رواية وريث آل نصران الجزء الثالث الفصل المائة والخمسون
الخاتمة (غالية عيسى نصران)
#رواية_وريث_آل_نصران (الجزء التالت)
ملحوظة: الفصل هينزل على بوستين علشان الفيس مش قابله كله
بسم الله الرحمن الرحيم
يوم بدأت سرد حكايتي كنت أظن أن الهوى ذنبٌ، والحب لا يجدي، واليوم في وداعي لكم أدركت كم أنا مغفل، الحب هو الذي عالج جراحي أنا الذي لم يعرف الدواء يومًا ما، حبكم هو الذي دفعني لرفقتكم، وهيامي بملك هو من دفعني لنسختي الحالية، وعشقي لغالية هو من جعلني أحيا، لقد أدركت أن الحياة لا تصلح إلا به معكم ومعهما لذلك أخبركم أنا "عيسى نصران" رفيق رحلتكم الذي سيغادركم هنا بعد هذه المحطة الأخيرة أن كرهه خالص للجميع إلا أنتم يا أغلى الرفاق.
-عيسى نصران-
************************************************
في الأحلام تزهر أجنجتنا، يمكننا التحليق بخفة الفراشة، والشعور بأننا أخيرًا قادرين على التنفس، ولم تكن تصدق "ملك" أبدًا أن تعايش كل هذا في واقعها وليس في الحلم فقط.
احتضنتها عيناه بعد غيابه الذي حل معه ألم روحها، لا تصدق أنه، أنها أخيرًا شعرت بلمسته الحانية على كفها، أخرجها الطبيب برفقة الممرضة وبقى هو برفقة مجموعة من طاقمه في غرفة "عيسى"، شعرت وكأنها أخيرًا تستطيع استنشاق الهواء، فرحة عارمة سيطرت على الجميع بعدما أخبرهم الطبيب بإفاقته ولكن طالبهم بالانتظار من أجل راحته والاطمئنان عليه
نزلت دموع "نصران" وقلبه تصادقه السعادة أخيرًا ومن حوله "رفيدة" التي احتضنها و"حسن" الذي مسح على كتف شقيقته بغبطة، و"طاهر" الذي حدث والده بارتياح:
الحمد لله يا بابا، الحمد لله.
ونطقت "سهام" بابتسامة لزوجها:
ربنا استجاب لدعاك يا "نصران".
في نفس التوقيت حضرت الممرضة وحثت "ملك" على العودة إلى غرفتها نظرًا لحالتها الصحية بعد ولادتها التي لم تمر بسهولة، ذهبت معها والدتها وشقيقتيها، واطمأنت بقول والدتها:
ربنا ريح قلبك يا بنتي.
أدركت أنه فاق حقا لم يكن هذا وهمها، تحدثت "مريم" تشاكسها:
فاق بعد ما بنته اتولدت، لازم تاخدي موقف بدأها من بدري تفضيل ما بينكم.
_ عندك حق يا "مريم" أنا كمان شايفة كده، لازم وقفة من دلوقتي.
ما إن أنهت "شهد" جملتها حتى وبختهما والدتهما:
والله ما حد لازم له وقفة غير أنتوا الاتنين.
لم تكن "ملك" معهن، كانت الابتسامة تزين وجهها وهي تتذكر مشهد حدث قبل قليل، عيناها في عينيه أخيرًا تروي ظمأها منه، تشعر الآن فقط أن للحياة معنى جميل للغاية، أن الحياة أصبحت أبهى برفقته، وتم الناقص فيها عندها بقدوم ابنتها "غالية" التي بالتأكيد سيسعد بها معذب فؤادها كما لم يسعد من قبل أبدًا.
***********************************************
في غرفته كان يشعر بتحركات الطاقم الطبي من حوله، ولكنه بدا كالغريق، يفيق لدقائق ثم يعود لثباته، انتبه على صوت الطبيب الذي ناداه فاستجاب له وهو يسعى بصعوبة للرد عليه، انتظر منه الطبيب أن ينطق بأي شيء، واستمع له أخيرًا يسأل بصعوبة:
ملك فين؟
_ أنت فاكر أخر حاجة حصلت يا "عيسى"؟
كان هذا سؤال الطبيب له والذي جعله ينظر حوله بتيه وعقل مشوش بدأ يظهر به ومضات من أخر الأحداث، أراد الطبيب أن ينبهه أكثر ويجعله يتسجيب معه فسأل:
حاسس بألم فين؟
وبجهد أشار ناحية صدره، فتابع الطبيب حركة يده مطمئنًا، وألقى على مسامعه:
نفسك ضيق صح؟
هز "عيسى" رأسه مؤكدًا هذا، وأنصت للواقف أمامه والذي سأل:
في دوشة ولا سامعني بوضوح؟
كان صوته مبحوحًا استطاع بصعوبة إخراجه ليقول:
سامعك.
حرك طبيبه رأسه مطمئنًا، ثم طالب الممرضة بفعل شيء ما، وفي أثناء خروجه سمعه يسأل للمرة الثانية:
"ملك"
يشعر بثقل شديد على صدره ولهذا طالبه الطبيب بالراحة وهو يخبره:
شوية وهتجيلك، ارتاح بس دلوقتي.
تركه برفقة الممرضة بعد توصياته لها وتحرك خارج الغرفة، أول من قابله كان "طاهر" برفقة "نصران" و"حسن"، سأله نصران عن حالة ابنه ورد الطبيب:
هو لسه طبعا مشوش شوية لازم نراعي هو قايم من إيه، كمان في مشكلة في التنفس بس إن شاء الله محلولة المهم إنه بخير دلوقتي، وهنتطمن عليه أكتر لما تقابلوه، وتتكلموا معاه.
ورغم قلقهم الشديد من حديثه ولكن أخر جملة كانت كطوق النجاة بالنسبة لنصران فطالبه:
طب احنا عايزين ندخله.
_ حضرتك بس ممكن تدخل دلوقتي.
كان "نصران" ممتنًا للغاية بسبب هذا الجواب، لم ينتظر أكثر، دخل إلى غرفة ابنه ونطق اسمه بلهفة وهو يقترب من فراشه، رفع "عيسى" عينيه إليه وشعر أن تيهه ذهب عنه، تناول "نصران" كفه وهو يقول بعينين دامعتين:
الحمد لله يا بني إني شوفتك قايم من اللي كنت فيه، أنا كان هيجرالي حاجه يا "عيسى".
ابتسم له "عيسى" وبذل كل جهده حتى يقبل كف والده التي تحتضن كفه، عرف فؤاد "نصران" أخيرًا الراحة، ولم يصدق أذنيه وهو يسمع نبرة ابنه الضعيفة:
بعد الشر عليك يا حبيبي.
مال "نصران" مقبلا رأس ابنه الذي سأله وهو يحاول التيقن إن كان هذا حدث حقا أم لا:
هي ملك ولدت؟
هز "نصران" له رأسه بابتسامة سعيدة وهو يمسح على خصلاته وطالبه بالراحة وهو يرى كم من الصعب عليه النطق بأي شيء ولكن تغلب عيسى على هذا هامسا:
"غالية" صح؟
_ اه يا حبيبي، جابتلك اللي هتعرفك أنت تاعبني ازاي.
كان هذا رد "نصران" الذي ابتسم عليه "عيسى" ورغم سماعه هتاف الممرضة:
كفاية كده يا حاج.
إلا أنه طالب والده برجاء:
هاتلي "ملك".
حرك والده رأسه موافقًا وهو يرى رجاء ابنه في عينيه، مسح على وجهه وهو يعده:
شوية وهجبهالك يا حبيبي.
وصدقه والده الوعد، بعد عدة ساعات فاق من نومه ليجدها جالسة على المقعد جواره، رأت اللهفة في عينيه كما لمحها هو أيضًا وهي تصرح له وقد انعكس الشوق بينهما كمرآتين تواجهتا:
وحشتني أوي.
ابتسم لها بوهن وهو يرد بصوت متقطع بما يتذكره حقًا:
أنا سمعتك بتكلميني، سمعت صوتك.
رأت لمعة الدموع في عينيه وهو يسألها رغم إنهاكه:
مين سماها "غالية"؟
ردت على سؤاله بابتسامة حانية:
أنا اللي سمتها، هي كمان مستنياك على فكرة.
أتى ليتحدث فوضعت سبابتها بخفة على شفتيه وهي تلقي على مسامعه بنبرة رافقتها العاطفة ما أطرب فؤاده:
أنا بحبك أوي يا "عيسى"، بحبك أكتر ما أنت ممكن تتخيل، أنا روحي كانت معاك، ورجعتلي بس دلوقتي.
ضحك بخفوت، وبعينين مرهقتين شاكسها قائلا:
أنا محتاج أسمع من ده كتير، ياريت ميبقاش أخر الكلام ده عتبة المستشفى.
رأى ضحكتها التي زينت وجهها ثم مزاحها:
حتى وأنت مش قادر تتكلم بترخم عليا؟
وبعدين أنت قصدك إيه، أنا علطول بسمعك كلام من ده على فكرة.
هز رأسه نافيًا وهو يقول:
محصلش.
لا تصدق أنها تتحدث معه ويرد عليها، يستجيب لها، ترى ابتسامته، وتستمع لحديثه المازح، مالت عليه تقبل رأسه بحنان وهي تخبره بصدق ونبرة مرتجفة:
هعملك كل اللي أنت عايزه بس أوعى تعمل فيا كده تاني، أوعى تسيبني يا "عيسى".
_ أنا أسف.
قالها بتأثر وهو يرى دموعها حين ابتعدت وقابلت عيناه عينيها، وطالبها برجاء متعب:
مش عايز أشوف دموعك يا "ملك"، بلاش تتعبيني.
رأت كم يبذل من جهد حتى يتحدث فأسرعت تمسح عينيها قبل أن تنزل عبراتها وهي تعده:
مش هتشوفها يا حبيبي.
أراد أن يرى ضحكتها، الحياة التي افتقدها، فعلق على قولها بابتسامة ونظراته لا تفلتها وكأنها ستهرب منه:
حلوه حبيبي دي بس مش لايقة مع البوسة اللي حطتيها على دماغي من شوية وكإني الست "هادية"، أفتكر في حاجا....
ولم يكمل جملته بسبب مقاطعتها له وقد رفعت حاجبيها بارتباك:
برضو قلة أدب، وبتوترني حتى وأنت في حالتك دي،
جرب تريح نفسك شوية وتكون مؤدب.
ضحك ولكن بدا على وجهه علامات الألم وحين رأى الهلع في عينيها سعى لطمأنتها:
متخافيش مفيش حاجة
وسعى للرد على اتهامها ينفي هذا عنه:
وعلى فكرة بقى أنا بقيت مؤدب، تنكري إني كذا مره أقول للست "هادية" حضرتك؟
ضحكت وهي لا تصدق ما ينطق به، ثم أخبرته وقد ذكرها بوالدتها:
كانت خايفة عليك أوي هي كمان.
هز رأسه نافيًا وهو يعلق على قولها:
مش مصدق، مفيش ضرة بتخاف على ضرتها أبدًا.
_ أنت محدش يعرف يبقى ضرتك يا "عيسى"، هتطفشه.
أخبرته بهذا وأسعدها رده:
علشان بحبك بس.
مالت عليه وقبلت وجنته في لحظة كانت أشبه بالسحر، ثم رفعت عينيها لتقابل عينيه وهي تهمس له:
غير بتاعة الست "هادية" أهو.
غمز لها وهو يطالبها هامسًا رغم ضعفه:
تاني علشان اتأكد.
وقبل أن ترد عليه استمعا لدقات على الباب فاعتدلت في جلستها وهي تسمع صوته قبل فتح الباب:
يا خوافة.
دخلت الممرضة وطالعتهما قبل أن تخبر "ملك" بابتسامة ودودة أن عليها العودة إلى غرفتها للراحة، ومن أجله أيضًا
بان ضيقه، ورفضه ولكن طالبته ملك بعينين راجيتين:
معلش يا عيسى، علشان ترتاح ولو الدكتور هيجيلك كمان.
_ عايز أشوف بنتي.
سمعت الممرضة طلبه، وصوته الذي بان فيه إثر تعبه فقالت:
مينفعش خالص دلوقتي، هي محتاجة رعاية كام يوم في الحضانة وإن شاء تبقى بخير، وياريت حضرتك ترتاح لحد ما الدكتور يجي.
وقبل أن يتسرب القلق إلى فؤاده كانت "ملك" تطمأنه وتمسح على كفه:
متخافش هي كويسة، أنا شوفتها واطمنت عليها، بلاش تقلق نفسك علشان خاطري.
حضر الطبيب، ورافقتها الممرضة إلى الخارج، تاركة المتواجد زوجها معه ولكن بقى فؤادها معلق هنا.
******************************
أنهكته الفحوصات التي يجريها الطبيب بين الحين والأخر، رغب "عيسى" بشدة في رؤية "طاهر"، معرفة ما حدث قبل استجواب الشرطة الذي يعلم أنه قادم لا محال، أغمض عينيه بتعب وهو يفكر في كل شيء، في رحلة اقترابه من الموـت، في ابنته، وزوجته وفي هذه الأثناء سمع دقات على الباب تبعها دخول "طاهر" برفقة رفيدة ووالدته
هرولت "رفيدة" ناحيته، ونطقت بعينين دامعتين:
حمد الله على سلامتك يا "عيسى".
حاول تهدأتها برفق وهو يطمأنها أنه بخير بكلماته:
متخافيش يا حبيبتي أنا كويس.
استمع إلى أخر صوت يريد سماعه الآن، زوجة والده تنطق بود يبغضه:
الحمد لله إنك قمت منها بالسلامة يا "عيسى".
لم يرد افتعال أي شيء قد يضايق "طاهر" الذي ينظر إليه والسعادة تلمع في عينيه فرحًا لرؤيته بخير، ويتبادل الحديث معهم لذلك رد عيسى بهدوء:
شكرا.
_ مراتك ولدت، جابت بنت.
قالتها "سهام" والشماتة تتراقص في عينيها، تذكره أن ابنها قبله في كل شيء، والحفيد الأول لن تزحزح مكانته ابنته.
بان الضيق على وجه "طاهر" إثر الطريقة التي تحدثت بها والدته، وحاول إصلاح الموقف قائلا بابتسامة:
ألف مبروك يا أبو غالية، هحبها أكتر منك علشان هتبقى عروسة ابني.
رد له "عيسى" الابتسامة وسمع بعدها "رفيدة" تعترض:
محدش هيحبها أكتر مني، أخيرا حد فيكم جاب بنوتة في البيت غيري، دي هتبقى البيست فريند بتاعتي.
صوب نظراته ناحية "سهام" وحدث شقيقته أخيرًا متغلبًا على إجهاده:
طبعا يا "رفيدة"، دي هيبقى عندها أحن عمة في الدنيا.
اتسعت ضحكتها ومال هو عليها هامسًا:
خدي سهام واخرجوا، عايز "طاهر" لوحدنا شوية.
هزت رأسها موافقة، ثم حدثت والدتها وهي تستقيم واقفة:
تعالي يا ماما نروح عند "ملك".
علمت "سهام" أنه من حرض ابنتها على فعل ذلك، ألقت عليه نظراتها التي بان فيها انزعاجها ولم يسمع "طاهر" همس "عيسى" الذي قال:
في داهية.
وما إن اطمئن لخروجهما حتى سأل "طاهر" بضيق شديد:
هو في إيه يا "طاهر" أنا مش قادر أتحرك خالص، وحاسس إن نفسي بيطلع بالعافية، والدكتور مبيقوليش حاجه.
اقترب منه "طاهر" وجلس على المقعد المجاور له وهو يقول:
أنت علطول كده عايز كل حاجه بسرعة، أنت كنت واخد طلقة وقعدت حبة مش داري بالدنيا، الحمد لله إنك قومت منها أي حاجه بعد كده سهلة.
_ هو في مشكلة يا "طاهر"؟
سأله بعينين بان القلق فيهما وطمأنه "طاهر" بابتسامة وهو يربت على كتفه:
أنت زي الفل، حكاية إنك مش قادر تتحرك دي طبيعي بعد اللي كنت فيه، هنمشي على علاج طبيعي شوية والدنيا هتتظبط، مشكلة النفس بقى الدكتور هيكتبلك أدوية وحاجات هنعملها وننتظم عليها فترة وإن شاء الله هتلاقيها بتقل تدريجي مع الوقت.
أراد "عيسى" الصدق لذلك سأل "طاهر" بتشكيك:
بجد ولا بتضحك عليا؟
_ والله العظيم بجد، وبعدين مال قلبك بقى خفيف كده ليه، مش ده "عيسى" اللي أنا أعرفه لا.
قال جملته الأخيرة يمازحه وحين رأى ابتسامته نطق مبديًا ندمه وكأنه السبب في كل ما حدث:
حقك عليا يا "عيسى"، كان المفروض أنا اللي ابقى مكانك دلوقتي، أنا عارف من أول موضوع "شهد" إنه قاصدني و...
لم يكمل حديثه بسبب مقاطعة "عيسى" له والذي أبدى اعتراضه قائلا:
بلاش كلام فاضي، كفاية عليا ضيق التنفس اللي أنا فيه متزودهوش بكلامك.
ابتسم "طاهر" على قول أخيه، هذا الذي لطالما تنازل من أجله عن أشياء هو على يقين من أن لو أحد غيره لما فعل ذلك، انتبه على سؤاله الذي بان فيه شوقه:
شوفت "غالية"؟
هز له "طاهر" رأسه وهو يخبره بمشاعر حب صادقة تجاه الصغيرة:
شوفتها، حاجة صغيرة خالص محطوطة في السرير، عارف يا "عيسى" لما شوفتها حسيت بنفس الإحساس اللي جالي يوم ولادة "يزيد"، حسيت إني بقيت أب تاني وأنا شايفها بتحرك إيديها الصغيرين، هتحبني أوي على فكرة يمكن أكتر ما يزيد بيحبك كمان.
لامس حديثه "عيسى" الذي أكد له بابتسامة وهو يطالعه بامتنان لشعوره الصادق تجاه ابنته:
علشان أنت أب مفيش منك يا "طاهر".
سعد فؤاد "طاهر" قبل أن ينطق وقد رافقته الراحة أخيرًا:
الحمد لله إنك كويس يا "عيسى".
