![]() |
رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل الرابع عشر بقلم فاطيما يوسف
هَا أَنَا كُلَّمَا حَاوَلْتُ الْهَرَبَ مِنْ سُطُورِكَ تَسَاقَطَتِ الْحُرُوفُ مِنِّي لِتَعُودَ إِلَيْكَ طَائِعَةً، أَجِدُنِي أَكْتُبُكَ بِلَا وَعْيٍ وَأَتَنَفَّسُكَ بِلَا اسْتِئْذَانٍ وَأَحْلُمُ بِكَ حَتَّى وَأَنَا مُسْتَيْقِظٌ كَأَنَّكَ وَطَنٌ لَا جَوَازَ لِي سِوَاهُ، أَرْهَقْتَ قَلْبِي مِنْ طُولِ شَوْقِهِ لَكِنَّهُ مَا زَالَ يُصِرُّ أَنَّ النَّبْضَ لَكَ وَحْدَكَ، كُلُّ الْوُجُوهِ عَابِرَةٌ إِلَّا وَجْهُكَ مَحْفُورٌ فِي الذَّاكِرَةِ، كُلُّ الْأَصْوَاتِ صَامِتَةٌ إِلَّا صَوْتُكَ يُوقِظُ فِي دَاخِلِي الْحَيَاةَ، وَكُلُّ الطُّرُقِ تُفْضِي إِلَى شَيْءٍ إِلَّا طَرِيقِي إِلَيْكَ يُفْضِي إِلَى قَلْبِي، فَقُلْ لِي كَيْفَ أُطْفِئُ هَذَا الْحَـ.ـرِيقَ الَّذِي أَشْعَلْتَهُ؟ أَمْ أَتْرُكُهُ يُحْـ.ــرِقُنِي عَلَّ رَمَادِي يَكْتُبُ اسْمَكَ؟! سَتَبْقَى أَنْتَ الْبِدَايَةَ وَالنِّهَايَةَ وَالْفَصْلَ الَّذِي لَا أُرِيدُ أَنْ يُغْلَقَ أَبَدًا، فَأَيُّ رِوَايَةٍ هَذِهِ الَّتِي لَا تَنْتَهِي إِنَّهَا أَنَا وَأَنْتَ بِلَا نُقْطَةِ خِتَام .
لعبة الحيرة اشتعلت بينهما، هي تصر على تذويب المسافة بأي ثمن، وهو يقاوم اشتياقه بأسنانه خوفاً أن ينهار كل ما بناه من جدار التجاهل، كأنهما عاشقان على طرفي نهر، كل منهما يمد يده للآخر، لكن "عمران" يحاول أن يبقي الجسر قليلاً ليعاقب قلبها قبل أن يمنحها العفو ، فاقتربت منه حتى التصقت بصدره العريض ورفعت كفيها الناعمتين وحاوطت بهم وجنتاه وهي تتحسسه ذقنه النابتة بنعومة جعلته يحرك وجهه بين يديها بشوق شديد اجتاح أوصاله بالكامل ثم همست برقة ناعمة فهي الأخرى قد اشتاقته كثيراً واشتاقت أنفاسه وقررت أن تبدأ هي بكسر حاجز الابتعاد بينهم :
ـ طب اني اتوحشتك قووي يا "عمران" واشتقت لك واشتقت حضنك وقربك وأنى دلوك سامعة صوت نبضات قلبك هتناديني بشوق ميقلش عن شوقي ليك .
وأكملت همسها وهي تحرك سبابتها على وجهه بشوق جارف وعينيها تترجاه أن يرحم وحشتها الشديدة له وتلك النظرة أثلجت صدره بشدة ولكنه الآن في حرب شديدة بين اشتياقه وكبريائه بين اقترابها العاصف به وبين كرامته كرجل وهي قد دهستها بكل سهولة:
ـ بزياداك عاد وتعالى في حضن حبيبتك سكونك وسكينتك كيف ما كنت هتقولها لي يا "عمران" وانت كمان مشتاق لي قووي وقارية دي في عينيك كمان صوح ولا حتى داي كمان مبقتش أحسها فيك وبقيت بفهمك غلط ؟
ارتجف قلب "عمران" وهو يشعر بدفء كفيها يحيط بوجهه وكأنها تعيد إليه عمرًا من الشوق المخبأ في صدره لكنه مع ذلك يقاوم بكل ما تبقى في داخله من قوة يحاول أن يتمسك بجدار التجاهل الذي بناه حول نفسه كي لا يسقط مرة أخرى في دوامة ضعف أمامها فقد كان يخبر نفسه أنه لو استسلم لحنانها الآن فلن يقدر بعد ذلك على معاقبة قلبها ولن تظل هي تتذكر قسوته التي أرادها درسًا لها لكنه في الوقت ذاته يتشقق من الداخل كصخرة تواجه سيلًا عارمًا يضغط عليها من كل الجهات
ـ إنتي فاكرة إيه يا "سكون" اني أول ما تقربي مني هضعف وأحضنك كأني مكنتش قاسي عليكي الأيام اللي فاتت ما تعرفيش قد إيه عايز أقاومك دلوقتي عشان ما تبقيش فاكرة إنك تكسبيني بسهولة
ومع ذلك اقتربت منه أكثر حتى التصقت أنفاسها بخده وصارت نظراتها كسكاكين حنونة تمزق كل ما حاول أن يخفيه من ضعف داخله أحس بنبضات قلبها تسابقه وكأنها تناديه باسم لم ينطقه منذ زمن بعيد حتى شعر أنه سيصرخ من شدة التناقض بين عقله الذي يأمره بالابتعاد وقلبه الذي يتوسل إليه أن يترك العناد لتقول بضعف من جموده الذي جعلها جُنَّت منه :
ـ هو إيه اللي إنتي هتشيله لي جواك يخليك تبَعِد اكده عني مع إني شايفة في عينيك لهفة علي مش محتاجة كلام، دي أني وقت ما هكون في حضنك وانت معاي ووحدنا ببقى ناسية الدنيا كلاتها ومعايزاش حاجة غير قربك بلاش تخلي الشك في حبك ليا يلعب بيا أرجوك بلاش ، لما بتبعد عني دلوك بموت وحياتي ناقصة وانت بتزيدني حرمان ليه بتوجعني ليه يا حبيبي ؟
شعر "عمران" أن جدار كبريائه بدأ يتصدع بالفعل فقد كان صوته الداخلي يصرخ بأن يظل بعيدًا لكنه في الحقيقة كان يغرق في موجة حنين عارمة تلطمه من رأسه حتى أخمص قدميه، فتارة يغلق عينيه بقوة كمن يريد أن ينسى العالم، وتارة يفتحها ليرى انعكاس وجهها الملائكي أمامه فيزداد ضعفه كأنها قدر مكتوب له مهما حاول الهروب منه وهي لم تجد منه غير الصمت لكن جسده أمامها ودقات قلبه التي وضعت يديها موضع الدقات تدق الطبول داخل صدره مما أذهلها وجعلها سألته بدهشة:
ـ كيف نظره الجمود اللي عايز توصلها لي دي هتتوافق مع دقات قلبك اللي سمعاها دلوق وهحس بيها قوي ؟
طب كيف عاد قادر تتحمل قربي منك ومهتشدنيش لحضنك وخصوصي انك قاري في عيوني وكلامي ولمساتي رغبتي في قربك ولهفتي عليك وقادر تتحمَل متسحبنيش لعالمنا اني وانت ؟! عالم عشق العمران وسكونه كيف ؟!
