشرحه بإيدي. 

كان صادقًا بما قال، لقد استطاع أن يوصل له مدى معاناته، وبالرغم من ذلك لم يستطيع أن يطمس الخوف والارتباك عن أحمد، الذي عاد يسأله بقلقٍ: 
_عُمران أنا عارف إنك حاطط علي في مكانة الأب اللي أنا مش قادر أوصلها معاك، فلو أنت بتمر بشيء مش قادر تحكيه ليا روح لعلي وقوله، أنا مش مطمن عليك بعد الكلام اللي قولته ده بصراحة. 

عدل من الغطاء حول الصغيرة، ومال يقبل جبهة عمه، ثم انحنى يطبع قبلة على كفه، وبحبورٍ قال: 
_لو أنا مش بعتبرك من العيلة مكنتش وافقت على الجوازة دي وإنت عارف إني كنت أقدر أمنعها زي ما بردو تعرف يعني أيه عيلة بالنسبالي، كل فرد فيكم له مكانته وحبه الكبير عندي، حتى لو كل شخص مكانته لها ترتيب في قلبي، بالنهاية أفديكم كلكم بروحي ومن غير أي تردد. 

أحاطه أحمد بمحبة صادقة: 
_واثق من كل كلمة قولتلها، أنت روح العيلة دي وعلي قلبها اللي بينبض، لا تنفع تكون من غيرك ولا من غيره يا عُمران. 

أنعكس توتر طفيف برماديتاه، تخطاه حينما قال بصوتٍ شجي: 
_ولا من غيرك يا عمي. 

ابتعد عن شق الحديث الجدي، ومازحه بحزمٍ: 
_إنت كده بتضيع الوقت اللي هقضيه مع فيروزة قبل صلاة الفجر، قول إنك غيران وبتلهيني عشان ملحقش أقعد معاها. 

جذب البيبرونة والحليب الخاص بها، وقدمه بابتسامة واسعة: 
_خليها معاك لحد ما تتعود تنام باحترامها. 

سدد له نظرة تحذرية، اتبعها خشونته: 
_أنا أختي محترمة غصب عين أي حد، متعكش في الكلام بدل ما تندم يا أحمد يا غرباوي. 

ضحك بصوته الرجولي العذب، وعدل من صياغته: 
_خلاص حاول تقنعها إن عضمتي كبرت ومش حمل السهر ده. 

أتجه للمصعد بابتسامة خبيثة، والمكر قد تساقط من حديثه: 
_يبقى تعقل كده وتأخد القرار السليم، عشان غلطة كمان والبيبي الجديد هيطلعك على القبر. 

هرع تجاه المصعد والدماء تغلو غضبًا، وهو يتمتم: 
_آه يا وقح!! 

تسرب له صوت ضحكات "عُمران" فأرغمه على التبسم، وعاد لجناحه يهرول لفراشه بنعاسٍ يطبق  أنفاسه. 
                                *******
الظلام يسيطر على المكان برمته، ومازال يمضي بطريقه تائهًا، استوقفه أنينًا مكتومًا، جعله يتتبع مصدره، فوجد شخصًا متكورًا على ذاته، يبكي بكاءًا غير طبيعي، وكأنه ينازع وجع شيء أصاب جسده. 

انحنى يحيط كتفه، ليرغمه على رفع رأسه المدسوس بين ساقيه، رفع الباكي عينيه المتورمة إليه وناداه ببحة محت نبرته: 
_علـي!

جحظت عينيه في صدمة، وعقله لا يستوعب ما يراه، لسانه تجلد حتى عن السؤال، كل ما يخرج عنه كلمة: 
_عُمران! 

رد عليه ببكاء مزق أضلعه: 
_مش قادر أقف! 

أحاطه علي بخوفٍ، وقدم له كل الدعم الجسدي، حتى تمكن من أن يوقفه، يعاونه ليتحرك معه، ولكنه لم يستطيع التحرك، مما جعله يعود لسؤاله: 
_مالك؟ 

انقطع عنه الحديث، وظلت نظراته توازي أخيه، فتحول قميصه الأبيض لوابل من الدماء، فاندفع إليه يفتش فيه بفزع: 
_مالـك؟؟ 

دار للخلف فصعق علي، بعد رؤيته جروح بالغة استهدفت جسده من الخلف، من أعلى رقبته حتى ساقيه، والدماء لا تتوقف عن الانهمار حتى صنعت بركة من حوله، جعلت الأخير يحاول الصراخ ولكن صوته كان كالهفوة التي اختنقت بالحلق. 

فتح "علي" عينيه ونهض مفزوعًا على فراشه، العرق ينهمر على جبينه، ودقات قلبه تختلج عنفًا داخله، مال جواره يلتقط زجاجة المياه، ارتشفها بالكامل ومازال نبضه غير مستقر. 

تفحص ساعته وخطف نظرة يتفحص بها زوجته، فوجدها تغفو في سلامٍ، أبعد الغطاء عنه وهرع للأسفل يبحث عن أخيه، وهو يعلم جيدًا بأنه بذلك الوقت يختلي بنفسه بالحديقة لقيام الليل. 

اتقبض قلب "علي" حينما وجد سجادته مفروشة، ولجوارها مصحفه مغلق، وكأنه غادر للمكان، عاد للداخل ينزع هاتفه من جيب سرواله، يبحث عن رقمه، ولكن استوقفه صوت قادم من مطبخ القصر، فأسرع إليه. 

عادت أنفاسه لمجراها الطبيعي، حينما وجد أخيه يقف بالداخل، حاملًا شقيقتهما على كتفه، ويصنع لها الطعام وهو يخاطبها بنبرة جعلت علي يبتسم لا إدرايًا: 
_ثواني وأكل فيروزة هانم هيكون جاهز، من وقت ما أخدتك من مامي وإنتي قلقانه. 

ورفع البيبرون يريها وهو يمازحها: 
_شوفتي بقى أن قلقك وخوفك مكنش ليهم داعي، أخوكي بيعرف يتصرف رغم قلة خبرته، أنا بابي ناجح وأحمد الغرباوي هو اللي فاشل. 

استدار بها ليعود، فتفاجئ بأخيه على باب المطبخ، يميل برأسه على الحائط ويتابعهما بملامح غير مفهومة: 
_علي!  بتعمل أيه هنا؟ 

استقام بوقفته ورنى إليه يكشف عن وجه الصغيرة بابتسامة جذابة، ثم مال يقبلها، وحملها منه، بينما يرفع بصره صوبه بارتباكٍ يحاول محوه بتصرفاته الشبه طبيعية: 
_مفيش، مكنش جايلي نوم، فنزلت أتمشى شوية قبل صلاة الفجر. 

ردد بحماسٍ: 
_طيب هات فيري وإلحق صلي ركعتين قيام قبل الفجر. 

انتزع حزنه ببسمة صغيرة، فعاد يضعها له مكتفيًا بهز رأسه، عبث عُمران بقلقٍ، فجذب البيبرون ولحق أخيه للحمام الجانبي، وقف يراقبه وهو يقف أمام حوض الاغتسال بشرود، فناداه: 
_علي!  أنت كويس؟ 

أفاق من شروده، ففتح الصنوبر وشرع بالوضاء وهو يهز رأسه دون اصدار أي صوت، مما فشل باقتناع عُمران. 

انتظره حتى خرج وسأله سؤالًا مباشر: 
_إنت مخنوق من حاجة؟ 

جذب "علي " سجادة الصلاة يفردها، ويثبت المصحف جواره ليتابع قراءته أثناء صلاة القيام، فالمستحب لصلاتها قراءة السور الطويلة، ويجوز حمل المصحف للقراءة منه في صلاة القيام. 

انسحب عُمران للصالون المفتوح حينما وجده شرع بالصلاة، فترك له المساحة وغادر يطعم الصغيرة، التي استجابت له، مرر أصبعه على خصلات شعرها البني النابت بحنان، وهمس لها مبتسمًا: 
_بكره هيطول متقلقيش. 

ودس إصبعه بين كف يدها الصغير، فتحاملت عليه، فمال يقبل يدها، وقال ضاحكًا: 
_أيه النعومة والكياتة دي كلها، احط ايدك في توست نوتيلا وأكلها ولا أعمل أيه؟! 