ثم رأى "طاهر" في عينيه أن سيسأل عما حدث بعدما أصيب على يد "شاكر" فقرر التهرب امتثالا لتعليمات "نصران" ونطق:
اسيبك بقى ترتاح شوية، وعلشان الدكتور هيجيلك تاني دلوقتي.
أخبره "عيسى" بأنه يكشف ألاعيبه حين قال:
أنا عارف كده كده إنك مش هتقولي حاجه، ابعتلي "حسن" بقى.
_ جرب ترتاح اليومين دول شوية، صدقني ده شعور جميل جدا هتتحرم منه أول ما ترجع البيت علشان "غالية" مش هتنيمك ساعتين مرتاح.
قال له "طاهر" هذا غامزًا ثم غادر قبل أن يسمع منه أي اعتراض بينما في نفس التوقيت وفي حديقة منزل والدها جلست "بيريهان" شاردة في اللاشيء، ولم تنتبه إلا على صوت "ندى" التي حضرت للتو وتسألها:
عاملة إيه النهارده يا "بيري"؟
_ زي كل يوم.
قالت هذا وعادت لصمتها من جديد والذي قطعه اقتراح "ندى" التي أصابها الحزن من أجل حالة ابنة عمها حقًا:
ما تفكري في موضوع المستشفى اللي دكتور نور اقترحها دي، روحي قضي هناك يومين وصفي دماغك من كل الدوشة دي.
احتدت نظراتها وهي ترد باستنكار لما يقال:
أنتِ كمان شايفة إني اتجننت واترمي في مصحة أحسن.
ودافعت "ندى" مسرعة وهي تحاول إقناعها بإلحاح:
محدش شايف كده، إحنا خايفين عليكي، علطول ساكتة ومش عارفه ترجعي تمارسي حياتك تاني، وعلى فكرة المصحة مش بيدخلها الناس اللي اتجننت، في ناس مرت بصدمات ومقدرتش تتعامل معاها فبتروح هناك علشان تلاقي متخصصين يساعدوها في ده.
تحدثت "بيريهان" تعليقًا على حديث ابنة عمها:
بمناسبة الصدمات، بابا هيتشال من الوزارة اليومين الجايين.
شهقت "ندى" بغير تصديق، وعلقت "بيريهان" بخيبة أمل:
ده أقل واجب بعد اللي حصل.
اقتربت "ندى" تحتضن ابنة عمها وهي تحاول بث الأمل داخلها:
كل حاجة هتكون أحسن.
_ أنا بس خايفة أوي على بابا، هو قال إنه مأمن نفسه، وهيحل كام حاجه ونسافر، مش عايزاه يتأذي بسبب الحيوان اللي كان في حياتي، تعرفي إني حاسة إن بابا زعلان على الوزارة أكتر ما كان زعلان عليا؟
قالت جملتها الأخيرة بيأس وعينين دامعتين مما جعل "ندى" تسعى للتخفيف عنها:
يا "بيري" متقوليش كده يا حبيبتي، علشان خاطري ساعدي نفسك تنسي اللي فات.
حل الصمت لدقائق وهي تحتويها وتمسد على ظهرها، طلبت "ندى" من الخادمة إحضار كوب من العصير لابنة عمها، وفي هذه الأثناء اعتدلت "بيريهان" تسألها والذنب يكاد يفتك بها:
مفيش جديد عن "عيسى".
منذ ذلك اليوم الذي علمت فيه بما حدث من والدها وهي تشعر بأنها السبب في كل سوء مس أي أحد عرفها يومًا ما، حادث تبادل إطلاق الناـر هذا والذي نتج عنه إصابة من لطالما حذرها من هذه الزيجة، وتورط اسم والدها بحكمه والد زوجة "شاكر"، والكثير، والكثير، تتذكر أخر تسجيل صوتي أرسله لها "شاكر"، حدثتها نفسها حينها أنه لا ينوي الخير، وصدق إحساسها، انتبهت أخيرًا حين قالت "ندى":
هو فاق، وإن شاء الله فترة وهيبقى كويس.
رأت "ندى" الحياة تدب في نظرات ابنة عمها والتي سألتها بلهفة:
بجد فاق، وليه مقولتليش؟
ردت عليها تبرر عدم إخبارها:
صدقيني أنا لسه عارفة من "باسم".
_ مش أنتِ عايزاني أبقى كويسة؟
كان هذا سؤال "بيريهان" لابنة عمها، هزت "ندى" رأسها بتخوف من طلبها الذي بالتأكيد لن يكون إلا كارثة، وكما توقعت تمامًا وجدت حيث سمعتها تقول:
ساعديني أروح لشاكر.
******************************************
وأخيرًا أتى إليه "حسن" والذي جعله والده أخر من يدخل إليه، وما إن دخل غرفة "عيسى" حتى نطق بضحكة واسعة:
لا ده أنا شايف إنك تروح معانا بقى.
_ أول ما افتكرت تيجي تشوفني.
قاله له هذا بعتاب، وبرر "حسن" بصدق:
والله الحاج هو اللي كان عمال يحطلي مشاوير على دماغي كل ما يلاقيني خلاص هدخلك.
ثم ابتسم وهو يطالعه متابعًا:
بس الحمد لله أنت زي الحصان أهو، يا شيخ غلبتنا معاك حبة حلوين، أنا كنت حاسس إني خلاص هستقر في المستشفى، وهتبقى مهمتي الفصل بين ماما و"شهد".
أبدى "عيسى" استغرابه فوضح له "حسن" وهو يضحك أثناء جلوسه على المقعد المجاور لفراشه:
دول عملوا عمايل، احنا المستشفى حفظتنا بسببهم، وكل شوية
ثم قلد والدته وهي تقول:
عاجبك التصرفات دي يا "طاهر"؟
و"شهد" هي الأخرى:
ينفع اللي أمك بتعمله ده يا "طاهر"؟
ضحك "عيسى" بصعوبة ووضع يده على صدره إثر الألم فنبهه "حسن":
لا اهدى كده، أحسن أنت لو اتخذشت وأنا عندك الحاج نصران هيخلص عليا.
هدأ بالفعل ولكن بقت ابتسامته والتي اتسعت مع قول "حسن":
هو أنا عارف إني بحبك، بس مكنتش أعرف إني بحبك أوي كده.
ولم يتوقع أن يكون رد "عيسى":
تصدق بالله، أنت واخواتك الحسنة الوحيدة في حياة أمكم.
ضحك "حسن" بغير تصديق ثم وبخه مازحًا:
أنا نفسي تبطل تحط أمي في دماغك، خسارة فيك دعواتها ليك طول ما أنت هنا.
ضحك "عيسى" في داخله ساخرًا، لم ينطق بشيء، لن يجعل "حسن" يمر بما مر به "طاهر"، لن يتحمل أن يرى في عينيه نظرة الإنكسار نفسها التي أصبح يراها في عين "طاهر" كلما أتت سيرة "سهام"، وكم يمقت أن يشعر "طاهر" بهذا.
رد عليه أخيرًا يمازحه أيضًا:
كتر خيرها يا عم، ربنا يكتر من دعواتها.
لاحظ "عيسى" أن "حسن" يبحث عن شيء ما في هاتفه فسأله باستغراب:
بتعمل إيه؟
اتسعت ابتسامة "حسن" ثم قرب الهاتف لأخيه وهو يقول بسعادة:
أنا حاولت أصورهالك سـ رقة كده، علشان تعرف بس غلاوتك.
جذب منه "عيسى" الهاتف بلهفة وهو يدقق في الصورة التي التقطها شقيقه للصغيرة، رأى "حسن" الدموع التي لمعت في مقلتيه وهو يحفظ تفاصيلها من الصورة، أصابعها الصغيرة والتي تضع أحدهم في فمها، وملامحها المسترخية، شعر بأن روحه سُرِقت ولن يستردها إلا حين يحملها بين يديه، سأل بأمل ونظراته مازالت مثبتة على الهاتف:
هي لسه في الحضانة؟
هز "حسن" رأسه بنعم، بينما كان "عيسى" يطالع ابنته التي رأى فيها دواء سنينه العجاف التي مضت، وحلاوة أيامه التي ستأتي برفقتها.
طمأنه "حسن" بقول:
الدكتور قال بكرا إن شاء الله ممكن نستخدم كرسي مؤقتًا، هبقى اخدك أوديك ليها.
_ ليه مش دلوقتي؟
سأل ورغبته في رؤيتها تعميه عن أي شيء أخر، ورد "حسن":
معلش تعالى على نفسك شوية، واسمع كلام الدكتور.
اضطر أن يرضخ، وعاد إلى النظر لصورتها من جديد، نادى "حسن" أثناء ذلك وتوقع الأخير أن يسأله عن شيء يخصها ولكنه تفاجأ به يسأل:
مقولتليش بقى، "شاكر" حصله إيه؟
طالعه "حسن" بغيظ ثم نطق بما قاله والده قبل قليل:
تصدق يا "عيسى" أبوك كان عنده حق ميخلينيش أدخلك، على رأيه صحيح يموـت الزمار وصوابعه بتلعب.
لم يعجب "عيسى" تهربه فاعترض قائلا:
زمار مين وطبال مين ما ترد يالا على السؤال، وتحكيلي اللي حصل.
ولم يأخذ الجواب حيث وجد والده يدخل بغتة دون أن يدق على الباب، ونطق بحزم:
كفاية كده يا "حسن" على أخوك، يلا أخرج وصل أمك وأختك.
فراوغه "عيسى" وهو يحاول الانفراد بأخيه:
ما تسيبه يبات معايا النهارده يا حاج.
فرد عليه مستخدمًا نفس طريقته:
أنا هفضل معاك يا روح الحاج.
ابتسم "حسن" بشماتة، واستقام مسرعًا ليغادر وهو يرى نطرات التوعد التي يلقيها عليه شقيقه، وما إن خرج حتى قال "عيسى":
طب هي "ملك" كويسة؟
_ ملك كويسة وبترتاح، ارتاح أنت كمان.
أخبره والده بهذا وهو يجلس جواره، فطالبه "عيسى" برفق:
طب روح أنت كمان ارتاح، وأنا لو احتاجت حاجة هـ..
لم يكمل جملته بسبب والده الذي قاطعه بحدة:
بص بقى يا عيسى، لا "بشير" ولا "حسن" هيدخلولك إلا وأنا موجود، دور على حد غيرهم تستفرد بيه، وبما إني عارف إنك مش هتلاقي فريح نفسك واسمع كلام الدكتور ومتفكرش في حاجة النهاردة، وبكرا إن شاء الله لما أحب أعرفك حاجة هعرفهالك.
سأله "عيسى" بنظرات تصنع فيها لومه:
مش ده الحاج "نصران" اللي أعرفه، أنت بقيت مش سهل كده امتى؟
ضحك "نصران" ثم نطق بهدوء:
نام يا "عيسى" الله يهديك.
بعد جملته هذه استمعا إلى دقات على الباب تبعها دخول "بشير"، اتسعت ابتسامة "عيسى"، ورأى صديقه وهو يقترب ووالده يقول:
تعالى شوف صاحبك اللي مغلبني.
_ هو مغلبنا كلنا والله يا حاج.
كل "بشير" هذا بابتسامة وهو يجلس جوار "نصران"، تناسى كل أزماته الحالية وهو يرى صديقه بخير، ويحدثهم بعد فترة كانت الأصعب على الجميع
انتبه على سؤال "عيسى" الذي قال:
أنت قولتلي إنك مش عايز تخسر صاحبك الوحيد؟
استغرب "بشير" كيف له أن يعرف هذا وهو كان حينها في غيبوبته، بل أكمل "عيسى" يشرح له المشهد بالتفصيل:
كنت قاعد جنب السرير هنا، أنا شوفتك وسمعتك.
_ ازاي وأنت مكنتش فايق؟
سأل "بشير" بدهشة ورد "عيسى":
معرفش بس أنا شوفت وسمعت حاجات كتير أوي الفترة دي.
ردعه "نصران" عن قص أي شيء مما مر به بقوله:
متحكيش ولا تقول حاجة من اللي شوفتها ولا سمعتها، خليها بينك وبين نفسك، سواء الحلو أو الوحش، الحمد لله إنه ردك من رقدتك دي، لكن اللي بيشوف حاجة المفروض ميحكيهاش.
كان هذا ما يؤمن به "نصران"، وتيقن الآن من أن ابنه عاد من موـت محقق، لطالما سمع عن حكايات من مروا بما يشبه ما مر به، كان يذكر الله ويحمده على لطفه، وفي هذه الأثناء نطق "عيسى" بنبرة منخفضة لصديقه:
عايز أقعد معاك قعدة طويلة، بس شكلك بيقول إنك شايل الهم وأنا مش ناقص.
_ متشغلش بالك بيا، المهم أنت.
حاول "بشير" طمأنته بهذا حتى لا يشغله بهمومه هو أيضًا، بعلاقته مع "علا" التي تأزمت بعد كل ما حدث، وتتسبب الآن في أرقه، انتبه على همس "عيسى":
"شاكر" عايش؟
نظر "بشير" إلى "نصران" بتوتر وحدث صديقه بنفس الهمس:
إيه بيخليك تقول كده؟
وعلق "عيسى" ساخرًا بحرص ألا يسمعه والده الذي أراح رأسه على المقعد:
علشان الكماشة اللي الحاج عاملها دي وخوفه إني أعرف حاجه تضايقني بيقولوا كتير، لو كان غار كان زمانكم قولتوا من أول ما فوقت.
وقبل أن ينطق "بشير" فتح "نصران" عينيه وحذر "بشير":
لو رديت عليه، الدكاترة هيشوفوا ليك سرير جنبه.
ونظر إلى ابنه متابعًا تحذيراته:
وأنت عدي ليلتك، واتقيني النهارده أحسنلك، بكرا ابقى اتنطط واسأل براحتك.
وأشار على كليهما خاتمًا:
مش على أخر الزمن مش هعرف أمشي كلمتي على اتنين زيكم.
_ عاجبك كده، جبتلنا التهزيق.
قال "بشير" هذا بغيظ لصديقه، الذي كان يتبادل النظرات مع والده وقبل أن ينطق نصران مجددا هتف متراجعًا:
حاضر هنام وأسكت، متردش عليا لو كلمتك يا بشير.
ضحك "بشير" على صديقه وهو يراه يتصنع النوم ثم يختلس النظرات نحوه بين الحين والأخر عله يحصل على أي جواب يريحه.
******************************************
كانت "ندى" شاردة أثناء جلوسها أمام التلفاز، لم تنتبه لدخول "باسم" الذي ألقى بمفاتيحه على الطاولة بإهمال، طالعها بتفحص قبل أن يناديها وأخيرا انتبهت له فسألها باستغراب:
مالك؟
نفت وجود شيء بابتسامة قائلة:
مفيش
_مفيش ازاي بقى، ده أنا داخل بقالي ربع ساعة ومخدتيش بالك.
قال هذا ونظراته لا تفلتها، وسعت هي لإبعاد الشكوك عن رأسه بقولها:
صدقني مفيش حاجة مهمة، تحب نتغدى دلوقتي ولا بعد شوية؟
لم يرد في البداية ثم نطق أخيرًا تحت توتر نظراتها:
نتغدى ماشي.
استقامت واقفة وقد وجدت فرصتها في الهرب إلى المطبخ من أجل تحضير الغداء، ولكنها تفاجأت بمن يجذبها من ذراعها بغتة فسقطت على الأريكة جواره، بدا الغضب على وجهها وهي تسأله بانزعاج:
إيه يا "باسم"، في حد يعمل كده.
كان يحاوطها وشعرت بأنها وقعت في الفخ الذي نصبه لها، سألها وبعينيه إصرار على معرفة الجواب:
قولي في إيه الأول، وبعدين نشوف في حد يعمل كده ولا لا.
طالعت عينيه، ثم مسحت بأناملها على وجهه وهي تقول بابتسامة صادقة:
شكلك حلو النهاردة.
_ لا مش عليا الشويتين دول.
قال هذا وهو يدرك جيدًا أنها تحاول الهرب، فتمسحت به كهرة خائفة على الرغم من أن خوفها منه هو ثم صارحته:
خايفة أقولك تزعقلي وتتعصب، وأنا بتقفل أوي لما بتعمل حاجه من الاتنين دول.
دفن رأسه في عنقها وهو يهمس لها:
أوعدك مش هعمل حاجه من الاتنين دول، احكيلي يمكن أساعدك.
وعند قوله هذا والدفء الذي شعرت به بقربه صرحت:
بصراحة كده أنا لما روحت لبيري طلبت مني حاجة كده، وأنا فعلا عايزه أساعدها.
احتدت نظراته، وبان الضيق على وجهه وهو يسألها بسخرية والغيرة طاغية على نبرته:
خير؟
عايزه تاخدك وتزوروا "عيسى"؟
لو كان شخصًا غيره لما مررت نبرة الاتهام هذه، ولكن ولأنها تعلم حساسية هذا الأمر بالتحديد بالنسبة له رسمت ابتسامة على وجهها وهي تحاوط وجهه بكفيها تقسم له:
والله العظيم بحبك، ومفيش أي حاجة من اللي في دماغك بقت تيجي في بالي حتى، تعرف كمان إن أنا بقيت أزهق لما تروح الشغل؟
بدا التأثر على وجهه جليًا وتابعت هي:
أنا عمري ما كان ده بيحصلي على فكرة، يعني أنا بحب الخروج، والشوبينج، والنادي، بس بقالي فترة كده بحب لما بتيجي ونقعد سوا أكتر
ثم ابتسمت وضربته في صدره متابعة:
وبحب كمان هزارك البايخ وغلاستك عليا، وعليت في نظري أوي لما طلبت منك إن التعامل بيننا ميبقاش فيه أي زعيق حتى لو اتعصبت مني علشان تجربة أنا لسه متعافتش منها وأنت احترمت ده، أنا بحبك يا "باسم" بجد، واتطمنت على نفسي وأنا جنبك و....
لم تكمل ما أرادت قوله بسبب سبابته التي لامست شفتيها يطالبها بالصمت وهو يخبرها بعينين ترى اللهفة فيهما:
لو كنت قابلت حد يعرف يعمل فيا اللي أنتِ بتعمليه ده مكانش ضاع من عمري سنين كتير يا "ندى".
اتسعت ابتسامتها وقالت وهي تغمز له:
الحمد لله إنك ملقتش، ده حظي الحلو.