حاول "عمران" أن يبتعد قليلًا بكتفيه لكنه فوجئ بيديها تشده برفق كأنها تعرف كل مواضع ضعفه فأحس بحرارة جسدها تشتعل قربه وراح قلبه يخفق بجنون حتى خشي أن يفضح اشتياقه لكنه رغم ذلك ضغط على أسنانه كي لا ينهار وأدار وجهه للحظة عن عينيها لعل قلبه يهدأ،
إلا أنها لم تستسلم بل مالت أكثر إليه وراحت تلامس بأصابعها شفتيه المرتجفتين كأنها تحاول أن تستفزه ليكسر صمته فارتجف جسده بأكمله وصار كمن يوشك أن ينفجر من شدة الكبت والحنين،
ـ يا "عمران" ما تعذبنيش اكده بطريقة الصمت دي ، الصمت دي هيعذَبني أكتر من أي كلام والله ،أني محتاجة منك كلمة تطمَني، محتاجة حضنك اللي اتوحشته قوي ،محتاجة أعيش من تاني فيك وأرجع ألاقي نفسي في عيونك اللي بعدت عني بالشكل دي .
تأوه "عمران" من داخله وكأنه يعترف سرًا بأنه لم يعد يحتمل تلك المقاومة فقد كان يتخيل نفسه كمسافر عطشان يوشك أن يلمس بئر الماء ثم يبتعد خوفًا من أن يحرم نفسه من العفو ومع ذلك كانت يدها وهي تلامس وجهه تحـ.ــرقه بحرارة اشتياقها فأحس أن كل ما حاول أن يبنيه يتهاوى قطعة قطعة:
ـ طب ليه مصمم تبَعد عني يا "عمران" وإنت عارف اني محدايش أمان ولا حضن غيرك ولا حتى قلبي يعرف يفرح إلا وانت جواه ؟!
طب ليه تعمل فيا اكده واني واقفة قدامك دلوك بضعفي وشوقي؟
انفلتت أنفاس "عمران" من صدره وكاد أن يضمها لكنه شد يده إلى جانبه بقوة كي لا تنهار إرادته إلا أنها استغلت لحظة تردده وانحنت إليه بطرف شفتيها تقربها من فمه ببطء شديد كأنها تسقيه من شوقها المخبأ منذ زمن لحظة لحظة فوجد نفسه يغلق عينيه دون أن يدري ويترك شفتيه تستجيب للنداء، فـالتقت الشفاه كأنها وُجدت لتُذيب المسافات وتُشعل النبض فاندفعت الأنفاس متشابكة لا تفرق بينهُما، وكانت القبلة عاصفةً عارمةً تقتلع السكون من جذوره وتزرع في الجسد رجفةً لا تهدأ، واشتياقٌ متفجر انسكب في لهيبها يترجم صمت الابتعاد إلى لغةٍ من نـ.ـار ،وكل خلية ارتجفت كوترٍ مشدود تتجاوب مع اللمسة وتستسلم لسلطانها، وكان العالم خارج اللحظة غبارًا يتلاشى لا يبقى سوى قبلة تُفنيهما في بعضهما والروح تذوب في وهجها حتى يصير الحنين مشتعلا لا يُطفأ والقلوب تتشابك في صمت أبدي لا يعرف انفصالًا،
وانفـ.ـجر الحنين المكبوت بينهما كبركان هائل لا يعرف التراجع كأنهما عاشقان افترقا ألف عام ثم التقيا فجأة في قبلة لم يعرف لها نهاية صار كل منهما يذوب في الآخر والأنفاس تختلط والقلوب تتسارع كأنهما جسد واحد فاشتعلت روحه وهو يغرق أكثر في قربها،
وظل "عمران" هنيهة طويلة غارقًا في ذاك القرب العاصف به ،حتى كاد أن ينسى الدنيا بأكملها لكنه فجأة ارتعش قلبه وهو يتذكر ما أقسم عليه أن يحافظ على بعده فانتزع نفسه منها بصعوبة بالغة وهو يلهث بأنفاس متقطعة وكأن جسده كله يعاقبه على الابتعاد،
ثم على حين غرة أمسك وجهها برفق وقبل جبينها قبلة طويلة مفعمة بالحنان والألم معًا كأنه يعتذر لها من جهة ويعاقب قلبه من جهة أخرى وبعدها تراجع إلى الخلف خطوتين وهو يكاد يسقط من شدة المقاومة بين عقله وقلبه،
ارتجفت ملامح "سكون" لحظة ابتعاده كأن الأرض سحبت منها سندها الوحيد، لم تتوقع أن يقسو عليها في اللحظة التي شعرت فيها أنها عادت إلى صدره بكل ما أوتيت من ضعف وأنوثة، كانت تحسب أن لمسة يديها وهمسة صوتها كافية لتذيب جليده لكنها الآن واقفة أمامه كطفلة ضائعة لا تدري أين تذهب وقد تركها على حافة الشوق ثم انتزع نفسه منها فجأة ووقف بعيدًا يخبئ خلف صمته بركانًا من الاضطراب :
ـ إيه اللي حوصل دي يا "عمران" بعد كل اللي بينا دلوك وبعد ما حسيت قربك واشتياقك تاجي في ثانية وتبعدني عنيك اكده إيه القسوة دي عليا؟!
أني مبقتش فاهماك عاد كيف تكسر سكون اكده يا عمران وكأني مش مرتك واللي بيحصل بينا دي الطبيعي بين الراجل ومرته ؟
مفهماش كيف قلبك طاوعك تعمل فيا اكده وتتعامل وياي بالطريقة المهينة داي ؟
وكان "عمران" في تلك اللحظة يغلي من الداخل كقدر يغـ.ـلي فوق نـ.ـار مشتعلة فكل خلية في جسده تصرخ كي يعود إليها ويحتويها وكل شريان في دمه يشـ.ـتعل بنـ.ـار الاشتياق التي لا تنطفئ ومع ذلك ظل واقفًا كتمثال جامد يحاول أن يخفي اهتزاز يديه ورجفة أنفاسه كان عقله يأمره بالصبر والكتمان بينما قلبه يبكي من خلف جدار الصمت :
ـ بزياداكي إنتي عاد يا بت الناس ولحظات الشوق اللي هتتحدتي عنيها دي وإني إزاي بعدتك عني وكسرتك وحسستك بالإهانة إنتي عملتيها وهتعمليها بعد اكده وهتسبيني وتروحي لطريقك الغريب اللي اخترتيه لحالك ، انتي ياما اشتقت لك وانتِ بعَدتي عني بكل نفسي راضية، ياما حاولت اقرب منيكي وارجعك لحضني وانتِ تبعديني عنيكي بكل قناعة انك هتعملي الصوح، وانك اكده بتأدي رسالة مع ولادك واني لازم اتحمَل، فـغصب عني لازم أبعد عشان أعلمك تبطلي وجع فيا وأدوقك من نفس الكاس رغم عذابي .
لكنها لم تقتنع بما سمعته من صوته المتحشرج فاقتربت أكثر بخطوات بطيئة والدموع تتلألأ في عينيها كأنها سكاكين تجرح قلبه في كل نظرة ومدت يديها مرة أخرى نحو ذراعيه وكأنها تستعطفه أن يتخلى عن جموده فاهتز جسده للحظة وكاد أن يضمها لكنه تماسك وأبعد عينيه عن نظرتها :
ـ طب وانت هتقدر تتحمَل بعدي يا "عمران"؟
طب كيف قدرت تبَعدني عن حضنك وانت كنت معاي بكل مشاعرك دلوك؟
كيف قدرت تسيطر على نفسك وانت بين ايديا وقدرت تسيطر على مشاعرك دلوك؟!
