رواية شظايا قلوب محترقة ( وكأنها لي الحياة ) الجزء الثانى الفصل التاسع عشر 19 بقلم سيلا وليد


 رواية شظايا قلوب محترقة ( وكأنها لي الحياة ) الجزء الثانى الفصل التاسع عشر 

"لا إله إلاّ أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" 

الوداعُ لا يُكتبُ إلا على مَن أسرَتهُ العيون،
أما مَن أحبَّ بروحه وقلبه، فلا انفصالَ بينه وبين محبوبه.
فالعاشقُ لا يسكنُ قلبُه إلا إذا انعكسَ عليه وَلَهُ الآخر،
والحبُّ حين يشعُّ نورُه في قلبٍ ما،
فذاك صدىً من قلبٍ آخر يبادلهُ العاطفة في الخفاء.

جلال الدين الرومي

دفع إلياس الباب وجذبها إلى غرفة مكتبه، حاصرها بينه وبين الباب، وأردف بنبرةٍ حادَّةٍ كالسيف:

دلوقتي مش عاجبك، وعايزة كمان يعملولك تمثال؟

ارتسمت ابتسامة ماكرة على ثغرها، رفعت أناملها تتلاعب بزرِّ قميصه:

مين قال كده بس؟ لو على الكلام اللي قلته قدَّام يوسف علشان ميقولش…

قطع كلماتها حين وضع إبهامه على شفتيها، نظره يخترقها:

_ هوَّ أنا يوسف علشان تسكِّتي بكلمتين، يابنت فريدة؟

ارتعشت للحظة تحت قبضته، ثم طوَّقت عنقه، ورفعت نفسها تقبِّل خدَّيه، وهمست بالقرب من أذنه:
_ هوَّ فيه حد يقدر يسكِّتك برضو ياروحي، إنتَ دايمًا نار ياقلبي.

اشتدَّت أصابعه على خصرها، وأردف بصوتٍ أجشّ، يتصارع فيه الغضب والرغبة:
_ وأوعي تنسي…النار اللي بتلعبي بيها ممكن تتحوَّل لحريق مايطفِّيهوش غيري أنا.

ابتسمت بجرأة، وتحدَّته بنظراتها:

_ يبقى ولَّع ياسيدي… 

لم يتمالك نفسه، جذبها وصعد بها إلى الأعلى وهو يهمس بغلظة ممزوجة بالشغف:
_ مترجعيش تعيَّطي بس.

بغرفة يوسف.. 
ظلَّ يدور حول نفسه يمسح على رأسه بغضب، يريد أن يقتلع شعره، استمع إلى طرقٍ على باب غرفته، ثم دخول شمس..توقَّفت تراقب حالته بصمتٍ موجعٍ للحظات ثم أردفت:
_ يوسف أنا زعلانة منَّك..حدجها بنظرةٍ ثابتة، تحدَّثت:
- ليه زعَّلت ضي، إنتَ وحش، عيَّطت كتير.
_ شمس روحي على أوضتك، أنا مصدَّع.. 
طالعته بنظرةٍ حزينة ثم قالت:
_ هتزعَّقلي أنا كمان، أنا زعلانة منَّك.. قالتها وتحرَّكت مغادرة..
تأفَّف بضجر، أنفاسه تسارعت بقوَّة،  حتى شعر بوقوف نبضه، ممَّا جعله يفتح باب الغرفة ويتحرَّك للخارج.

بمنزل أرسلان.. 
دثَّرتها غرام جيِّدًا، ثم قبَّلتها على وجنتيها وتحرَّكت مغادرة، وجدت أرسلان يقف بالشرفة ينظر بشرود.. ربتت على كتفه ثم توقَّفت بجواره:
_ متزعلش من يوسف، هوَّ عنده حق، ودا اللي حاولت أفهِّمه لك، البنت كبرت وإنتَ شوفت دا بعيونك. 
استدار إليها: 
_ إنتي عارفة أنا كنت رافض، بس هيَّ صعبت عليَّا محبتش أكسر فرحتها، غير إنَّها وعدتني هتكون آخر مرَّة، هيَّ كانت عايزة تثبت لنفسها، إنَّها تقدر تعمل حاجة بتحبَّها وتنجح، مشفتيش فرحتها كانت إزاي..
_فاهمة قصدك ياأرسلان، بس البنت مبقتش صغيرة، وهي مش فاهمة حاجة. 
سحب كفَّيها وأجلسها بجواره:
_ حبيبتي فيه حاجات لازم تخلِّي الولاد همَّ بنفسهم يكتشفوا إنُّهم غلط، أمَّا لو عاندتي عقلها مش هيفهم غير إنِّك بتحجري عليها وبتخنقيها،  علشان كدا أنا سبتها براحتها، وماردتش أمنعها، ممكن أكون غلط، بس النتيجة اللي كنت منتظرها حصلت، وأنا متاكد بعد النهاردة هتنسى موضوع البالية دا خالص.
ضيَّقت عيناها بتساؤل:
_ إنتَ قصدك إيه، مش فاهمة؟.
نظر أمامه وأردف:
_بكرة تفهمي أقصد إيه. 
أمسكت كتفه تديره إليها:
_أوعى يكون فهمت صح؟.
تنهَّد ولم يرد، توقَّفت تنظر إليه بذهول:
_ معقول إنتَ اتَّفقت مع يوسف؟!.. قاطعهم صوت يوسف وبلال بالخارج..
نهض واتَّجه اليهما..دلف يوسف للداخل، وجد أرسلان واقفا متخصِّرًا..
اقترب منه بخجل:
_ أنا آسف مكنش قصدي أزعَّق وألغي وجود حضرتك، أنا مكنتش فاهم كلام حضرتك لمَّا قولتلي لو شوفت بنت عمَّك بتعمل غلط هيكون ردَّك إيه، متوقعتش الغلط يكون في كدا.
هزَّ أرسلان رأسه وأردف: 
_أنا زعلان، وزعلان أوي، طريقتك غير لائقة بتربيِّتك، طيب مابلال كان معترض، هل عمل اللي إنتَ عملته؟..ولَّا قبل مانغضب ونسمَّع الناس صوتنا نفكَّر بعقلنا إزاي نتعامل مع الموقف.
تحرَّك بلال الى جانب والده:
_ ضي كانت مصمِّمة على الباليه، ماما حاولت تقنعها تغيَّر رأيها، وأنا كمان، بس هيَّ افتكرت إنِّنا بنمنعها علشان ماتبقاش زي صاحبتها..
بابا ساعتها طلب منِّي أسكت وما أجادلش، لأنَّها ماكانتش مقتنعة بكلامنا..نظر الى والده وتابع حديثه

علشان كده..أنا ماقلتلكش الحقيقة عن موضوع الحفلة، وقلتلك إنَّها حفلة لتقديم الشعر..ماكنتش متأكد من ردِّ فعلك، وخفت تزيد في عنادها، خصوصًا إنَّها رافضة تسمع منِّي أصلًا..
كنَّا عايزنها هيَّ اللي تبعد بنفسها.

توقَّف لحظة، وأردف بنبرةٍ مهتزَّة وهو ينظر في الأرض:

_ آسف ياعمُّو..عارف إنِّي غلطت، بس بالله ماتزعلش منِّي.
باليوم التالي

خرجت غادة من عملها، واتَّجهت مباشرةً إلى شقَّة طارق بعدما علمت بعودته من الخارج..توقَّفت سيارتها أسفل المنزل القديم الذي كان يقطن فيه قبل انتقاله إلى كمبوند آل الشافعي..ترجَّلت بخطواتٍ متردِّدة، التفتت نحو مالك الذي كان يجلس خلف المقود:
عشر دقايق ومش هتأخَّر..متبعدش.

لم يرفع عينيه إليها، اكتفى بفتح هاتفه يتصفَّحه ببرود..صعدت درجات المنزل، وضغطت على الجرس عدَّة مرَّاتٍ حتى فُتح الباب.