هزت يدها بعشوائية، فتحرر عنه ضحكة مسموعه، ومال يخبرها بصوتٍ هامس: 
_تمام تمام مش هسيب إيدك ولا هتخلى عنك أبدًا بس في مقابل للاسف ولازم توفي بيه، رجوعك يكون ليا في كل صغيرة وكبيرة، هتيجي في يوم تقوليلي أنا بحب فلان وعايزة أتجوزه هعلقك على باب القصر إنتي وهو، أنا كنت رحيم بشمس عشان كنت لسه داخل في علاقة حب مستجدة، لكن لما يجيلك الدور هكون طلعت على المعاش وعقلي هيكون أصغر من خرم الأبرة، أما عن خلقي فتقريبًا هيكون سافر مع شبابي، ها متفقين ولا عندك أي تعقيبات؟ 

_وهو في حد عاقل هيوافق على جنانك ده! 

رفع بصره تجاه أخيه الذي أجابه على سؤاله بسخرية، فمازحه: 
_أيه يا علي، أزاي تدخل علينا كده من غير ما تكح، بيوت الناس وأسرارهم ليها حرمة يا أخي. 

اتجه إليهما، يجلس جواره، ثم حمل الصغيرة، يرفعها لكتفه ويطرق برفق على ظهرها بعد تناول الطعام، وقرر أن يجيبه: 
_هي دي أسرار، دي عقدك النفسية اللي هتخرجها بدري بدري عليها، بس متقلقش يا حبيبي أنا موجود وهعالجك. 

منع ضحكاته من الظهور بينما يخبره بجدية مصطنعة: 
_أنا أحب شروطي تكون واضحة كلها من البداية. 

هز رأسه بقلة حيلة، وعاد يضم الصغيرة على قدميه حينما وجدها قد غفت تمامًا، تردد إليه كابوسه السييء فجعله شاردًا. 

تعجب عُمران من حالته الغامضة، وعاد يناديه: 
_علي!  

لم يسمع حتى ندائه بالرغم من قربه منه، فحركه برفق: 
_روحت فين بقولك فيروزة خلاص نامت. 

وزع نظراته بينه وبينها، فقال: 
_هات هدخلها في الاوضة اللي جوه. 

منحه إياها وانحنى يستند على ساقيه، فاركًا يديه معًا، غاب عُمران دقائق وعاد إليه مصرًا لمعرفة ما به: 
_في أيه يا علي أنت مش طبيعي خالص! 

سند ظهره للأريكة، وإرخى يديه من فوقه: 
_أنا كويس، متقلقش.  

ترك محله ونهض يجاور محل جلوسه، وبنظرة جعله يستطرد: 
_شوفت كابوس ومتحاولش تضغط عليا عشان أحكيه. 

ارتسمت ابتسامة حزينة على وجه عُمران، وهتف: 
_لما بنحلم بحد حلم وحش بيكون أول شخص بنجري عليه أول ما بنصحى، فنزولك هنا بيأكدلي إن الكابوس كان ليا صح.

ظهر الوجع بمُقلتيه، وبحشرجة زبحت قلب عُمران هدر: 
_بقيت شاعر كمان، أنا هطلع أكمل نومي، وهسيبك تنظر براحتك. 

استوقفه بندائه، وإشارته لقدميه: 
_تعالى أرقيك يا علي. 

استدار تجاهه مندهشًا، فوجده يتطلع له بجدية تامة: 
_مش هتعرف تنام صدقني. 

تكوم الوجع داخله أكوام، وبتلك الجملة جعلته يتجه إليه، تمدد على الاريكة، واضعًا رأسه على ساقيه مثلما يفعل هو، فوضع عُمران يده على جبينه وأخذ يرتل بصوته العذب من آيات القرآن الكريم، صوته جعل علي يقشعر من شدة الخشوع، يدعو بداخله أن لا يتحقق حلمه مع أنه يعلم أن أخيه لن يتراجع عن ذلك. 

مضت بهما الدقائق ولم يغفو لعلي جفنًا، لقد حال الكابوس بينه وبين نومه، فاذا بهاتف عُمران يصدح عاليًا، سحبه من جيب جاكيته المنزلي، يهتف بتعجب: 
_إيثان! 

نهض علي يستقيم بجلسته جواره، بينما يجيب عُمران بدهشة من توقيت المكالمة، فوجده يقول: 
_اتاخرت ليه يا خواجة، مش عوايدك يعني تيجي المسجد متأخر، أنا واقف في البلكونة من ساعتها واستغربت اما ملقتش عربيتك، فنزلت سألت الشيخ مهران وقالي انك شكلك مش جاي النهاردة!! 

رفع ساعة يده يتفحص الوقت باستغراب: 
_أنا اتلهيت ونسيت خالص، وللاسف مش هلحق أجي، هصلي مع علي بالمسجد اللي بيصلي فيه جنب البيت. 

=يعني أيه مش هتيجي تفطر معايا، إنت وعدتني يا خواجة. 

ردد بسخرية مضحكة: 
_إغريني وأنا أجي. 

ضحك وهو يخبره: 
_طعمية وفول من عند أم عزت، وبنتجان مخلل، وهجيبلك فطير وعسل وجبنه قديمة من اللي قلبك يحبها. 

ابتسم وقال: 
_هقاباك بعد ساعه في الجيم وننزل بعده نرتكب الجناية دي. 

بحماس رد: 
_هستناك. 

أغلق عُمران الهاتف، وأشار إلى علي: 
_يلا يا علي. 

منحه ابتسامة جذابة، وقرر أن يشاكسه: 
_ابتديت تنفذ كلامي،  فبدأت بتطوير علاقتك بإيثان. 

ترك الهاتف عن يده، وقال مهمومًا: 
_بحاول والله، أنت عارفني دبش ومش بقدر أسيطر على لساني، أنا كل يوم بالشغل بشد مع حد من الموظفين وأرجع ألوم نفسي تاني! 

وأضاف بحرج: 
_بقيت بعتذرلهم أكتر، ما بديهم راتبهم! 

ضحك علي، فعاتبه عُمران بضيق: 
_بتضحك!  علي ده عيب بشع فيا، ومش قادر أتخطاه، أول ما بتعصب بتحول 360 درجة، أنا بفكر أعين آيوب مكاني مع جمال، لاني مش بقدر أتعامل مع الموظفين، أنا برجع بليل افتكر الناس اللي زعلانين مني بيطلعلي لستة تدخلني جهنم حدف. 

وأضاف وهو يغلق زر جاكيته استعدادًا للرحيل: 
_عايز أعلق ورقة على وشي، إني جوايا بلطجي بيتلكك على أي كلمة تعصبني عشان يخرج، وأفضل أنا أحمل ذنوب من وراه!! 

قيد علي مجال حديثه، بثباته الرزين: 
_إنت إنسان يا عُمران مش ملاك نازل على الارض بجناحين، طبيعي إنك بتتنرفز وبتغلط زي أي إنسان، عارف إنك عصبي زيادة عن اللزوم بس مازلت بتحاول ولو فشلت كفايا أنك بتراجع نفسك. 

ضحك مستهزأ:
_أراجع نفسي بعد أيه؟  أنا أي حد اشتغل أو إتعامل معايا، بيطلع يقول ده مغرور وشايف نفسه. 

أمسك بعصب الحوار، فاذا به يشرق جانبه المعتم: 
_لو مغرور مش هتعتذر لما تغلط. 

_وليه أغلط من الاساس، ليه أخرج الغلط مني وأرجع أعاتب نفسي عليه!!

قالها مستنكرًا تقبل أخيه لعيوبه، فلم تهتز ثقة علي، وقال بصلابة: 
_لنفس الاجابة اللي قولتهالك من شوية، لانك بني آدم مخلوق من طين، فعندك عيوب زي كل البشر. 

ضم شفتيه ضيقًا، وراقب أخيه في محاولة لنطق القادم، فتشجع بالاعتراف: 
_وعندي الأنا  عالية عندي أوي يا علي، مش بحب حد يعلي عليا، هعمل في دي أيه كمان!! 

ضحك على تكشيرته، فبدى وكأنه يتعامل مع طفلًا صغير:
_ولا حاجة، هتحاول تقلل الأنا اللي مضيقاك دي، ولو صدف وقبلت حد بيحاول يشوف نفسه عليك مع إني أشك في ده، حاول تتجاهله. 