إلا اذا ما بقتش تحبني وقربي بالنسبة لك بقى حاجة تقدر تستغنى عنيها ؟
انت فاكر انك جامد ولا حجر ولا ايه اللي في تفكيرك عاد ؟
أني اللي عشت معاك وعارفة قلبك بينبض بيا بس انت مكابر ومصر تخليني أتوجع من غيرك أكتر.
كان "عمران" يعـ.ـض على شفتيه السفلى بقوة حتى كاد يجـ.ـرحها خوفًا من أن يفلت منه اعتراف صريح أو تنهار جدران مقاومته فقد كان يسمع أنين قلبه في صدره بوضوح كأنه طبل يضـ.ـرب بعـ.ـنف لا يتوقف وكلما اقتربت منه خطوة شعر أن أنفاسه تضيق وأن الأرض تميد تحت قدميه لكنه ظل متشبثًا بعناده كالغريق الذي يرفض أن يمد يده لحبل النجاة لينطق بصعوبة بالغة وصوت متحشرج:
ـ أني مش مكابر يا "سكون" بس في حاجات كتير جوانا محتاجة تتصلح، محتاجة وقت كَتير علشان كل حد فينا يعرِف هو مقصر مع التاني في ايه ؟محتاجين نفكِر بعقل مش بقلوب هتشتعل في لحظة قرب وبعد ما نطفي وهيجها كل واحد يروح لملكوته واكده نوبقى كيف الحيوانات هتحكمنا غريزة مش سكن وسكينة ومودة، صدقيني كل اللي جوايا دلوك بيصـ.ـرخ يقرب منك بس أني لو استسلمت يبقى بضيّع كل اللي حاولت أبنيه في الأيام اللي فاتت وأني دلوك صريح وياكي لأبعد الحدود ولحد دلوك بحاول اصلح اللي انكسر بيناتنا وانتي ودماغك مش شايف المشكلة الكَبيرة وهتركزي في حاجات تانية واصل هتتعبك وهتخلينا واقفين عند نقطة الصفر لا هنروح ولا هناجي ويضيع العمر كلاته بيني وبينك في حبة لوم وعتاب وخصام وهجر .
أطرقت "سكون" للحظة كأنها لا تريد أن تسمع تلك الكلمات التي تخـ.ـنقها أكثر فأكثر لكنها في الوقت ذاته رأت ارتجاف أصابعه ورعشة كتفيه وهو يحاول أن يخفيها فعرفت أن اشتياقه لا يقل عن اشتياقها بل يزيد لكنها لا تدري ما الذي يمنعه من الانهيار بين ذراعيها ومع كل الدوافع التي قدمها لها إلا أنها واقفة عند نقطة واحدة أنه كيف قاومها وكيف ابتعد عنها ؟ :
ـ يا "عمران" انت هتعاقبني بعنادك ولا هتعاقب حالك، انت اللي بتضيعنا بيدك ،أني قدامك بقولك اني محتاجاك وانك اتوحشتك قووي ، وانت واقف تبص لي زي الغريب؟!
طب ليه اكده وليه تصعبها عليا أكتر وتملي دماغك وقلبك من ناحيتي ليه ؟
في تلك اللحظة كاد "عمران" يصـ.ـرخ فقد أحس بدموعه تكاد تنفلت لكنه رفع رأسه عاليًا وأغمض عينيه لبرهة طويلة محاولًا أن يحبس كل ما يغـ.ـلي في صدره لكنه لم يفلح إذ شعر بعرق يتصبب من جبينه وبحرارة تشتعل في وجهه ولم يعرف كيف يخفي حقيقة أنه يكاد ينهار تحت وطأة قربها،
ومع ذلك لم تتراجع "سكون" بل تقدمت حتى صارت أنفاسها الحارة تلامس وجهه كأنها تسكب عليه نـ.ـارًا مقدسة تحـ.ـرق كل حيلة ودفعت رأسها قليلًا إلى صدره تستمع إلى نبضاته المتسارعة بشدة فارتجف قلبه وأغمض عينيه أكثر محاولًا أن لا ينهار إلا أن يديه ارتفعتا ببطء شديد كأنهما تخونانه فهما تريدان أن تحتويا جسدها المرتجف بالشوق:
ـ انت مش واخد بالك انك فضحت نفسك دلوك يا "عمران" دقات قلبك داي كلاتها بتنادي علي، ازاي تبَعدني عنيك واني سامعة قلبي وقلبك بيتكلَموا مع بعض من غير كلام ؟
كاد أن ينهار تمامًا لكنه فجأة شد قبضتيه إلى جانبيه كأنه يعاقب نفسه على كل لحظة ضعف وابتعد خطوة صغيرة إلى الوراء بينما عينيه تتعلقان بدموعها ونفسه يخـ.ـتنق من قسوته التي لا يريدها لكنه يجدها ضرورية ليحافظ على كبريائه وقد ابتعد عنها ثانية،وبقيت واقفة تحدق فيه بدهشة ووجع قلبها يقطر دمًا، لا تصدق أن الرجل الذي تحبه بكل هذا العمق يقف أمامها بهذا الجمود فيما هو من الداخل يتفَــ..ـجر كبركان لا يقدر على كتم حممه، وكلما رأت أصابعه ترتعش وحاجبيه ينقبضان أيقنت أنه ينهار لكنه يقاوم وكأنهما في معركة طويلة لا يعرف أحد منهما من الخاسر ومن المنتصر ، فعلى الفور حمل أشياؤه وترك لها الغرفة ليختبرها ويرى إن عاد من الخارج سيجدها تنتظره فيقابلها بالأشواق ويتمسك بها ويعتذر لها عن صده لها وابتعادها عنها قولا وفعلا ، مراراً وتكراراً باقتربه العاصف لكليهما وسيذيقها من شهد قربه أنهارا من العسل المصفى ،ام ستذهب إلى عزلتها عنه مع أبنائهم وحينها سينكسر حاجز آخر بينهما لم يرمم بسهولة بعد ذاك .
********
في غرفة هادئة يغمرها ضوء أصفر خافت صادر من مصباح أرضي بسيط، جلست "فريدة" أمام الدكتورة، يديها متشابكتان في حجرها، عيناها غائرتان من قلة النوم، قلبها مثقل بقلق لم تعرف مثله من قبل، كانت تشعر أن كلماتها التي ستقولها الآن ليست مجرد حكاية عابرة، بل استغاثة تنقذ حياة رجل تحبه بصدق، رفعت رأسها ونطقت بصوت مبحوح وقد غلب عليه الارتعاش:
ـ يا دكتورة أني مش قادرة أوصف لك اللي شفته، "فارس" ما بقاش "فارس" اللي أني أعرِفه، كان واقف قدام الروبوت هيتحدت وياه كأنها أمه، بينادم عليها "ماما" وهيطلب منيها ترد عليه، ويفتكر ذكريات طفولته، ولما ما ردتش انهار زي العيل اللصغير، قعد على الأرض يعيط هيقول؛ هي ليه زعلانة منه، وأني ما كانش في يدي غير إني أضمه لحضني وأحاول أهديه.