ظهر طارق أمامها عاري الصدر، لا يرتدي سوى سروالٍ واسع..اتَّسعت عيناه بصدمة، بينما تجمَّدت في مكانها، وابتعدت بنظرها عنه بخجل: 

_ عامل إيه ياطارق؟ بتَّصل بيك وتليفونك مقفول، عايزة أتكلِّم معاك.. هستنَّاك في العربية، لازم نتكلِّم.

لم تكمل جملتها، ليقاطعهما صوت أنثوي من الداخل:

_البيتزا وصلت ياطاروقة؟.

خرجت فتاة ترتدي منامةً حمراء، بخطواتٍ متمايلة، ثم التصقت به من الخلف، تطوِّق جسده بوقاحة وهي تهمس:
_ حبيبي، مش قولت دا بتاع الدليفري؟

شعرت غادة أنَّ الأرض تميد تحت قدميها، وأنَّ روحها تنفصل عن جسدها..لحظة مميتة، كأنَّ صدرها ينشقُّ بشهقاتٍ لم تخرج..تجمَّعت الدموع في عينيها، ثم رفعت بصرها إليه بصوتٍ مختنق:

_ ليه، بالسرعة دي، هوَّ أنا كنت غلط، يعني كلامهم طلع صح؟!.
حاوطها بنظرات اشتياقٍ تنبثق من عينيه قبل شفتيه:
- انتي عايزة ايه ياغادة، احنا مش هننفع لبعض، ودي حياتي من قبل مااعرفك،  حاولت اغير من نفسي بس معرفتش
هنا انهارت دموعها، انسابت بغزارة حتى حجبت الرؤية عنها، استدارت سريعًا، تخطو بخطواتٍ واسعة متعثِّرة، كأنَّها تهرب من خنجرٍ انغرس في صدرها..وجهها غمرته الدموع، ولم تعد ترى الطريق أمامها سوى بعينينِ غارقتين في ظلام الخيانة.. استقلَّت السيارة بجسدٍ يرتجف بشهقاته:
_ امشي يامالك بسرعة.
رفع عيناه في المرآة ينظر إليها بتفحُّص، بعدما استمع إلى صوتها الباكي، التفت إليها سريعًا: 
- فيه إيه، إيه اللي حصل؟. 
- صاحت فيه بغضب، بعدما رأت قدوم طارق بعدما ارتدى قميصه:
_ بقولَّك امشي مابتفهمش.
قاد السيارة بصمت..دون أن ينطق بحرفٍ واحد.

بعد فترة توقَّف أمام النيل، استدار برأسه نحوها بصوتٍ منخفض:
_ لو حابة تقعدي شوية هنا.

رفعت عينيها الغارقتين بالدموع تحدِّق فيه بصمتٍ مثقل، قبل أن تلتفت لتفتح باب السيارة بيدٍ مرتعشة، وترجَّلت منها..بدأت تخطو خطواتٍ متعثِّرة، كالتائهة وسط دوَّامة من الألم، ثم توقَّفت فجأة، تسمح لقلبها أن ينفجر..انفجرت بنشيجٍ مرتفع، يهزُّ سكونها المميت، حتى فقدت توازنها وسقطت على ركبتيها، تبكي بلا توقُّف.

أغلق هاتفه سريعًا بعدما أنهى حديثه مع إلياس، ثم ترجَّل من السيارة بخطواتٍ مسرعة، بعدما وجد حالتها  مشيرًا لسيارة الأمن الأخرى بالابتعاد عن المكان، كأنَّه أراد أن يترك لها مساحة للانهيار بعيدًا عن العيون.. اقترب منها، ثم انحنى برفقٍ يرفعها عن الأرض ويساعدها على الجلوس، عيناه تلتقطان كلَّ دمعةٍ تهوي من مقلتيها، وقلبه ينفطر رغم صمته.

لم يُقاطع بكاءها..ابتعد عنها بضع خطوات، يتظاهر بأنَّه يمنحها حريَّتها، لكن عينيه المرهقتين تتجوَّلان بين الأفق وبين ملامحها، ينظر بالأجواء بحذر رجلٍ أمني ونظراتِ عاشقٍ تتكسَّر روحه لرؤيتها في هذا الحال.
ظلَّت لفترة ليست بالقليلة تبكي حتى ضاع صوتها، هنا انتصر القلب ليقترب منها، جلس على الأرض قبالتها غير آبهٍ بملابسه الرسمية، مدَّ يده ليساعدها بالوقوف، تراجعت بخجلٍ مرتعش، فلم يجد إلَّا أن ينهض ويرفع جسدها بحذر، لتنهار بين يديه أخيرًا..حاوط جسدها بعدما وجد ترنُّحها، وقبضةٌ تعصر صدره بقوَّة، وعيناه تغمضان على غصَّةٍ عميقة..حينما همست:
_ طلع خاين، خانِّي بكلِّ برود.

همس بصوتٍ مبحوحٍ مرتجف رغم محاولته الثبات:
_ لازم نرجع على البيت، الوقت اتأخَّر..
قالها وتحرَّك الى السيارة وهو مازال يحاوط جسدها..ساعدها بالصعود، ثم استدار إلى القيادة..
بعد دقائق، رفع هاتفه وهاتف إلياس: 
_هنروح عند إلياس باشا، ودا الأفضل. 
لم ترد عليه ظلَّت تنظر للخارج بصمتٍ موجع، بعد قليل وصلت إلى منزل إلياس الذي كان بانتظارها، اقترب من السيارة وساعدها بالنزول: 
_ مالك شوف أرسلان محتاج إيه، وإن شاءلله من بكرة سلِّم محمود فريق الأمن، وإنتَ ارجع الشركة وشوف المطلوب.
-تحت أمرك ياباشا..قالها ورمق غادة التي يحاوطها إلياس، واستدار مغادرًا..

بمنزل يزن.. 
جلس بجوار نجله ينهي معه واجباته، استمع الى رنين هاتفه، فتح الهاتف: 
-زيزو حبيبي. 
ردَّ على الجانب الآخر: 
-عامل إيه ياأبيه وحشتني؟.
_أنا كويس حبيبي، أخبارك إيه وإيمان وكريم عاملين إيه؟.
-كلِّنا كويسين الحمدلله، أبيه كريم اتعيَّن بالجامعة أستاذ مساعد. 
-أوووه، مبروك..وإيمان عاملة إيه ويزن الصغير؟.
- حلوين كلِّنا الحمدلله، إن شاءلله هننزل إجازة آخر العام.
-ترجعوا بالسلامة، سلِّملي على إيمان وكريم.
قالها بدخول رحيل:
_ العشا جاهز..التفت إلى آسر:
-خلَّصت حبيبي؟. 
أومأ وهو يمدُّ يده إلى والده بدفتره:
_ شوف كدا حضرتك، أنا حلِّيت زي ماحضرتك شرحت، ودا تعبير عن الظلم شوفه كدا.
رفع دفتره للحظات، ثم رفع عيناه إلى زوجته:
_ دي ماما تشوفها بقى.
أمسكت الدفتر وبدأت تقرأ مادوَّنه نجلها..لاحت ابتسامةٌ على وجهها قائلةً بفخر: 

_ ابنك مستقبله وكيل نيابة إن شاء الله..لا دا تعبيره مرافعة بامتياز، لتقرأ بصوتٍ مرتفع:

قالوا قديمًا: العدل أساس الملك، فحين يغيب العدل، ينهار كلُّ شيء، ولو بدا شامخًا للحظة..والظلم وإن طال، لا يملك الخلود..لأنَّه يزرع شوكًا في الطريق، يعود ليمزِّق من غرسه..
الظُّلمُ ياصديقتي هو سوادٌ يتسرَّب إلى الأرواح قبل العيون، يسرق منها طمأنينتها، ويتركها هائمةً بين أوجاعٍ لا تُرى، وجراحٍ لا تُضمَّد..هو أن يُسلب منك الحقُّ وأنت تعلم أنَّك على بيِّنة، 
فاعلم ياقارئي
دعوةُ المظلوم لا تحتاج إلى وسيط، ولا حاجزًا بينها وبين الله فهي تصعد مباشرةً إلى السماء، محمولةً بدموع المقهور وأنين القلوب.
ولا تنسى ياصديقي، قولُ الله تعالى
(وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾
وكذلك قول سيد الخلق حين قال:

"اتَّقوا الظُّلمَ، فإنَّ الظُّلمَ ظُلماتٌ يومَ القيامةِ"
ظلَّت عيناها تتنقَّل بين كلمات ابنها بعيونٍ سعيدة إلى أن  أنهت كلماته، انحنت تطبع قبلةً مطوَّلةً على رأسه:
_أحسن وكيل نيابة في الدنيا. 
نهض يزن من مكانه، وطالعها مقتربًا منها يهمس بخفوت:
_ متعلَّقيش الولد بحاجة مش هتحصل يارحيل..رفعت عيناها إليه بذهول:
_ إيه اللي بتقوله دا؟!.إن شاءلله هيكون له مستقبل حلو.
ربت على ظهرها بحنان، ولمعت عيناه بدمعٍ عصيّ، يتمتم بصوتٍ مختنق:
_ إن شاءلله حبيبتي..قالها ثم  أشار الى الخروج وهو ينظر الى آسر:
_ لمِّ حاجاتك ياحبيبي، ويالَّه علشان نتغدَّى، ونروح عند عمِّتو شوية.
أطلق صفيرًا طفوليّ: 
_ أحسن أب دا ولَّا إيه.
داعب خصلاته قائلًا:
_ لا ولسة في هدية حلوة على التفوُّق،  شوفت بابا كريم إزاي..قاطعهم دخول رولا:
_ وأنا لأ..طيب أنا زعلانة..قالتها وهي تعقد ذراعيها وتصنَّعت الحزن وهي تبتعد بنظراتها عنه.
ابتسم على حركات طفلته، فاقترب منها وحاوط كتفها:
_ مين اللي قال كدا بس، طبعًا أحسن هدية لحبيبة بابا، بس لسة مشفتش نهاية الرسم بتاعك دا.
_ يووو يابابا، ماأنا قولت لحضرتك، أنا بحبِّ الرسم أوي، بدل ماتنمِّي موهبتي تحبطني.
استدار إلى رحيل التي تتابع حديثها بصمت، ثم قال:
_ دي تتِّفقي فيها مع ماما لو وافقت أنا معنديش مانع.
هزَّت ذراعيها:
_ كدا عرفت مفيش رسم تاني..قالتها وتحرَّكت للخارج بخطواتٍ غاضبة..
اقترب يزن منها وتساءل: 
_إيه اللي حصل، مالك ومالها؟.
_ مش عجباني يايزن، حاسَّة حياتها كلَّها تافهة، مفيش مذاكرة، غير موضوع إنَّها بتقلِّد صاحبتها، مفيش حاجة في دماغها لنفسها، اتكلِّمت معاها كتير، وبرضو مفيش فايدة، قولت لك زمان البنت مدلَّعة مينفعش نسيبها لنفسها.
حاوط أكتافها والتفت لابنه:
_ حبيبي يالَّه علشان نتعشى، قالها وسحبها تحت ذراعيه:
_ رحيل طول ماإنتي بتغضبي عليها كدا عمرها ماهتسمع منِّك، طيب أقولِّك حاجة بس متفهمنيش غلط؟.
غرام اتكلِّمت مع ضي وحاولت تبعدها عن الباليه، وكلِّنا عارفين البنت مغرمة بكدا، ورغم محاولاتها ورفض البنت مايئستش سبتها لحدِّ ماتشوف أخرها إيه، أنا متأكد الحفلة مكنتش موافقة عليها، بس وافقت مجبرة علشان البنت خلاص ماينفعش تحرمها من حاجة بتحبَّها، لازم تبعد من نفسها بعد محاولاتك، بس بطريقة ذكية ياروحي. 
تطلَّعت إليه بعدم اقتناع:
_يعني أسبها لحدِّ ماتغلط، ولَّا لحدِّ ماخلاص مايكونش ليَّا سلطة عليها؟!.
وعلى فكرة ضي دي رغبتها وهوايتها، بس بنتك بتقلِّد يايزن، معندهاش طموح ولا بتغيَّر من نفسها. 
_ البنت لسة صغيرة يارحيل.
يايزن مش صغيرة، دي عدِّت عشر سنين.
قاطعهم صوت الياس بالخارج، أشار إليها بالدخول، بينما هو خرج إلى إلياس.. 

بمنزل الياس.. 
كانت تبكي بأحضان ميرال الى أن جفَّت دموعها وذهبت بنومها العميق، من يراها يقسم أنَّها لا تريد العودة للحياة مرَّةً أخرى.
وضعت ميرال رأسها على الوسادة بهدوء، ثم دثَّرتها وتحرَّكت للخارج بعدما أغلقت الإضاءة..هبطت إلى الأسفل بدخول إلياس: 
- عرفت إيه اللي حصل بينها وبين طارق؟.
هزَّ رأسه بالنفي وقال: 
_ مكلِّمشِ يزن، ولا حتى يزن شافه من يومين..اقتربت منه وأمسكت ذراعيه:
_إلياس خلاص، بعد حالة غادة دي، الموضوع انتهى، مكنش المفروض يتقابلوا أصلًا، إيه اللي خلَّاك تطلب منها كدا؟.
_ كان لازم تمسح صفحته للأبد ياميرال بإيديها، مكنش ينفع يفضل كلِّ واحد منتظر التاني.. 
هزَّت رأسها باقتناع ثم قالت:
_ طيب سألت مالك؟. 
مسح على وجهه وزفر بغضب:
_ أروح أقولُّه أختي مالها، هوَّ كلِّمني وقالِّي طلعت لطارق مكملتش دقيقتين ونزلت منهارة. 

باليوم التالي بقصر الجارحي..
فتح الباب بعنف، وتسارع بخطواته  كمن يريد أن يحطِّم المكان فوق رؤوس ساكنيه..توقَّفت إحدى الخادمات مرتبكة:
-فاروق موجود؟.

- أيوة يافندم اتفضل، هدِّيله خبر..هوَّ لسه راجع هوَّ والمدام.

لم يردّ إسحاق، فقط هزَّ رأسه باستخفاف، وعيناه تلمعان بلهيبٍ حارق..دلف إلى الداخل وتطلَّع إليها بنظراتٍ مسمومة حتى استقرَّت على أحلام.

ابتسمت باستهزاء:

-إسحاق..أخيرًا افتكرتنا.

توقَّف يرمقها بصمتٍ ثقيل، ثم قال بصوتٍ أجش يقطر سخرية:

-إنتي لسه عايشة، أوبس، آسف، قصدي مش المريض بيكون نايم، ولَّا حضرتك مش مريضة؟

تقدّم منها بخطوة، عيناه مغروستانِ في عينيها كخناجر:

إزاي تفكيرك شيطاني كدا، إزاي قدرتي تتحكِّمي في فاروق؟

ارتجف طرف ابتسامتها، لكنَّها تماسكت:

-مش يمكن..علشان بيحبِّ أمُّه ومش عايزها تغضب عليه؟

قهقه بمرارة وهو يضرب كفِّه بكفِّه:

آه، قولتيلي "تغضب عليه" طيب، اغضبي عليَّا..والنبي لتغضبي عليَّا.

قطع سخريته مع وصول فاروق الذي قال بصوتٍ مرتعش:
-إسحاق!

التفت إليه إسحاق، وأفلت ضحكةً  مبحوحةً حتى لمعت عيناه بالدموع:

-أهلًا ياعريس..مش كنت تعزمني؟ دا حتى إحنا أخوات من أبّ واحد، ولَّا حتى دي بقيت أشكِّ فيها، بس متخافش هعمل تحليل.

شهق فاروق:

-إسحاق اتجنِّنت، بتقول إيه؟!.

تجاهله، وانقضَّ بنظره نحو أحلام:

أنا جاي أسمع أخويا الكبير…عايز أشوفه هيدافع عن نفسه قدَّامي.

اقترب بخطوة، ثم انحنى حتى كاد أن يلتصق وجههِ بوجه فاروق، وعيناه تحترقان:

- إنتَ إزاي قدرت تخدعني كدا؟

حاول فاروق أن يسيطر على صوته:

لتقف احلام بمقابلة اسحاق
_ قول لأخوك ممكن يهدى، علشان نعرف نتكلم 

قاطعها إسحاق يزمجر:

- إنتي تسكتي، قولَّها تمشي من هنا يافاروق، بدل ماأعمل حاجة تندم عليها..دي حتى ملك ماسلمتش من أذاها!