ثم ذكرته بما أرادت الحديث من أجله:
بس أنت برضو لسه معرفتش الحاجة اللي "بيري" عايزاني أساعدها فيها.
_ قولي.
حثها بترقب وأفصحت هي عما يشغل بالها منذ الصباح:
عايزة تروح تزور "شاكر" وعايزاني أساعدها.
نطق بابتسامة بعدما سمع ما تفوهت به:
بقولك إيه.
_ إيه؟
سألته بعينيها ورد هو بنفس ابتسامته:
قومي حضريلنا الغدا، وبلاش قلة مزاج على المسا.
احتدت نظراتها وهي تسأله بضيق:
هو ده اللي هتساعدني؟
فرد عليها بإنزعاج:
أساعدك ده لما تبقي عايزة تروحي تغيري عربيتك، مش إني أخد بنت عمك لواحد زي ده.
تعلقت برقبته وهي تلح عليه بدلال:
علشان خاطري يا "باسم"
سعى لإبعادها والهرب منها وهو يهتف:
أبوها يساعدها.
_ ده فيه اللي مكفيه وشكله هيتشال من الوزارة كمان و...
لم تكمل قولها بسبب اعتراضه:
حتى لو إيه، لو عايز يخليها تزوره بمكالمة تليفون هيعمل ده، بلاش تدخلينا في مشاكل مش بتاعتنا.
رأى تحولها وقولها بغضب وهي تبتعد عنه:
طب أنا زعلانة منك، ومفيش غدا.
أشاح برأسه وهو يقول:
أحسن، هو أنتِ بتعرفي تطبخي أصلا.
شهقت بغير تصديق وهي تستمع لجملته ثم حملت الوسادة وأخذت تضربه بها وهي تصيح:
لما أنا مبعرفش أطبخ بتخليني أعملك أكل كل يوم ليه؟
ثم اختارت له عقاب رادع وقالت بحسم:
أنت مش هتبات في الأوضة النهارده.
أنهت حديثها وهرولت تجاه الغرفة، وحين وصل ناحية الباب كانت تغلق هي بابها بالمفتاح من الداخل رغم سماعها ندائه:
افتحي يا "ندى".
لم ترد عليه رغم ابتسامتها التي زينت ثغرها وهو يقول:
طب أنا أسف طيب.
_ لما تقولي هتساعدني ولا لا.
هكذا ساومته ولم تتوقع رده حيث ضرب بقبضته على الباب الفاصل بينهما وهو يلقي على مسامعها:
يبقى اتفلقي.
وضاعف من غضبها بقول:
أنا هخرج أشوف حد اتغدى معاه بدل الـ....
ولم يكمل جملته بسبب فتحها للباب، كانت نظراتها متوعدة وهي تسأله:
يعني إيه تشوف حد تتغدى معاه، ومين دي اللي بتتلكك علشان تتخانق معايا وتخرجلها؟
ضحك بتسلية وتجاهل ما قالت وهو يدخل الغرفة التي كانت قد أغلقتها عليها قبل قليلا قائلا:
عقبال ما تحضري الغدا هغير هدومي وارتاح شوية.
ثم أرسل لها قبلة في الهواء قبل أن يغلق الباب مما جعلها تصرخ بانفعال:
ماشي يا "باسم"، والله هوريك.
أضحكه كل ما يحدث، بينما كانت هي في الخارج تغلي من الغيظ الذي تحول إلى ابتسامة وهي تسمع ضحكاته، أخذت تفكر كيف أصبح قادرًا بهذه الطريقة على بعثرة كيانها لتشعر برفقته أنها تتعرف على نفسها من جديد، والسبب هو.
******************************************
هناك صباحات لا نصدق أنها ستحل علينا حقًا يوما ما، كان منهم هذا الصباح، حيث أحضرت الممرضة مقعد متحرك لعيسى من أجل الذهاب لرؤية ابنته، رافقته الابتسامة وأتت إليه خالته التي قررت مرافقته إلى هناك، مسحت على رأسه وشعرت وكأنها عاد لذلك الصغير الذي رافقها للعيش معها، رأى الدموع في عينيها فسألها بحزن:
ليه الدموع دي؟
وردت عليه "ميرفت" بابتسامة حانية:
مش مصدقة إني شايفاك قدام عيني بخير، ولا مصدقة إنك بقيت أب، حاسة إني شايفة قصادي ابني الصغير اللي كان لازق فيا وكل ما أروح مكان يقولي يا خالتو خديني معاكي.
ضحك على جملتها الأخيرة وبدا التأثر في عينيه وعينيها حيث نطقت باعتذار صادق:
أنا أسفة إني مكنتش ليك السند اللي تتمناه، وعارفة إن أسفة دي مش هتعوض حاجة زي ما أنا عارفة بالظبط إن رغم كده أنت هتسامحني.
ربت على كفها وهو يطالبها برجاء:
خلاص يا "ميرفت" انسي، أنا كمان بحاول أنسى وهنسى، واللي فاتك معايا عوضيه مع "غالية".
هزت رأسها بأمل وهي تحتضن وجهه بين كفيها وتعده:
دي هتبقى حتة من روحي.
سعد بحبها الذي لم ينضب أبدًا عبر هذه السنين، رغم كل شيء يعلم أنها تحبه، ابتسم وحثها:
طب يلا بقى وديني أشوفها.
نفذت له طلبه، وذهب إلى هناك ليجد "ملك" تطالع عبر الحائل الزجاجي ابنتها، لم تنتبه لقدومه إلا حينما سمعت اسمها منه، تسارعت دقات فؤادها و"ميرفت" تقرب مقعده ليصبح أمام الفاصل الزجاجي، أشارت له "ميرڤت" على الصغيرة قائلة بمزاح في محاولة للتخفيف عنه:
شايف معقبانا كلنا ازاي، الظاهر إنها زهقت مننا طول الحمل فقررت ترتاح شوية بعيد، طالعالك.
كان في عالم أخر، تاه في الصغيرة، راقب من خلف الزجاج كل تفصيلة بها وهو لا يصدق أنه يرى حلمه الذي حققته له "ملك"، لمعت العبرات في مقلتيه، وشعر بأن الأنفاس المتبقية لديه سرقتها هذه الفتاة، سرقتها ابنته، كانت "ملك" تراقب ردة فعله، رأته متأثرًا في حالة لم تشهده عليها من قبل أبدًا، شعرت هي و "ميرفت" بأن هناك خطب ما، فمالت "ملك" بلهفة عليه تسأله بقلق:
مالك يا "عيسى"؟
لم يعد قادرًا على التنفس فهرعت "ميرفت" إلى الطبيب وبقت "ملك" التي هاجمها الفزع جواره، حدث كل شيء في دقائق، وفي النهاية عاد إلى غرفته وبقى الطبيب عنده لفترة ثم خرج بعدما فحصه وتأكد من وضع قناع التنفس على وجهه موجهًا اللوم لوالده:
قولت لحضرتك إن نستنى شوية أفضل، أي حاجة تخليه ينفعل بالشكل ده سواء كويسة أو لا في الوقت ده مش في صالحه، لكن سمعتوا كلامه وأصريتوا إنه يشوف بنته.
أبدى "نصران" ندمه حقًا في قوله:
أنا مكنتش أعرف إن هيجراله كده، وبعدين هو أنا ابني هيفضل طول الوقت عنده مشكلة النفس دي؟
هوى فؤاد "ملك" و"ميرڤت" أرضًا وجاوب الطبيب وهو يستشعر انهيارهم الوشيك:
يا حاج "نصران" اللي حصل ده مكانش سهل، وفيه لسه أثار من الإصابة، وأنا قولت لكابتن طاهر إن الحالة هتتحسن مع الوقت والعلاج، لكن حتى بعد خروجه من هنا لازم نحافظ على إن مفيش توتر أو انفعال شديد، والفرح الزيادة زي الزعل بالظبط ممكن يسبب اللي حصل من شوية ده، فياريت تساعدوه وتساعدونا.
هزت "ملك" رأسها تؤكد له بخوف من تكرار هذه التجربة:
احنا هنعمل كل اللي قولت عليه يا دكتور، إن شاء الله مش هتتكرر تاني أبدا.
رضى الطبيب بحديثها ثم أشار لهم ناحية غرفته قائلا:
حضرتك ممكن تدخله دلوقتي، أنا شرحتله الوضع واطمنت عليه، ياريت لو تحاولوا تخلوه هادي وبعيد عن أي ضغط.
أنهى حديثه ورحل فأسرع "نصران" إلى غرفة ابنه تتبعه "ملك" و"ميرفت"، كان قناع التنفس مرافقًا له، رأى والده في عينيه سؤاله فمسح على رأسه يطمئنه:
الدكتور قال إنك كويس الحمد لله، الحالة دي هتروح مع العلاج إن شاء الله، أنت بس يابني تسمع كلام الدكتور.
هز رأسه موافقًا ثم مد كفه يتناول كف "ملك" حاوطه وأغمض عينيه تحت نظرات "ميرفت" المشفقة، وأبيه الحزينة.
******************************************
لا تصدق "بيريهان" أن الإلحاح أتى بهذه النتيجة، كانت في السيارة برفقة ابنة عمها، تتذكر حديثها مع والدها، دخل إلى غرفتها كالعاصفة وهو يقول بغضب:
أنتِ عايزه إيه تاني يحصلي يا "بيريهان"، "شاكر" مين اللي عايزه تقابليه وبتطلبي من بنت عمك تساعدك من ورا ضهري.
تذكرت العاملة التي كانت تحاوط جلستها هي وابنة عمها، تبتعد عنهما ثم فجأة تراها وكأنها لم تختف لحظة، علقت ساخرة:
طب والله كويس يا بابا إنك أكدتلي، لإني كنت فاكرة إني ظلماها، لكن طلعت بتتجسس بجد.
_ ما هو لما تصرفاتك مش محسوبة، ومش حاسة باللي احنا بقينا فيه يبقى أقل واجب أعرف اللي بتعمليه من ورا ضهري.
واجهها بهذا ثم تابع وقد طفح كيله:
الواد ده هو أكبر غلطة عملتها في حياتي، أنا خلاص بخسر كل حاجة، منصبي، وسمعتي اللي قعدت سنين ببني فيها، وبنتي.
ابتسمت "بيريهان" بخيبة قبل أن تعلق على حديثه بمرارة:
هو أنا ليه يا بابا بعد منصبك وسمعتك؟..ليه مش قبلهم؟
تجمد في مكانه، لم يصدق سؤالها ورد عليها مستنكرًا:
ليه مش قبلهم!
نفس الكلام القديم اللي بتطلعيني بعده مبفكرش غير في نفسي وبس، لكن لحد هنا وكفاية يا "بيريهان"، منصبي وسمعتي دول هما اللي خلوكي ماشية رافعة راسك، هما اللي كبروا الزفت اللي جبتيه وقولتيلي مش هتجوز غيره وعملوه بني آدم، هما اللي ساعدوكي لما مصايبه ابتدت تتكشف والبوليس حط عينه عليه وبعدها عمل الحادثة وغار علشان تطلعيه من كل المصايب دي
بدا الضيق جليًا على وجهه وهو يكمل:
السلطة والسمعة عملولك حاجات كتير أوي يا "بيريهان"، كفاية إني بخسرهم دلوقتي بسببك علشان تعرفي مين فيكم أهم، ولا هما بيبقوا حلوين بس لما تحتاجيهم؟
توقف لحظة ثم أضاف بحدة أكبر: وقبل ما تقوليلي إني كمان استفدت من جوازتك، مش هنكر اه استفدت بس أنا كنت أقدر أحقق اللي عايزه من غير ما أديله بنتي، لكن أنا ساعدتك لما لقيتك عايزاه رغم إن كل حاجه بتقول لا، حاولت أحلله مشاكله وأبعده عن القرف اللي كان فيه وخليته نجم مجتمع وهو اللي مكانش عايز ينضف، وقفت جنبك لما لقيتك مصرة عليه وعلشان كنت عارف إنك هتدمري لو العلاقة دي فشلت زي ما اللي قبلها فشلوا وكنتي بتضيعي مني، صدقته معاكي وحاولت أخليه ابن ليا بس هو كان....
لم يكمل حديثه، انقطعت كلماته مع انهيار ابنته، شهقاتها العالية جعلته يصمت، ثم أغمض عينيه بحسرة وهو يرى الحالة التي أصبحت عليها، احتضنها وبدأ في الربت على ظهرها محاولا إبعاد كل هذا الحزن عنها:
بس يا "بيري" بس علشان خاطر بابا، كفاية عليا اللي أنا فيه، أنا بحاول كل يوم بإيدي وسناني مع اللي أعرفهم واللي معرفهمش إنها تخلص على إني همشي من الوزارة بس، "شاكر" بسببه ممكن أتورط في حاجات أكبر من كده، ورغم إني مأمن نفسي بس الوضع مبقاش مضمون، كل ما بسمع إن حالته صعبة والموضوع مجرد أيام مش أكتر بحاول أهدى، لكن لما بيعدي الوقت وهو لسه موجود بفكر في الأسوء
اعتدلت في جلستها ونظرت له وهي تنطق بقلب يحترق:
متشغلش نفسك بيا يا بابا، أنا هبقى كويسة، بس أنا بسببه خسرت "بيري"، وضيعت نفسي، مش هعرف أبقى أم، والفرصة اللي كانت موجوده كان طفل منه هو، أنا ليه لسه عايشة؟
هذه الأفكار التي حذره منها طبيبها، بان الهلع في عينيه وهو يفكر أنها ربما تحاول التخلص من حياتها مرة ثانية لذلك طالبها بعينين حزينتين من أجلها:
علشان خاطري يا "بيريهان" روحي المصحة، هناك هيقدروا يساعدوكي، شهر أو اتنين وتخرجي وهتبقي أحسن من دلوقتي بكتير.
تحدثت وقد كانت صادقة حقًا هذه المرة:
أوعدك إني هروح، بس علشان خاطري، لو ليا غلاوة عندك، اتصرف وخليني أشوفه، علشان لو كان ده أخر وقت ليه في الدنيا مش عايزاه يمشي قبل ما أقوله اللي عايزة أقوله، أنا عارفة إنه صعب بسبب البوليس والتصاريح، بس علشاني يا بابا حاول، وصدقني هرجع من عنده وأطلع على المصحة أوعدك.
فاقت من شرودها على صوت "ندى" الجالسة جوارها في السيارة تتابع الطريق أثناء قيادة السائق حيث نبهتها:
وصلنا يا "بيري"
أمام المشفى التي يتواجد فيها "شاكر"، وفي ظلام الليل الذي تحداه بعض أعمدة الإنارة بالطريق، وقفت السيارة التي قادتها إلى هنا ومن خلفها سيارة الحراسة، نزلت برفقة ابنة عمها التي أتت معها بعد جدال طال مع زوجها، تحرك "بيريهان" وجوارها "ندى" وهي تفكر أن والدها نفذ لها مطلبها، وعليها الآن تنفيذ مطلبه والذهاب من أجل العلاج، ولكن ليس قبل هذا اللقاء
كانت في أبهى صورها، ارتدت فستانًا باللون الأزرق الفاتح، ورفعت خصلاتها إلى الأعلى تاركة بعضها لينسدل على وجهها، زينت وجهها بمساحيق التجميل ببراعة لتخفي الذبول الذي حل عليها، وتحركت بخيلاء وحذائها يدق على الأرضية في اتجاه غرفته، بدت وكأن الحياة دبت فيها من جديد.
دخلت إليه بعدما استوقفت الطبيب وعلمت منه مدى خطورة الحالة، ألقى عليها تعليماته:
الحالة حرجة جدا، والمريض لسه في مرحلة مش مبشرة، هيقدر يتفاعل معاكي لكن بصعوبة، فياريت منطولش جوا، وبلاش أي ضغط عليه.
تحركت ناحية فراشه، ولا تعلم كيف لم تخنها قوتها في الوصول إليه، تطلعت عليه وهو موصول هكذا بالأجهزة الطبية وخامدًا على الفراش بلا حركة ولم تصدق أن هذا هو "شاكر"، هو نفسه الذي أعطته الحب بلا مقابل، هو الذي ظنت أنها ستعيش معه أجمل أيام حياتها لتستيقظ على كابوس مفزع، لم تصدق أن الساكن أمامها هذا هو نفسه الذي انتهكها بخسة من قبل رغم أنها أعطته الأمان
تجمعت الدموع في مقلتيها، وشعر هو بوجود أحد، فتح عينيه بصعوبة ولم يصدق أنها أمامه، نطق بألم:
"بيري".
زينت الابتسامة ثغرها وهي تمسح عبراتها وتقول:
اه يا "شاكر" بيري، قولت لازم أزورك.
سارت نحو المقعد المجاور لفراشه، جلست عليه، وهي ترى نظراته المحاوطة لها ثم قوله وقد بذل مجهود كبير:
أنا عارف إنك مستحيل تفرحي
شعر بأنه لن يستطيع إكمال الجملة ولكن تغلب على شعوره متابعًا:
باللي أنا فيه.
_ بلاش تتكلم علشان متتعبش.
قالت له هذا ورأت في عينيه سعادة غامرة بجملتها، رغم كل ما به شعر بالفرح كونه مازال له تأثير عليها، حدث نفسه بأن حبه داخلها لم يقل أبدًا، أنصت إليها وهي تقول وقد مالت عليه:
أنت عمرك ما هتقدر تتصور مشاعري ناحيتك عاملة ازاي، أنت أكتر حد حبيته في حياتي يا "شاكر".
رأت في عينيه تأثره، رغبته في سماع المزيد عن حبها له ولكنها تطرقت إلى أخر ما يريد سماعه الآن:
زي ما أنت كده حبيت "ملك"، لكن أنا حبيتك لما أنت حسستني في الأول بكل حاجة تخليني أتحرك ناحيتك، بس أنت بقى كنت عايز "ملك" رغم إنها مش طايقاك.
شعرت بالانتصار وهي ترى الضيق الذي بان على وجهه، نظراته التي فرت منها، ولكنها لم تفلته، لمست بأناملها ذقنه حتى يتطلع إليها، وبمجرد أن التقت النظرات أخبرته بابتسامة:
هي شافت فيك الحقيقة اللي مقدرتش أشوفها، رفضتك وحبت "فريد" وعلشان أنت متعرفش يعني إيه تترفض خلصت عليه، زي بالظبط ما اعتديت عليا لما قررت أبعد واستناك لو بتحبني تعمل حاجه، مستحملتش إني أقولك لا رغم إنك عارف ومتأكد إني بحبك
دافع عن نفسه حيث نطق بصعوبة:
يومها أنا كنت شارب.