صرخ فيه بحدة:
_أتجاهل مين، ده أنا أطلع روح أمه لو فكر يتمنظر عليا!! 

راقبه بصمتٍ ثم توالت ضحكاته، بينما يشتد عبوس عُمران معاتبًا: 
_صدقت إن صعب أتغير!! 

وأضاف وهو يقييم أخيه بنظرة طويلة:
_هو أنا ليه مطلعتش هادي ومتواضع زيك يا علي؟ 

زحف بجسده حتى بقى مقابله: 
_هو إنت أيه مفهومك عن التواضع يا عُمران!  

هز كتفيه بحيرة: 
_مش عارف، بس أنا شايفك متواضع. 

ابتسم بحنان ودفء وصل لأخيه من محله، وقال بعقلانية: 
_لو إنت مش متواضع مكنش في علاقات صداقة في حياتك من حارة الشيخ مهران، ولا كنت حافظت على علاقتك بموسى وصابر، عُمران أنت أبعد ما تكون عن الغرور والتكبر. 

وتابع علي حينما وجده يستمع بكل اهتمام له: 
_لو شايف إني هادي فده راجع لطبيعة شغلي، ودي ميزة بس بردو عيبها خطير، أنا في حياتي الاجتماعية مبقدرش أكون صداقات ولا بعرف اندمج مع أي حد، بحس إن طاقتي ومقدرتي مش كفاية عشان أدخل حد في حياتي. 

وأوضح بحديثه المستفيض: 
_عند أولويات وهي عيلتي، آه بقدر أدي مساحة لكل شخص بره العيلة سواء مريض أو شخص معرفة، بس هو ده أخري ظهوري لحل مشكلة فقط، لكن إنت عندك المقدرة تكون صديق ناجح وتأدي دورك بردو مع عيلتك بشكل ناجح. 

واتسعت بسمته وهو ينهي حالة الجدال القائمة بعقل أخيه الأصغر، بحديثه الذي ضمد كل جروحه: 
_لا أنا كامل ولا إنت كامل يا عُمران، كلنا فينا عيوبنا ومميزاتنا، فأوعى تكره نفسك، حاول تغير الوحش اللي فيك، عاتب نفسك بس متجلدهاش إنت بالنهاية بشر. 

وقف علي يشير له: 
_ويلا علشان نلحق صلاة الفجر. 

هز عُمران رأسه مبتسمًا، ونهض يتطلع له بنظرة عميقة، ودفع ذاته إليه، يضمه بكل مشاعر الحب الساكنة لقلبه، اتشحت البسمة على وجهه، فبادله الضمة بشدةٍ، وأقسم بأنه هو من كان بحاجة لضمه بعد رؤيته لهذا الكابوس البشع. 

قاطعهما صوت الآذان، فابتعد علي بعدما سيطر على مشاعره ومسح دمعاته الغائرة، ثم قال: 
_هنتأخر، يلا. 

خرجوا معًا للصلاة، بعد أن تركوا الصغيرة برعاية المربية الخاصة بها. 
                            *******
أنهت صلاتها، ونهضت تعد الفطار الصحي المعهود لزوجها، والتي باتت تدمنه لحبه الشديد له، وخاصة الأفوكادو، اعتادت أن يعود من المسجد يشاركها طعامًا خاص بهما فقط، قبل تناوله برفقة الجميع بالتاسعة صباحًا، حتى ولو كان ذلك يقتصر على طبق من الفاكهة. 

أغلق "علي" باب الجناح، ومضى شاردًا للداخل، حتى إنتبه لها تقدم له ابتسامة يعشقها هو، رؤيته لتلك الراحة المنبعثة منها يزيل همومه، عينيها التي تجدد فيهما أمل الحياة بعد قتامتها وتمنياتها للموت. 

سحب نفسًا يستمد به طاقته ونشاطه، ثم أتجه إليها مبتسمًا،  فقالت: 
_صباح الخير يا علي. 

رد بصوته الدافئ وهو يسحب مقعدًا قبالتها: 
_صباح المسك يا روح قلب علي. 

اتسعت بسمتها فرحة لدلاله المعتاد لها، فجلست قبالته باسدالها الرقيق، تعد له شطيرة خفيفة بالافوكادو مثلما يحبها، قدمتها له، فتناولها هاتفًا: 
_تسلم إيدك. 

تناولها بخفة وهو يتابعها تحاول صنع ما ستتناول، فاذا بها تترك كل شيء وتجذب بعض حبات الزيتون المخلل، قرب "علي" يده يقبض على كفها المغلق وببسمته الهادئة قال: 
_رجعي اللي أخدتيه للطبق يا فطيمة. 

رسمت الحزن على ملامحها حتى يترك معصمها: 
_مش جايلي نفس للأكل، يمكن لما أكلهم نفسي تتفتح. 

بقى بنفس ابتسامته وصبره: 
_رجعيهم مكانهم، أنا عارف نفسك هتتفتح بأيه. 

عبثت وهي تترك ما بيدها له بضيقٍ، فضحك وهو يتأمل انزعاجها الواضح، نهض علي يتجه للبراد، يحمل بعض الفواكه ويتابعها وهي تستند على كفيها المسنود على الطاولة بغيظٍ، ضحك وهو يمضي للكورنر الجانبي، يضع ما بيده بالخلاط للكهربائي، ويهتف بمرحٍ: 
_متزعليش يا حبيبتي، ثواني وبابي راجعلك بحاجة هتحبيها وهترجعي لحضنه مكافاة ليه! 

طعنته بنظرة مستهزأة، وعادت تتطلع أمامها، فازدادت ضحكاته، وهي تحاول حجب ابتسامتها على كلماته التي تستهدفها ليكن محور اهتماماتها رغمًا عن أنفها! 

عاد بعد دقائق يحمل الكوب، جلس وهو يضعه من أمامها، كانت تشتهي الموالح ولكن في اللحظة التي تأملت بها ألوان الكوب الطبيعية اشتهت أن تتذوقه،  فجذبت الشلموه، وبدأت تتذوقه، فاذا بها تبتسم وتمتص جرعه كبيرة، هاتفة باعجاب: 
_الله يا علي، ده جميل أوي. 

منحها بسمة عاشقة، وقولًا دافئ: 
_هعملك غيره لو خلصتيه. 

قالت تجاريه: 
_هأخده معايا الشركة، عندنا حاجات كتيرة مهمة لازم تخلص النهاردة لإن عُمران مسافر بكره. 

غامت رماديتاه بسكون، نمى له بأفكار، ختمها بقوله الغريب: 
_فطيمة،  أنا عارف إن اللي هقوله ده غريب،  بس من فضلك ممكن تعمليه بدون نقاش. 

تركت الكوب من يدها، وتساءلت باهتمام: 
_أعمل أيه؟ 

تعمق بعينيها ليسترعي انتباهها لما سيقول: 
_لو لاحظتي حاجة مش طبيعية على عُمران، بلغيني بيها فورًا. 

ساقها احساسها لوجود خطبًا ما: 
_ليه يا علي، هو في حاجة؟ 

استكمل تناول طعامه وهو يتصنع طبيعته: 
_أبدًا، أنا بس قلقان من موضوع سفره ده، المرة اللي فاتت اتهاجم لما فكر ينفذ مشروع واحد بس، المرادي رايح بمشروعين، ورافض أي حماية من الشرطة، إنتِ عارفاه دماغه ناشف وعنيد. 

تفهمت ما قاله، وحاولت أن تطمن قلبه بكلماتها: 
_اطمن يا علي، المرة اللي فاتت كان بيوصله تهديدات على حسابه وكنت بشوفها، لكن المرادي مش بيوصله حاجة  لان اللي بيهددوه اتقبض عليهم، فاعتقد أي حد هيحاول يعمل كده هيخاف وهيفكر ألف مرة، عشان ميبقاش مصيره زي اللي راحوا. 

