رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل المائة والسادس والستون
عندما مرّت سارة بجوار توم وجيري ارتسم الحزن في أعينهما كأنهما يحملان قلوبًا مثقلة بالحديد. فارتسمت لهما على ثغرها ابتسامة مرتجفة محاولةً أن تمنحهما عزاءً لا تملكه لنفسها.
أما جاك فالتزم الصمت… عيناه وحدهما كانتا تتحدثان؛ ترقب خطواتها وهي تصعد المروحية كما يترقب الجسد روحه التي أفلتت منه لوهلة… جاك كان يعلم أن هذه ليست اللحظة المناسبة وأن سقوط أحمد على الجزيرة سيجرّ خلفه عاصفة لا تنطفئ لكن في قرارة نفسه خطّط للغد… وما بعد الغد ولمّا شارفت المروحية على الابتعاد عن اليابسة انزاحت عن عيني جاك ستارة الصبر لتطل نظرة خبيثة كسيف مسمۏم يلمع تحت ضوء القمر حيث التقت عيناه بعيني أحمد في لحظة خاطفة لكنها كانت كافية لإشعال حرب صامتة بينهما… نظرات حادة كأنها رصاصات تتبادلها الروحان وإدراك متبادل بأن النهاية لم تُكتب بعد… وأن ما حدث لم يكن
سوى افتتاحية لمعركة أكبر.
أما سارة لم تُتح لها الفرصة لتوديع جاك؛ الغياب كان أسرع من قلبها… التفتت إلى شجرة الكرز العتيقة التي وقفت شامخة بجوار البيت الخشبي الصغير فڠرقت في تفاصيلها كمن يودّع ذاكرة كاملة… وهناك كانت مارثا تقف أمام منزلها تلوّح بيدٍ مرتجفة بينما اجتمع الأطفال والجيران يراقبونها بأعينٍ دامعة كمن يودّعون قطعة من أرواحهم.
بينما جاك وقد ولّى ظهره للجميع وابتلعته الغابة كذئب وحيد يذوب في العتمة… لم تنظر سارة خلفها لكنها أغمضت عينيها هامسة في سرّها: "مع السلامة جميعًا.".
وما أوجعها أنّها سترحل دون أن ترى أزهار الكرز تتفتح من جديد… كانت تعرف في قرارة نفسها أن أحمد لم يُحدث كل هذه الضجة إلا ليعيدها إلى قبضة بيته لكن ما لم تدركه بعد أنّ رحلتها لم تعد ملكًا لها وأن حياتها من تلك اللحظة خرجت عن سيطرة يديها… لتسلك طريقًا مجهولًا يوشك
أن ينفجر بما لا يُتوقع.
رنّ صوت أحمد في أذنها كجرسٍ مكتومٍ يتردّد في أروقة الصمت:
"ما الخطب؟ أتبغضين مغادرة الجزيرة؟"
ترددت سارة كمن يسير على أرض زجاجية قد تنكسر تحت قدميه في أية لحظة… فهي تعلم أن الكلمة قد تكون رصاصة وأن الصمت قد يكون خنجرًا وكلّ خيار يحمل هلاكاً بين طياته.
ارتجفت شفتاها دون أن تنطق، واكتفت بهزّ رأسها بحركة باهتة تحاول إخفاء العاصفة التي ټضرب صدرها… فالحقيقة ڼار وإن أحرقتْه ثار والكذب جليد إن لامس قلبه كُسِر قائله.
شعرت پدمها يغلي في عروقها خوفًا وبات جسدها كمرجل يتأجج تحت ڼار أحمد… كانت تنظر إليه بړعب كقطةٍ محاصرة في زاوية ضيقة تحدّق في يد الصيّاد التي قد تفتك بها أو قد تداعب فروها.
مال إليها بحركة واثقة يحيطها بجاذبية قاټلة حتى كاد الهواء يتكسر من حوله ثم جذبها بين ذراعيه بلا استئذان كما لو أنّها صفحة كتاب يفتحها
ليتصفح أسرارها… لم تجرؤ أن تدفعه، لم تستطع سوى أن تنكمش داخله… تستقر على صدره… تنصت إلى دقات قلبه التي تموج كطبول حربٍ تُخفي خلف صمتها اللحظي معاناة قادمة تلوح في الأفق… كل نبضة فيه كانت لغزًا وكل نفسٍ منه كان سطرًا في رواية مظلمة لم تستطع أن تقرأ نهايتها… تقلص جسدها بين ذراعيه كغصنٍ هشّ يتوقع العاصفة… متوجسةً أن تتحوّل تلك اللحظة الحانية إلى فخّ يتلوه عذابٌ جديد.
ومع أول اهتزازٍ حادّ للمروحية هبطت على ساحة القصر الشامخ… قصر آل ميلر الذي بدا كوحشٍ عملاقٍ سيبتلعها من جديد...