ابتسمت الدكتورة بهدوء شديد، ومالت بجسدها إلى الأمام وكأنها تغوص في أعماق كلام "فريدة"، ثم أطرقت قليلًا قبل أن ترفع عينيها إليها لتجيبها بتمهل مدروس، مستعملة نبرة صافية مليئة بالثقة العلمية:
ـ اللي وصفتيه دي يا "فريدة" بيدل بشكل قاطع إن "فارس" رجع يدخل في نوبة انفصامية شديدة، ودي معناه إن عقله بيحاول يهرب من صدمات أو ضغوط ما قدرش يتحمَلها، فخلق لنفسه واقع موازي يقدر يعيش فيه،هو مش بيتصنع ولا بيكدب، هو فعلاً شايف وعايش اللي قدامَه وكأنه حقيقة، ولما اصطدم إن الروبوت مش قادر يرد على أسئلته الحرة، حصل عنديه انهيار نفسي، لأنه اتعامل معاه على إنه "الأم" اللي طول عمره بيلجأ ليها، وفجأة ما لاقاش الاستجابة منيها.
أطرقت "فريدة" برأسها قليلًا، عيناها امتلأتا بالدموع وهي تشعر بالخذلان والشفقة، ثم رفعت بصرها من جديد، تمتمت بصوت متردد فيه رجفة:
ـ طب ليه دلوك بالتحديد يا داكتورة؟ إحنا كنا فاكرين إنه اتحسَن، هو ليه رجع للحالة داي فجأة؟
ارتسمت على وجه الدكتورة ابتسامة حزينة لكنها واثقة، تنفست بعمق وكأنها تجمع أفكارها قبل أن تنطق بكلماتها التي تحمل ثقل العلم والتجربة:
ـ شوفي يا "فريدة"، الانفصام مش خط مستقيم بيتعالج ونقول خلاص انتهى، هو مرض بيمشي في نوبات، أوقات يوبقى هادي ومستقر، وأوقات يرجع يهاجمه بشدة خاصة لو اتعرض لضغط نفسي كَبير أو صدمة، وإنتي وصفتي بنفسك اللي حصله، انكشاف أمر خيانته، مواجهتك ليه، شعوره بالذنب والرغبة إنه يحتفظ بيكي وبنفس الوقت ما يخسرش علاقته التانية، دي ضغط مهول على عقله، فلما ما قدرش يواجه الواقع، دماغه اخترع له واقع بديل يعيش فيه، واقع يكون فيه "الأم" موجودة وبتحبه من غير شروط، ودي معناه إنه لسه جواه جرح طفولي ما اتعالجش ، أو احتمال تاني إن الروبوت دي كان موجود قبل ما يُحصل على جثه والدته فتصنع الروبوت علشان يكلمها ويطلع عقدة الذنب اللي جواه انه ما قدرش يدفنها فاعتبرها لساتها عايشة ، او احتمال تالت انها لما اندفنت وبعدت عن الدنيا خالص عقله الباطن ما قدرش يتحمَل بعادها وانها بقت تحت التراب وهو عايش طول عمره محروم منيها وعلشان اكده عيمل لها روبوت وبدا يتعايش وياها على انها حقيقة، احتمالات كَتيرة مش هعرِف احدد بالضبط الا لما اقعد وياه واتحدت في حالته كلاتها واشوف انهي احتمال مضبوط .
أخذت "فريدة" نفسًا عميقًا وهي تفرك أصابعها بتوتر، ثم سألت بلهفة يشوبها الخوف:
ـ يعني هو ممكن يفضل اكده طول عمره ولا فيه علاج صوح ؟ طمني قلبي يا دكتورة.
أومأت الدكتورة برأسها مطمئنة، صوتها صار أكثر جدية وهي تشرح كأنها تضع خريطة طريق واضحة:
ـ لاه يا "فريدة"، هو مش لازمن يفضل اكده، بالعكس، في علاج، بس محتاج صبر وطول بال، والعلاج دي هيكون على تلات محاور؛ الأول العلاج الدوائي، لازم ياخد أدوية مضادة للذهان بانتظام تحت إشراف طبي، دي بتساعد تهدي الهلاوس وتقلل الانفصال عن الواقع، التاني العلاج النفسي بالكلام، ودي معناه إنه يياجي الجلسات اهنه ويتعلم يفرق بين أفكاره الحقيقية والخيالية، ويتعلم إزاي يتعامل مع الضغوط من غير ما يهرب لعالم موازي، أما التالت فهو الدعم الأسري، ودي دورك الكَبير، لازم يلاقي حداكي أمان وصدق من غير تجريح ولا لوم، لإن أي هجوم مباشر هيخليه يُهرب أكتر.
شهقت "فريدة" شهقة مكتومة، وضغطت كفيها على صدرها وكأنها تخشى أن يتوقف قلبها من وطأة المسؤولية، ثم تمتمت بصوت منخفض:
ـ طيب إزاي أقنعه ياجي لحضرتك؟ هو مش بيتقبل بسهولة إنه حد يقول له ؛إنت مريض، بيعتبر دي إهانة، وبيغضب جامد.
أومأت الدكتورة مرة أخرى، عيناها لمعتا بتركيز، ثم أجابت بجملة طويلة نسجت فيها خبرتها العملية مع علمها:
ـ عنديكي حق، مريض الانفصام غالبًا ما بيعترفش إنه محتاج علاج، لأنه شايف إن عالمه حقيقي زي الواقع بالظبط، فإحنا هنستعمل أسلوب غير مباشر، متقوليش له؛ تعالى لدكتورة نفسية، قولي له مثلاً إن في حد بيفهم في العلاقات الأسرية أو مستشارة أسرية وعايزاك تاجي معاي، أو حتى دكتورة ثقة بتساعد الناس يخرجوا من ضغوطهم، هو هايجي أول مرة بحكم ثقتك إنتي، ومن اهنه يبدأ التدرج، وأني دوري في أول لقاء إني ما أصدمهوش، بالعكس، أسمع منه وأكسب ثقته من غير ما أواجهه بكلمة مرض، وبعدين خطوة خطوة أبدأ أبني أرضية علاجية معاه.
تساقطت الدموع من عيني "فريدة" وهي تشعر أن بصيص الأمل يلوح في الأفق، مدت يدها تمسح دموعها سريعًا، ثم قالت بنبرة حزينة لكنها مشبعة بالرجاء:
ـ يعني حضرتك تقدر تساعديه فعلاً؟ تقدري ترجعي لي "فارس" اللي أني عرفاه وحبيته؟
تألقت عينا الدكتورة بنظرة يقين عميق، وأجابت بصوت قوي يشع بالثقة:
ـ أيوة يا "فريدة"، أقدر أساعده، بس لازمن تساعديني إنتي كمان، لازم توبقي جاره كصديقة وحبيبة قبل ما توبقي زوجة، لازمن تحسسيه طول الوقت إنك موجودة علشانه، مش علشان تراقبيه أو تعاقبيه، وكل ما تلاقيه بيهرب للخيال، خديه بهدوء لواقع أجمل، ذكريه ببنته، بذكرياتكم الحلوة، بالأماكن اللي بتحبوها، ده هيساعدني أفتح باب العلاج معاه، وهيساعد الأدوية تشتِغل صوح.
هنا لم تستطع "فريدة" الصمود أكثر، وضعت يديها على وجهها وانخرطت في بكاء صامت، ثم رفعت رأسها ونطقت بجملة خرجت من قلبها الممزق:
ـ حاضر يا دكتورة، أني هعمل كل اللي حضرتك قولتيه، أني معيزاش غير إنه يرجع لي، يرجع لبنته وبيته، نفسي أعيش معاه حياة طبيعية زي أي اتنين، حتى لو الطريق طويل أني مستعدة.