تصنع ابتسامة صغيرة، يخفي بها توتره الشديد، لجئ لسبب وهمي ليبلغها بأن تراقب أخيه بشكلٍ غير مباشر، فلم يعد هناك خطورة على حياته بتنفيذ مشاريعه، الخطر الحقيقي يكمن بقراراته وفيما هو ماضي إليه! 
                              *******
ارتدى ملابسه الرياضية، وانحنى يربط حذائه الرياضي، ارتدى قفازاته السوداء لتساعده على حمل الاثقال، وجذب حقيبة ظهره يضع بها بذلة أنيقة وحذاء يليق بها، البرفيوم الخاص به ومشط صغير، حتى ساعته الفخمة لم ينساها، ومشروبه الذي يتناوله بالجيم وضعه بها. 

حملها على كتفٍ واحد، وانطلق تجاه فراش زوجته، اندهش حينما لم يجدها مستيقظة ككل يوم لقضاء صلاة الفجر، حتى وإن استغرقت بالنوم كانت تستيقظ فور شعورها به بالغرفة، انحنى عمران تجاهها، وناداها بخفوت: 
_مايـا. 

تمتمت بخفوت ومازالت تسبح بنومها، مرت يده على خدها وهو يعود لندائها: 
_مايــــا. 

فتحت عينيها بتعبٍ يبوح به احمرار حدقتيها، راقبها والقلق قد ساوره: 
_مقومتيش تصلي ليه؟  وعنيكي مالها حمرا كده؟ 

أجابته بصوتٍ جاهدت لتجعله طبيعيًا: 
_روحت في النوم ومحستش، هقوم أتوضى وأصلي حالًا. 

مرر يدها على خصلات شعرها الغير مرتب: 
_لو تعبانه صلي وإنتي قاعدة. 

هزت رأسها ونهضت تهاجم تعبها، الذي يجعل الكسل يكاد أن يتمكن منها، ولجت للمرحاض، وخرجت بعد دقائق، فوجدته مازال يجلس بالخارج، فتسائلت بدهشة: 
_إنت لسه هنا؟ 

ابتسم له بجاذبيته التي لحقت نبرته الرخيمة: 
_مش جايلي قلب أمشي الا لما أطمن عليكي يا بيبي. 

أبعدت المنشفة عنها وقالت بابتسامتها الفاتنة: 
_أنا كويسة، روح إنت عشان متتأخرش على معادك في الشركة. 

نهض يجذب اسدالها، ناوله إياها  ،  ثم ثبت سجادتها  ومقعدًا يريحها به، ومال يقبل رأسها: 
_حاضر، خلي بالك من نفسك، ولو احتاجتي حاجة اتصلي بيا، اتفقنا؟ 

أكدت بايماءة رأسها، فغادر بعدما شعر بأنها تحسنت، ومضت مايا بقضاء صلاتها. 
                            *******
وصل "عُمران" إلى حارة الشيخ مهران، قاصدًا الجيم الرياضي، شرع بأداء تدريباته، حتى انتهى تمامًا بعد ساعة كاملة، فجلس يجفف وجهه بالمنشفة، ويرتشف بعض المياه، ثم جذب هاتفه يراسل إيثان متعجبًا من عدم حضوره، فوجد هاتفه مغلقًا. 

حمل حقيبته وإتجه إلى البوتيك، فوجده يجلس بالداخل ويبدو أنه ينتظره، ترك حقيبته على إحدى المقاعد، وجلس أمامه يتطلع له بدهشةٍ، لم تصل لنبرته الساخرة: 
_خلعت من الجيم ليه يا إيثو، مالكش في لعب على غير ريق، ولا خايف تقع من طولك؟ 

طالعه بصمت كان يزيد من دهشة عُمران، حتى حطمه بسؤاله: 
_إنت ليه بتعمل معايا كل ده؟ 

رمش ببراءة، مدعيًا عدم فهمه: 
_عملت أيه؟!  ما تخش دوغري وتفكك من تكشيرة وش الستات دي! 

سحب هاتفه وسلطه بوجه "عُمران" الذي منحه نظرة قصيرة ثم قال بثبات: 
_أوه غيرت صورة البروفيل، مبروك! 

صفق الهاتف على الطاولة، وصاح بغضب: 
_خواجة متصعش عليا، أنت عارف أني بوريك عدد المتابعات اللي زاد، ولما استغربت الحوار، اكتشفت انك عاملي ترويج على صفحتك! 

وأضاف والحيرة تقطر من حديثه: 
_في أيه رفضت اني اصوركم وكنت معارض الفكرة وفي أيه نزلتها، وأنت ليه بتساعدني وبتعمل معايا كل ده أصلًا! 

وتنهد وهو يعبث بتفكيرٍ لفظه بسؤاله الأبله: 
_خواجة هو انت عندك فشل كلوي وعايزني أتبرعلك بكليتي، فبتغرقني بجمايلك عشان أوافق؟ 

أغلق عُمران عينيه وسند رأسه للمقعد الخشبي من خلفه، فرطم القلق إيثان الذي أخذ يتساءل: 
_خواجة، مالك؟! 

أجابه ومازال يغلق عينيه: 
_بتمرن. 

زوى حاجبيه باستغراب: 
_على أيه؟ 

اجابه بنفس وتيرة الهدوء الخطير: 
_على تطبيق نصايح دكتور علي، ههدى وأرجعلك. 

ضحك وهو يتمازح: 
_طيب ما تتأخرش عليا، أصلك بتوحشني. 

انتصب بوقفته يستغل انحناءته للاطمئنان عليه، فقبض ياقة قميصه بيده وبالاخرى يخنق اوردته، وابتسامته الشيطانية تحتله بفظاظة نبرته: 
_مقدرش أتأخر عليك يا إيثو، ده أنت حبيبي. 

ابتلع ريقه بارتباك من انقلاب معالمه لشيء لا يمت للهدوء بصلة، بينما يستكمل عمران بابتسامة خطيرة: 
_أنا أقول على نفسي صايع، أقول على نفسي بلطجي، أنا حر لكن أنت No يا إيثو، مالكش مطلق الحرية تقول عليا صايع، ولا ترمي إفيهات عليا أنا، لاني وببساطة هفلق جبهة أمك ووقتي، فأهدى كده وإعرف تمامك، ده لو عايزنا نمشي في نفس السكة مع بعض. 

هز رأسه بكثرة، وهو يقول: 
_فهمت، اهدى انت بس وصلي على النبي. 

ضحك على حديثه، وقال: 
_عليه أفضل الصلاة والسلام، إنت كده عرفت المهدأ النفسي ليا. 

قالها وعاد يجلس محله، يضع ساقًا فوق الاخرى، وهو يطرق مكتبه باصبعيه مطلقًا صفيرًا مستمتعًا، والاخر يراقبه بصمت، تمزق حينما سأله عُمران باستهزاء: 
_كنت سامع ان في فطير وفول وطعمية، كلامك ساح بدري بدري يعني! 

نهض يخبره بسعادة رسمت إليه فجأة: 
_بجد هتفطر معايا؟ 

ضحك وهو يجيبه: 
_وأنا من أمتى برجع في كلامي، قولتلك هاجيلك وهفطر معاك، واديني جيت وواقع من الجوع بعد الجيم. 

أبعد المقعد وهرع للخارج يخبره: 
_هـــــــــواااا. 

غادر إيثان تاركًا عُمران من خلفه يلهو بهاتفه، وحينما ولج للبوتيك بعض الشباب، نهض يساعدهما باختيار ما يناسبهما، وحينما عاد ايثان يحمل صينية الطعام، وقف على باب المحل مندهشًا، حينما وجده يضع المشتريات بالاكياس البلاستيكة التي تحمل شعار البوتيك، ويقدمها لهما بابتسامة لابقة، ويضع الاموال بدرج الخزانة الخاص بإيثان. 

دنى يضع الصينية على المكتب الفاصل بينهما، رفع عُمران الغطاء الابيض عن الطعام، وبدأ يتناول طعامه بنهمٍ، بينما يراقبه ايثان مشدوهًا، حتى انتبه له الاخير، فردد بذهول: 
_مبتاكلش ليه؟ 

تنهد بارهاقٍ وقال: 
_هو إنت دنيتك راسية على أيه يا خواجة، حيرتني معاك، لسه من شوية نافش ريشك عليا عشان تفكرني انك طاووس ووقح، وادخل القيك بتعامل الزباين بمنتهى التواضع، هو إنت مين بالظبط؟! 

