رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل المائة والرابع والخمسون 154 بقلم اسماء حميدة


 رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل المائة والرابع والخمسون 


تحسس جاك خطواته وكأنما يسير بها في متاهةٍ لا يعرف نهايتها إذ قاد سارة عبر الغابة الكثيفة حتى وقف بها أمام بيت الشجرة الذي كان جيري قد كشفه لها قبل يومين، لكن ما أعدّه لها هذه المرّة لم يكن مجرد بيتٍ عابر بين الأغصان.

ركل بأقدامه الأوراق المتساقطة التي غطّت مدخلًا سريًّا ثم أزاحها بمهارة كاشفًا عن بابٍ خفي يقود إلى باطن الأرض تسللت منه نسمات باردة تفوح منها رائحة التراب العتيق والرطوبة… هبطا الدرج الضيق يغلفهما ظلامٌ كثيف قبل أن يُشعل جاك مصباحًا زيتيًا فانسكب من لهيبه ضوءٌ ذهبيّ دافئ كأنما انتُزع من ذاكرةٍ بعيدة.

احتُبِست أنفاس سارة حين أضاء المشهد كاملًا:

جدران مُعلّقة عليها أسلحة نارية، بنادق ومسدسات ولمعان فولاذ يختبئ خلفه غموضٌ أثقل من الليل.

شهقت بذهول، وأشارت بيد مرتجفة:

ــ "أهذه كلها... لك؟"

لم يُطل جاك الجواب… كان صوته خافتًا كمن يُلقي بحقيقةٍ ثقيلة ويغلق عليها الباب إذ تناول مسدسًا صغيرًا وضعه برفق في كفّها المرتجف وقال بصرامةٍ:

ــ "الحقيقة يا سارة دائمًا تُصغي للأقوياء… ومهما كان القادم ستحتاجين إلى ما يحميك."

تصلبت أناملها فوق

المعدن البارد وارتسم في ملامحها خليطٌ من القلق والرهبة فابتلعت ريقها بصعوبة:
ــ "أتقصد... أن تعطيني هذا حقًا؟"

تحت قناعه لمعت عيناه المعتمتان بوميض جاد وفي نبرةٍ أشبه بصفعةٍ على صمت المكان قال:

ــ "إن لم تجدي مفرًّا... فلتجعليه سبيلك الأخير."

رفع يدها الممسكة بالمسدس وصوّبه نحو صدره بثبات مُربك، وجاء صوته يقطر حماساً وجسارة:

ــ "هنا... رصاصة واحدة تكفي."

كان يعرف يقينًا كيف تُطارِدها الكوابيس كل ليلة لكنه لم يتجاهل ضعفها بل قرّر أن يمنحها قُوّة قد تحررها من شبح الخوف فقال:

ــ "إن أردتِ أن تتخلصي من كوابيسك... فعليكِ أن تطعني أساسها من منبعه."

أومأت سارة برأسها ولم تستطع التكلّم… كان الخوف يجري في دمها أسرع من نبضاتها.

اقترب جاك رغم جرح يده كان يتحرك بخفةٍ كأن الألم لا يعنيه وسلّمها المسدس ثم بدأ يشرح بصوتٍ متماسك خطوات تفكيكه:

ــ "قبل أن تُطلقي النار... افهمي هذا السلاح جيدًا إن لم تُدركيه فسيكون أول ما يؤذيك."

حدّقت عيناه تتعلقان بعينيها كأنهما يطالبانها بالتركيز فأجابت بصوتٍ خفيض:

ــ "فهمت."

لم تُبدِ اعتراضًا على ما يفعله فقد أدركت أنه يضع بين

يديها ما قد يُنقذها ذات يوم فجسدها ضعيف وقلبها مُثقَل لكن ها هي تمتلك الآن شيئًا قد يردع ما يقترب منها.
وبينما كانت تُجرب تفكيك المسدس وإعادة تركيبه كانت دهشة جاك تلمع في عينيه المظلمتين؛ دهشة امتزجت بإعجاب إذ لم يتوقّع أن تلتقط خيوط القوة بهذه السرعة.

قال جاك بصوته الأجش ونبراته تُقطر حياةً وخبرة:

**"أحسنتِ… سنجرب استخدامه لاحقًا."**

قادها إلى ميدانٍ صغير للرماية يكسوه الصمت إلا من صفير الريح ثم أشار بيده نحو اللوحة المعلقة في آخر الساحة:

**"أترين تلك الدائرة؟ عين الثور... صوبّي إليها ثم أطلقي."**

كانت هذه المرة الأولى التي تمسك فيها سارة بمسدس… ارتجفت أصابعها، وتناوبت أنفاسها بين الحماسة والخوف وهي لا تدرك هل ما يطرق قلبها الآن رعشة رعب أم نشوةٌ لم تعرفها من قبل.

اقترب جاك بخطوة هادئة ثم وضع كفّه على يدها المرتجفة وهمس قرب أذنها:

**"لا تخافي… ركّزي… جدي الهدف ثم أطلقي النار. هكذا…"**

دوّى صوت الرصاصة يخترق الصمت، صوت معدنيّ فاجر صفع أذنَي سارة بعنف حتى كاد قلبها يتوقف فتجمّدت بأرضها كمن تحوّلت إلى حجرٍ من الدهشة والارتعاش ينهش جسدها بلا هوادة.

اقترب

صوته منها مجددًا وجاءت نبراته خافتة تتسلل إليها مع دفء أنفاسه:
**"هكذا… فهمتِ؟"**

عندها فقط وعَت سارة الوضع؛ لقد بدا وكأنه يطوّقها بذراعيه قبضتاه مثبتتان بقوة على يديها واللحظة مشبعة برهبة غامضة تتداخل فيها الحماية مع السيطرة.

حاولت أن تتنحى غير أن جاك تحرك بخفةٍ مفاجئة وابتعد خطوة تاركًا مسافةً لتمنحها أنفاسها من جديد وارتسم على وجهه صرامة قاتلة وقال بنبرة منخفضة وصوت أجشّ يحمل قسوةً لا تعرف المساومة:

**"جربي بنفسك… لا داعي للذعر، ولا مجال للارتجاف… عليكِ أن تصوبي بتركيز."**

ثم أضاف وهو يثبّت نظراته الداكنة في عينيها:

**"حين تقررين إطلاق النار على ذلك الرجل… فلا تترددي… إما أنتِ أو هو… الحسم وحده ينقذكِ… الرأفة لن تُبقيك حيّة."**

كانت كلماته كحد السكين مؤلمة لكن صادقة وقد عرفت في أعماقها أنه محق… ضعفها ورقّة قلبها هما ما جعلها دومًا عرضة للاستغلال؛ إذ افسحت المجال لمارينا كي تعذبها، ولأحمد فخذلها، ولغرباء داسوا على روحها.

وبتدافع الأفكار في رأسها أحسّت بشرارة من الغضب تتقد في صدرها، مزيجًا من التصميم والخوف فشدّت قبضتها على المسدس لا إراديًا ومن ثم

رفعت ذراعيها مجددًا وفي عينيها بريقٌ جديد… بريق امرأة تتعلم كيف تولد من رمادها.


تعليقات