ضاقت عينا فاروق بذهول:
-مالها ملك؟

قهقه إسحاق، يصفِّق بيديه كالمجنون:
-هوَّ أنا ماقولتلكش، مش جدِّتها نصحتها تنزِّل البيبي؟

تجمَّد فاروق، وشهق كأنَّ صدره انقبض فجأة:

-إيه، بيبي..ملك كانت حامل؟

ابتسم إسحاق بسخرية سوداء:

-آه، آسف…ماهو إنتَ عريس، هتفتكر إيه ولَّا إيه..أنا مش جاي أحاسبك دلوقتي، أنا جاي أسأل سؤال واحد: صفية الله يرحمها، عرفت إنَّك اتجوِّزت عليها قبل ماتموت؟

أطرق فاروق رأسه، وثقُلت الكلمات على لسانه..قاطعته أحلام بصوتها المسموم، تتلذَّذ بالطعنة:

-آه، عرفت.

اقتربت منه بخطواتٍ ثابتة، نظراتها تلمع بشماتة:

-ومش بس عرفت…أنا اللي جبتها هنا، في بيتي علشان تعرف قيمتها..كانت مفكَّرة حتِّة الولد اللي ربِّته يكسر أحلام الجارحي؟ لأ، أنا اللي قهرتها..ومش كفاية كمان، خلِّيت العروسة تنام في أوضتها..وعلى فرشها.

ابتسمت ابتسامة بطيئة، تقطر سمًّا:

-عايز أكتر من كدا ياإسحاق؟

لحظاتُ صمتٍ قاتلة، ورغم أنَّها لحظات إلَّا أنَّه شعر بأنَّها أعوام، رفع نظره إليه وتقابلت نظراته المذهولة بأعينِ أخيه التي لمعت بالدموع: 
-أنا مش مصدَّق، حقيقي مصدوم، إزاي دا كلُّه يحصل وأنا معرفش، للدرجة دي المسافة بينَّا كانت بعيدة؟!. 
حاول النطق، ولكن شعر بأنَّ لسانه ثقيلًا، فنزل ببصره للأسفل، نهض إسحاق من مكانه يترنَّح وكأنَّ أحدهم طعنه دون رحمة، تمتم فاروق بتقطُّع:
-إسحاق..استدار إليه سريعًا: 
-مبقاش ينفع، مبقاش ينفع تقول إسحاق يافاروق..خلِّتني عيِّل صغير قدَّام الولد، وهوَّ مفكَّر إنِّي كنت عارف..ليه، عايز أعرف إيه اللي خلَّاك تعمل كدا؟!
نهض فاروق من مكانه واقترب منه:
أنا مكنتش موجود، ولا كنت أعرف..نظر إلى احلام: 
-ماتقولي له الحقيقة ياماما. 
ردَّت أحلام وهي تنظر إلى إسحاق بقوَّة:
-حقيقة إيه يافاروق؟..إنتَ راجل ومن حقَّك يكون عندك وريث، إيه، كنت هتفضل لحدِّ إمتى تقنع نفسك إنِّ أرسلان ابنك، أهو غدر بيك ورجع لأهله، ودا كلُّه تخطيط من مراتك العقربة، علشان تعرَّفك إنَّك ضعيف.
-بااااااس..صوتك بيخنقني..إنتي إزاي كدا، نفسي أعرف إنتي إزاي أم..إيه حكمة ربِّنا إنِّك تكوني أمِّي، أنا حقيقي بتمنَّى من كلِّ قلبي إنِّي أكون مش ابنك.
-بس إنتَ ابني ياإسحاق، أنا قدرك الأسود، وإحنا الاتنين عارفين. 

-امشي من هنا بدل ماأعمل حاجة تندمي عليها..خرجت بعدما رمقته بنظرةٍ كارهة.

-كلِّم أرسلان ياإسحاق.
-اسكت..نطق بها من أسنانه يمسح على خصلاته بغضب: 
-أنا مستحيل أسامحك، والله كنت شاكك، كنت حاسس فيه حاجة غلط، مستحيل صفية تبعد بالطريقة دي..
لكم الحائط، وصاح بغضب:
-أنا إزاي كنت متخلِّف كدا، إزاي مفهمتش الموضوع كبير..
آااااه صرخ بها وهو يطيح مافوق مكتبه؛ ثم رفع رأسه وأشار إليه بعيونٍ كادت أن تخرج من محجريها من الغضب: 
-دلوقتي يافاروق باشا إنتَ السبب في موت صفية، إنتَ قت لت مراتك.. دلوقتي لازم تفضي القصر دا، إنتَ مبقتش المالك بتاعه، الليل يجي يافاروق، تسلِّم القصر لأصحابه.
-إنتَ باين عليك اتجنِّنت يابنِ الجارحي.. 
نطقتها أحلام التي تراجعت مرَّةً أخرى.. 
ارتفعت ضحكات إسحاق ببرود يضرب كفَّيه ببعضهما: 
-الله الله..غرس عيناه بعيني والدته: 
-أمِّي العزيزة..مع إنِّك مش عزيزة، القصر دا ملك أرسلان جمال الشافعي وإمضاء من ابنك نفسه، أه لو على الورق اللي أرسلان أدهولك.. 
عبيطة ياأحلام هانم، دا كان ظابط مخابرات، خلِّي فاروق يعرَّفك معنى الكلمة إيه، أنا بقول أحجز لك دار مسنِّين، بما إنِّ ابنك عارف هيقعد فين.

-إنتَ أكيد مجنون، هوَّ إحنا أعداءك يابني؟.
اقترب يمدُّ أذنه إليها: 
-ياااا...إيه؟!.قوليها تاني كدا، مابلاش الشغل الملوِّن دا ياأحلام هانم، دا أنا إسحاق الجارحي النسخة المصغَّرة من أبويا، فاكرة أبويا؟. 
-هتفضل لحدِّ إمتى كدا يابن الجارحي؟. 

رفع إسحاق صوته وهو يتطلَّع إلى أحلام بحدَّة:

بقولِّك إيه ياأحلام هانم، علشان مايقولوش عاصي الوالدين..أنا هعمل تحليل DNA، وزوَّري النتيجة في كلِّ الفضائيات…المهمِّ ماأطلعش ابنك..
ضحك بمرارة وهو يصفع كلماته بسخرية جارحة:

دا أنا هعمل إعلان كمان، وأتبرَّع بنفسي لأي حد عايز يبقى ابنك… وهتنازل عن الكنية وكلِّ حاجة..هاخد مراتي وولادي وأسيب البلد كلَّها، إنتي إيه؟ شيطان يسلِّم عليكي ويخاف على نفسه!
قالها واستدار مغادرًا المكان وهو يتمتم:

-فاروق، فضِّي القصر..بدل ماآجي أنا بنفسي أخرَّجك.

هوى فاروق على المقعد، بجسدٍ يرتجف وعيناه تتابع مغادرة إسحاق كالمشلول.
-متصدَّقش كلامه، أنا معايا الورق اللي يثبت تنازل أرسلان. 