ابتسمت ساخرة على عذره، ووأدت دفاعه بسؤال:
ولما روحت تتفق مع عدو بابا علشان توقعه وتاخد المقابل كنت شارب؟، لما كنت بتخدعني وأنت في حضني وبتفكر في غيري كنت شارب؟
رأى الدموع في عينيها ولم يستطع النطق بالمزيد، أخذ دور المستمع وهي تضغط على ما تعلم جيدًا أنه يكسر الكبرياء لديه:
بس عارف أنت تستاهل، "ملك" دي بجد Queen، هي فهمت أنها مجرد حاجة أنت عايز تمتلكها زي ما اتعودت فرفضتك مره، ولما عاقبتها وخسرتها واستنيت إنك تحقق اللي أنت عايزه، رفضتك التانية، حبت "عيسى" علشان هو راجل هيعرف يقفلك، عرفت ازاي تقهرك، وتخليك متطولهاش.
بان غروره في نبرته رغم وهنها:
محدش اتقهر غيرها.
أضاف بتشفي لا يتناسب مع حالته:
خلصتلها على واحد والتاني بيحصله
تنفس ببطء ليسترد أنفاسه التي سرقها الحديث، وأكمل بابتسامة وجمل قصيرة متقطعة:
أنا نفذت وعدي... قهرتها وقهرته ... ومش بعيد يمشي قبلي.
ثم اتسعت ضحكته، أغمض عينيه بألم قبل أن ينطق:
أنا حتى سألت عليه، وعرفت إنه بيودع.
رأى في عين "بيريهان" استخفافها بزهوه المريض قبل أن تمط شفتيها متصنعة الشفقة وتخبره:
معلوماتك غلط خالص يا حبيبي، "عيسى" في الغالب دلوقتي بيحتفل مع مراته ببنته.
طالعها باستنكار قبل أن يعلق:
بتكدبي.
قربت وجهها منه وهي تهز رأسها بالنفي وتهمس له:
لا، "عيسى" دلوقتي حالته كويسة أوي، ومش بعيد تلاقيه جاي يزورك هنا كمان، يعني لو حد خلص على التاني يبقى هو مش أنت، ومش هيتسجن فيك لحظة.
يرفض ما تقول وبشدة، مرارة خسارة كل شيء تقتله، كان صوتها الناعم يلتف حول عنقه من أجل خنقه وهي تقول بابتسامة:
أنا جيت علشان أبلغك الخبر السعيد ده مخصوص، علشان أشمت فيك.
يشعر بالحرـيق داخله، لم يرغب في سماع ما تقول أبدًا، تمنى لو قُبِضت روحه وهو يظن أنه الرابح، يظن أنه أنهاه، نظر إلى "بيريهان" وسمعها تقول بمرارة:
بس تصدق أنا مش عارفة أشمت فيك.
أغمضت عينيها بحسرة وكان أبلغ ما يصف حالتها:
"وشكا إليّ عذابَهُ فرَحِمتُهُ
وشكوتُ مِثلَ شَكاتِهِ فتَهَكَّما
وكسَرتُ خبزتيَ الوحيدةَ بيننا
وسَطَا على نِصْفي فلم أَفغَرْ فما"
هو استطاع إفلاتها وهي الآن رغم كل غضبها منه لا تستطع رؤيته هكذا، لا تستطع تصديقه وهو يقول والدموع في عينيه الآن:
والله العظيم حبيتك، كنت ناوي أخدك وأسافر
وبتعب شديد أكمل:
ونبدأ من جديد.
"هل يغفرُ الجبّارُ خسةَ غادرٍ
ما زلتُ أنزفُ من خساستِهِ دَما؟!"
أبيات طرحت سؤال تعلم هي إجابته جيدًا، لا تستطيع غفران خسته، ولا تستطيع مقته إلى الحد الذي يجعلها الآن تشمت به
تنهدت وردت عليه ساخرة:
والقديم كان هيتنسي؟
خستك معايا كنت هنساها؟
حبي اللي متستاهلوش، وكرامتي اللي دوست عليها علشانك، بلاش كل ده
أكملت الدموع في مقلتيها قبل نبرتها التي اختنقت بها:
كنت هنسى إني خلاص مش هينفع أبقى أم؟
شعرت بيده المرتجفة على كفها، رأت الندم في عينيه وتصريحه:
ياريتني ما عرفتك.
_ ياريت.
قالتها بصوت خافت وهي تتمنى لو لم يعرفا بعضهما حقًا، لو لم تمر في حياته أبدًا
ورغم أنه لم يعد قادرًا على إكمال هذه المحادثة إلا أنه جاهد ليقول بنبرة متقطعة:
مكنتيش جيتي، مكنتيش قولتيلي إنه بقى كويس، كنتي سيبيني فاكر إنها خلصت وأنا كسبان.
لم تصدق جبروته، رغم كل شيء مازال يصدمها، ترى في عينيه حسرته على نجاة "عيسى"، على خسارته، أعطاها القوة لمواجهته والضغط على ما يؤلمه:
لا كنت لازم تعرف، اللي زيك يا "شاكر" يستاهل يخسر كل حاجة، "عيسى" اللي كنت فاكر هتقدر عليه، بيبوظلك حياتك للمرة المليون، وهيعيش حياته مع مراته وبنته، مراته اللي استخسرت فيها إنها ترفضك، ورغم كلامك بإنك كرـهتها كنت مصمم تأذيها.
استقامت واقفة ومالت عليه، تواجهت نظراتهما، نزلت دموعها على وجهه رغم القوة في عينيها، رأت ضعفه ورغم ذلك نطقت بقسوة:
أنت تستاهل تموـت لوحدك.
اهتزت نظراته، واعتدلت هي في وقفتها لتخرج من هنا، لن تستطيع البقاء أكثر، تجمدت خطواتها حين سمعت همسه:
متسيبنيش يا "بيري".
لحظة فاصلة كانت ستضعف فيها، ولكنها تماسكت وهي تتذكر كل المرات التي خذلها بها، تحركت ناحية باب الغرفة وكل رغبتها أن تتحرر منه، تتحرر من أوجاعها، خرجت وسارت في الممر وهي لا ترى أمامها حتى أنها اصطدمت بأخر شخص توقعته، نطقت بغير تصديق:
"بشير"
كانت حالتها يُرثى لها، رأى أنها لا تستطيع الوقوف باتزان فساعدها وهو يسألها:
أنتِ كويسة؟
لم ترد، كانت نظراتها مثبتة على وجهه، تتذكر كل شيء، يوم أن أخبرها بإعجابه بها، ثم تصريحها له أنها بالفعل كنت له مشاعر في فترة ولكنها ذهبت، معرفته أنها تحب "شاكر"، وتحذيره لها منه
"كم حذّروني من دناءةِ طبعِهِ
فنَهرتُهمْ وعصيتُ فيه اللُّوَّما
وأرَونيَ الشاكِينَ من غَدَراتِهِ
لكنني ما كنتُ إلا في عمَى
وبقِيتُ أحفظُ عهدَهُ مع أنني
أَشْتَفُّ مِن عينَيهِ شيئاً مُبْهَما"
لطالما حذرها الجميع، كم من المرات رأت في عينيه ما لم يطمئنها وتجاهلت، انهارت تماما، وحاول "بشير" استدعاء أحد الأطباء في نفس اللحظة التي حضرت فيها ابنة عمها بعدما قلقت عليها أثناء الانتظار، هرعت ناحيتها، تسندها وهي تقول بهلع:
مالك يا "بيري"
_ مشيني من هنا.
جملة قصيرة هي ما استطاعت قولها، أفلتت ذراعها من "بشير" وهمست من بين دموعها:
شكرا.
ثم رحلت تحت نظراته برفقة ابنة عمها التي يسيطر عليها خوفها من حالتها هذه، بقى واقفًا مكانه يطالعها بشفقة، وفي لحظة استدارت هي الأخرى أثناء رحيلها تطالعه وبداخلها تتساءل ماذا لو كان هو من في حياتها بدلا عن الذي دمرها، بالتأكيد لم تكن تصل إلى ما وصلت إليه الآن.
اختفت من أمامه، وتنهد هو بتأثر ثم تحرك ليذهب إلى غرفة الطبيب المتابع لحالة "شاكر" ولكنه لم يجده، انتظره حتى حضر وما إن استفسر عن حالته حتى جاوبه الطبيب:
المفروض كنت هبلغ الظابط إنهم ممكن يستجوبوه خلال كام يوم، لكن حالته دلوقتي ساءت جدا، مدام بيريهان كانت لسه عنده وبمجرد ما خرجت استدعوني، ومؤشراته الحيوية انهارت فجأة، والوضع بقى أصعب من الأول.
تجمد "بشير" مكانه، لم ينبس بكلمة، وكأن الزمن توقف عند ما قاله الطبيب، وجزء داخله أراد بشدة معرفة ما حدث في هذه المقابلة التي نتج عنها تضاعف سوء حالته، واقترابه من الخطـ ر أكثر من أي وقت سبق، ولا يصدق أن كل هذا حدث بعد اللقاء بمن حاربت الجميع من أجله، حدث بزيارة "بيريهان".
******************************************
أصبح المشفى بالنسبة له كالسجن، بذل "عيسى" كل جهده في هذه الليلة حتى يصادقه النوم، يشغل عقله مئات الأفكار، أولها ابنته التي لم يستطع إكمال رؤيتها حين ذهب إليها ولم يستجب له أحد بناءا على رغبة والده حين طلب رؤيتها مرة أخرى، وثانيها الأسئلة التي لا يعطيه أي شخص أجوبتها تنهد بتعب قبل أن يجد الباب يُفتح وتلج منه الممرضة برفقة "ملك"، وضعت الطعام وطالبته بإتمامه ثم رحلت، استدار لملك يطالبها برفق:
طاهر قالي إن الدكتور قال ممكن ترجعي البيت، هيكتبلك على خروج بكرا، عايزك تروحي ترتاحي، أكيد أعصابك تعبانة من كل اللي حصل.
_ أنا مش هسيبك.
قالتها له وهي ترى الحزن في عينيه وفسرت سببه بابتسامة:
وبلاش التكشيرة دي، عارفة إنك زعلان، ومتضايق من إن الكل محاوطك، ومحدش بيقولك حاجه، وعلشان "غالية"
ربتت على كتفه تضيف:
بس متأكدة برضو إنك عارف إنه لمصلحتك، وبعدين بناخد حقنا منك شوية، علشان عارفين إنه لما تخرج من هنا محدش هيعرف يكلمك تاني.
ابتسم على جملتها الأخيرة، وتناولت هي الحامل المعدني ووضعته أمامه قائلة:
يلا علشان تاكل، وياريت متفكرش في أي حاجة غير اللحظة اللي احنا فيها دلوقتي بس، أقولك فكر فيا.
ورد بما أسرها وجعل عينيها تلمع بالحب:
أنا علطول بفكر فيكي.
وضعت الملعقة في الحساء، ثم قربتها منه وهي تقول:
طب يلا علشان تخلص الأكل ده.
بدا غير راغبًا في تناوله ولكنها حذرته بنظراتها فخضع ووافق، ثم سأل بتسلية:
فكريني كده امتى أخر مره عملتيلي أكل؟
_ في عيد ميلادك، ولا نسيت؟
وقبل أن ينطق بأي شيء استكملت تخبره:
تعرف إن قسمت جت هنا، واتكلمنا وطلعت شافتك كمان، وحضرتك حركت إيدك لما هي كانت موجودة.
كان الاتهام واضحًا في جملتها الأخيرة، فطالعها بغير تصديق ثم سأل:
هو أنا هيتنكد عليا صح؟
هزت رأسها نافية وهي تقول بترفع:
هيتأجل مؤقتًا.
اتسعت ضحكته وهو يقول بعدما تناول من يدها الملعقة:
طب احكيلي اللي حصل.
_ ومالك فرحت كده أول ما جت سيرتها، ما كنت مصدر التكشيرة من شوية!
وبعد جملتها هذه أدرك أنه لا مفر فقال:
لو عايزه تنكدي دلوقتي عرفيني علشان استعد نفسيا، لو هنأجلها عرفيني علشان مبقاش قاعد واخد خوانة.
وردًا على حديثه دست الملعقة في فمه تحت نظراته المذهولة وهي تقول بابتسامة صفراء:
كل يا حبيبي بالهنا والشفا.
ولم يستطع فعل شيء سوى الضحك على أفعال زوجته الذي كان مدركًا جيدًا أنها ليست سوى ستار لتشتيته عن أي أفكار قد تؤرق رأسه
******************************
حينما تتعرض للأذى في علاقاتك الشخصية تفكر في الرحيل، ولكن ماذا إن كان الرحيل صعبًا، ماذا لو كان مصدر أذاك شخص تربطك به صلة
الد ـم، ورغم كل أفعاله تتذكر لحظاتكم معًا، كان كل هذا يدور في رأس "علا" وقد حقق لها "بشير" مطلبها، عدة دقائق هي المسموح لها من أجل رؤية شقيقها، دخلت له بتخوف، ولم تصدق ما ترى، هل هذا "شاكر" حقًا، تناست كل شيء سوى أنه أخوها، هرولت ناحيته بعينين دامعتين، وجلست على الأرضية جواره، تناولت كفه ونظر هو لها وسمع نبرتها الحانية:
ألف سلامة عليك.
لا يستطيع الحديث، لا يستطيع النطق بأي شيء، بدا متأثرًا وبشدة، رأت في عينيه سعادته بزيارتها، أنصت لها وهي تكمل:
إن شاء الله شدة وتزول.
وبجهد كبير قال:
مبسوط بشوفتك يا "علا"
أراد السؤال عن والدته:
أمك عامـ.....
ولكنه لم يستطع إكمال سؤاله، كان هذا فوق قدرته، وجاهدت هي كي لا تنهار، كي لا تصرخ وتترك للحريق في صدرها العنان، أتخبره أنها ستقضي الباقي من عمرها عاجزة عن الحديث والحركة، أسرعت تمسح دموعها وهي تطمأنه بابتسامة كاذبة:
كويسة يا حبيبي، أنا لسه جاية من عندها.
وجدته يتناول كفها، وهو يطالعها، رأى أمامه صورتها وهي صغيرة، عائدة من المدرسة برفقته، استمع لنبرتها حين أوقفته في الطريق تسأله عن حلوتها المفضلة حيث نطقت:
"شاكر" جبتلي البسكويت؟
اختلط الواقع بالذكريات وجدته "علا" الجالسة جواره يقول بعينين لمعت الدموع فيهما:
جبتهولك يا "علا".
لم تفهم ما يقصده شعرت أن هناك خطبًا ما وتمكن الهلع منها، أما هو فكان يمر أمامه شريط به كل حياته، يسمع في أذنيه صراخ "ملك" يوم أنهى حياة "فريد"، صوت والدته وهي تخبره أن كل ما يريده سيتم، والده وهو يحذره من إقحام نفسه في المصائب قائلا:
أنا خايف عليك.
نبرة "بيريهان" الناعمة تصرح له بحبها:
بحبك أوي يا "شاكر"
ثم دموعها وهي تسأله بألم:
ليه عملت فيا كده؟
حادثته الأول مع "عيسى"، وعيد غريمه له بأنه لن يتركه يهنأ بحياته، ليلة زفافه حين تم احتجازه والاعتداء عليه، العيار الذي أطلقه على عيسى وهو يظن نفسه قد فاز، صرخة "ملك" المقهورة، وأخيرًا صوته وهو يتحدى والده:
أنا محدش يقولي لا، ومش أنا اللي أسيب حاجه عايزها تتاخد مني.
ثم القهر في عينيه حين عرف أنه خسر كل شيء، حتى حياته خسرها على يد غريمه الذي ظن أنه أفقده حياته، وهذا أكثر ما يؤلمه، "عيسى" يتنعم الآن برفقتها، وهو هنا يواجه الموـت.
رأى والده أمام عينيه، يمد له يده، همس بصعوبة:
أنا رايح أكلم أبوكي يا "علا".
صاحت بغير تصديق وهي تتمسك به بذعر:
لا يا "شاكر"، لا علشان خاطري.
نادت على الطبيب ودموعها لا تتوقف، تتمسك بأخيها برجاء وتحاول أن تجذبه من الفراغ بعينيها، أن يراها قبل أن يغيب، تربت على وجهه قائله بتوسل:
شاكر كلمني، متسيبنيش يا أخويا.
أمسك كفها بحركة ضعيفة، عيناه ترتجفان، قبل أن يتم إبعادها عنه عنوة
ارتفع صراخها وهي تسمع الجهاز الطبي يعلن بصافرته أنها النهاية، وقفت في الخارج تطالع من الحائل الزجاجي محاولاتهم في إنعاش قلب شقيقها، هرع إليها "بشير" الذي كان ينتظرها، وتأثر حقًا من أجلها، أسندها وشعرت هي بفؤادها يهوى أرضا حين رأست نظرات اليأس في أعين الطاقم الطبي، لم تصدق، وحين خرج الطبيب ناطقًا بأسى:
البقاء لله.
أطلقت صرخة تصم الأذان باسم شقيقها، ثم سقطت فاقدة للوعي بين يدي "بشير"، هاربة من حياة كل ما بها يؤلمها ويقضي عليها وكأنها عدوتها الأبدية.
******************************************
كانت "شهد" غارقة في نومها حين سبقها والدتها و"مريم" إلى المشفى من أجل زيارة "عيسى" وإقناع "ملك" بالعودة معهما كما طلب "نصران"، تململت على الفراش وقد سمعت طرقات متتابعة على الباب فقالت بنعاس:
استغفر الله العظيم.
تركت الفراش بتثاقل، وتوجهت لتفتح الباب فتفاجأت بطاهر أمامها، سعت لفتح عينيها بصورة كاملة لكي تتمكن من الرؤية جيدًا، وسمعته يقول بانزعاج:
أنتِ لسه نايمة، هو أنا مش قايلك هعدي عليكم اخدكم وأنا ماشي؟
بررت وهي تسمح بدخوله:
نسيت أقولهم، هما أصلا سبقوني.