مدت الدكتورة يدها برفق وربتت على كف "فريدة"، صوتها انخفض قليلًا لكنه ظل مشبعًا بالثقة:
ـ وأني بوعدك يا "فريدة"، إننا نبدأ رحلة العلاج مع بعض، وإنه مش هيفضل أسير لعالم وهمي طول حياتَه، بس عايزة منك صبر وإيمان، أول خطوة دلوك إنك ترجعي له وتبني جسر الثقة من جديد، وبعد اكده تجيبيه لي اهنه على إنه جلسة دعم، وأني هكمل معاه الباقي.
أومأت "فريدة" برأسها مرات متتالية، وكأنها تعاهد نفسها أمام الله أن تبذل روحها في سبيل إنقاذ فارسها، ثم نهضت واقفة وعزيمتها مشتعلة في عينيها، بينما همست في سرها أنها لن تسمح لمرض غادر أن يخـ.ـطف منها حب عمرها.
***********
كان المساء يزحف ببطء نحو أرجاء الفيلا الواسعة، والهدوء يخيّم على أركانها إلا من صوت خافت ينبعث من جهاز الحاسوب المحمول في غرفة المكتب حيث جلست "رحمة" منشغلة بتقليب الملفات والرد على الرسائل، محاطة بهالة من الجدية والتركيز الشديد، لم تكن تدري أن باب الحياة على وشك أن يُفتح على مشهد يهزّ قلبها ويزلزل ثقتها في ذاتها، وأن لحظة واحدة قد تغيّر توازن عالمها المستقر الهش،
في الخارج، كانت السيارة السوداء الأنيقة تتوقف أمام البوابة الحديدية، ومن داخلها خرج "ماهر" بخطوات واثقة كعادته، عيناه تلمعان بابتسامة غير مفسرة، وعلى ذراعه مشهد لم تتخيله "رحمة" قط، فقد كانت هناك امرأة تحمل الصغيرة "فيروز" بين ذراعيها كأنها قطعة ثمينة من قلبها، تمسكها بحنان يفوق الوصف، والطفلة بدورها تتشبث بعنقها الصلب والناعم معاً، كأنها وجدت في هذه الحضن الدافئ عالماً جديداً لم تكن تعرفه،
كانت "كارما" التي تحتضنها بين يديها امرأة حنون بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ طويلة القامة، رشيقة الحركة، لها شعر بني منسدل على كتفيها في خيوط حريرية متماوجة تعكس الضوء بلمعة لافتة، وعيناها واسعتان بلون بندقي ساحر يفيض دفئاً، ابتسامتها هادئة، مشبعة بطمأنينة غريبة تجعل كل من يراها يثق بها في اللحظة الأولى، كانت ترتدي معطفاً أسود أنيقاً يبرز هيئتها الممشوقة، وفي ملامحها مزيج من الرقة والقوة، من البراءة والدهاء، كأنها لوحة فنية مرسومة بيد فنان لبناني بارع،
وكانت "فيروز"، تلك الصغيرة ذات الخمس سنوات، كانت تتدلّى على كتفها وقد أحاطت عنقها بذراعيها الصغيرتين في تعلقٍ عجيب، بدا كأنها تعرفها منذ زمن طويل، مع أنها لم تلتقِ بها إلا قبل ساعات قليلة في الحضانة، لكن الأطفال ببراءتهم يستشعرون الحنان الصادق بسرعة، و"كارما" كانت تعرف كيف تُسكن الطمأنينة في قلب أي طفل بمجرد لمسة أو ابتسامة، كانت تمسح على شعرها الحريري الصغير بين الحين والآخر، وتهمس لها بكلمات لبنانية ناعمة كنسيم البحر، فتضحك "فيروز" وتضم رأسها إلى صدرها كأنها وجدت أمّاً ثانية،
أما "ماهر"، فكان يمشي بجانبها بخطوات خفيفة، يتأمل المشهد بعينين تفيضان بالرضا، لم يكن يخفي ابتسامته وهو يرى صغيرته تتعلق بهذه المرأة منذ اللحظة الأولى، وكأنه عثر أخيراً على من يستطيع ملء الفراغ العاطفي الذي تركته انشغالات "رحمة" المتكررة، كانت ضحكته تخرج صافية، ناعمة، وفيها لمسة فخر لا تخطئها عين، فخر بأنه استطاع أن يجلب لابنته من يمنحها هذا الدفء، ومن يمنحه هو أيضاً في الوقت نفسه نوعاً من الاطمئنان،
بينما كان الثلاثة يخطون نحو باب الفيلا، كانت "رحمة" في الداخل تجلس على مكتبها، عيناها غارقتان في الشاشة، لكن قلبها مثقل، كانت تحاول أن تغطي على تعبها وسهرها وانكساراتها بالعمل المتواصل، يداها تتحركان فوق لوحة المفاتيح، لكن عقلها كان مشتتاً بما جرى في الأيام الماضية، من خلافات وصدامات لم تجد لها مخرجاً، لم تكن تدري أن الأقدام التي تقترب الآن ستفتح جرحاً جديداً في قلبها،
فتح "ماهر" الباب بخفة، ودخلت "كارما" أولاً وهي تحمل "فيروز" التي ما زالت ملتصقة بعنقها، امتلأت أرجاء الصالة بضحكتها الرنانة وهي تهمس للطفلة بكلمات دافئة، كان "ماهر" يمشي خلفها، يضع يده في جيبه، وعلى وجهه ابتسامة واسعة لا تخطئها العين، بدا كأنه شاب عشريني خرج لتوه من مغامرة سعيدة، وليس رجلاً أثقلته مسؤوليات البيت والعمل،
رفعت "رحمة" رأسها من فوق شاشة الحاسوب حين سمعت خطواتهم، وحين وقعت عيناها على المشهد، شعرت وكأن تياراً كهربائياً اخترق جسدها من رأسها حتى قدميها، توقفت أنفاسها للحظة، اتسعت عيناها في ذهول، وكأن العالم كله تجمد من حولها، رأت ابنتها الوحيدة، قطعة قلبها، معلّقة بعنق امرأة غريبة، تنظر إليها بحب وتضحك معها كأنها تعرفها منذ سنين، بينما "ماهر" يقف بجانبهما مبتسماً، ينظر إلى تلك المرأة كما لم ينظر إليها هي منذ زمن طويل،
في تلك اللحظة، ارتجف قلب "رحمة" بشعور لم تعرف له اسماً، كان خليطاً من الغيرة والخذلان والغضب، كأن كل ما بنته بدأ يتهاوى أمامها، لم تستطع أن تمنع عقلها من رسم ألف سيناريو وسيناريو في لحظة واحدة، كيف تعلقت "فيروز" بهذه السرعة؟ ما الذي قالته أو فعلته تلك الدخيلة عليهم حتى تسلب قلب طفلتها بهذه البساطة؟ ولماذا يضحك "ماهر" بهذا الرضا إلى جانبها؟ وهل يعقل أنه نسي كل الخلافات، كل اللحظات المريرة، ووجد في تلك المرأة ما ينقصه؟
"رحمة" شعرت وكأن الأرض انسحبت من تحت قدميها، لم تعد تسمع سوى صوت ضحكة ابنتها وهي تحتضن تلك المرأة بقوة، لم تعد ترى سوى يد "كارما" وهي تمسد على شعرها الصغير بحنان، ونظرة "ماهر" التي حملت شيئاً من الدفء المفقود، أحست كأنها غريبة في بيتها، كأنها مجرد متفرجة على مسرح تُعرض فيه حياتها أمامها دون إذن منها،