قهقه ضاحكًا، وقال: 
_والله يا إيثان أنا نفسي ما أعرفش أنا أيه، بس شوف أيًا كان اللي أنا عليه فأنا معجب بيا، مبحبش أكون مفهوم لحد، فكده أنا متكيف بصراحة. 

زم شفتيه بعدم رضا، وشرد مجددًا، فصاح عُمران بضيق مصطنع: 
_هتأكل ولا أقوم أغير هدومي وأمشي، أنا ورايا شغل ومش فاضي للعب العيال ده! 

قال يستجديه بهدوء: 
_ طيب رسيني على حوار الصفحة ده! 

زفر بنزقٍ، وسحب المناديل الورقية يجفف يديه، ثم قال بنبرة عقلانية بعض الشيء: 
_أنا مكنتش معارض الفكرة نفسها، بس إنت مستفز وعارف إني مش بحب لوي الدراع، ده بالنسبة لتبرير طردك من البوتيك، بالنسبة للمتابعات اللي زادت عندك فده راجع لشغلك مش ليا، الموضوع بس كان عايز شوية ذكاء في الدعايا. 

دى لا يستوعب ما يقول، فشرح له عُمران: 
_فكرة القناع كانت كلاسكية وظريفة، وكمان في وسط الحارة ده شيء ملفت ويعمل جدل، وهو ده المطلوب، يعني لو أنا مثلًا صورتلك علبة جبنة في وسط سوبر ماركت، هتهتم تدقق في الصورة وتشوف التفاصيل اللي جواها، لانك خلاص عقلك راسملك باقي التفاصيل من قبل ما تبص فيها، سوبر ماركت هيكون فيه ايه طبعا غير الجبن وكام حاجة معروفين، لكن لما أخد علبة الجبنة وأحطها في مكان مختلف عن مكانها وأحط مثلا حواليها أي نوع شوكولاته، التصوير نفسه هيبقى مستفز وملفت، وده اللي عملته لما صورت بره البوتيك. 

وانهى حديثه بجملة: 
_فهمت!  ينفع أكمل أكلي بقى ولا هنقضيها رغي! 

ارتسمت ابتسامة واسعة على وجهه، وقال بامتنان: 
_خواجة إنت راجل مجدع وابن بلد، أنا مبقتش عارف أشكرك على أيه ولا أيه؟ 

سحب قطعه الفطير يتناولها وهو يخبره: 
_أشكرني بإنك تسيب آيوب في حاله، ده عريس وفرحه جيه بعد عناء وصبر، فلم روحك شوية عشان ما أريحكش منها. 

تساءل بعدم فهم: 
_تريحني من أيه؟ 

أجابه ببرود مضحك: 
_وحياة الست الوالدة تركز معايا، مبعدش كلامي مرتين أنا!  
                                *****
فتح عينيه بانزعاج حينما تسلل له رائحة حريق، جعله يسعل مرارًا، وما زاده رعبًا حجم الادخنة التي وجدها أمامه، فانتفض بالفراش يبحث عن زوجته، وحينما لم يجدها هرع للخارج يناديها: 
_سـدن!! 

انتبه للمطبخ القادم منه الادخنة، فصعق حينما وجدها تحاول انقاذ المقلاة التي تفحمت من النيران التي أشعلتها. 

أبعدها آيوب للخلف، صارخًا فيها: 
_ايدك، حاسبي. 

وحمل المقلاة بآحدى الاقمشة، ثم أسرع بفتح الصنوبر فوقها، وفتح النافذة وشفاط الهواء، استغرق الامر خمسة وعشرون دقيقة حتى هدأت الأجواء، وعادت الرؤيا تتضح له، فوجدها تجلس على سفرة المطبخ باكية، وبتلعثمها الذي يعشقه قالت: 
_أنا آسف آيوب، أنا كان عاوز يعملك ليك أكل كتير ويصحيك تأكل، بس مش عارف حصل أيه! 

تبدد خوفه وتوتره اللحظي، لابتسامة ناعمة: 
_طيب ومصحتنيش ليه؟ 

رددت وشفتيها تميل للاسف: 
_كان عاوز اعمل ليكي مفاجأة. 

وضع يديه بمنتصف خصره، وأخذ يراقب الاضرار التي ستحتاج لنظافة عميقة، هاتفًا بسخطٍ: 
_هي فعلًا مفاجأة! 

وعاد يتطلع لها مجددًا: 
_هتساعديني لما نتاوي الجريمة دي، ولا أبلغ عنك الحاجة رقية؟ 

ردت بكل تأكيد: 
_هساعدك آيوب، بس بسرعة قبل الحاج ركيا ما يجي. 

ضحك بصوته كله، ومال يقبل يديها، قائلًا: 
_يلا يا أخرة صبر آيوب! 
                               *******
بالأعلى. 

حزمت "خديجة" حقيبتها الصغيرة، وقد وضعت بها القليل من الملابس، ثم خرجت ليونس الذي جلس ينتظرها، فما أن رآها حتى استقام بوقفته قبالتها. 

أخفت وابل الخوف الممطر بعينيها، ورددت: 
_أنا جاهزة يا يونس. 

ازدرد ريقه القاحل ببطء، وحرر نبرته: 
_مصرة بردو متعرفيش حد. 

تركت ما تحمله وقالت بخجل: 
_الموضوغ محرج بالنسبالي يا يونس، مش عايزة حد يعرفه، وكمان أنا أجلت العملية لبعد الفرح، ده التوقيت المناسب، الكل مشغول بآيوب وسدن، محدش هيركز معايا. 

وأضافت بنغزة اتتقلت لقلب زوجها تلقائيًا: 
_أنا مش عايزة حد يعرف أننا مش قادرين نعيش حياتنا بشكل طبيعي يا يونس، أنا عارفة انك مستحيل تتكلم مع حد في أي شيء يخصنا، لكن مجرد ما حد يعرف اني عملت عملية تجميل، يبقى كل اللي خبيته اتعرف. 

اخشوشنت نبرته الحادة: 
_اللي يعرف يعرف يا خديجة، محدش هيحاسبنا على حياتنا، إحنا مرينا باللي لا يمكن حد يقدر يتحمله، فمفيش حد هيكون عنده الجرأة يجي ويتكلم في شيء. 

ردت بحزن شديد: 
_محدش فاهم ولا عارف حاجة عن اللي مرينا بيه غير الشيخ مهران والحاجة رقية وآيوب، دول اللي هيقدرونا وهيشلونا فوق راسهم، أنا هعرف الحاجة رقية بس لما نرجع. 

هز رأسه بتفهم، وانحنى يحمل الحقيبة، قائلًا: 
_فارس هيفضل مع ايثان، أنا فهمته اننا رايحين فرح حد من أهلك وهنرجع بعد يومين. 

منحته ابتسامة أخفت فيها ارتباكها وتوترها الملحوظ، فترك الحقيبة واقترب يضمها هامسًا: 
_متخافيش من حاجة، أنا مش هسيبك يا خديجة، أنا هفضل جنبك. 

شددت من التعلق به، وقالت ببكاء: 
_سامحني لو معرفتش أعوضك عن كل اللي مريت بيه، أنا كنت ابتلاء عليك طول الفترة اللي فاتت. 

مال يقبل جبينها بعشق، وصرامته توقف حديثها: 
_إنتي عمرك ما كنتِ ابتلاء يا خديجة،  إنتِ دعوتي المستحيلة اللي مبطلتش أدعيها وأنا على يقين إن مفيش مستحيل على ربنا عز وجل، وأدي الدعوة استجابت وبقيتي ليا من تاني! 

رددت ببحة جرحت صوتها: 
_بحبك يا يونس. 

ابتسم وقال بعشق: 
_وأنا بعشقك يا ست البنات! 
                               *******
ولج "عُمران" لمكتبه، ومن خلفه يتبعه "حسام" حاملًا للتابلت، ينقل له مواعيده واجتماعاته الهامه، يلخص له سريعًا النقاط التي سيبدأ العمل عليها، فأشار له أن يغادر، وبدأ بالعمل على ما قدم له. 

مضت ساعتين كاملتين، حتى أتاه اتصالًا من حسام يخبره بأن نعمان بالخارج ويود مقابلته،  زفر بضيقٍ، وقال: 
_دخله ما أنا عارف إنه يوم ما يعلم بيه الا ربنا. 