دقائق إلى أن مدَّت أحلام الورق إليه ببرود، فالتقطه بيدٍ مرتعشة، تفحَّصه، ثم رفع نظره نحوها مذهولًا:

_ تنازُل باسم أرسلان فاروق الجارحي؟! دا مش مثبت أصلاً، الورق دا كلُّه مزوَّر..حتى الإمضاء، دا خطِّ ملك..خطّ ملك ياأحلام هانم..ليه عملتي كده؟! أوهمتيني بمرضك، ودلوقتي كنتي السبب في موت مراتي! ليه ياأمِّي، أنا قصَّرت معاكي في إيه؟

ارتفعت نبرتها مستندةً إلى ستار الدين:

- إزاي تكون حافظ كتاب ربِّنا ومش عارف يعني إيه رضا الأمّ وغضبها؟

أطبق جفونه بشدَّة ثم صاح:

-كفاية بقى، حياتي كلَّها اتدمَّرت بسببك، فين ولادي، فين مراتي؟! كفاية…

تركها وتحرَّك وصدره ينهش داخله،  وغادر يردِّد بصوتٍ مخنوق:

"لا إله إلَّا أنتَ سبحانك إنِّي كنت من الظالمين…"

بعد وقت، وصل إلى المقابر..ترجَّل بخطواتٍ مثقلة، كأنَّ الأرض ترفض حمله..جثا أمام قبر صفية، مدَّ يده المرتعشة يلمس قبرها ودموعه تسابق أنفاسه:
-وحشتيني ياصفية..عارف إنِّك واخدة على خاطرك منِّي..أنا ماحبيتش أزعَّلها في آخر أيامها لمَّا جت وقالتلي عندها كانسر، خوفت تموت وأشيل ذنبها.. سامحيني، أنا ماعرفتش اللي هيَّ عملته..والله ماكنت أعرف عن أرسلان وملك حاجة، أنا مالمستش البنت، كنت بحاول أساعدها في العلاج لمَّا الدكتور طلب منِّي كدا، وهيَّ رفضت العلاج، سامحيني والله ماكنت عارف هيَّ بتخطَّط لقهرك.

ارتفع صوت أرسلان من خلفه، كأنَّه يخرج من جوف القبور:

-وأديك عرفت يافاروق باشا..ومنتظر حقِّ أمِّي منكم.

التفت فاروق وعيناه متَّسعتان، وقلبه يخفق بعنف…وقف يتأمَّل أرسلان المتَّشح بالسواد، نظر  لعينيه التي شعر بأنَّها تقدحانِ بنارٍ لا تهدأ..
نهض فاروق ببطء، يهمس بصوتٍ متكسِّر:

-وحشت أبوك ياأرسلان…

اقترب أرسلان من القبر، رفع كفَّيه بوقار، قرأ الفاتحة ثم صدَّق على الدعاء، قبل أن ينحني قليلًا ويمسح التراب عن قبرها بحنان، وكأنَّه يمسح على وجهها:
-اللي كان بينَّا تحت التراب دلوقتي… ربِّنا يعلم إنِّي كنت ابن بار، لكن حضرتك اللي خنت العهد..قهرت أمِّي واتجوزت عليها بنت الراجل اللي احلام هانم كانت بتحبُّه…قهرت قلبها مرِّتين…

صمتٌ طويلٌ ثقيل حلَّ بينهما، قبل أن يرفع أرسلان رأسه بعينين دامعتين وصوتٍ حازم:

-أنا عايز حقِّ أمِّي يافاروق باشا.

قالها ثم استدار يصيح بحارس المقابر:

-اهتمّ بالزرع هنا…عايز المكان كلُّه أخضر.
-حاضر ياباشا…

لمس أرسلان القبر نظرة وداع، ثم همس:

هرجع لك تاني ياأمِّي…عايز أحكيلك عن بلال وضي، بس لمَّا نكون لوحدنا.

رفع عينيه نحو فاروق للحظةٍ أخيرة… نظرة قاسية ممتزجة بالاشتياق والخذلان…ثم غادر بخطا واثقة، تاركًا والده وحيدًا ينزف ندمه بصمت.

باليوم التالي 
بمنزل إسحاق.. 
جالسًا بحديقة فيلَّته، ينظر الى السماء بعيونٍ حزينة، اقتربت دينا تحمل قهوته:
_ عملت لك قهوة،  نزل برأسه وتطلَّع إليها بصمت، سحبت المقعد وجلست بجواره: 
_ مش هقولَّك مالك، بس حالتك دي بتوجعني، معرفش إيه اللي حصل لدا كلُّه، إيه رأيك تاخد يومين إجازة ونسافر أي مكان؟.
هزَّ رأسه بالرفض، ثم انحنى يرفع قهوته، ارتشف بعضًا منها ثم قال:
_ إيه رأيك حمزة يكمِّل تعليمه في أمريكا؟ أنا مش عايزه هنا. 
_ إزاي يعني ياإسحاق، قصدك نسافر؟.
تنهَّد وهو يسحب نفسًا وقال:
_ إنتي والولاد بس، أنا مينفعش إنتي ناسية أنا شغَّال إيه، حقيقي مش عايز الولاد يكمِّلوا تعليهم هنا.
_ بس دا مكنش رأيك في الأوَّل. 
اجابها بنبرة ثقيلة: 

غيَّرت رأيي يادينا، وبنتناقش لو اقتنعتي اهتم، لو مش مقتنعة يبقى انسي إنِّي قولت لك حاجة.
ربتت على كتفه وتأمَّلت ملامحه الحزينة قائلة:
_ حاضر لو إنتَ عايز كدا أكيد مش هعترض، لأنَّك مستحيل تختار إلَّا الأصلح للولاد. 
أغمض عيناه يمنع دموعه، رغم المكان الفسيح الذي يجلس به إلَّا أنَّه يشعر بأنَّه داخل قبر..أدارت وجهه:
_ مش هتقولِّي مالك، وإيه اللي حصل عند فاروق خلَّاك تبقى كدا؟. 
سحبها الى أحضانه وطبع قبلةً عميقة فوق رأسها:
_ مفيش أنا مخنوق شوية، بفكَّر أختم شغلي بقى، عايز أتنفِّس شوية.
اعتدلت تنظر إليه بذهول: 
_ أكيد بتهزَّر، معقول إسحاق الجارحي اللي روحه في شغله يسيبه؟!.
مش هسيبه يادينا، عايز أرتاح بس،  قاطعهم وصول عمران: 
_ بابي حضرتك فاضي؟. 
اعتدل مبتعدًا عن زوجته، ومدَّ يده يسحبه بجواره:
_ ولو مش فاضي يابابي، إيه اللي حصل؟. 
_ أنا وحمزة زعلانين من بعض، وهوَّ مش عايز يكلِّمني. 
استمع باهتمام إلى طفله الذي قال:
_ أنا مكنش قصدي أفتن عليه لحضرتك، هوَّ بيقول عليَّا فتَّان. 
مسح على رأس طفله: 
_ تمام حبيبي أنا هتكلِّم معاه، وإنتَ بعد كدا لو سمعت حاجة أو شوفتها بلاش تقولها، هوَّ حمزة مش غبي علشان عارف أنا كدا كدا كنت هعرف، 
اطلع كمِّل مذاكرتك وشوية هعدِّي عليكم أنتوا الاتنين

مضت الأشهر التالية كأنَّها سنوات، ولم يتغيَّر شيء..سوى أنَّ رؤى وجدت نفسها خلف القضبان، بعد أن قتلت رانيا.

ذهبت ميرال بصحبة إلياس لرؤيتها..
بعد دقائق دلفت إلى القاعة المخصَّصة للزيارة، المكان ضيِّق، الجدران باهتة، ممَّا أشعرها بالاختناق، جلست تنتظرها، حتى ظهرت أخيرًا، بخطواتٍ بطيئة ووجهٍ متعب، ومع ذلك لم تفقد قسوتها..توقَّفت تحدِّق في ميرال بصمتٍ ساخر للحظات، ثم جذبت المقعد وجلست مقابلةً لها، وانفرجت شفتاها بابتسامةٍ مستفزِّة:

-أهلًا بمرات إلياس باشا..ياترى جاية تعيَّطي وتاخديني في حضنك زي كلِّ مرَّة، ولَّا جايَّة تشمتي؟

رفعت ميرال رأسها، تثبِّت نظراتها فيها، وقالت بصوتٍ حادٍّ لكنَّه مرتجف من الداخل:

-لا..جاية أقولِّك، اوقفي قدَّام المراية واكرهي نفسك أوي.
نهضت واقتربت منها خطوة، وتمتمت بكلماتٍ شعرت بأنَّها تجرح لسانها وهي تخرج:

رغم عمايلك معايا، كنت معاكي الأخت اللي بجد..بس للأسف دلوقتي، مضَّطرة أعترف…
ارتجف صوتها، ولمعت عيناها بالدموع ثم انفجر بكلِّ ماكتمته:

أنا بكرهك، بكرهك أوي أوي..ومش زعلانة على إلياس واللي عمله معاكي.. احمدي ربِّنا إنِّ ليكي إخوات زي يزن وطارق، لكن ماتحمديش إنِّ ليكي أخت زيي..لأنِّي هدعي عليكي في كلِّ صلاة..إنِّ ربِّنا يقهرك ويوجع قلبك، ويعيِّشك نفس اللي عشته، بس الصراحة إنتي عايشة أصعب منُّه، كفاية وجودك في المكان دا.