كلما اقتربوا منها، كان قلبها ينقبض أكثر حاولت أن تحافظ على رباطة جأشها، لكنها شعرت بالدــ.ــماء تغـ.ــلي في عروقها، أصابعها تشنجت فوق لوحة المفاتيح، وشفتيها ارتجفتا دون أن تنطق بكلمة، كانت على وشك أن تثور، أن تصـ.ــرخ، أن تنتزع طفلتها من بين ذراعي تلك المرأة، لكن شيئاً ما كبّلها، كأنها فقدت القدرة على الحركة من هول وذهول صدمتها ،
وما زاد الطين بلة هو تلك النظرات المتبادلة بين "ماهر" و"كارما"، نظرات خاطفة، لكنها محملة بألف رسالة، فيها اعتراف قديم يعرفه قلبه، وحنين لا تخطئه عين امرأة أحبت بصدق، "رحمة" رأت كل شيء لم يكن يحتاج إلى تفسير، عرفت من أول لمحة أن هناك معرفة قديمة، أن الأمر لم يكن مصادفة، وأن دخول "كارما" حياتهم لم يكن مجرد قرار عابر من "ماهر" لاختيار مربية لطفلته فهي الديفا المحنكة وتفهم وتعي خيوط اللعبة جيداً ،
في تلك اللحظة، أحست "رحمة" أنها تتفتت من الداخل ،صارت الغيرة نـ.ـاراً تشتعل في صدرها، والخوف ينهش قلبها، والخذلان يثقل روحها، كانت كل ذرة فيها تصرخ، لكن عينيها ظلت معلقتين على ابنتها، التي لم تلتفت إليها ولم تجرِ إليها كما اعتادت أن تفعل، كانت مشدودة إلى تلك المرأة الجديدة، إلى دفئها وحضنها وابتسامتها،
دخل الثلاثة إلى الصالة، وضحكة "فيروز" تملأ المكان، وصوت "كارما" ينساب ناعماً كأنغام لبنانية قديمة، و"ماهر" يسير بجانبها كأنه عاد إلى مراهقته، بينما "رحمة" تجلس في مكانها كتمثال من حجر، تحاول أن تخفي العاصفة التي تجتاحها، لكنها تدرك أن لحظة الانفـ.ـجار قادمة لا محالة،
وهكذا، لم يكن دخول "كارما" إلى الفيلا مجرد مشهد عابر، بل كان بداية فصل جديد من الصراع، صراع بين الماضي والحاضر، بين الغيرة والحب، بين امرأة تحاول أن تحافظ على بيتها وزوجها وطفلتها، وامرأة أخرى تحمل في ابتسامتها سرّاً قادراً على قلب الموازين،
نهضت "رحمة" من مقعدها فجأة كأن زلـ.ـزالاً هزّ جسدها، قامت في عنفـ.ـوان يشبه وثبة الأسد من عرينه، تزمجر أنفاسها وهي تجزّ على أسنانها بقوة حتى بدت عروق عنقها بارزة، وخطواتها الثقيلة تضرب الأرض كأنها على وشك الانقضاض، تقدّمت صوب "كارما" بخطوات متوترة لكنها ثابتة، عيناها مشتعلة بلهيب الغيرة والتهديد، تحمل في نظراتها عاصفة من الغضب المكبوت، التفتت "كارما" نحوها في هدوء مثير للدهشة، لم تهتز ولم ترتعش، بل رفعت رأسها بثقة، وعينيها البندقيتين تلمعان ببريق التحدي، كانت نظراتها حادة كالسيوف، تنطق بقوة امرأة تعرف نفسها جيداً ولا تخشى مواجهة أحد، وقف الزمن بينهما لحظة، صراع عيون نـ.ـاري، مزيج من الكبرياء والأنوثة والعداء المكتوم، بدا المشهد وكأن الفيلا بأكملها قد اختزلت في تلك المواجهة، "رحمة" تهدد بالافتراس، و"كارما" تردّ بالتحدي الصامت، حتى "ماهر" شعر أن المكان قد ضاق بهما، وأن معركة غير معلنة على وشك أن تندلع، كان كل ما فيهما يصـ.ـرخ بالقوة، حتى الطفلة "فيروز" شعرت بتوتر الجو، فأمسكت بعنق "كارما" أكثر، غير مدركة أنها بين امرأتين تتحفزان لمعركة ستغيّر ملامح البيت،
رأى "ماهر" ذاك التوتر الذي شعرت به ابنته فسحبها من أحضان "كارما" ونادى على "أم محمد" ان تأخذها فأتت على الفور وتصنمت قليلاً هي الأخرى وهي تنظر إلى تلك الكتلة من الجمال والرشاقة والأناقة ولكنها لاحظت توتر المكان فسحبت الطفلة على الفور وهي تردد سرا دون أن يسمعها أحدا غير الطفلة:
ـ ليه يا "ماهر" يا ولدي ؟!
اكده هتحط النـ.ـار جنب البنزين وهتوبقى عاركة شَديدة يسترها ربنا على اللي هيوحصل من الست "رحمة" للبنت الجَديدة داي .
أما فى الأسفل تسائلت"رحمة" بفم غليظ ونبرة مختنقة وهي تشير بسبابتها باحتقار على تلك الواقفة بينهم :
ـ مين البتاعة داي ؟ وجاية تعمل ايه اهنه؟ وليه هتحمل فيروز اكده والعشم واخدها زيادة عن اللزوم ؟
ـ بليز يا "ماهر" حبيبي اتركني رِد عن حالي ، شكلها لـ" رحمة" بدها تتعرف علي ابنوب ، مو مِشكلة كيف ما بتقولو بمَصِر معرفة الناس كنوز ،
وأنا بكون اسمي "كارما" تشرفنا يا مدام"رحمة" يسعدني نكون اصدقاء ويؤبرني ها الحلا والقوي والجمال كله هاد تكون رفيقتي من اليوم ، وأني جيت لهون حتى اكون المربية الجَديدة لـ"فيروز" حبيبتي.
ـ يا حلاوة يا ولاد ، انت جايب البتاعة دي من لبنان مخصوص علشان تربي بتي ، لاه وكمان باردة ومستفزة ، وشكلها متعرفش عاد هي هتتبارد وهتلعب ويا مين ؟
إلا قول لي يا بيبي انت معرفتهاش مين "رحمة سلطان المهدي" ولا جايبها اهنه يا عين أمها على عماها ونصيبها الاسود وأجلها بعون الله اللي هيوبقى على يدي .
كاد "ماهر" أن ينطق ويرد على حديثها المقلل من شأن ضيفته ومربية ابنته إلا أن تلك الـ"كارما" وضعت يديها على شفاه برقة وهي تنهاه ان يتولى دور المدافع عنها في هجوم"رحمة" وهي تنظر إليها بتحدي وقوة مماثلة:
ـ أرجوك يا متر فينك تطلع على غرفتك تتحمم وترتاح شوي واتركني هلا مع "رحمة سلطان المهدي" كيف ما بتقولي ، بظِن حِفظت الاسم يا حضرة "الديفا" ؟
وبالفعل استجاب "ماهر" لاقتراح "كارما" وصعد إلى الأعلى وهو يلقي لـ"رحمة" نظرات حادة يملؤها التحدي، وكأن بينهما معركة صامتة، أما "رحمة" فكانت تحدّق بهما معًا في دهشة كبيرة، وكأنها تكتشف أنّ بينهما معرفة قديمة، فكيف له أن يصغي إلى نصيحتها وينفّذها بتلك السرعة؟ وكيف سمح لها أصلًا أن تتحدث معها بتلك الطريقة؟ كل ذلك كان يوشك أن يفتك بعقلها، تشعر أنّها على وشك السقوط في نوبة جنون، فاقتربت من "كارما" بعـ.ــنفوانٍ هائج، وأمسكت طرف سترتها وهزّتها بقسوة، وهي تعـ.ــضّ على أسنانها وتتفـ.ــجّر كلماتها بقوّة:
ـ انتِ مين يا بت انتِ اللي عشمك تتكلَمي اكده وكانك صاحبة مكان عاد ؟!