وما أن وضع سماعة الهاتف حتى تعالى رنين الآخر، رفعه عمران وهو يهتف بفظاظة: 
_نعم، مين؟ 

أتاه صوت جمال الضاحك: 
_لو متعصب أرن عليك وقت تاني. 

اتاه ردًا مرحبًا: 
_يستحسن. 

قالها وأغلق بوجهه، فعاد يدق مرة آخرى وهو يخبره: 
_يوسف اللي قايلي أرن أسالك لقيت كرفان مناسب؟ 

أغلق الهاتف بوجهه دون أي رد، فرن لمرته الثالثة وتلك المرة هدر عمران من بين اصطكاك أسنانه: 
_رنة تانية وهاجي ألبس التليفون في وش أمك! 

=طيب اسمعني بس.

قطع نقاشه بحدة: 
_اللي بين وبينك حدود أوضة واحدة، يوسف في أمان بالمخروبة بتاعته، إنت لا، احسبها صح يا عبحليم. 

عاد يغلق بوجهه، ويستمد أنفاسه الهادرة ليستقبل هذا البغيض، جاهد عمران ليحافظ على ثباته، بتمارين الاسترخاء الذي تلقاها مؤخرًا من أخيه. 

اتسعت ابتسامة نعمان فرحة حينما قبل عمران بلقائه السريع، فأسرع ليضمه كتحية مبدئية، ولكن ذراعه اعترض طريقه قائلًا: 
_ما تفكك من جو العشق الممنوع ده عشان مبيأكلش معايا يا خال، مش خلاص فضناها وخلصت، جاي ليه؟ 

غامت ملامحه بحزن، وقال: 
_مش إنت سامحتني. 

رفع إحدى حاجبيه بسخط: 
_ده حلم شوفته ولا سيناريو بترسمه عشان تريح ضميرك. 

ابتلع ريقه الجاف بصعوبة، واستدعى كلماته التي جعلها مؤثرة قدر ما تمكن: 
_هو أنا طالب كتير،  كل اللي بطلبه إنك تسامحني. 

ربع يديه أمام صدره العريض، يتفحصه بنظرة ساخرة: 
_واللي إنت عملته كان قليل!  نعمان يا غرباوي وفر مجهودك ومحاولاتك دي مع المدام اللي خلعتك يمكن هي تحن وتشفق عليك وترجعلك مع إني أشك في ده، زمانها ما صدقت تروق من سحنتك! 

تعجب من اندفاعه الشرس، وردد: 
_هو أيه اللي حصل، مش أخر مرة كنت بتتكلم معايا عادي وآ..

قاطعه بحدة وغضب: 
_عمر اللي بينا ما هيبقى عادي يا نعمان، إنت ناسي إنت عملت أيه؟!  أنا مش معترض على علاقتك بفريدة هانم دي مهما كان أختك، لكن أنا الا مش هسمحلك تتخطى حدود فرضتها بينا، فابعد بمنتهى الهدوء وسبني. 

جر أزيال الخيبة، وغادر بينما يجلس عمران على كرسيه، وأنفاسه اللاهثة تجعله كمن كان يقود حلبة مصارعة طاحنة. 

دق باب المكتب، وولجت فاطمة تحمل حاسوبها، وضعته من أمامه وقالت: 
_عمران المصانع اللي طلبت منهم المكينات بعتوا الصور ومعاهم العقود، أنا معنديش خبرة بالعربيات ومش عارفة أرد بأيه؟ 

وجدته شاردًا حتى أنه لم يشعر بدخولها، فنادته لتلفت انتباهه: 
_عُمــــــران! 

تحطمت دائرة شروده حينما هتف: 
_فاطيما، أنا آسف مخدتش بالي منك. 

وسألها وهو يميل تجاه شاشة الحاسوب: 
_معاكِ. 

عادت تكرر حديثها مجددًا، وهي يتابع الصور والعقود، ثم قال: 
_أنا كمان معنديش الخبرة الكافية عشان أقيم، ابعتيلي نسخة من العقود والصور وهبعتهم لحد متخصص، قبل ما نوافق عليهم. 

هزت رأسها بخفة، ومالت تحمل الحاسوب، وتتجه للمغادرة، في نفس توقيت اقتحام جمال للمكتب، فارتطم بها بشكلٍ عنيف، أسقط حاسوبها، وجعلها ترتد للحائط بقوةٍ ألمت معصمها. 

نهض عُمران عن مكتبه سريعًا، ينحني ليجذب الحاسوب ويسرع لها متسائلًا بقلقٍ: 
_فاطمة أنتِ كويسة؟ 

تفحصت ذراعه بوجعٍ، واصنطعت نبرة عادية: 
_الحمد لله. 

_أنا آسف يا بشمهندسة، أنا آ... 
قطعت فاطمة جملة جمال: 
_حضرتك مغلطتش أنا اللي كنت مشغولة في اللاب ومخدتش بالي. 

سدد له عُمران نظرة حارقة، وتمتم ساخطًا: 
_لا هو اللي دايما بيقتحم مكتبي زي الطور، بيلحق قبل ما أطرده من على الباب. 

لوى شفتيه بتهكمٍ: 
_هو أنا بوصل للباب أصلًا، أنا بأخد انذار الطرد من مكتبي! 

تجاهل ما يقول، وفتح الحاسوب يتفحصه، وحينما انتهى قدمه لها قائلًا: 
_اللاب في خدش بسيط في الشاشة، استعمليه مؤقتًا لحد ما أطلبلك واحد غيره. 

حملته منه قائلة ببسمتها الرقيقة: 
_مفيش داعي، اللاب الاساسي بتاعي في البيت. 

وأضافت وهي تغادر: 
_هروح أكمل شغلي. 

ابتسم لها باحترامٍ: 
_اتفضلي. 

غادرت وأغلقت الباب من خلفها، فلكز عمران جمال بغيظ: 
_مش تأخد بالك يالا، داخل شبه الطور ولا على بالك حد!!!  

زفر بنفاذ صبر وقال: 
_خلاص يا وقح، ما المدام فاطمة زي الفل أهي. 

لكزه مجددًا بعصبية: 
_احمد ربنا إنها عدت ومتأذتش، البنت حامل يا بجم! 

حك رقبته بحرج من فعلته، وردد: 
_الحمد لله ربنا سترها. 

وأضاف ببسمة واسعة أضحكت عمران: 
_المرة الجاية هرمي فرامل وتلكس قبل ما أدخل، مرضي كده يا طاووس! 

هز رأسه بغرور، وأشار لمقاعد المكتب: 
_تعالى اقعد.. تشرب أيه الأول؟ 

وما كاد بأن يحمل سماعه الهاتف ليطلب سكرتيره الخاص، حتى وجده يقتحم الغرفة هو الاخر ويصيح برعب: 
_إلحق يا مستر عُمران! 

ألقى عُمران الهاتف بتعصب شديد: 
_ألحق أيـــــــه تـــــــــاني إنت حكايتك أيه النهاردة بروح أمك إنت كمان، قطعتلي الخلف من ساعة ما رجلي دبت أم المروستان ده!! 

ارتعب حسام حينما رأه بتلك العصبية الشديدة، واتنقل ببصره إلى جمال الذي شجعه قائلًا: 
_ارمي المصيبة واجري على بره. 

فعل مثلما قال،  وفاه قبل أن يركض للخارج: 
_نعمان الغرباوي طب ساكت بالجراش تحت!

مال جسده الواشك على الانهيار، هاتفًا بحنق: 
_يعني سايب الدنيا كلها وجاي يفلسع عندي هنا! 
                                *****
كان يتمدد أرضًا جوار سيارته، يلتف من حوله عدد من موظفي الشركة، ولم يجرأ أحدهم على الاقتراب منه. 

توقف مصعد الشركة، وخرج منه جمال ومن خلفه يواصل عُمران خطاه البارد، كان متبلدًا، يقسم أن رؤيته له بتلك الحالة لن يحرك فيه شيئًا، فتحطمت أماله المبالغ بها، فور أن رأه بتلك الحالة، وهو الذي لم يهون عليه وجع رفيقه وزوجته، لو تعلق الامر به فقط، لغفر له ما فعله عن طيب خاطر، ولكن الامر يخص ثلاثة أطرف غيره. 