عاتبها وهو يجلس على الأريكة متنهدًا:
أنا مش عارف أعمل فيكي إيه، ياريت تلبسي بسرعة علشان منتأخرش.
_ فطرت؟
سألته وهي على يقين من الجواب، إهماله في نفسه أصبح واضحًا على وجهه المنهك، ولكنه كذب عليها قائلا:
اه
رفعت كتفيها وهي تقول بابتسامة:
بس أنا مفطرتش فـ هتفطر معايا تاني.
ضحك على قولها ثم ذهبت هي لغسل وجهها حتى تستعيد يقظتها، وشرعت بعدها في إعداد الطعام، قامت بتسخين شطائر الجبن التي أعددتها والدتها، ووضعت جوارها كوبين من الشاي، ثم خرجت له، كان يعبث في هاتفه بملل، حتى وجدها وقد جلست على مقعدها تحثه:
يلا يا كابتن.
_ بقالك كتير مقولتيش يا "كابتن" دي.
ردت عليه بمشاكسة وهي تقرب الطبق منه:
علشان أنت محترم بقالك فترة فقررت أكافئك وأرجع أقولك كابتن من غير سفيه.
ضحك قبل أن يرد ممازحًا قاصدًا إغاظتها:
طيب يا متدنية.
تغاضت عن ذلك ثم سألته وهي تراه لا يأكل سوى القليل:
مبتاكلش ليه؟
أنا مبحبش حد يقعد على الفطار مبياكلش، كفاية إن لما نتجوز هصحى كل يوم أعملك فطار، يعني الأكل يتحط قدامك تخلصه كله وتشكرني عليه صبح ومسا.
رفع حاجبيه بدهشة سائلا:
أشكرك صبح ومسا على الفطار؟
امال لو عملتيلي غدا بقى المفروض أعمل إيه؟
جاوبته بغرور:
هبقى أفكر.
ضحك وهو يحرك رأسه بمعنى ألا فائدة من أفعالها، انتهى من تناول الطعام، ودخلت هي إلى غرفتها من أجل الاستعداد للنزول معه، خرجت بعد مدة وهي تربط خصلاتها قائلة:
أنا خلصت يا "طاهر".
لاق بها مظهرها، سترة وردية نسقتها مع بنطال واسع من الجينز ولكنه علق معترضًا:
"شهد" أنتِ مش خرجتي معايا قبل كده بالبلوزة دي وقولتلك متلبسيهاش تاني علشان قصيرة.
أجابته مدافعة وهي تشير إلى هيئتها:
ما البنطلون واسع أهو، ولايقين مع بعض.
تأفف بضيق وعاد للجلوس على الأريكة وهو يقول:
ادخلي يا "شهد" غيري.
_ هو عِند يعني يا "طاهر"؟
سألته بامتعاض ورد هو بنبرة مماثلة:
لا مش عِند وأنتِ عارفة، بس لما نتفق على حاجه إنها مش هتتلبس تاني وتوافقي، وألاقيكي بعد كده بتلبسيها عادي، ده اسمه إيه؟
لم ترد عليه، بدا ضجرها على وجهها وذهبت إلى غرفتها في انفعال واضح حتى تستبدل ثيابها، كان ينظر هو في ساعته كل دقيقة وقد بدأت اتصالات والده تلاحقه، كان يحادثه حين وجدها تخرج، فتوقفت عيناه عندها دون وعي وقد رأى أنها ارتدت قميص باللون البني أطول من سترتها السابقة، وجلست على المقعد لترتدي حذاء باللون نفسه، ثم علقت بتهكم وهي تراه ينهي المكالمة:
يارب نكون عاجبين، ولا أغير ده كمان؟
_ لا كده حلو أوي.
قالها بابتسامة تجاهلتها هي وتحركت ناحية الباب ولكنه استوقفها، كانت قريبة منه، عيناها تلتقيان بعينيه وهو يهمس بابتسامة آسرة:
وزي القمر كمان.
ابتسمت ولكن لم تزل نظراتها المعاتبة فسألها بلطف:
عارفة أنتِ أخرتيني قد إيه؟
_ أنا زعلانة منك يا "طاهر"
قالت له هذا بنبرة حزينة ورد وهو يمرر أصابعه على وجهها برقة:
أنا اللي زعلان منك، علشان بنتفق على الحاجة وبترجعي في الاتفاق، بس علشان أنا الكبير هصالحك، وأخرجك خروجة حلوة أول ما الوقت يسمح.
قال جملته الأخيرة غامزا فاتسعت ابتسامتها وزال حزنها وهي تخبره بما جعل ضحكاته تتعالى:
بحبك يابن سهام.
احتضنها وتشبثت هي به، وهي تسمعه يقول بحنان:
هتغاضى عن ابن "سهام" دي علشان بحبك اللي قبلها.
رفع كفها يقبل باطنه، وهو يتأمل شغفها به الذي لمع في عينيها ثم قال:
أنا بقول يلا نمشي علشان أكتر من كده هيبقى خطـ ر
ضحكت بخفة وأفلتها هو فتجاوزته ناحية الباب لتفتحه، خرجت برفقته وهو يحيط كتفها بذراعه وفؤادها يحلق عاليًا بسعادة انتقلت له كعدوى جميلة.
كان "حسن" في غرفة شقيقه بالمشفى، ساعد "عيسى" على القيام، والسير معه بصعوبة مستندًا عليه وهو يقول:
الدكتور قال نحاول نخليك تمشي كام خطوة، وكمان يومين الوضع هيبقى أحسن إن شاء الله.
هز "عيسى" رأسه موافقًا وهو يسير بمساعدته متحاملا على نفسه، شعر "حسن" أن هذا فوق مقدرة شقيقه فنطق:
كفاية كده.
أراد "عيسى" ألا يتوقف، ولكن التعب قد تمكن منه بالفعل، فأعلن رضاه بهذه الخطوات التي تمت بالاستناد على "حسن" وعاد معه إلى فراشه، تنهد "عاليا" ثم زفر أنفاسه بانهاك قبل أن يسمع "حسن" يقول بابتسامة:
روحت سألتلك الدكتور، قالي إن "غالية" ممكن تخرج النهارده من الحضانة.
أشرق وجه "عيسى" وهو يسأله بلهفة:
بتتكلم بجد؟
_ اه والله، وبابا كمان قال إنه هيجبهالك بنفسه، بس خليها في سرك بقى ومتقولش لحد إني قولتلك.
كانت سعادة "عيسى" لا توصف وهو يستمع إلى حديث أخيه، رأى "حسن" الامتنان في عينيه فقال بابتسامة قبل أن ينطق بأي عيسى:
ملهوش لزوم الشكر، لكن لو حابب ترد الجميل فعلا يبقى تجيب العربية اللي كنت كلمتك عنها قبل كده.
ضحك "عيسى" وقبل أن يرد عليه استمعا للطرقات على الباب والتي تبعها دخول أخر شخص توقعه الاثنان، انتفض "حسن" واقفًا حين لمحها وسأل باستنكار وهو يسعى لإخراجها:
أنتِ إيه اللي جايبك هنا، ودخلتي ازاي؟
ليكي عين، ده الحاج لو عرف هيـ.
لم يكمل حديثه بسبب شقيقه الذي قال وهو يحيطها بنظراته:
سيبها يا "حسن".
أراد "حسن" الاعتراض، ولكن غمز له "عيسى" برجاء في نفس اللحظة التي هرولت فيها رزان ناحيته تقول بضيق:
ليك حق متبقاش طايق تبص في وشي.
لم تستمع لرد منه فأكملت بصدق:
ألف سلامة عليك يا "عيسى"، والله أنا ما ليا إيد في اللي حصل ده.
_ وأنا مش مصدقك.
تعلم أن له كل الحق في هذا، ولذلك شرحت له تبرر موقفها:
حقك وأنا عارفة، بس اسمعني الأول، أنا مكنتش عارفة أتصرف مع "جابر"، من ساعة ما عرف إن "منصور" مش أبوه، وهو تصرفاته بقت أغرب من الأول، وأنا مش هكدب عليك هو جاب "كوثر" أم "شاكر" قعد معاها وقالها إنه هيساعدها ويساعد ابنها، ويبقوا إيد واحدة علشان يخلصوا منك، ومن أخوك، علشان منصور شايل من العيلة دي وعايز يرتاح منها، وبعدها وعدها إن لما كل حاجة تخلص هيسفر "شاكر"، وهي صدقته لما قالها إنه الأحسن يبقى معاه بدل ما يفضل هربان
_ ومقولتليش ليه؟
سألها بنطرات حاده وردت هي تقسم له:
والله كنت هقولك، بس "جابر" كان أكتر الوقت واخد تليفوني مني حتى كنت ببقى خايفه تبعتلي أي حاجه ويعرف.
أعطاها الإذن بالإكمال وبالفعل استرسلت:
هو اللي طلب منها تروح تشتكي أخت مراتك في القسم وتقول إنها بتتعرضلها، بس مكنتش أعرف غرضه.
علق بتهكم مقاطعًا حديثها:
هو كل حاجة مكنتيش تعرفيها كده، خلصي يا "رزان" وهاتي اللي عندك من غير كلام كتير، أنتِ لو كنتي عايزه تقوليلي كنتي هتعرفي توصليلي.
عادت لنفي التهم عن نفسها وهي تمسك كفه:
طب ماشي أنا كنت بخبي عليك علشان الدنيا متقومش، بس عمري ما كنت هستناه يأذيك، كنت هتصرف وأبلغك، ما أنت عارف غلاوتك.
أفلت يده ولم يعلق إلا بـ:
انجزي وكملي.
طالعته بإحباط قبل أن تكمل حديثها:
بعد ما أم "شاكر" اشتكت "شهد" بكام يوم، كانت عندنا وقالت لجابر ابنها فين، وبعد ما خرجت سمعت "جابر" بيكلم حد في التليفون وبيقوله يخلص وهيبعتله باقي الفلوس ومش عايز يعرف عنه حاجه تاني، وبعدها حصل اللي حصل، وقالوا إنها مرمية خلصانة في الأراضي، فأنا جمعت اللي حصل وعرفت إنه بعت حد يخلص عليها.
_ ولما كلمتيني وقولتيلي إنه مقعد "شاكر" في بيت منصور التاني ورايحله دلوقتي، كان هو اللي قايلك تقوليلي كده؟
سألها وقد أصابه الضيق لتذكر هذا اليوم الذي رقد من بعده في المشفى ولكنها أسرعت تنفي:
لا والله، هو زي ما قولتلك يوم ما جيتلي كان غايب عن البيت، ولما رجع سألني إذا كان طاهر جه، وقولتله إن أنت اللي جيت ووصلتله كلامك واتخانقنا، وبعدها حطيت عيني عليه وبالليل سمعته وهو بيتكلم في التليفون وعرفت وجيت قولتلك علطول.
ابتسم ساخرًا قبل أن يعلق:
لو هصدقك، يبقى هو سابك تسمعيه بمزاجه، علشان تبلغيني وأروحلهم.
وكأنها وجدت المخرج فأسرعت تقول له:
طب شوفت بقى، حتى هو عارف إني هبلغك، وأنت بتظلمني كده يا "عيسى".
رأت الاستخفاف في عينيه ورغم ذلك لم تتوقف بل قالت تغازله:
قمر حتى وأنت عيان.
_ رزان.
قالها بتحذير جعلها تتراجع، ثم تنظر حولها سائلة:
امال مراتك فين، سيباك كده لوحدك، هي مش خايفة عليك ولا إيه؟
نبهها بانزعاج:
ملكيش دعوة بمراتي، خلينا في اللي حصل بعد كده.
أبدت امتعاضها وهي تسرد شكواها:
اللي حصل إن الحكومة كل شوية تشدني وسين وجيم ولا كإني كنت معاكم، و"منصور" عرف باللي حصل لجابر، وعيلته كلها جت في البيت وقالبينه على الأخر، ده بيعاملوني أسوء معاملة، وكإنهم استعبدوني، وكل شوية
ثم قلدت نبرة أحدهم:
قومي يا بت اعملي قهوة للرجالة.
وأضافت بتذمر:
أنا لولا خايفة حد من القسم يبعتلي تاني كنت طفشت، وكمان منصور فايق اليومين دول وأهله مراعيينه وعينهم مفتحة على الأخر.
_ تستاهلي، أنتِ عايزه اللي يمشيكي كده.
وقبل أن ترد على جملته كان يسألها:
شوفتي "جابر"؟
هزت رأسها نافية، ووضحت أنه لم يُسمح لأحد بمقابلته بعد فعلق بشماتة:
ابقي الحقي شوفيه بقى قبل ما يلبسوه البدلة إياها.
فهمت ما يرمي إليه ومن أجل ذلك طالبته بذعر حقيقي:
متسيبنيش يا "عيسى"، أنا مش عايزة أرجع للشارع والرقص تاني بالله عليك، لو حصل أي حاجه وطلعت من المولد بلا حمص ساعدني وشوفلي ....
لم تكمل حديثها بسبب قوله:
أنا تعبان دلوقتي، روحي.
ورغم ذلك نطقت بابتسامة:
أنا عارفة إن قلبك طيب ومش هتسيبني
ثم استقامت واقفة وقد قررت الرحيل:
تخرج من هنا بالسلامة إن شاء الله يا غالي.
_ شاكر عامل إيه؟
تجمدت مكانها حين أتاها من الخلف صوته، أراد أن يعرف منها ما يخفيه عنه الجميع ولكن لم يحالفه الحظ بسبب دخول والده المفاجئ والذي قبل أن يوجه أي كلمة إلى لرزان قالت هي بتوتر:
شدة وتزول يا حاج إن شاء الله.
وهرولت إلى الخارج قبل أن يصب غضبه عليها هو الأخر.
اقترب "نصران" من ابنه سائلا:
كانت عايزة إيه البت دي؟
_ مش هقولك.
شاكس والده بقوله هذا، فتنهد "نصران" بابتسامة وهو يجلس على المقعد المجاور له، شعر "عيسى" بأن والده لديه ما يريد قوله فسأله باستغراب:
مالك؟، في إيه؟
قرر والده بعد استشارة الطبيب الحديث معه، أن يقول ما لديه حتى يهدأ ابنه:
بشير مش هينفع يبقى موجود يومين كده، علشان متزعلش منه.
_ ليه؟
استفسر "عيسى" ورد عليه والده:
"شاكر" راح المستشفى بعد اللي حصل ليلتها
توقع "عيسى" أنه على قيد الحياة والآن يرى صدق توقعاته و"نصران" يضيف:
حالته كانت صعبة، بس كان بيعافر، لحد ما بعتت "بشير" يسأل عن أخر الأخبار، وقالي إن بنت ثروت كانت عنده وبعد ما خرجت حالته اتدهورت زيادة، الله أعلم باللي حصل بينهم
ترقب "عيسى" القادم، ولم يصدق حين سمع والده يقول وكأن حمل ثقيل تم إزاحته عنه:
امبارح أخته راحت تشوفه، وربنا استرد أمانته وهي هناك.
أراد "عيسى" قول أي شيء ولكنه لم يستطع النطق، شعر بالعجز ولا يتكرر أمام عينيه سوى مشهده وهو يدافع عن نفسه مسببًا الإصابة لغريمه، يسمع في أذنيه صوت معالجه النفسي حين نصحه:
تجاهل أي محيط يخليك تتواجد مع "شاكر"، احنا عايزين نحجم طاقة الغضب جواك، لكن الطاقة دي طول ما هو موجود بتزيد، تحس طول الوقت إنك عايز تعمل حاجه تخليه هو يحس بالحسرة وأنت تحس بالانتصار، الفرحة بإنك جبت حقك مره واتنين وتلاته، وتتعاد الكره، هو لو ماـت الطاقة دي مش هتتقبل ده على فكرة، أنت عايزه قدامك طول الوقت علشان تغذيها وده بيأذيك علشان كده هنشتغل على النقطة دي.
يشعر الآن بأن العلاج أتى بثماره، تيقن من هذا حين كان أول شيء يفكر به بعدما سمع هذا الخبر أنه يستطيع الآن العيش براحة بعيدًا عن وجوده والتفكير في القادم، أو في أي شيء أخر، انتبه حين ربت والده على كتفه قائلا بابتسامة حزينة:
مش هزور أخوك غير وأنت معايا، هنروحله سوا يا "عيسى".
هز رأسه بعينين دامعتين ثم احتضن والده، ليجد راحته التي شردت منه منذ زمن، ويبدو أنها قررت مرافقته الآن.
******************************
أجمل أمانينا تزرع الأمل في قلوبنا حين تتحقق، شعر "عيسى" بأنه وُلِد من جديد حين دخلت إليه "هادية" بعد خروج والده بالصغيرة، ناولته إياها بحرص وهي ترى اللهفة في عينيه وقالت:
سمي الله.
_ بسم الله الرحمن الرحيم
نطقها بنبرة مرتعشة وهو يأخذها منها، سعى جاهدًا لتنفيذ تعليمات الطبيب بالهدوء وعدم الانفعال وهو يراها، ولكن كيف يفعل هذا وهي بين يديه، كانت برقة الفراشة، تطالعه بعينين خائفتين، مال عليها وهو يهمس بحب:
غالية.
ملمس أصابعها الصغيرة على يده جعله يحلق عاليًا، اتسعت ابتسامته، وتحدث وكأنها تفهمه:
مش عارف أتكلم، أنتِ لغبطتيني وخدتي الكلام مني، على رأي ماما أنا اتوترت.
ابتسمت "هادية" بحنان وهي تطالع حالته مع الصغيرة التي بدت وكأنها تنصت له، أضاف وهو يمسح على وجهها الصغير:
"عيسى" بقى بيخاف على نفسه علشانك، وعايز يعيش معاكي ومع "ملك" أطول وقت ممكن.
مال يقبل رأسها بخفة وهو يعبر بصدق لابنته:
بابا بيحبك أوي يا "غالية".
ربتت "هادية" على كتفه فنظر لها، رأى في عينيها أمه التي يفتقدها طوال الوقت، دعت له وابتسامتها تزين ثغرها:
ربنا يحفظك ليها يا بني، وتتربى في عزك إن شاء الله.
بادلها الابتسامة بتأثر، ثم عاد ينظر إلى كنزه الثمين، صغيرته التي تطالعه الآن وهو يحتضنها وكأنه إن أفلتها ستفر منه للأبد.