ومش واخدة بالك هتتحدتي مع مين ؟!
فوقي يا هانم علشان ما تفكِريش حالك ان بالمحن بتاعك والدلع الماسخ دي انك هتقدري تاخدي حاجة من "رحمة سلطان المهدي" ما اديتهالكيش، واياكي وحذاري تمدي يدك داي تاني على وش جوزي ولا تلمسيه، ولا تقربي منيه مرة تانية يا إما وقسما بالله هكسِـ.ــر لك يدك داي ، وتاخدي بعضك وتروحي على بلدكم يا حبيبتي من السكات بدل ما تروحي على نقالة، انتِ ما تعرِفييش أني مين بلاش تتحدي حد ما تعرفيش مدى قوته ايه ؟
أنزلت "كارما" يديها بعـ.ـنف عن سترتـها، ثم دارت حول "رحمـة" بنظرات مستفزّة، تحمل ذات النبرة الحادّة التي تفوّهت بها "رحمـة" من قبل، ونطقت "كارما" بردٍّ قوي، لا يختلط فيه خوف ولا ارتعاش، غير آبهة بتهديدها، ولا بنظراتها المتحدّية، وبدا الاثنتان وكأنّهما تقفان في ساحة حرب، سلاحهما النظرات والكلمات وهي ترد عليها بنبرة مصرية أصيلة:
ـ طب تمام يا أستاذة "رحمة" على حد علمي إنك مطلقة انتِ و"ماهر"، وأظن برده ان صاحب البيت هو اللي جايبني هنا يبقى هو اللي له السلطة الوحيدة انه يخرجني منه،
وأتمّت حديثها وهي تقترب منها، هامسةً بجوار أذنها بما جعل "رحمة" تزداد جنونًا، وتضطرم النار في أضلعها، ومن المشهد كلّه يلوح أنّ القادم لا يُبشِّر بالخير أبدًا على الجميع:
ـ وعلى فكرة انا فاهمة كلامك كويس جدا لأني بتكلم مصري كويس جدا عشان انا عشت طفولتي كلها في 'مصر' ، وعلشان بردو تعملي حسابك إني مش ضعيفة ولا هينة ولا بخاف ولا بكش من الصوت العالي، ولا إنك تشتميني ده شيء يهزني ، no problem لاني ما اتعودتش أرِد على حدا بقلة ذوق .
بقيت "رحمة" واقفة في مكانها، لا تدري ما تصنع أمام كمّ البرود الذي تراه من "كارما"، فضلاً عن نظراتها وكلامها اللذين يدلان على أنّها قوية جدًّا وليست بالهيّنة. ولم تعتد "رحمة" أن يقف أحد في وجهها بالحدّة ذاتها، فقاربت منها وهي تشدّ بيديها، راغبةً في طردها إلى الخارج، رافعةً صوتها صارخةً كي يسمعها "ماهر" حين أبصرته خارجًا من الغرفة قُبالتها قبل أن يهبط إلى السُّلم:
ـ طب تمام يلا بقى يا ماما من غير مطرود خلاص معايزاش مربية لبتي، ويكون في معلومك اني اهنه صاحبة البيت ،واني اهنه اللي ليا الكلمة ومعايزكيش تقعدي اهنه لحظة واحدة، وارجعي على بلدكم ولا روحي مطرح ما انتي جاية.
لم تُعجب "كارما" بـطريقة "رحمة" العدائية معها، ولا جرأتها على لمسها، والادهى أنها كانت ستضربها، فأنزلت يد "رحمة" بكلّ قوّةٍ مستفزّة، وحين همّت "رحمة" أن ترفع يدها لتلطمها على وجهها، رفعت "كارما" يدها في الهواء بكلّ شدّةٍ وتحدٍّ، واقتربت منها محذّرةً بصرامةٍ ورهبة أنّها في الأصل مدرَّبة على اللياقة البدنيّة وفنون "الكونغ فو" :
ـ حسبي ايدك توجعك وما تحاوليش تمدي ايدك عليا نهائي، ده اسلوب غير حضاري لا يليق بمكانتك ولا تعليمك، ولا يليق بانك ام لبنت جميلة ولطيفة مِتِل "فيروز" او كنتِ مرات "ماهر البنان"، انا مش عايزه اقابل الضـ.ــرب بضـ.ــرب، ولا اقابل الإهانة بإهانة لان ده مش اسلوبي ،بس برده مش هسمح لك تمدي ايدك عليا لاني اللي راح يمد يده علي وكيف ما بتقولوا بالمصري أمه داعية عليه .
هنا قد وصل "ماهر" عندهم في تلك اللحظة، ولم يُعجبه ما يجري، على الرغم من علمه بأنّ كلّ ذلك سيحدث، بل وأنّ مشهدًا أكبر منه سيقع، غير أنّه لم يستطع الاحتمال، فطلب من "كارما" أن تصعد إلى "فيروز"، وهو يُلقي على "رحمة" نظراتٍ يملؤها التحدّي الكبير، فرفعت "رحمة" صوتها برفضٍ قاطع أمامه وقد بلغت ذروة العصبيّة :
ـ يعني ايه تطلع عند بتي واني مش موافقة ان هي توبقى المربية بتاعتها؟!
انت اكده هتتحداني يا "ماهر" وهتخلي حتة البتاعة داي تقف ما بيني وما بينك، واظن من حقي أختار المربية معاك اللي تنفع لبتي واللي اني شايفاها مناسبة، والبت داي لازم تمشي من اهنه دلوك يا اما هقلبها لك جنازة النهاردة.
لم يُبالِ "ماهر" بطريقة "رحمة" ولا بعصبيّتها، إذ كان قد اعتاد عليها، وواثقًا بأنّ الموقف سيقع على هذا النحو حرفًا بحرف، فالتفت إلى "كارما" بعينيه، وأشار لها أن تصعد إلى "فيروز"، غير عابئ بكلمات "رحمة" ولا واضعٍ لها في ميزان اعتباره، هنالك لم تُعجب "رحمة" طريقة تجاهله، وكيف لم يُعطِ لرأيها أيّ قيمة؟! فتجمّعت جيوش الغضب في عينيها كأنّها سحبٌ داكنة على وشك الانفجار، فدفعت "ماهر" في صدره بكلّ ما أوتيت من قوّة، ثم هرولت تصعد السُّلم خلف "كارما"، عاقدة العزم على أن تُنزلها غصباً بل وتجرَّها من شعرها ،إلا أنّ "ماهر" لحق بها، فأمسك يدها بقوّةٍ كالسلسلة المنيعة، وجرَّها إلى غرفة المكتب قسرًا، ثم أغلق الباب بالمفتاح، وأسندها عليه حتى غدت محصورة ما بين ذراعيه والباب كالعصفور في قبضة الصيّاد، ثم تكلّم بتحدٍّ يأمرها، ونبراته أشبه بحدّ السيف لا يقبل ارتجافًا ولا تردّدًا حتى قال بصوت عميق يقطر قسوةً وهو يقترب منها خطوة بعد خطوة كل خطوة منه كأنها طعنة في قلبها:
– رحمة… إنتي مفكِرة إن اللي عميلتيه دي هزار؟ فاكرة إنك هتلعبي في حياتي وتعلّي صوتك قدام الناس وتوقفي قدام ضيوفي بالشكل دي وأني هسكت لك؟
لاه يا "رحمة" والف لاه، من الليلة داي هتفهمي إن " ماهر" مش أي راجل، وإنك لو نسيتِ مين له الكلمة اهنه في البيت فأني بقى عشان أفكرك.