توسعت مُقلتيه صدمة من الوضع الذي وجده فيه، كان يظن بأنه ولربما يعاني من دوار عنيف، أو عساه يصطنع فيلمًا حتى ينال مبتغاه من صفح عُمران عنه. 

تخطى عُمران جمال بعدما كان يسبق خطواته البطيئة، مر من حول الشباب يصرخ فيهم بغضب: 
_إنتوا واقفين تتفرجوا عليه!!  

وانحنى إليه يتفقده بقلقٍ، وخاصة حينما مال برأسه فوق صدره حينما شك بأنه غادر الحياة بالفعل، فوجد دقات قلبه بطيئة للغاية، فتش "عُمران" بجيب جاكيته، يحاول الوصول لهاتفه، فتذكر بأنه تركه بالاعلى، فرفع بصره لرفيقه يطالبه: 
_اتصل بعلي يا جمال، قوله يبعت عربية الاسعاف بسرعة. 

استنكر جمال فعلته، ووقف يتطلع له بضيقٍ، وتردد بفعل ما يطالبه بفعله، ذلك اللعين هو من قام بتعرية زوجته ورفيقه، ذلك هو ذاته الذي كان سيجعله يفقد ابنه وزوجته وربما كان ليفقد أعز صديق وأخ يمتلكه، قبض على هاتفه بغضب، ومع ذلك حرر الاتصال بعلي، الذي هتف بحبورٍ:
_إزيك يا بشمهندس. 

_عايزين الاسعاف على الشركة . 
رددها جمال بايجازٍ أسقط قلب "علي"، فصرخ بجنون أكاد بأن يفقده الوعي: 
_عُمـــــــــران ماله يا جمال، أخويا حصله أيـــــــه؟ 

لعن ذاته بأنه تسبب له بذلك الفزع، وأسرع يوضح له: 
_لا لا عمران كويس وزي الفل الحمد لله، ده نعمان اللي واقع من طوله، يا رب يكون فطس عشان نرتاح. 

تثني له سماع صوت تنهيدة عميقة، وبعد دقيقة قال: 
_هبعتلكم الاسعاف حالًا. 
                            *****
بالطابق المخصص للاطفال. 

وقفت جواره حتى انتهى بالكشف على الصغيرة، ثم أتجه للمكتب ليدون الادوية المطلوبة لها، عدلت لها" زينب" ملابسها بذاتها، رافضة ان تفعل ذلك الممرضة، وحملتها وهي تربت عليها بحنان وابتسامة صافية، سلبت عقل ذلك الرجل الذي يتابعها بنظرات وقحة، وخاصة حينما استمع لصوتها الرقيق: 
_ربنا يشفيهالك ويباركلك فيها أنت ووالدتها يا رب. 

تعمد أن يقترب بمساحة غير مسموحة، وهو يقول لها بنبرة ثعبانية: 
_والدتها متوفية من شهرين، وأنا اللي قايم بيها. 

وخز قلب "زينب" الرقيق، لمعاناة تلك الطفلة التي تبلغ الأربع أعوام، فضمتها وهي تهمس بخفوت: 
_يا حبيبتي!  

وعادت تزعن لحكمة الله هاتفة: 
_لا حول ولاقوة الابالله العلي العظيم، ربنا يرحمها ويغفر لها. 

ردد وهو يلتقطها منها متعمدًا لمس كف يدها، بشكلٍ أفزعها وجعلها تشهق بصوتٍ لفت إنتباه "سيف" الذي رفع رأسه ليتفاجئ بقرب هذا الوضيع من زوجته، فابعد مقعده بقوةٍ رطمته بالحائط من خلفه، وهو يصبح بعنفوانٍ: 
_أنت مقرب منها كدليـــه يا حضرة! 

ظن أنها لقمة سائغة، فقال بخشونة مصطنعة، مدعي فيها الرجولة الغير مكتملة: 
_الله وإنت مالك يا دكتور، بنت خالتي وبتطمن على البت، وقريب هنقرأ الشبكة وهنعزمك باذن الله. 

كادت عينيها أن تخرج من محجرهما، بل رددت بتيهة وتلعثم:
_آآ... تآ... هو... اسمعني... دكتور.... يا سيف آآ.. 

أشار بكف يده يخرسها، ومازالت عينيه تتلقف من يقف أمامه، فرددت زينب تتوسل له: 
_سيف بلاش! 

رسم ابتسامة مرعبة للرجل، وقال:
_يا راجل مش تقول، كنا على الاقل نبل الشربات. 

اتسعت ابتسامة الرجل بتباهي، بينما يجذب منه الصغيرة، ويقدمها لزوجته قائلًا بأمرٍ قاطع: 
_خديها واستنوا بره شوية. 

حملت منه الصغيرة، وترجته وهي تكاد تبكي: 
_سيف آ... 

أغلق الباب بوجهها، فمالت من فوقه بقلة حيلة وهي تستمع لصوت المفتاح يغلق من الداخل، والرجل يصيح بغضب: 
_إنت مودي بنتي معاها على فين يا جدع إنت!! 

نزع سيف البلطو الطبي، وقال مبتسمًا: 
_متقلقش أنا بعمل فيك جميلة. 

تساءل بعدم فهم: 
_جميلة أيه؟ 

ناوله أول لكمة قوية أطاحت به أرضًا، وانبطح من فوقه يجيبه ببسمة واسعة: 
_مينفعش نجيب للبنت عقدة لما تشوف أبوها البقف بيتضرب. 

وعزف بيديه معًا سفمونية يتبعها قوله: 
_بقى إنت بتتحرش بمراتي وقدام عيني، ده إنت هيطلع عين أمك هنا! 

                             *******
الصمت المطول اتبعه صوت صراخ الرجل، انتفضت زينب محلها، وتحركت بالصغيرة الباكية بارتباك:
_هيموت الراجل، أعمل أيه أنا دلوقتي؟ 

اهتدى عقلها للطابق العلوي، فركضت بالصغيرة الباكية هاتفة: 
_يوسف، هو مفيش غيره اللي هينجدني! 

وبالفعل اقتحمت مكتبه، فوجدته يجلس جوار احدى الحالات يتفحص نبض الجنين، فاذا بمن تقف فوق رأسه بشكلٍ أفزع المريضة وأفزعه هو شخصيًا، فازدرد ريقه وهو يحاول رسم بسمة صغيرة: 
_دكتورة زينب، أكيد في حالة ولادة مستعجلة صح؟ 

وزعت نظراتها تجاهه وتجاه من تراقبهما بنزقٍ، ثم قالت: 
_مستعجلة أوي أوي، قوم معايا بسرعة يا دكتور. 

قالتها وهي تجذبه من أعلى المقعد، فسقط أرضًا من دفعتها، ونهض يعدل من نظارته التي سقطت مع سقوطه بشكل مضحك، ولكن بكاء تلك الصغيرة أرعبه، فسألها: 
_مين دي؟ إنتي هوسك المرضي إنك تكوني أم يوصلك إنك تخطفي طفلة بريئة من أهلها يا زينب؟ 

كزت على أسنانها بغيظ وقالت: 
_خطف أيه، دي بنت الحالة اللي بتفرفر جوه تحت ايد أخوك. 

جحظت عينيه صدمة وفاه ببلاهة: 
_ومال سيف ومال قسم جراحة النسا! 

ردت بابتسامة واسعة: 
_لا قلبه قسم جراحة عقم وبواسير! 

وصرخت فيه بجنون بعدما فقدت صبرها، للحفاظ على سمعة المركز أمام المريضة: 
_إلحق أخوك هيقتل الراجل وهيتعدم!! 

قالتها ومن بعدها اختفى يوسف من أمامها، قفز فوق الدرج  وسقط على أخر الدرج، فتفاجئ بيدي تعاونه على الوقوف، عدل من نظارته وردد بتعجب: 
_جمال!  إنت بتعمل أيه هنا؟ 

أجابه بنفور والضيق يستولى عليه: 
_جاي مع عُمران، خاله الزفت نعمان مغمي عليه، عقبال ما نطلع على الدفنة. 

تغاضى عما قال وهتف بفرحة: 
_عُمران هنا؟ 

هز رأسه بتعجب لحالته المذرية تلك، فدفعه بشكلٍ مفاجئ وقال: 
_وريني مكانه بسرعة، مستقبل سيڤو في خطر!!!