قالتها وخرجت بخطواتٍ متعثِّرة، والدموع تنحدر على وجنتيها كالسيل..
فتحت باب السيارة وجلست بجوار إلياس، وارتفعت شهقاتها، وضع يده على يدها هامسًا:

- ششش..اهدي، دموعك غالية، ومفيش حدِّ في الدنيا يستاهلها.

ارتمت بين ذراعيه تبكي بحرقة:

مش قادرة، مش قادرة أكرهها ياإلياس، قلبي بيرفض..بكرهها بعقلي، بس قلبي بيرفض يصدَّق.

ضمَّ وجهها بين كفَّيه، يزيل عبراتها بإبهامه، ونظر في عينيها بعشقٍ يغمرها:

عشان إنتي بريئة أوي ياحبيبتي..عايزك ترجعي تخربشي تاني، ياستِّي على قلبي زي العسل.

أغمضت عينيها تنتحب:

-صعبانة عليَّا ياإلياس، لسة صغيرة على مرمطة السجن دي..ليه تعمل كده؟

قبَّل جبينها هامسًا:

- ميرال..فوقي من هبلك ده..دي قتلت إنسان.

شهقت: وأنا..أنا كنت هقتل زيَّها، ليه ماقولتش كده؟

صمت للحظة، كأنَّ الكلمات علقت في حلقه، ثم تنفَّس بعمقٍ وأجاب بصوتٍ متهدِّج:

- يمكن..علشان إنتي تستاهلي تعيشي أحسن من كده، يمكن علشان قويَّة وبتتحمِّلي..ويمكن، علشانك..الحياة اللي ما أقدرش أسمح إنَّها تضيع.

رفعت عيناها الباكية إليه: 
- إنتَ اللي بتقول كدا، دقايق وترجع تقولِّي غبية ومتخلِّفة، مش كدا ياحضرة الظابط؟. 
داعب وجنتيها يهزُّ رأسه بابتسامة:
-لا هقولك بحبِّك أوي..

قالها وانحنى يحتضن ثغرها بقبلةٍ جامحة، ثم تراجع وقاد سيارته وهو يحتضنها بذراعه..
عند غادة

خرجت غادة من عملها متعبة، دلفت السيارة المخصَّصة لحمايتها، ألقت السلام، فردَّ أحد الحرَّاس:

_ أهلًا أستاذة غادة، هترجعي البيت ولَّا فيه مشوار؟

تردَّدت للحظة، ثم سألت فجأة:

_ هوَّ مالك مجاش ليه؟

خفض الحارس رأسه وقال بصوتٍ حزين:

والدته عملت حادثة.

تشنَّج جسدها كلِّه، شعرت برجفة، فتمتمت بصوتٍ مرتعش:

لا حول ولا قوة إلَّا بالله..رجَّعني على البيت.
بعد فترة وصلت إلى منزلها، دلفت لتجد فريدة في جلستها المعتادة أمام التلفاز، بعينيها الحانيتين، جالت غادة بعينيها:

- فين ملك؟

في تلك اللحظة خرجت ملك تحمل طبقًا من الكيك بين يديها، ضحكت وهي تقول:

- مفاجأة..
قالتها ورفعت الكيك أمامها بفخرٍ طفوليّ.

ارتسمت ابتسامة على وجه فريدة، وأشارت إليها:

- إيه، نجحتي المرَّة دي؟

انحنت تقبِّل وجنتها، تدور من حول غادة، تصفِّق وتردِّد بحماس:

-أحسن ماما في الدنيا..أنا عملت كيك!.

ظلَّت تردِّدها حتى امتلأ المكان بضحكاتٍ دافئة…لكن سرعان ماانطفأت اللحظة، حينما فتح الباب  ودخل إسلام، ألقى السلام..توقَّفت ملك فجأةً عن ضحكها، تجمَّدت كعصفور. 

- ردَّت فريدة التحيَّة، بينما هوى بجسده بجوارها قائلاً بمرحٍ مصطنع:

- عاملة إيه ياستِّ الكلّ؟

-أجابت بابتسامةٍ خفيفة:

_ والله ياحبيبي مش أنا اللي عاملة..دي مراتك.
رفع عينيه إلى ملك، فابتلعت ريقها وتراجعت خطوةً وهي ترفع الكيك أمامها:

- ماما هحطُّه في المطبخ لو حبِّيتي تدوقيه.

لكن أوقفها:

ماما بس اللي تدوق..طيب جوزك فين؟ ده حتى الأقربون أولى بالمعروف.

ارتعشت أصابع ملك، وأخفضت رأسها كمن تلقَّى صفعة..وضعت فريدة يدها الحنونة على كتفه تربت برفق:

- قوم ياحبيبي، كُل الكيك مع مراتك وقولَّها تسلم إيدك، وأنا هخلِّي البنات في المطبخ يعملولك قهوة، ربِّنا يهديك.

صمت لوهلة، ثم تظاهر بالرضوخ..غير أنَّه قال بعدها:

إلياس مرجعش من عند مالك؟.

هنا رفعت غادة عينيها تستمع إلى باقي حديثه، لا تعلم لما كلِّ هذا الاهتمام، أكملت فريدة:

- لا، قعد مع مالك، صعبان عليه..الأوَّل أخوه ابوه، ودلوقتي كان ممكن  والدته..مع إنه ساب وظيفته، صعبان عليه السوَّاق اللي مات

تساءلت فريدة بصوتٍ أقرب للهمس:
-هوَّ مالك كان شغَّال مع إلياس ولَّا إيه؟

_ أيوه.
قصدك…أبوه مات مقتول، وكانوا عايزين يقتلوا أمُّه؟. 

هزَّ كتفيه بلامبالاةٍ ظاهرية، بينما في عينيه بريقًا غامضًا وهو يراقب ملك:

-معرفش، إلياس شاكك..لأنُّه كان من ضمن اللي سافروا مهمة برَّه..إنتي عارفة ابنك مابيقولش حاجة..يمكن تكون مجرَّد حادثة.

ارتجف قلب فريدة من جديد، شهقت دون أن تشعر، وخرجت من شفتيها الكلمات محمَّلة بالثقل كلِّه:

-لا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العليّ العظيم.

بعد فترة صعد الى غرفته
وجدها غارقةً بنومها، جلس على طرف الفراش يتأمَّلها بعيونٍ عاشقة، لقد اشتاق إليها حدَّ الجنون،  مرَّ أكثر من ثلاثة أشهر لم يجمعهم فراشٌ واحد، لقد عاقبها أشدَّ العقاب، عاقبها بحرمانها من حنانه وحبِّه الطاغي لها..اتَّكأ يستند على ذراعه يمسِّد على خصلاتها،  ثم رفع أنامله يزيح البعض المتساقط بعشوائية عليها، رفَّت أهدابها، ثم فتحت عيناها ببطء، وجدت وجهًا قريبًا من وجهها كأنَّه يستنشق رائحتها..
أغمضت عيناها مرَّةً أخرى تستمتع بقربه المهلك، ورائحته التي جعلت قلبها يرتجف بالاشتياق، نزل برأسه ينظر إلى عيونها المغلقة، ومرَّر أنامله على كلِّ إنشٍ بوجهها حتى وصل إلى ثغرها، هنا انهارت حصونه بالكامل لينحني يهمس بجوار ثغرها:
_ عارف إنِّك صاحية، فتحت عيناها سريعًا، لترتجف شفتيها من قربه، ابتلعت ريقها في محاولةٍ للحديث، ولكنَّها لم تقو، ليحطِّم تفكيرها، ويحتضن ثغرها في قبلةٍ مهلكةٍ بكمِّ الاشتياق ليسحبها بعدها الى جنَّة نعيمه.