ارتجف قلبها للحظة من وقع صوته الذي بدا كسوطٍ يجلد روحها، لكنها لم تتراجع، بل تقدّمت نحوه بخطوات متوترة، عيناها مغرورقتان بالدموع التي رفضت الانحدار، ورفعت رأسها بكل عناد، وشفتاها ترتعشان بين الرغبة في الصراخ والخوف من الانكسار،
فـقالت وهي ترمي الكلمات في وجهه كأنها حجارة ثقيلة:
– له الكلمة اهنه في البيت؟! من إمتى بقى يا "ماهر" ؟ من ميته وانت هتاخد قرارات تخصنا وتدخل حد اهنه البيت غصب عني واني ما رايدهوش؟!
انت نسيت إني شريكتك في كل حاجة؟ انت بقيت عامل اكده لي وما هتفتكرليش اي حاجة حلوة عميلتها وياك ولساتك هتعاقبني على غلطة غلطتها غصب عني مش بكيفي ؟
من ميتى نسيت إني وقفت جنبك يوم ما كانش ليك سند ودعمتك وعمري ما اتخليت عنك ؟! دلوك جاي تهينني قدام الغريبة اللي جايبها من برّه؟ جايبها وأني شايفة الضحكة اللي على وشّك وإنت ماشي جنبها؟! ،
وتابعت حديثها برفضٍ قاطع، محاولةً أن تستفزّ "ماهر" بكلماتها، لتدفعه إلى فقدان سيطرته، أو لعلّها تسعى أن تردّ له الإهانة التي ألحقها بها حين جاء بتلك الفتاة إلى البيت بطريقته المستفزّة كي يغيظها بها :
ـ أني مش هقبل يا "ماهر" مش هقبل إنك تقتـ.ــلني كل يوم بالسكوت وبالنظرات اللي بقت مش ليا، ومش اسلوبك ولا يليق عليك انك تجيب واحدة زي دي البيت علشان تغيظني بيها الحاجات دي الرجالة ما يعملوهاش عشان الكيد مش من صفاتهم .
اشتعل وجهه بالغضب، وصوته ارتفع حتى اهتزّت أركان المكتب، وكأن بركانًا قد انفـ.ـجر بين الجدران ثم قبض على الطاولة بيده حتى ابيضّت مفاصله، وعروقه تنبض بحدة تحت جلده وصـ.ـرخ قائلاً:
– بلاش لعب بالنـ.ـار يا "رحمة" ! أني ما جبتش "كارما" عشان اغيظك ولا الحوارات الهبلة اللي هتحطيها في دماغك دي، ولا اني بقيت أفكِر فيكي اصلا علشان احطك في دماغي او أغيظك زي ما انتي ما متخيلة بعقلك الصغير دي، أني جبتها عشان بتي، عشان "فيروز" توبقى في حضن حد يعرف يعني إيه حنية وأمان، إنتي آخر فترة بقيتِ عايشة في عالمك، مشغولة بموبايلك وبشغلك، وسايبة البنت تضيع قدام عينيك ،نسيتِ اللي حصل في الأسانسير؟! نسيتِ إن يد بتك كانت هتضيع بسبب إهمالك؟! إزاي بعد كل دي شايفة المشكلة إنها بسيطة وهي كبيرة قوي في نظري؟
شعرت كلماته كأنها سهام اخترقت صدرها، نكأت جرحها الذي ما زال ينزف منذ حادثة ابنتها،وضعت يدها على صدرها وكأنها تحاول أن تحمي قلبها من الانفـ.ـجار، ثم رفعت وجهها نحوه، ودموعها أخيرًا انطلقت بحرارة، لكن عينيها ما زالتا تشعّان قوةً لم تخمد،
وتمتمت بصوت متقطع بين البكاء والغضب:
– أني أمّها يا "ماهر" ، أني اللي شايلة وجعها في قلبي، أني اللي كنت هنهار يومها من اللي حوصل وهتعاقبني عليه بقسوة ،إزاي تسمح لنفسك تقول إني وحشة وإني منفعش أم وأني بنجح وبشتغل علشان تطلع تلاقي أم زينة تفتخر بيها ؟ إزاي تجرّحني بالكلام دي وأني عايشة أعدّ لحظات عشان أصلّح اللي فات؟! إنت فاكر نفسك بتربيني اكده؟! لاه يا "ماهر" إنت بتهدّني، وإنت مش واخد بالك إنك كل كلمة بتقولها بتكـ.ـسرني حتّة ورا التانية.
تقدّم نحوها بسرعة، كأن المسافة بينهما لم تعد تحتمل هذا الانفـ.ــجار، حتى صار قريبًا جدًا منها، يحدّق في عينيها بعـ.ــنفٍ لا يلين، وصوته انخفض لكنّه صار أكثر خطرًا من أي صراخ وقال ببطء، كمن يخطّ حُكمًا نهائيًا:
– أيوة يا "رحمة" أني هربّيكي ،وهخليكي تفهمي إن اللي حوصل مش هيعدّي اكده بالساهل، ومش بس اكده هبكيكي على إهمالك لحتة من قلبي ، إنتِ محتاجة تتعلمي إن في حاجات مش لعب، مش مزاج، "فيروز" عندي أهم من أي كبرياء ليكي، ولو على جثتي أشوفها تتأذي تاني بسببك، ومن النهاردة أني مش هسيب لك أي مساحة تلعبي فيها.
شهقت شهقةً طويلة، واخـ.ـتنقت معها أنفاسها، وأحسّت أن الغرفة تدور بها، كأن الأرض انسحبت من تحت قدميها، كانت كلمات "ماهر" تقتلع ما تبقى من جذور ثقتها بنفسها، لكنها في الوقت نفسه أجّجت نيران التحدي في أعماقها، فمسحت دموعها بكفها المرتعشة، ثم رفعت رأسها من جديد، كأنها ترفض أن تمـ.ـوت واقفة ورددت بعنادٍ يائس، وصوتها يتهدّج لكنه يصرّ على البقاء صلبًا:
– ربّيني يا "ماهر" كيف ما إنت عايز، وإكسـ.ـرني كيف ما إنت شايف، بس اوعى تنسى إن "رحمة" مش لعبة في يدك، ومش حدّ ينهزم بسهولة، يمكن النهاردة بكيت، يمكن انهزمت قدامك، لكن بكره هتشوف إن النـ.ـار اللي ولّعـ.ـتها جوايا مش هتطفيها بكلمة تهديد ولا بنظرة قسوة.
ساد الصمت بينهما للحظة، صمت مثقل بالتحدي والدموع، كأن جدارًا من النـ.ـار قد ارتفع بينهما ،هو واقف عيناه تقدحان الغضب والعزم، وهي واقفة، دموعها تنحدر لكن عينيها تتحديان الهزيمة نفسها، كان المكتب قد تحوّل إلى ساحة معركة صامتة، لا سيوف فيها ولا بنادق، لكن كل كلمة وكل نظرة كانت أفتك من أي سلاح.