                                   *****
حملوه الاطباء لغرفة الجراحة، واتجه عُمران للمقعد المعدني يجلس من فوقه باهمال، فاذا بنداء علي المتلهف يناديه: 
_عُمـــــــــران! 

ردت روحه إليه حينما وجده بخير، بالرغم من الحزن الثاقل من فوقه،  عاد يقبع رأسه أرضًا، وما أن شعر بجلوسه جواره، حتى قال بضيق: 
_قولتلك إني بقع في دايرة العتاب واللوم على طول. 

وأوضح حديثه الغامض حينما استطرد: 
_كان عندي وعايزني اسامحه بس أنا مقدرش أسامح بالبساطة دي يا علي، الموضوع مكنش بتاعي لوحدي، فيه أطراف كتيرة اتضرت نفسيًا وجسديًا فيه، أنا اقل واحد خارج بخساير، مش هقدر أسامحه على وجع جمال وهو شايف مراته بالوضع ده، ولا قادر أصفحله الألم النفسي اللي عاشته مايا، ولا اللي أنا عشته وعانيت منه، مش هقدر أسامحه يا علي، مش هقدر. 

ضم كفه بين كفيه وقال بهدوء نبرته: 
_مش محبور تسامح، أهدى وبطل تلوم نفسك. 

ابتسم ساخرًا، والوجع يتراقص بعينيه: 
_ازاي وهو هنا بسببي، والله أعلم هيعيش ولا هشيل طول عمري أتعذي بتأنيب ضميري! 

هدر فيه علي بصرامة: 
_ده قدره ومكتوبله، كفايا اللي بتعمله في نفسك ده، أنا الصبح قولتلك انك انسان مش ملاك، هتقدر تسامح في حقك مرات وهيجي عليك الوقت اللي متقدرش تعملها، كل دي صفات عادية وعند كل البشر، فاهمني. 

هز رأسه ببطء، فضمه علي ومازحه بابتسامة هادئة: 
_قولي بقى أيه رأيك في التجديدات اللي عملتها في المخروبة، عجبتك؟ 

ضحك بصوته الرجولي وقال: 
_عجبني كرير الاستقبال رائع، حالات الذكور بتخصص ممرض  والستات ليها ممرضات بتساعدها، عجبني جدًا. 

غمز بابتسامة كانت مشاغبة: 
_عشان نعجب بس، وتشطب اللقب ده اللي هيوقف حالنا أنا ودكتور يوسف. 

على ذكر يوسف هرع إليهما، يصرخ باستنجاد: 
_عُمران الحقني يا عُمــــــــرااااان!! 
                               ******
اجتمع عدد من الاطباء حول باب الغرفة، يحاولون ارغام "سيف" على فتح باب الغرفة، اقتحم عُمران  ويوسف  وحاول علي وجمال تخفيف الحشد. 

طرق يوسف مرارًا عليه وطالبه أن يفتح باب الغرفة، ولكنه لم ينصاع له، فمال لعمران يسأله بقلق: 
_هنعمل أيه يا عُـ.... 

بترت كلمته حينما ضرب عُمران الباب بساقه بقوة حررته، لتبدو الصورة كاملة لهما،  الرجل مازال ينازع أسفل يدي سيف الذي يحاول أن يعذبه بالابرة التي يحملها. 

تفاجئ سيف بوجود أخيه وجمال وعلي والمشفى برمتها، ومن فوق رأسه عُمران  ، فترك ضحيته ونهض يسرع له قائلًا بحماس: 
_لازم تبقى فخور بيا، إديته علقة هتخليه ماشي زاحف سنتين جايين. 

سدد علي نظرة لاخيه المرتبك، فقال بخبث: 
_ليه بس كده يا سيف، أعقل وحاول تتحكم بأعصابك أكتر من كده،  وبعدين ده تلاقيه كان بتدور على واحدة تعمله تنظيف عميق للبشرية واسكين كير، فحظ أمه الوحش وقعه في شر أعماله. 

نظرة أخرى من علي، جعلته يهتف وهو يدعي الفضيلة: 
_بس غلط اللي عملته ده يا سيف، في حاجة إسمها العفو عند المقدرة وأنت قدراتك عالية يا سيفو، إعفي وطرق دماغك تروق! 

جذبه يوسف من تلباب قميصه يصرخ فيه: 
_أنا عايز أعرف تربيتي وتعبي عليك راح فين، عاملي فيها بلطجي يا سيف!! 

أجابه بعصبية بالغة: 
_الحقير بيتعدى على زينب في حضوري!  بكلمه بالاصول بيقولي بنت خالتي ورايح أخطبها، الحقير!! 

احتقنت ملامح الشباب جميعًا، وكالعادة أسرعهم بردة الفعل كان الطاووس الذي ركله بغضب، وهو يهدر بوجوم: 
دايما الأصول بتزعل اللي مترباش عليها! 

وأضاف وهو ينحني إليه قاصدًا التطلع لسيف: 
_لم تيجي تضرب متركزش على الوش عشان متخشش في سين وجيم، نشل في الأماكن المتدارية عن العين. 

قالها وهو يلكمه بكل قوته ببطنه، فصرخ الرجل وهو يصيح بجنون: 
_حرمت والله حرمت، انجدوووني يا حكومة، أنا عايز أتعاقب بالقانون، هاتولي الحكومة. 

لكمه عُمران في وجهه فسقط فاقدًا للوعي، فمال له سيف يتساءل: 
_كسرت درسك الاخير له، مش قولت الوش هيدخلنا في سين وجيم؟ 

رد ببسمة خبيثة: 
_طلبها ونالها، الله يرحم أمه كان ابن محظوظة!

ضحك سيف وطرق كفًا فوق كف عُمران، ومن خلفهما يتابع جمال ويوسف ما يحدث بصدمة، وعلي مازال يقف بالخارج يحاول صرف الزحام. 

مال يوسف على ذراع جمال، وهمس: 
_يا ميلة بختك في تربية أخوك يا يوسف!!

وهتف بصعوبة قبل فقدانه للوعي: 
_مالقتش الا عُمران الوقح اللي تخده مثل أعلى ليك!! 

قالها وأغلق عينيه فوق ذراعي يوسف، فناداه سيف فزعًا: 
_يوســـــف. 

أمسك يده عُمران وقال بخشونة ومازال يستقر أعلى الرجل: 
_أنا مثل أعلى ليكم كلكم غصب عن أمك يا دكتور الحالات المتعسرة ، ولو مش عايز تطلع من هنا على نقالة مع الحقير ده غور من وشي عشان معملش معاك الغلط. 

فور أن نطق جملته نهض يوسف يهرول للخارج، وسقط جمال أرضًا من فرط الضحك، بينما مال سيف بحماس إليه وقال: 
_تحب أفوقهولك وتكملي بقيت الدروس عملي!! 
                                  *****
ولجت "فاطمة" لغرفة المكتب الخاصة بعمران، تستخدم مفتاح الخزنة السري الخاص به، الذي خصصه لها عُمران. 

وضعت الملفات التي تحملها داخل الخزنة الضخمة، وما كادت بغلقها حتى سقط منها ظرف أبيض مطوي، انحنت تلتقطه بتعبٍ، وتعيده لمحله، ولكنها توقفت حينما وجدت بيدها شيئًا أثار دهشتها. 

قربتها منها وهمست بدهشة: 
_تذكرة سفر باسم عُمران!!! 

أرادت فاطمة أن تعيدها للخزنة على الفور، لم تكن تلك التي تؤتمن على الشيء فتخونه، لم يثق عُمران بأحدٍ يومًا مثلما وثق فيها، ولكن حديث علي أضرم قلقها، لقد رأت بعينيها كيف عاش زوجها أيامًا سوداء كالجحيم دون أخيه، فماذا لو تعرض لشيء أو لربما يمر بشيء يخفيه. 

فتحت فاطمة التذكرة، قرأت الموعد وتفاصيل الرحلة بصدمة زادت وتضاعفت أضعاف مضاعفة، وجعلتها تسقط على مقعد مكتبه وهي تهمس بقلة حيلة: 
_علي لازم يعرف!!! 


تعليقات