******************************
كان "نصران" صادقًا في وعده، لم تخط قدماه ناحية قبر "فريد" إلا برفقة "عيسى" الذي خرج من المشفى قبل أسبوعين تقريبًا، ورغم أنه مازال متعبًا إلى حد ما أصر على والده أن يتما هذه الزيارة، رافقهما "حسن" و"طاهر" الذي كان بجوار "عيسى"، وقف الأربعة أمام قبر "فريد" وبداخل كل منهم مشاعر مختلطة أكثرها بروزًا هو الاشتياق
تنهد "نصران" بحنين لابنه الراحل، ولم يستطع "عيسى" البوح بما يرد، بقى حديثه داخله لا يسمعه سواه حيث شكر أخيه:
وحشتني أوي يا "فريد"، شكرا يا حبيبي، شكرًا على كل حاجة، أنا حياتي بقت أحسن بسببك وعلشانك يا "فريد".
ربت "طاهر" على كتف "حسن" الذي كان على وشك البكاء تأثرًا، طالبه برفق:
ادعيله يا حسن، ومتزعلهوش.
حدث "نصران" فقيده حيث نطق فؤاده بدلا عنه:
نور عيني يا "فريد"، ارتاح يا بني، ربنا يعوض شبابك خير في الجنة.
كان "عيسى" في دوامته، يتذكر لحظاته مع توأمه، كيف انقلبت الحياة رأسًا على عقب بعد رحيله، عاد من غربته ليبقى جوار والده، وكأن شقيقه رحل ليعطيه حياة حُرِم منها طوال سنوات عمره، طالع "عيسى" قبر أمه، أخبرتها روحه بتأثر:
عمري ما نسيتك، "ملك" سمتها "غالية".
شعر "طاهر" ببوادر تعب "عيسى" فنبه "نصران":
يلا يا بابا كفاية كده.
ابتسم له "عيسى" وهو يطمأنه:
أنا كويس.
_ ماشي يا "عيسى" بس كفاية كده برضو.
وافق "نصران" على ما قال "طاهر" وقرر الرحيل بعدما أنهى كل واحد منهما دعائه، وذكرى فقيدهم لا ترحل عنهم أبدًا.
******************************
امتلأ الصباح ببهجةٍ دافئة، اليوم فرح "طاهر" الذي أصر "عيسى" على ترتيب كل شيء به برفقة "حسن" من أجل شقيقهما الذي فعل الكثير من أجل الجميع الفترة الماضية، اتفقوا جميعًا على أن يقام الزفاف في أحد الأماكن المفتوحة التي تطل على حديقة واسعة تفوح منها رائحة الزهور، وتتناثر على أطرافها أشجار خضراء تتمايل أوراقها مع نسمات الهواء، وكأنها تشارك الحضور الاحتفال.
وُضِعت الطاولات تحت أضواء معلقة بين الأعضان، تتلألأ بنعومة وقد أضفت على المكان السحر والدفء.
المقاعد تم ترتيبها بعناية في صفوف متناسقة، تغطيها أقمشة فاتحة اللون، وخلف المكان المخصص لطاهر وشهد تدلت الورود البيضاء من أشرطة حريرية بلون ناسب رقة التنظيم
كانت شهد ترتدي فستانًا أبيض بسيطًا ينسدل بخفةٍ على جسدها، تزيّنه تطريزات دقيقة تلمع كلما لامستها الإضاءة، لم تبالغ في زينتها أرادت اليوم أن يكون كل شيء ناعمًا، تركت شعرها مرفوعا بخصلاتٍ منسدلة على وجهها، وعلت شفتيها ابتسامة رقيقة تحمل امتنانًا للحظة طال انتظارها.
أما "طاهر"، فوقف إلى جوارها ببدلته الكحلية، عيناه تتنقلان بين الوجوه المبتسمة براحة أخيرا عرفها بعدما وجد السكينة بين يديها.
علت الزغاريد، ووقف "يزيد" الذي ارتدى حلة مشابهة تمامًا لخاصة والده يقذف الورود على العروسين، اهتز المكان بالفرح، كانت لحظة تفيض بالإنسانية والبساطة، لا بهرجة فيها ولا صخب
طالع "عيسى" زوجته التي وقفت جواره بإعجاب وقد تأنقت بثوب من اللون الأرجواني، انساب برقة على جسدها، سألها وقد انتبهت على صوته:
إيه الجمال ده؟
أشارت إلى هيئته وهي تمازحه ردًا عليه:
هو في حد النهارده يتقاله كده غيرك برضو، عيني عليك باردة.
ضحك ثم بحث بعينيه عن ابنته التي تمت شهرين ونصف من أيام، ونبهته "ملك":
مع ماما.
هز رأسه نافيًا وقد وجد "هادية" بمفردها ولا تحمل صغيرته، أسرعا ناحيتها وسأل هو عن الفتاة فردت عليه والدة زوجته:
رفيدة قالتلي هتاخدها "شوية".
ولكن وقعت عيناه على الفتاة مع زوجة والده، تحرك "عيسى" بمفرده ناحيتها، وطلب الفتاة وهو يقول بانزعاج:
قولي لرفيدة لما تاخد تاني مرة غالية من حد تبقى ترجعها زي ما خدتها.
_ هو أنا هاكلها؟
سألته "سهام" باستنكار وهي تهدهد الفتاة التي تركتها ابنتها معها، لم تعطها لعيسى الذي طلبها وحاولت التودد قائلة:
خليها معايا شوية، وروح أنت.
كان "عيسى" حازمًا وهو يقول:
لا، هاتيها.
بمجرد أن أنهى جملته أتى إليه "يزيد" الذي قال بسعادة:
"عيسى" إيه رأيك في لبسي؟
ضحك وهو يخبره للمرة المائة في نفس اليوم تقريبًا:
جميل يا حبيبي، أشيك واحد هنا، وبعدين مش أنا اللي اختارتلك لازم تبقى واثق في ذوقي.
شعر الصغير بالفخر ثم توسل برجاء:
ممكن أشيل لولي شوية؟
_ لا يا يزيد علشان هي صغيرة أوي ممكن تقع منك، لما نروح البيت أنا هبقى معاك وأخليك تشيلها براحتك.
هكذا أخبره "عيسى" برفق ولكن اعترض الصغير قائلا:
بس أنا مش هروح معاكم، مش أنا هسافر مع بابا وشهد؟
لم يستطع "عيسى" منع ضحكته قبل أن يميل لمستوى الصغير سائلا وهو يضيق عينيه:
أنت غلس ليه؟
وبعدين تروح معاهم ازاي؟
دول هيتفسحوا في أماكن وحشة جدا، أنت هترجع البيت معانا وأنا بقى هوريك الخروجات عاملة ازاي.
نشط حماس "يزيد" وسأله:
بجد؟
هز "عيسى" رأسه بتأكيد، وحين لمح قدوم "بشير"، تناول الفتاة من "سهام" محذرًا:
افردي وشك ده شوية، بدل ما أبلغ الحاج يجي يفرده بطريقته.
ورحل وهو يداعب ابنته، أما هي فأصابها الضيق وطالعته بانزعاج هامسة:
مستفز، ومحسسني إنه جايب الأملة.
أخذ ابنته وعاد إلى "ملك"، وضعها بين يديها وهو يداعب خصلات الفتاة القصيرة ثم نبهها:
هروح أشوف "بشير" وراجعلك، متديش غالية لحد، لو أبويا نفسه جه قالك هاتيها ابعتيهولي.
_ مش كده يا "عيسى"
نبهته وأصر هو قائلا:
لا هو كده.
حركت رأسها بمعنى ألا فائدة منه وهي تراه يتوجه ناحية "بشير"، قال بابتسامة:
كنت فاكرك مش هتيجي.
_ مقدرش مجيش.
قال "بشير" هذا وهو يحتضن صديقه، بدا على وجهه كم أثرت الأزمات الأخيرة عليه، جعلته يهمل في كل شيء، ربت "عيسى" على ظهره قائلا:
بعد الفرح نقعد مع بعض ونتكلم، ولو عندك مشكلة أنا هساعدك.
هز "بشير" رأسه موافقًا وهو يقدر محاولات صديقه المستمرة لدعمه منذ أن غادر المشفى، شرد "بشير" فيما يمر به هذه الفترة مع زوجته، وكأنه يرى أمام عينيه اليوم الذي عاد فيه من العمل فوجدها قد أعدت حقيبتها مما جعله يتوقف سائلا باستغراب:
على فين كده يا "علا"؟
مسحت عينيها بهدوء قبل أن تخبره:
عرفت إن أمي هتطلع من المستشفى بكرا، وافتكر إن مش هيبقى مرحب بيها هنا.
_ فتسبيني وتمشي؟
كان هذا سؤاله المستنكر وردت هي بدموع:
ولا هينفع أسيب أمي بعد ما بقت عاجزة.
وقف أمامها، وهو يسألها معاتبًا:
هو أنا قولتلك سيبيها !
ابتلعت غصة مريرة في حلقها وهي تخبره بحزن:
حتى لو قولتها هيبقى حقك، أنت متستاهلش يا "بشير" كل اللي شوفته معايا، أنا مستاهلكش، ومبقتش عايزه حاجه خلاص من الدنيا، علشان كل ما بعوز بتديني على دماغي
شرحت معاناتها بحسرة:
لما حبيتك كان نفسي نعرف نعيش زي الناس بس "شاكر" وقفلي وعيشت أسوء إحساس ممكن أعيشه، ولما قولت ده أنا اتعوضت عن الفترة دي بجوازي منك جه محسن وكنت هتروح مني فيها، ولسه يا دوب بنفوق من حكاية محسن دي، حصل اللي حصل لأمي، وأخويا راح
أشفق عليها وهي تقول من بين شهقاتها:
وحتى لو هتزعل مني يا "بشير" بس أنا اه زعلانه عليه، مهما عمل كان أخويا، حتى لو جوايا كل حزن الدنيا منه بس هيفضل أخويا اللي عيشت معاه كتير تحت بيت واحد وزعلت على فراقه.
تنهدت وهي تحاول التقاط أنفاسها ثم قالت:
علشان خاطري يا "بشير" كفاية كده، شوف حياتك، وسيبني بقى لمشاكلي اللي أنت مش مضطر تعيشها ولا تقبلها.
حملت حقيبتها ولم تستطع عدم قولها، انهارت وهي تخبره:
بس أنا بحبك أوي والله.
احتضنها بقوة مما جعل حقيبتها تسقط، همس لها بمشاعر صادقة:
أنا كمان بحبك يا "علا"، ورغم إن كل حاجه كانت بتقول مينفعش بس نفع، يعني إيه تمشي وكل واحد يشوف حياته، ما نشوف حياتنا سوا.
أغمضت عينيها الدامعتين وهو يطالبها برجاء:
متمشيش.
مال يقبلها وكل شيء يجعلها تتيقن من أنها لا تقوى على الرحيل، حين ابتعد عنها رأت الحب في عينيه وانتقل له لهفتها أيضًا، ومع تتكراره قول:
متمشيش
أنا هتصرف في موضوع والدتك.
سقطت كل دفعاتها، هزت رأسها موافقة وكأنها سُحِرت به، وقد علمت أنها وبكل أسف لا تستطيع الابتعاد عنه أبدًا.
فاق "بشير" من شروده حين سمع "عيسى":
ده أنت مش معايا خالص.
لم يجد مفر فنطق:
بص أنا عارف إنه مش وقته بس
بدأ في قص ما يؤرقه عليه، وبعدما انتهى تنهد "عيسى" ثم قال:
شوف شقة إيجار جنبك أمها تقعد فيها وهاتلها مرافقة، ومراتك تبقى تروح وتيجي عليها كده كده هتبقى قريبه منها.
رأى "عيسى" الحماس في نظرات صديقه وكأنه لم يطرأ عليه هذه الفكرة، ضحك على حالته ثم قال:
فك وشك بقى، النهارده فرح أخويا مش عايز نكد.
_ مش عارف أقولك إيه يا "عيسى"
وكان رد "عيسى" عليه صادقًا:
يا عبيط احنا أخوات.
انتبه "بشير" لحسن الذي يذهب ناحية "مريم" الواقفة بجوار قسم الطعام مع "ملك"، ونبه صديقه غامزًا:
الحق "حسن" قبل ما يخلي الحاج "نصران" يدور فينا الضرـب دلوقتي.
كانت "مريم" تضع في طبقها قطعة من المعجنات وهي تشير لملك:
الميني بيتزا دي خطيره.
مسحت "ملك" بأناملها على وجه "غالية" التي غفت وهي ترد:
طب حطيلي لحد ما أروح أدي "غالية" لعيسى.
غادرتها، وسمعت "مريم" صوت من خلفها يناديها، وما إن استدارت حتى وجدت "حسن" أمامها، توترت نظراتها وكذلك هو أيضًا، تكرر في أذنيها ما قاله "نصران" لها قبل أيام:
أنا مديت إيدي عليه قبل كده علشانك، بس هو ندم واتعدل، وأنتِ بنتي يا مريم، ولولا إني شايفه عايزك وبيحاول مكنتش كلمتك، عايزه تديه فرصة تقدري تعملي ده وأنا هضمنه، مش عايزه هتفضلي بنتي مهما حصل.
انتبهت على صوته وهو يقول بابتسامة مادحًا:
شكلك حلو النهارده.
كانت مبهرة هذا أدق وصف، بدت كفراشة ناعمة تجذب الأنظار، في حيرة من أمرها، وحديث نصران مازال يدور في عقلها، تريد العفو ولكنها كلما تذكرت ما فعله تخشى الحياة معه، رسمت تعبيرًا صارمًا على وجهها وهي ترد على مدحه:
شكرًا.
ثم عادت إلى ما كانت تفعله، حيث اختيار الأصناف التي ستضعها في طبقها، بدا "حسن" محبطا ولكنه لم ييأس بس سألها بنبرة تتوسلها أن تعفو عنه:
شكرا بس؟
طب مفيش حاجه تانية لافتة انتباهك؟
لم تستدر ناحيته بل قالت وهي تستكمل ما بيدها:
أنا مفيش حاجه لافتة انتباهي دلوقتي غير الميني بيتزا دي.
_ ميني بيتزا !
كررها خلفها بخيبة أمل قبل أن يهتف بانزعاج:
وغير الميني بيتزا يا مريم؟
أنا تصرفاتي ملفتتش نظرك الفترة اللي فاتت خالص؟
استدارت له أخيرًا فابتسم ثم سألته:
تلفته ازاي يعني؟
واجهها بما تعلمه هي جيدًا:
أنتِ فاهمة.
وردت عليه بنفس الطريقة:
وافتكر إننا اتكلمنا أكتر من تسع مرات تقريبا في الموضوع ده وبلغتك ردي.
رد بمزاح وابتسامة لعلها تلين:
نخليها المرة العاشرة.
لم تستطع منع ابتسامتها واستدارت تعود إلى ما كانت تفعل وهي تلقي على مسامعه:
أنت مش طبيعي بجد.
_ يعني مش هتديني فرصة.
ردت عليه بآلية شديدة:
لا.
ظنته سيبتعد غاضبًا ولكنه فاجئها حين قال متفهمًا:
خلاص ماشي براحتك
وأضاف ما جعل ابتسامتها تتسع:
بس عايز أقولك تاني إن شكلك حلو أوي النهارده.
_ شكرا يا "حسن".
قالتها دون أن تستدير ناحيته، ستفضحها عيناها، نظراتها التي مازالت تلمع في حضوره، بقت ابتسامتها والحيرة توشك على الفتك بها، ترغب في الوصول إلى قرار، بينما كان يبتسم هو الأخر وهو يطالبها:
وسعي بقى شوية أشوف الميني بيتزا دي بتقول إيه
أفسحت له الطريق وتقابلت النظرات وفي داخل كل منهما مشاعر متخبطة، هو يريد الغفران، وهي تحارب الحيرة ولا يدري كل منهما ما النهاية إلا أمل بوادره شعر بها "حسن" وتمنى لو كان بداية لتحقيق ما تمنى.
كانت "رفيدة" في نفس التوقيت تقف مع والدة "عز" ترى إن كانت في حاجة إلى أي شيء، شكرتها السيدة بابتسامة وقد رضت بعد حديثها مع "نصران" الذي أخبرها أن ابنها عاد لطلب ابنته وأفصح عن موافقتها، وأن يبتعد الجميع عن هذا الأمر عدا "عز" و"رفيدة"، تنهدت بهدوء قبل أن تسمع سؤال "رفيدة":
هو "عز" فين يا طنط؟
أخبرتها بما يخفيه ابنها:
قالي إنه راح يجبلك حاجة بس مقاليش هي إيه.
أتى في هذه اللحظة تحديدًا واستمع إلى والدته فعلق بغيظ:
هو أنتِ مبتستريش أبدًا.
أشاحت بيدها غير مبالية وابتسمت "رفيدة" وقد رأت في يده واحدة من الألعاب المضيئة والتي لمحتها أثناء دخولهم إلى هنا وقد صرحت أمامه عن رغبتها في البقاء هنا جوار صاحب الألعاب هذه
ناولها إياها وهو يخبرها غامزًا:
علشان متحتاجيش تقفي جنب الراجل برا.
تطلعت إلى اللعبة بابتسامة واسعة ثم شكرته بعينين رأى فيهما حبها:
شكرًا يا "عز"، بحب اهتمامك بالتفاصيل على فكرة
_ اهتمامي بس؟
سألها مراوغًا، وضحكت هي بخجل هاربة من نظراته، ولم يقطع انسجامهما هذا سوى صوت أمه:
ما تروحوا يا "عز" تاكلوا من اللي بيتاكل هناك ده.
علت ضحكات "رفيدة" وأغمض هو عينيه بتعب قبل أن يميل على والدته قائلا:
تصدقي بالله محدش بياكل غيري، أنتِ يا حاجة مخلياني واقف باكل في نفسي أهو.
_ الحق عليا يا أخويا أنا غلطانة، ابقى...
وقبل أن تكمل وصلة اللوم والعتاب هذه رفع كفيه باستسلام قائلا بابتسامة صفراء:
لا أنا اللي غلطان.
في نفس التوقيت الذي كانت تتابعهما "رفيدة" فيه بحماس لمعرفة نهاية مشاجرة القط والفأر هذه.
كان "طاهر" يستقبل التهاني بترحاب شديد، ثم استدار إلى "شهد" يسألها بابتسامة:
مبسوطة؟
هزت رأسها مؤكدة سعادتها ولكنها عبرت بصدق عما بداخلها:
بس خايفة أوي يا "طاهر"، وأول حاجة خايفة منها إنك تبطل تحبني.