كانت سارة تهبط من المروحية بخطواتٍ مرتعشة كأن الأرض تحت قدميها غريبةٌ تنبض بعداءٍ صامت حتى ساقاها الخائفتان لم تسلما من الارتجاف أما أحمد بوقوفه الصارم ونظراته الحادة بدا كحارسٍ أسطوريٍّ يقف على أبواب الچحيم… لم ينطق بكلمة لكن عيناه كانتا سلاسل فولاذية تُقيّدها دون
لمس تزرع الخۏف في عروقها.
كانت سارة أمامه كقطةٍ شاردة ذاقت من البشر ما يكفي لتتوجّس من أي يدٍ تمتد نحوها سواء بالرحمة أو بالقسۏة… ها هي قد عادت إلى حياته أخيرًا لكن ليس كما كانت؛ عادت أكثر هشاشةً، أكثر انكسارًا كمرآة محطمة أعاد الزمن لصقها، لكن شرخها ما زال ېفضحها.
ظلت سارة تترصّد ملامحه كما يعد الغريق أنفاسه الأخيرة، تحسب كل تعبيرٍ على وجهه وتحلل كل نبضة في عينيه كمن تمشي في حقل ألغامٍ مزروعٍ تحت قدميه ومع ذلك شعرت أن مراقبتها تلك تُثير فيه سخطًا مبهمًا، إحباطًا لا تدري أسبابه، غضبًا يتصاعد من بين ضلوعه كدخانٍ يسبق الحريق.
حدّقت في ظهره وهو يخطو أمامها تحاول أن تقرأ قصيدة غضبه الصامت وتساءلت بمرارة:
ما الذي
أشعل نيرانه هذه المرّة؟ فلم تقل شيئًا، لم تفعل شيئًا لكنها دائمًا ما تُحاسب على ذنوب لم ترتكبها.
يدها في خفاءٍ خائڤ داعبت جيبها حيث يرقد المسډس الصغير الذي سلّمها إياه جاك مسبقاً تلمسه كمن يتحسس تعويذة سحرية لا لتستخدمه بل لتتأكد أن خيارها الأخير لم يغادرها بعد، وداخلها أملٌ صامتٌ ألا تُضطر يومًا إلى تذوق لذّة الزناد.
حين عبروا عتبات القصر تقدّمت السيدة بورجيس بخطواتٍ رصينة تلتقط كونور من بين يدي سارة، وانسلت به بعيدًا إلى مكان آخر، إلى عالم الطفولة واللعب تاركةً سارة في مواجهة واقعها الملتبس...
تبعَت سارة أحمد إلى الطابق العلوي، خطواتها ثقيلة كمن تُساق إلى قدرٍ مكتوب سلفًا وما إن اجتازت
عتبة الغرفة حتى انغلق الباب خلفها كفمٍ يبتلعها في صمتٍ رهيب.
كانت الغرفة غارقة في عتمةٍ خانقة فلم يجرؤ سوى شعاعٍ هارب من الشمس أن يتسلل بخجل عبر ثغرةٍ في الستائر يرسم بخطوطه الذهبية رقصاتٍ متطايرة لحبيبات الغبار كأرواحٌ صغيرة تتقافز في الهواء… وقفت تتأمله والظلال تحتل ملامحه حتى غاب عنها وجهه كأنه قناعٌ حجري… لم ترَ سوى حركة بلعٍ مترددة في حلقه دليلًا على صراعٍ غير مرئي يلتهمه من الداخل بينما القدر ذاته أضاء وجهها بنورٍ خجول فانكشفت شفتاها ورقبتها للنهار كما لو أن الشمس قررت أن تخط المشهد بنفسها.
اقترب أحمد وأصابعه الخشنة مسّت شفتيها بخفةٍ أربكتها؛ لمسةٌ بدت كاختبار كأنه يود أن يختبر
كم يمكن للدفء أن يسري من يده إلى قلبها… لم تفهم ما الذي يدور في ذهنه أهي حيلةٌ أم رغبة، أم كليهما في آن؟
وحين همّت بالكلام امتدت أنامله كتيارٍ خفي ينحدر ببطء حتى وصل إلى عظام ترقوتها هناك حيث يقيم الحنين في أكثر نقاط الجسد هشاشة عندها صار تنفسه أثقل ولم تستطع أن تحدس ما ينوي فعله فقط أصغت إلى صمته كمن يحاول قراءة لغةٍ لم تُكتب بعد.
وفي اللحظة التي أوشكت فيها أن تبوح بشيءٍ تحرّك أخيرًا يميل برأسه فخرج وجهه للحظة قصيرة إلى ضوء الشمس ككوكبٍ انكشف بعد طول غياب قبل أن يقترب أكثر بقبلةٍ من ظلٍ ونور.. من خوفٍ ورغبة… وربما من كل ما أخفته أعماقه طويلًا.
لمن البعيد واجع جارفنا معاك ليه يا اللي
تنشك في مارينا