مضت شهورًا أخرى، إلى أن عاد مالك إلى عمله مرَّةً أخرى، بينما غادر طارق البلاد ليستقرَّ بالخارج بعد لقائه بغادة 

ليلًا محمَّلًا ببرودة الطقس خرجت من عملها بعد قضاء بعض الأعمال الشاقَّة التي انسجمت بها بعد أن أقسمت لنفسها بعودة شخصية غادة السيوفي مرَّةً أخرى، خرجت فوجدت مالك بانتظارها أمام عملها على غير عادته، صعدت الى السيارة وابتسامة أنارت وجهها، ثم نظرت إليه:
_أهلًا بحضرة الظابط، والله زمان. 
نظر في المرآة وردَّ وهو يقوم بتشغيل السيارة:
_ اهلا استاذة غادة 
والدتك عاملة ايه
- كويسة.. اجاب باقتضاب، هزت رأسها وقالت، كويس انك رجعت شغلك، للحراسة الامنية تاني، مش لايق عليك الصراحة غيرها

_ لا حمدان فرحه بكرة، واتحرج يكلِّم إلياس فأنا من نفسي اتصرَّفت، مكنش لازم أرجع لإلياس لأنِّي متأكد إنُّه مش هيعمل اللي عملته. 
أفلتت ضحكة تردِّد كلماته:
_ حلو من نفسك دي، وياترى إيه دا غرور دا ولَّا ثقة زيادة يامالك باشا؟.
_ ثقة والحمد لله، عارف قدر نفسي ياأستاذة، هعتبره سؤال. 
تقابلت عيناها بعينيه لأوَّل مرَّة، سحب نظره بعيدًا يتحرَّك بالسيارة وهو يقول:
_ اضحكي على طول، مفيش حد يستاهل إنِّنا نزعل عليه، ولا حد يخلِّينا نكتئب لأنُّه هوَّ الخسران.
بتر ضحكتها، استدارت تنظر للخارج وهي تتمتم:
_ ساعات الوجع بيفقدك ثقتك بنفسك.
زم شفتيه واجابها: 
_ منكرش دا، بس برضو ساعات بيبني منِّك انسان أقوى، علشان على قدِّ الوجع على قدِّ ماتحاولي تغيَّري من نفسك لأنِّك تستاهلي تكوني أحسن وماتتوجعيش تاني.
التفتت مرَّةً أخرى إليه وانبثق السؤال من بين شفتيها دون سيطرة:
_ عمرك حبِّيت قبل كدا؟.

توقَّفت السيارة فجأةً بصوتِ صريرٍ حادٍّ اخترق سكون الليل، حتى اهتزَّ جسدها بقوَّةٍ وكادت السيارة تنقلب لولا فراغ الطريق..ارتدَّت للخلف مصطدمةً بالمقعد، وأنفاسها تعالت كأنَّ قلبها سيقفز من بين أضلاعها.

اتجنِّنت، إيه اللي عملته دا؟..مش قدِّ السواقة متسوقش!.
صرخت بها دون وعي، وارتجاف صوتها فضح رعبها.

لم يلتفت، فقط ضغط على المقود بعصبيَّة حتى برزت عروق يده، ثم تمتم ببرودٍ متكلِّف:
- آسف... قالها بنبرة رسمية

وقاد السيارة من جديد، لكنَّ عينيه كانتا غائبتين، وصدره يعلو ويهبط كأنَّ الألم يعصر قلبه من الداخل..شعرت غادة بمرارة ردِّ فعلها، ابتلعت ريقها، وبدا الغباء واضحًا في إحساسها بالذنب.. ظلَّت صامتة دقائق، تراقب ملامح وجهه التي تحوَّلت إلى كتلةٍ من الصمتِ الموجوع.

أخيرًا حمحمت وهي تطرق بخجل:

_أنا..آسفة، مكنش قصدي أضايقك.

ظلَّ صامتًا، لم يبدُ منه أي تجاوب، وكأنَّ كلماتها اصطدمت بجدارٍ سميكٍ لا ينكسر.

وصلت السيارة أمام منزلها..توقَّفت، لكنَّها لم تتحرَّك..بقيت جالسة بمكانها، عيناها متردِّدة تبحث عنه..همست بنبرةٍ أكثر رجاءً:

_ مالك..أنا بجد آسفة.

التفت إليها ببطء، عيناهُ غامقتان  مليئةً بالألم:

_ أستاذة غادة..ماترفعيش التكليف بينَّا..قولي أستاذ مالك أو حضرة الظابط.

ترك مسافةً متعمِّدةً بين كلِّ كلمة وكلمة، ثم أضاف بصرامةٍ باردة:

اتفضلي انزلي..وجودك في العربية بعد ماوصلنا غلط.

تسمَّرت ملامحها للحظة، ثم ترجَّلت بصمت، أغلقت الباب خلفها برفق،  وبقي هو في مقعده، عيناه معلَّقتان في  الفراغ، يضغط على أنفاسه وكأنَّه يخشى أن ينهار من آثار الماضي..
شهور خلف شهور،  إلى أن تقرَّب الاثنان من بعضهما، ليضمِّد كلًّا منهما الآخر من آثار الماضي الكئيب.. 

ذات ليلةٍ هادئة، بعد اتِّصاله بالياس بلا إيضاحٍ عمَّا يريد، وصل مالك إلى فيلَّا السيوفي..جلس إلياس مع والده  يقصُّ مادار:

_ طيب..مقالش عايز منِّي إيه؟
ردَّ عليه والده بفضولٍ خفيف:

والله يابابا معرفش..هوَّ قال عايز ييجي لمصطفى باشا يشرب فنجان قهوة، وطلب منِّي أكون موجود.

مرَّت لحظات قليلة قبل أن يُفتح الباب ويطلُّ مالك، استقُبل ورحِّب به ببروتوكولٍ عائليٍّ دافئ، ثم حمحم وكأنَّه يجمع شجاعته في صدره قبل أن ينطق:

سيادة اللوا..حضرتك أستاذي وقدوتي، وبين العيلتين صداقة من زمان، قبل وفاة والدي الله يرحمه..أنا مابعرفش أذوَّق الكلام ولا ألفاظ المدح، بس اللي عايز أقوله أنا معجب جدًّا بكريمتك الأستادة غادة، ومش هنكر إعجابي بيها..علشان كده أنا قدَّام معاليك، هكون سعيد لو حضرتك قبلت أبقى زوج لبنتك..وربِّنا يعلم..بعد موافقتك هكون الزوج الصالح اللي يحافظ عليها، السكن الهادي، والروح الطيِّبة، ومتَّقي ربِّنا.

صمتٌ طويل تخلَّلهُ زفير من أركان الغرفة..كانت نظرات مصطفى تخترق مالك كما لو كانت تقيسه ميزانًا صامتًا، ثم انطلق صوته هادئًا لكنَّه مباشر:
_غادة تعرف؟
_ لا..ماتعرفش أي حاجة، ولا حتى عن مشاعري.

التفت مصطفى إلى إلياس، فابتسم الأخير ابتسامة فهمٍ واطمئنان، ثم عاد بنظره إلى مالك وأكمل بحزم:

أنا واثق في أخلاقك، ولو في يوم شكِّيت فيك مكنتش أمِّنتك على بيتنا.. بس خلِّينا نمشي على الأصول، لازم ناخد رأيها ورأي أمَّها، ولازم نسمع أخوها..أنا عن نفسي، قدَّام بابا بقولِّك موافق.

في قلب تلك الموافقة حُفظ شرطٌ واحد، احترام إرادة غادة وموافقتها، وإشراك أهلها في القرار، خرج مالك من جملته بارتياحٍ ودون فرحٍ مبالغ فيه؛ يعرف أنَّ الطريق مازال طويلاً وأنَّ خطوة الأب ماهي إلا بدايةٍ جديدة تنبض بآمالٍ ومسؤوليات.

باليوم التالي..
صعدت ميرال برفقة فريدة إلى غرفة غادة، بعد ابتعاد إلياس المتعمَّد وغضب إسلام الذي مازال يثقل الأجواء..طرقت فريدة الباب بخفَّة ثم دلفتا إلى الداخل بابتسامةٍ هادئة.