وعدها بما يشعر به حقًا:
أنا عمري ما هبطل أحبك يا "شهد"، أوعدك قدام ربنا إني هعمل كل اللي أقدر عليه علشان متحسيش في أي لحظة تاني إنك خايفة.
_ بحبك أوي يا أحلى كابتن في الدنيا.
قالتها بسعادة ورد هو بابتسامة:
وأنا بحبك يا متدنية.
زرع الحماس في فؤادها حين قال:
أنا محضرلك بقى رحلة هترجعي منها ناسية اسمك، بس يارب تعجبك.
رأى الفرحة في عينيها وهي تتعلق بذراعه كالصغار وداخلها يرقص بسعادة من كل ما يحدث اليوم، انتبهت على "سهام" التي أتت ناحيتهما وجوارها "نصران" ووالدتها.
وقفت "سهام" تمسح على كتف ابنها، وعدلت "هادية" فستان ابنتها وهي تسمع "نصران" يقول:
ألف مبروك يا "شهد"، مبروك يا حبيبي.
قبل "طاهر" يده امتنانًا على كل شيء، ولم يعجب "سهام" أبدًا حين قال " نصران":
أنا عايز أخ ليزيد و"غالية" علشان فرحتي تكمل.
_ سيبهم يا حاج شوية، لسه بدري على الكلام ده.
قالت "سهام" جملتها باعتراض رفضه "نصران" حين قال:
أنا وولادي أحرار مع بعض.
لم تبد ضيقها حتى لا تفسد الأجواء رسمت ابتسامة وهي تهنأهما:
ألف مبروك يا "شهد"، ربنا يسعدك يا حبيبي.
وأتى دور "هادية" التي طالبت زوج ابنتها برجاء:
خلي بالك منها يا "طاهر"، هي مجنناني بس بحبها.
كانت "شهد" على وشك البكاء تأثرًا، احتضنت والدتها، ورد "طاهر":
مش محتاجة توصيني والله، وبعدين شهد ميتخافش عليها، خافوا عليا أنا منها.
ضحكت والدتها، وضربته "شهد" في صدره، بينما في نفس التوقيت انتبه "بشير" الواقف جوار "عيسى" إلى دخول أحدهم، نبه صديقه بقول:
الحق يا "عيسى"، بص مين جاي.
استدار "عيسى" ينظر حيث أشار "بشير" ليجد أمامه "باسم"، سمع سؤال "بشير":
هو أنت عزمته؟
هز "عيسى" رأسه نافيًا، وهو يتابع اقتراب "باسم" منهما، وقف أمامهما قائلا بابتسامة:
ألف مبروك يا "عيسى" مع إنك معزمتنيش.
_ طب ما أنت لماح أهو، جيت ليه بقى؟
رد "باسم" على قول "عيسى" ضاحكًا:
مش ممكن على الذوق، صاحبك يا "بشير" يدي دروس فيه.
تنهد ثم أضاف:
عموما أنا جاي أقول مبروك للكابتن "طاهر" وكمان عايزكم في شغل.
قطع حديثهم نبرة "ميرفت" اللائمة وهي تحمل الصغيرة:
كده يا "عيسى" بتقول لمراتك متدينيش البت، امال لو مكنتش أول واحده مخلياك تشيلها.
ضحك "بشير" وطالبها بالصغيرة وهو يسمع رد صديقه الذي تقمص البراءة ببراعة:
لا طبعا يا حبيبتي أنا مقدرش، "ملك" بتوقع بيننا.
وردت خلفه خالته باستنكار:
بقى "ملك" برضو اللي بتوقع بيننا!
كان "باسم" يتابع الصغيرة التي سريعًا ما اندمجت مع "بشير"، رأى ضحكتها له، ابتسم وهو يتأملهما، ثم طلب:
هات أشوفها كده، عايز أطمن إنها مش واخدة من أبوها حاجة.
رفض "بشير" وهو يرد عليه:
لا اتطمن هي كلها أبوها.
ثم طالعها سائلا بابتسامة وكأنها تفهمه:
صح يالولي؟
انتبهت لباسم، ومدت يدها ناحيته فابتسم لها وهو يتأمل ملامحها قائلا لمحدثه:
يا شيخ حرام عليك، بقى البرنسيس دي شبه ده.
انتهى "عيسى" من حديثه مع "ميرڤت" وانتبه له، علق على قوله بتهكم:
طب ملكش دعوة بالبرنسيس، وخليك مع أبوها.
ضحك "باسم" ساخرًا، وكرر طلبه بإصرار:
لا أنا عايز أشيلها.
لم ينتظر موافقة "بشير" تناولها منه، تحت نظرات "عيسى" التي حملت الضيق، ضحكت الفتاة فعلق "باسم" وهو يلاعبها:
واخده على الناس يا "عيسى"، مش زيك أنت وصاحبك.
_ لما تكبر إن شاء الله هتبقى تستنضف.
قالها "عيسى" له بابتسامة صفراء ورد عليه "باسم" بنفسها:
يبقى هتتبرى منك.
قال "عيسى" وهو يحافظ على ثباته أمام استفزاز الواقف أمامه:
أنا مش هرد عليك يا "باسم"، علشان أنت بتحب تحرـق بنزين على الفاضي، وأنا مبقاش عندي خلق لده.
ضحك "باسم" وأشار للصغيرة التي أخذها منه والدها قائلا:
موفره ليها.
أخرج من جيبه علبة مخملية بداخلها قلادة ذهبية حملت اسم الصغيرة، وأضاف وهو يقدمها:
كنت عايز ألبسهالها، بس أنت فارض الحصار عليها، عموما ألف مبروك يا "عيسى"، وإن شاء الله شغلنا الجديد سوا بخصوص موضوع المصنع اللي كنت عايز تنفذه أنت وبشير واتعطل يبقى وش غالية حلو عليه.
لم يأخذ "عيسى" ما قدمه، ورد عليه:
ده شغلي أنا وبشير، واحنا الاتنين بس اللي هنعمله.
_ المصلحة بتقول إن وجودي هيفيدكم، وأنا عارفك بتوزن المصلحة كويس.
قال جملته الأخيرة غامزا ثم استكمل:
أروح أنا بقى أبارك للكابتن.
وضع العلبة المخملية بيد "بشير" وختم:
قول لصاحبك دي لغالية مش ليه.
ما إن رحل من أمامهما حتى سأل "بشير" بحيرة:
هنعمل إيه يا "عيسى"، أنا بقول نوافق، احنا محتاجين نزود راس المال، ده غير إنه فاهم الشغل ودماغنا، سيبك من رخامته بس هو عمل موقف حلو وجه يبارك، وكمان جايب هدية لغالية يعني بيحاول يجر ناعم.
رد "عيسى" وهو ينظر إلى صديقه:
مش عايز يبقالنا شريك، ورخامته اللي أنت اتكلمت عنها دي أكتر حاجة قافلاني منه.
_ طب نفكر بعدين.
قالها "بشير" مزيحًا عن صديقه عبء التفكير، وقال "عيسى":
ماشي، هروح أشوف الحاج وراجعلك.
جلس "نصران" على المقعد المجاور لهادية قائلا بابتسامة:
مبروك يا ست "هادية".
ردت له الابتسامة وهي تقول:
الله يبارك فيك يا حاج.
ينظر إليها فيشعر أن الزمان لم يمر أبدا وكأنه عاد إلى هذا الذي ملأ حبها قلبه، ابتسم بحنين ثم قال:
الزمن مبيعديش عليكي يا "هادية"
بتجوزي بنتك التانية أهو ولسه زي ما أنتِ.
نظرت لها وقد شعرت بأن فؤادها يحلق، هذا الأمل الذي تعلم أنه لن يتحقق أبدا، كُتِب عليهما البقاء هكذا، تنهدت بحزن، ثم ردت على ما قال بابتسامة:
ربنا يديك الصحة يا حاج، ده من ذوقك، إن شاء الله تفرح بعيالهم.
شعرت بالنجدة حين رأت "عيسى" فقررت الابتعاد متحججة بأي شيء، لن تستطع البقاء أكثر تحت نظرات "نصران" التي تبوح بكل شيء، تحمل الماضي، وتحمل عتابه، وتحمل حبه لها، ولم تختلف هي عنه أبدا، وما إن رحلت حتى سأل "عيسى" والده بابتسامة غامزًا:
إيه بقى؟
_ إيه يا واد أنت؟
سأله نصران بغيظ ورد عليه ابنه ضاحكًا:
طب ما تتجوزها، بدل ما تفضل في دايرة اللي حب ومطالش دي.
ضربه "نصران" على ساقه محذرًا:
هقوم أفرج اللي هنا كلهم عليك.
دافع "عيسى" عن نفسه وهو يرد على والده بمزاح:
وأنا عملتلك إيه بس، ده أنا عايز مصلحتك، اسمع مني، رفيدة هتتجوز، وحسن مش هيقعد كتير، وأنا خايف عليك من القعدة في وش "سهام".
رد عليه "نصران" بسخرية:
اللي بتقوله ده كان ينفع زمان قبل ما اجيب أخواتك، وابقى جد دلوقتي.
_ اللي عايز حاجة يعملها في أي وقت.
قال "عيسى" هذا وضحك "نصران" وهو يعلق:
ده في شرعك أنت يابن "نصران".
تذكر "نصران" شيء ما ثم نبه ابنه:
بعد الفرح عايزك معايا في مشوار كده.
شغلت الجملة هذه فضول "عيسى" الذي لم يهدأ إلا بعد أن عرف ما الذي يريده فيه والده، زيارة إلى منزل "منصور"، لم يتوقعها أبدًا، ولم يعرف غرض والده، الذي دخل برفقته بهو منزل "منصور" وقد تواجد فيه هو وكبار عائلته، وقبل أن ينطق أي أحد بادر "نصران":
متجمعين عند النبي.
انتفض "منصور" وقد أعماه غضبه وسأل:
جاي هنا ليه يا "نصران"، مش خايف على ابنك اللي جنبك ده، أخد حق اللي عمله في ابني وأموـتهولك؟
ورد "عيسى" قبل والده ببسالة:
اللي ربيته في بيتك حاول يعملها قبلك، والحمد لله واقف قدامك أهو، ومحدش راح فيها غيره.
_ اقعد يا حاج "نصران" ونتكلم.
قالها أحد أقارب "منصور" ولكن رفض "نصران" قائلا بحزم:
لا ملوش لزوم، أنا عندي كلمتين، وعرفت إنكم هنا النهارده فجيت أقولهم.
طالع "منصور" وبدأ حديثه وهو يقف أمامه:
اللي أنت بتقول عليه ابنك ده عاداني، ومش هستغربها عليه ماهو شارب منك، حاول يأذيني في عيالي مرة والتانية، والتالتة ابني كان هيروح فيها.
رد "منصور" بحدة يلقي الاتهامات على "عيسى":
ابنك ده هو اللي فتح الناـر على الكل ونبش في القديم اللي مكانش فيه مخلوق يقدر ينبش فيه.
رفع "عيسى" كفيه ببراءة قائلا:
لو قصدك بالقديم ده إن "جابر" يبقى ابن مهدي فـ دي معلومة مكانتش عندي أصلا، أنت اللي قولتها وأنت بتخرف بسبب الأدوية اللي كان بيديهالك، أما بقى لو قصدك على معرفته حكاية إنه مش ابنك دي مني فاعتبر ده جزء بسيط من حق أمي اللي سلطت عليها، ولا نسيت؟
_ أدوية إيه يا "مهدي" اللي بيتكلم فيها دي؟
سأله أحد أقاربه وقبل أن يرد كانت "رزان" تضع الحامل المعدني بالمشروبات فاستوقفها "عيسى" طالبًا:
احكيلهم يا "رزان" أدوية إيه.
طالعته بتخوف ولم يطمأنها سوى نظراته التي توحي بأنه سيتولى أمرها إن خرجت من هنا، ابتلعت ريقها بتوتر قبل أن تقول:
"جابر" كان بيدي الحاج منصور دوا يخليه مش في وعيه ويهلوس وسط الناس علشان يتكلموا إنه كبر خلاص، وبعد كده مبقاش يخليه يخرج الكلام ده حصل بعد ما عرف إنه مش ابنه.
سأله أحدهم بنظرات غاضبة:
صحيح الكلام ده يا منصور، اللي مطمرش فيه ده عمل كده؟
أوشك على الإمساك برزان للفتك بها وهو يصرح:
ال×××× دي سبب خراب البيت كله
ولكن وقف في طريقه "عيسى"، والذي أعطاها الإذن:
كملي يا "رزان".
ابتلعت ريقها وهي تتلاشى نظرات الجميع بتوتر ثم تحدثت:
جابر بعد فترة جاب دكتور للحاج وبطل يديه الدوا اللي كان بيديهوله، والدكتور قال إنه هيفضل فترة يلغبط وبعد كده هيبقى كويس طالما بطلنا الدوا، الفترة اللي كان تايه فيها دي قال قدامي إن "جابر" ابن الحاج مهدي، وأنا مقولتش علشان خوفت الدنيا تقوم ....
لم تستطع إكمال جملتها حيث سمعت سباب "منصور":
يا بنت الـ ××× اسكتي.
_ خليها تكمل يا "منصور"
قالها أحد أقاربه بحزم مما دفع "رزان" للإكمال:
الحاج "منصور" قال كده تاني قصاد "جابر"، قاله إن "مهدي" رماه، ورمى أمه لما حملت فيه، ولولاه كان اتربى في الشارع.
قام أحد الجلوس، ذهب ناحية "منصور" ووقف أمامه قائلا بجدية:
أنت جبتنا وقولت ابنك في مصيبة واحنا أهلك وعزوتك ولازم نقف معاك وجينا.
أضاف وقد احتدت نبرته:
طلعت مخبي عننا كلنا إنه مش ابنك، وبلعنا الصرمة وسكتنا لما قولتلنا، لكن لحد هنا وكفاية.
ودعم هذا شخص أخر حيث هتف معترضًا:
أنت سامع يا "منصور" اللي الواد كان بيعمله، عايز يجننك، وجايبنا نشوف حل في حبسته، وبعدين ازاي "مهدي" ينكر ابنه، يا تقولنا كل حاجه دلوقتي يا هنمشي، والواد ده مش مننا.
همست "رزان" الواقفة خلف "عيسى" له بخوف:
وغلاوة بنتك ما تخرج وتسيبني هنا، منصور لو مسكني مش هخرج سليمة.
لم يرد حيث أنصت وهو يسمع "منصور" يقول موجهًا الحديث لأقاربه تحت أنظار "نصران":
حاضر أنا هقولكم اللي عايزين تعرفوه، وبعدها عندي كلمتين وهتسمعوهم
تنهد ثم ألقي على مسامعهم حقيقة
ما قالت "رزان":
مهدي كان مرافق الخدامة اللي شغالة عندهم، وحملت منه وهو ميعرفش، بس كوثر عرفت باللي بينهم وطردتها، والبت جاتلي علشان أساعدها علشان خايفة تقولهم إنها حامل، بس أنا مشيتها، بعدها عرفت إنها راحت للي خلقها وهي بتخلف، البت كانت مقطوعة ملهاش غير جارة هي اللي جابت الواد لكوثر وقالتلها إن دي وصيتها، كنا في الوقت ده أنا والمرحومة ملهوفين على عيل ومش طايلين، وبتعاير من الكبير والصغير منكم برد مره وعشره لا علشان حاسس عيني مكسوره
كان يظن أن هذا الأمر لن يُفتح مرة ثانية أبدًا، ولكنه الآن هو من يقصه بنفسه، أكمل بضيق:
كوثر كانت صاحبة المرحومة، وعارفة شوقها لعيل، فجت تقول قدامها عن خدامتهم اللي غلطت مع واحد ورماها، وراحت يا عيني وهي سايبه عيل ملوش حد، فضلت تزن لحد ما سميحة كلمتني ناخد الواد نربيه، ولما لقيت ان مبيحصلش جديد في موضوع الخلفة ده وافقت، وعرفت كوثر بيني وبينها إني عارف الليلة كلها وإن لسانها مينطقش قدام مخلوق، حتى لو حصل أي حاجة في يوم تتصرف ومتجبش سيرة القديم ده أبدا، ولو نطقت هخلص على نسلهم كله، وهي وافقت، واتربى الواد معايا، علشان أنا أبوه، "جابر" ابني وكان تحت طوعي لحد ما الشيطان ده دخل بيننا.
كان يشير ناحية "عيسى" ورد "نصران" بدلا منه:
متشيلش ابني تمن زرعتك الفاسدة يا منصور.
وقال أحد أقارب "منصور" باعتراض:
ودلوقتي عايز مننا إيه بقى؟
نشوفله صرفة علشان يطلع ويعمل فيك حاجه ويورثك كمان.
ضحك "منصور" ساخرًا عند هذه النقطة بالتحديد ورد عليه بتهكم:
ما أنا عارف إن كل اللي يهمكم الورث، اسمعوني بقى ياللي المفروض عزوتي وناسي
انتبهوا له جميعًا وأخبرهم هو بقراره:
"جابر" ابني، غصب عن عين أي حد منكم واقف هنا، اللي عايز يقبل واللي مش عايز عنه ما قبل، أنا حكيت اللي عندي علشان كله يبقى على المكشوف، اللي عايز يقف معايا أهلا وسهلا، بس اللي مش عايز هيبقى بيعاديني، وبالنسبة للورث اللي بتتكلموا عليه ده تاخدوا منه مع ابني أحسن ما تتحرموا منه خالص علشان أنا ممكن أرميه للكلاب ولا هيهمني، واللي عنده قول بعد قولي يسمعني
حل الصمت ولم ينطق أحد، طالع "نصران" ابنه ثم قال بعدما لم يرى منهم رد:
طيب يا منصور، اسمع اللي عندي أنا بقى، ابنك ولا مش ابنك أنت حر، هتعرف تشوفله صرفة وتخرجه براحتك برضو مليش فيه، لكن عيالي خط أحمر وأنا مش هسكت على اللي يمسهم بالكلام بس، وكفاية أوي اللي حصل، وزي ما أنت قولتها أنا بقولها دلوقتي وبسمع حبايبك اللي قاعدين، اللي عايز يعاديني يقف مع حد بيفكر يجي عليا أو على عيالي، وساعتها مش هسمي على حد.
هز "منصور" رأسه قائلاً:
حقك يا "نصران"، ومن ناحيتي اطمن أنا مش عايز غير ابني وبس، ولما يخرجلي مش هخليه يشتري عداوة اللي واقف جنبك ده علشان مخسرهوش.
_ ده لو عرفت تخرجه بقى.
قالها "عيسى" بابتسامة ساخرة، ثم نطق والده:
مرات ابنك في حمايتي، لو عايزه تفضل هنا تفضل ومحدش يتعرضلها، عايزة تطلع تقدر تخرج دلوقتي.
حاولت "رزان" أن تقبل يده وهي تهتف:
كتر ألف خيرك يا حاج.
ولكنه سحبها باعتراض، وهو يرى الضجر في نظرات "منصور" و"رزان" تضيف:
أنا همشي من هنا.
لم يعجب أي من أقارب "منصور" ما قاله، طالعوا بعضهم بغير رضا وكل منهم يفكر في طريقة للتصرف مع هذا الذي يرغب في هدر أمواله تحت أقدام من ليس منهم.
******************************
تسكن أرواحنا حين نلاقي أحبتنا، نحلق عاليًا، طيور حرة عرفت أخيرًا الطريق إلى السماء بعدما قيدها السجان لزمن.
لم تتوقع "ملك" أبدًا أن تكون مفاجأة "عيسى" لها هي السفر، لم تخرج من البلاد أبدًا قبل ذلك، كانت تطالع الطيارات في التلفاز برهبة، وتعلم أنها بعيدة كل البعد عنها، ولكن معه كل شيء متوقع.
وضعت صغيرتها في الفراش، وهي تتأمل المكان المتواجدة به، ابتسمت وهي تتذكر اسم الجزيرة والتي سمعت عنها للمرة الأولى من زوجها، جزيرة بورا بورا جنوب المحيط ال الهادئ والتابعة لفرنسا، هذه التي تتمتع بطبيعة خلابة تجمع بين المياه الفيروزية الصافية، والجبال الخضراء العالية
نظرت "ملك" من النافذة الزجاجية للغرفة فرأت الأزهار الاستوائية بألوانها الزاهية، تتماوج أشجار النخيل العالية، ورائحة الفانيليا تحيط بالمكان
تنهدت بسعادة، وتحركت بهدوء ناحية الخارج حتى لا تزعج ابنتها، كان هو في غرفتهما يبدل ملابسه، دخلت إليه ثم اقتربت منه بنفس ابتسامتها تعدل سترته وهي تسأله:
أنت جبتنا هنا ليه؟
صارحها وهو يمسد على خصلاتها بعينين عاشقتين:
أنا كان نفسي أجي هنا من زمان، بس كنت عايز أبقى لوحدي، أفصل من كل حاجة، واتفرج على اللي حواليا واتبسط بس، لكن بقى في مشكلة صغيرة.
قطع الخطوة الفاصلة بينهما وهو يضيف هامسًا:
أحلى مشكلة في الدنيا.
رأى السؤال في عينيها وجاوب ورأسه تستند على خاصتها:
مبقتش أعرف أبقى لوحدي، ولا بقيت أعرف اتبسط غير وأنتِ وغالية قصاد عيني.
رأت في عسليتيه الصدق وهو يسألها:
هتصدقيني لو قولتلك إني مبقتش أعرف أتنفس كويس من ساعة ما طلعت من المستشفى غير في وجودكم؟
هزت رأسها بابتسامة متأثرة وهي ترد:
مصدقاك.
أضافت بما جعله في عالم أخر:
وبحبك أوي.
احتضنها ورغب لو بقت هكذا حتى أخر لحظات عمره، قبل أعلى رأسها ثم وعدها:
أنا هفرجك على كل حتة هنا، عايزك تنسي أي حد غيرنا.
هزت رأسها موافقة بحماس، ثم قررا النوم ليستريحا قليلا من أعباء السفر، تمدد على الفراش وجاورته تحتضنه فسعد بحركتها العفوية، ولم تقل سعادتها عنه أبدًا
لم يطل نومه حيث سمع صوتها تحاول إيقاظه، فتح عينيه وسألها بنعاس:
في إيه؟
_ قوم نخرج نتفرج على الغروب، أنا بقالي شوية قاعدة ببحث عن كل شبر، وعرفت إن الغروب بيبقى حلو أوي لما نشوفه هنا.
كانت تقول هذا بشغف رد عليه هو بعينين شبه مغلقتين:
غروب إيه وأنا عايز أنام كده، أجليها ليوم تاني احنا قاعدين هنا كام يوم.
أبدت ضيقها وحذرته:
هزعل منك يا "عيسى".
رد وهو يضع الوسادة على رأسه:
يا "ملك" عايز أنام.
أمسكت بكفه وطالبته بعينين متوسلتين:
علشان خاطري يا "عيسى" نخرج نتفرج.
لم يستطع الاعتراض بعد نبرتها هذه وكذلك نظراتها، فاعتدل على الفراش قائلا بابتسامة:
خلاص ماشي.
اتسعت ضحكتها لموافقته على مطلبها، أسرعت ترتدي ملابس مناسبة، وقام هو وقد استعد للخروج معها، انتبه إلى أن ابنته هي الأخرى مستيقظة فتحرك ناحيتها وقد أتت له بها "ملك" فقال:
أنتِ كمان صاحية.
ضحكت الصغيرة له وهي تمسح بأناملها على وجهه فابتسم وهو يقول:
أنتِ و"ملك" متعبين زي بعض.
أصابت أظافرها وجهه وكأنها فهمت ما يقول، فتألم وهو يطالعها بغيظ:
اه يا بنت الـ...
لم يكمل جملته بسبب نظراتها المترقبة له، ضحك ومال يقبل وجنتها قائلا:
بحبك يا لولي.
ظلت تلعب معه حتى انتهت والدتها، خرجوا ثلاثتهم، وتحقق مراد "ملك"، حيث تجلس الآن جواره وقد سندت رأسها على كتفه وحمل هو ابنتهما أمام المياه، بدت السماء وكأنها قطعة من الحرير تتدرج فيها ألوان الشمس بداية من الذهبي إلى البرتقالي، وانعكست هذه الألوان على صفحة المياة فصار البحر وكأنه مرآة للسماء
شعرت "ملك" بأنها ترى الغروب للمرة الأولى، كل شيء مذهل، الدفء والحنين، وتهادي الأمواج بخفة، سكون الأصوات من حولهم، وكأن هذا الكون الفسيح لم يبق به سواهم.
رأت الابتسامة المرسومة على وجهه وهو يطالع المياه فسألته:
بتضحك على إيه؟
تنهد وهو يجاوبها:
الجو ده فكرني بحاجه كنت سمعت عنها قبل كده.
_ طب احكيلي.
قالتها وكلها شغف لسماع ما سيقوله، وبدأ هو بالفعل يقص لها ما تذكره:
بصي يا ستي في أسطورة بتتكلم عن أمير زمان يقال إنه مصري، كان شاعر وفارس اسمه سيف الملوك، الأمير ده مكانش يعرف الحب، غير لما جت ليلة غيرت حياته.
كانت تطالعه والحب الذي يحكي عنها يسكن في عينيها، وابنته تنظر له وكأنها تفهم حديثه فأكمل هو:
الليلة دي شاف فيها وهو نايم بحيرة كأنها بالظبط مراية، كانت بين جبال، واقف قريب من البحيرة دي بنت جميلة أوي اسمها...
توقف يطالع ابنته التي تنظر له وأكمل ضاحكًا:
اسمها غالية.
ضحكت "ملك" ومسحت على وجنة ابنتهما ليكمل هو جاذبًا انتباهها من جديد:
اسمها "بديع الجمال"، بيشبهوها دايمًا بالقمر، واتقال إن مفيش كلام ولا رسم يقدر يوصف جمالها، المهم إن سيف الملوك صحي عقله مش معاه، وكإن حياته كلها وقفت عند الحلم ده، راح يسأل عن تفسيره، واتقاله إن اللي شافه من عالم البشر، ده عالم تاني غيرنا، فقرر إنه هيمشي ويدور على البحيرة دي بنفسه
_ ولقاها؟
قاطعته "ملك" تسأل بلهفة ورد هو بابتسامة:
رحلة طويلة عدى فيها على صحاري، وبحار، وجبال، وقابل ناس محدش منهم عرف يساعده، لحد ما قابل شيخ دله على وادي فيه بحيرة بيتقال عنها أساطير وإنها بيسكن فيها جنيات
راح هناك، وشاف اللي عمره ما تخيل أبدا يشوفه، جنيات عند البحر، بينهم بديع الجمال اللي جاتله في منامه، وعرفته وكإن قلوبهم اتلاقت قبل أي كلمة.
تأثرت "ملك" بجملته الأخيرة، شعرت بأنها تصفها، وقال هو مؤكدًا:
زي ما أنتِ عرفتيني أكتر من أي حد قابلته في حياتي.
رقة كلماته جعلت فؤادها يحلق، عاد يكمل الحكاية تحت طلبها ونظراته تحيط بها:
اتكلموا سوا عن الدنيا، وعن الفرق بين عالم البشر والمملكة اللي جاية منها، هي حبت إصراره، وهو حب روحها ورقتها، واتفقوا يعيشوا سوا على شاطيء البحيرة دي وبنالها بيت قضوا فيه أجمل أيام، بس لما أبوها عرف غضب ومرضيش إن بنته تتنقل كده لعالم البشر من غير إذن وبعت اللي يرجعها
بان الإحباط على وجه "ملك" وهي تقول بتخوف:
اوعى تقولي إنها رجعت.
رد وهو ينظر للبحيرة:
والله دي بيتقال فيها حكايات كتير، ناس قالوا إن قامت حرب وفضل سيف الملوك يحميها بكل قوته لكن هما كانوا أقوى منه وخدوها واتحبست في مملكة بعيدة، وفضل هو شهور وسنين على شاطيء البحيرة يستناها
كانت "ملك" على وشك البكاء على هذه النهاية، فذكر هو السردية الأخرى:
وفي نهاية تانية بتقول إنهم فضلوا سوا بس اختفوا من قدام البحيرة وعاشوا في كهف مبيخرجوش منه أبدا، ومبقاش ليهم أثر غير انعكاسهم على البحيرة، بيتقال إن الناس بتشوف ضلين عليها في الليالي اللي فيها القمر كامل.
ختم بابتسامة:
على فكرة البحيرة دي اسمها دلوقتي سيف الملوك، وبيتقال إن ضلهم ده هو أثر حبهم اللي سكن المكان.
_ حاسة إني اتأثرت أوي.
قالت هذا بابتسامة ثم تمنت:
يارب يكونوا فضلوا مع بعض حتى لو عاشوا في كهف.
وفضل هو هذا أيضًا قائلا:
أنا كمان بحب النهاية دي.
عادت تريح رأسها على كتفه وهي تسأله:
تفتكر ضلنا أنا وأنت وغالية هيظهر على الماية هنا للناس بعد كده؟
رد ضاحكًا وهو ينظر لها بشغف:
والله افتكر إني بحبكم أكتر ما كان سيف الملوك بيحب بديع الجمال.
الأمان، هذا أجمل ما تشعر به الآن وهي تبادله النظر، هذا الشعور الذي لا تجده إلا برفقته، ملك المفاجأة القادر على سحرها في كل لحظة وكأن كل مفاتيحها بيده هو فقط.
******************************
ِ_ وكإن كل اللي حصل ده كان حلم.
جملة قالتها "ملك" لنفسها وهي تبتسم متأملة الأجواء من حولها، كانت أمواج البحر الذي تجلس أمامه متضاربة رغم هدوء الفجر، الهواء مشبع برائحة جوز الهند، والسماء لوحة فنية رائعة تعلن عن أول خيوط النهار.
تنهدت بعمق قبل أن تشعر به يحاوطها من الخلف، لم تنتفض، خرج لها من مسكنهما هنا، والآن تسمع نبرته وقد بقى بها أثار نومه:
إيه اللي مصحيكي دلوقتي؟
عايزه تحضري الشروق كمان؟
جلس جوارها فأسندت رأسها على كتفه بعدما أحاطته معها بشالها إثر البرودة في هذا التوقيت، فتح هو هاتفه يتابع من شاشته ابنته الغارقة في النوم وهو يسمع إجابتها:
بتفرج، كل حاجة هنا حلوه أوي، عمري ما كنت أتخيل إني هزور مكان زي ده، بس أديني موجودة فيه ومعاك كمان.
كان يشعر بها مازالت متأثرة بالأحداث الأخيرة، لا تصدق أنه جوارها، أصبح يرى أضعاف حبها القديم في عينيها وكأن عشقه داخلها تضاعف ولذلك نطق بابتسامة مشاكسة:
أنا محتاج كل فترة أبعد عنك شوية
وأشار إلى عينيها موضحًا:
علشان البصة دي.
_ بحبك أوي يا "عيسى".
أسرته بها، طالع عينيها بوله، وابتسامته الدافئة عبرت عما بداخله، تحسس وجنتها بأناملها وهو يخبرها بما ألقاه على مسامعها مسبقًا:
وأنا بحب "ملك"، وعيون "ملك"، وضحكة "ملك".
ضحكت ثم تاهت في عسليتيه وهو يقول:
بحب "ملك" اللي قدامي دلوقتي، واللي كانت جنبي امبارح، واللي هتبقى قدام عيني بكرا، واللي عايز أفضل مربوط بيها لأخر العمر.
تنهدت بسعادة وهي تخبره بعدما هربت بعينيها منه تطالع المياه:
أنا مقدرش عليك كده على فكرة.
علت ضحكاته قبل أن يرد على قولها معترضًا:
هو أنا حد قدر عليا غيرك.
جملته الأخيرة جعلتها تحلق عاليًا، اقتربت منه بهدوء ووضعت قبلتها على وجنته، ثم أخبرته بابتسامة وهي تراه مسحورًا بها:
تصبح على خير يا "عيسى".
ثم تحركت مغادرة بسرعة قبل أن يلحق بها، وبداخلها سعادة لم تشعر بها يومًا ما، فقط شعرت بها بجواره، ولا أحد غيره يستطيع جعلها تحلق مثله، وكأنه أجنتحتها، لتتيقن من أن حريتها وأنفاسها المسروقة تتواجد عنده هو.
******************************
أربعة أعوام تغير بهما الكثير، خاصة حبه لزوجته وابنته، حيث زاد في هذه الأعوام أضعافًا، اليوم هو الأول لها في حضانتها التي أصرت والدتها على أن تدخلها، أتى لإيصالها برفقة "يزيد" و"طاهر" بعد شجار بينه وبين "ملك" بسبب رفضه لذهابها، وإصرارها هي على أنه يجب أن تذهب لتتفاعل مع من هم في عمرها وتكتسب المهارات.
مال "عيسى" أمام مقر الحضانة يربط لها الحذاء الذي انحلت عقدته، ووقفت هي بوجه حزين غير راضية، قطة مشاكسة بملامح سرقت أغلبها من أبيها، عدل "يزيد" لها من وضح الحقيبة وهو يطمأنها:
أنتِ زعلانة ليه يا لولي جوا فيه لعب جميلة، وهترسمي وتعملي كل الحاجات اللي بتحبيها.
_ هروح وأعملها أنا وبابا.
أبدت اعتراضها بهذه الجملة وقبل أن يتأثر "عيسى" نطق "طاهر":
يا حبيبتي مش أنتِ كنتي بتقوليلي عايزة أروح مع زيزو يا "طاهر"، هنا هتبقي شاطرة أوي زي "يزيد"، وهتتعلمي حاجات جميلة وتلعبي لعب أحسن من اللي بتلعبيها مع بابا كمان.
صمتت تفكر في الحديث، واعتدل "عيسى" يمسح على خصلاتها القصيرة وهو يسألها برفق قبل دخولها:
عايزة أي حاجة يا لولي؟
تشبثت بساقه تقول بنبرة باكية ونظرات متوسلة:
عايزة أروح معاك.
لم يتحمل فرفعها من الأرضية وهو يقول برضوخ:
خلاص يا حبيبتي بلاش النهاردة.
هللت الصغيرة ومالت تنثر قبلاتها على وجنته وهو يضحك، في حين اعترض "طاهر" بضيق:
"عيسى" مينفعش كده، هي لازم هتروح سيبها تنزل وتدخل.
وأكد "يزيد" حديث والده حيث قال بإحباط:
كده مش هعرف أقنعها تلبس وتيجي معايا تاني.
رد "عيسى" عليهما وقد رفض النصح:
مش شايفها زعلانة ازاي، الحضانة ولا نفسيتها يعني؟
نطق "طاهر" بنبرة منخفضة حتى لا يسمع الصغيران:
طب استلقى وعدك من "ملك" بقى يا بتاع نفسيتها.
أدرك المأزق الذي وضع نفسه به، فحدث المتشبثة به بثبات زائف:
بكرا يا غالية هتيجي، أنا رجعتك النهاردة بس علشان متزعليش، لكن علشان نبقى شاطرين وماما متزعلش مننا لازم نيجي، وكلهم هنا هيحبوكي أوي وهيبقى عندك أصحاب كتير.
_ بجد هيبقى عندي أصحاب كتير؟
هز رأسه مؤكدًا بابتسامة فوعدته:
خلاص بكرا هاجي يا بابا.
قبلها بسعادة وهو يقول ما جعل ضحكتها تعلو:
أحلى بابا في الدنيا.
ضحك "طاهر" على شقيقه وابنته، هذا الذي تحول كليًا منذ أتت هذه الفتاة إلى حياته وقد سلبت أفئدة الجميع، وأولهم الصغير ابنه الذي أصبح لا يغادرها أبدًا
من يرى حياة أخيه قبل أعوام ويراها الآن لا يصدق حاله الذي تبدل، والفضل يرجع ليوم عرف الحب، يوم أعطته "ملك" ما حرمه منه الجميع، فأصبحت دواء سنينه، وصار هو التائه الذي أخيرا عرف الطريق، وكان طريقه هي.
الطريق الذي نُقِش بإسما من سلبا لب "عيسى نصران"، حبيبته "ملك"، وساحرته "غالية"، لينسى التوهة والغربة في اليوم الذي اكتمل بهما، ليصبح يومه الذي لا ينساه أبدًا.
تمت بحمد الله. 💗