الحلو صحي من النوم؟
قالتها ميرال وهي تقترب بخفَّة من السرير.

ضيَّقت غادة عينيها تنظر إليهما باستفهامٍ صامت، وكأنَّها تحاول قراءة ماوراء تلك الابتسامة..جلست ميرال بجوارها من ناحية، وفريدة من الناحية الأخرى، تحاوطانها بدفء الأمان.

مدَّت فريدة يديها تحتضن كفَّي ابنتها، تمرِّر أصابعها بحنانٍ كأنَّها تبعث الطمأنينة في قلبها:

اسمعيني ياحبيبة قلبي..ومش عايزة ردِّك دلوقتي، خدي وقتك وفكَّري كويس، وبعد كده ردِّي.

ثم بدأت تسرد عليها ماطلبه مالك، بكلِّ تفاصيله وأمانيه..ساد صمتٌ طويل، ارتعشت أنفاس غادة قليلًا، ثم نهضت بتثاقل، وقالت بصوتٍ خافت:

تمام ياماما..سبيني أفكَّر، وبعدها أردِّ عليكم.

مرَّت الأيام سريعًا كأنَّها تطير، حتى جاء اليوم الموعود..يوم عقد قرانها، ازدانت فيلَّا السيوفي بأضواءٍ لامعة كأنَّها نجومٌ هبطت من السماء، والبهجة أخيرًا عمَّت الوجوه بزواج مدلَّلة والدها.

وبعد دقائق من إتمام العقد، جذبتها ميرال بحماس نحو الاحتفال الخاص، فقد أعدَّت فريدة حفل حنَّة يليق بها.. اجتمعت فيه الصديقات والأحباب، تتعالى الضحكات، وزُيِّنت الأيدي بالحنَّة ورسوماتها البديعة، فيما تصاعدت زغاريد النسوة، واختلط الرقص بالغناء، كأنَّ السعادة قرَّرت أن تسكن ليلتهم تلك.. 
جانبًا آخر من الفيلَّا تجمَّع الشباب بحلقةٍ من المداعبة اللطيفة بالاحتفال بعريس الليلة قبل مغادرته فيلَّا السيوفي..بينما جلس يوسف وبلال وآسر بالحديقة يمارسون ألعابهم الرياضيَّة المعتادة، توقَّف يوسف عن اللعب:
_ ماتيجوا نعمل أي جو، أنا بحثت وعرفت الحنَّة دي البنات بترسم فيها، ماتيجوا نغلِّس، أنا زهقت، وكمان بابا عيونه علينا. 
رفع بلال زجاجة عصيره يرتشف منها وهزَّ رأسه: 
_ أه قالِّي إياكوا تغلطوا، علشان كدا قولت لك بلاش نقعد معاهم، مش ناقصين خنقة.
قاطعه آسر:
_ روحت فرح عند بيت بابا القديم.. شوفت ولاد كانوا في الفرح ماسكين طبلة والبنات بترقص، ماتيجوا نجيب الطبلة دي.
رفع يوسف حاجبه يقلِّب كلماته، ثم غمز إلى بلال:
-ماتيجي نتشاقى ياببلاوي.
جلس بلال على العشب، وهو يرتشف من عصيره:
_ لا كفاية شقاوة الفرح، دا أبوك وأبويا لو عرفوا هينفخونا، لمح يزن يتحدَّث بهاتفه، ثم اشار إليهم:
_ يابني إحنا كلِّ يوم عندنا فرح، دا مش هنشوف أفراح تاني غير لمَّا أنا أتجوز.. ألقاه بلال بزجاجة العصير:
-مين دا اللي هيتجوز، ناوي تسبني يامتخلِّف بعد عشرة السنين دي كلَّها؟.
_ ليه ياحبيبي متجوزك في السر؟.
ضحك آسر عليهما، ثم أشار إلى نفسه:
ماتزعلش يابلال أنا هتجوزك بعده.
ضرب يوسف على صدره بحركةٍ مزاحية:
_  يغدر بيَّا..لازم ينتحر بعد مااسيبه، ضحك الاثنان ثم اقترب من آسر:
_ يابني إنتَ غلبان، ابعد عن بلال، دا لحمه مر.
توقَّف بلال وتحرَّك إليه، بينما هو ركض إلى يزن بعدما وجده استقلَّ سيارته للمغادرة:
_ خالو رايح فين؟. 
ضيَّق عيناه بتساؤل:
_ عايز حاجة؟.هطلع أوَّل الطريق. 
_عايز طبلة.
_ طبلة إيه؟ انحنى إلى باب السيارة: 
_ الطبلة ياخالو، اللي بيطبِّلوا عليها دي.
_تمام هجبلك واحدة ورقَّص أبوك عليها..قالها يزن ساخرًا وتحرَّك بينما 
استدار يوسف للمغادرة، 
_ والله لارقصك انت ياخالو، لمح ضي تتحرَّك للداخل وتحمل شيئًا ما، اتَّجه إليها: 
_ ضي..توقَّفت مستديرةً إليه:
_ نعم فيه حاجة؟. 
_مالك يابت، انا جاي اشحت منك، مين اللي فوق، لسة فيه حد من صحبات تيتا؟.
_لا كلُّهم مشيوا..قالتها وتحرَّكت فهمس:
_بت باردة مغرورة.
_ زيك بالظبط يابن عمِّي، مفيش واحد أبرد منَّك.
وصل إليها سريعًا وقبض على ذراعها:
_ مين دا يابت؟.. 
_ إنتَ هوَّ فيه حد غيرك، وياريت تسيب إيدي، روح اتكلِّم مع صحباتك يابتاع القيم والأخلاق، اقتربت خطوة منه وأمالت برأسها إليه:
_ هعرَّفك يابن عمِّي ضي الهبلة العبيطة هتعمل إيه، أوَّل مرَّة سامحتك على طولة لسانك ووقاحتك، ودا مش علشانك، علشان خالتو ميرال وعمو.. 
قالتها واستدارت متحرِّكة..بينما ظلَّ بمكانه يعيد كلماتها:
_ سمعتني، أه كلامها بيقول كدا.. 

بعد فترة دلف الى المطبخ، وجدها تضع بعض الأكواب بمكانها: 
_ضي..التفتت إليه ثم أكملت عملها، وأشارت إلى الخادمة:
_ طنط لو سمحتي، اعملي قهوة لعمُّو إلياس وبابا وجدُّو وودِّيهم الحديقة.تيتا قالت اقولك
أومأت الخادمة بطاعة، فاقترب يوسف منها:
_ زعلانة؟..أنا مش قصدي الكلام اللي وصلك، هيَّ بس كانت بتقول..قاطعته وهي تضع الطبق بقوَّة مصدرًا صوتًا:
_ ميهمنيش اللي قولته، أنا واثقة في نفسي، اقتربت منه وابتسمت: 
_ متنساش يابن عمِّي أنا ضي أرسلان الشافعي، يعني كلامك مايهمنيش. 
رفع حاجبه ساخرًا من حديثها:
_ اممم وإيه كمان ياأستاذة ضي ياأم أرسلان الشافعي؟.
أفلتت ضحكةً رغمًا عنها عمَّا أصدره من حركاتٍ وهو يقلِّدها..
احتضنها بنظراته ثم سحبها من كفَّها وتحرَّك إلى غرفة شمس..
تعالي لازم نتصالح ياضي ياأرسلان الشافعي...وصل إلى غرفة شمس،  أدخل رأسه:
-شموس أدخل؟. 
تأفَّفت الصغيرة، وأشارت إليه: 
-على أساس إنَّك بتستأذن.
تحرَّك وهو يعانق ذراع ضي:
-البتِّ دي زعلانة ياصغنَّنة، وعايز أصالحها. 
-يعني إيه؟..قالتها وهي تهزُّ كتفها بجهل. 
ضحكت ضي ولكزته:
-ودي هتفهم كلامك؟.
أغمض عينًا وفتح الأخرى: 
-إنتي بتغلطي في أخت يوسف الشافعي يابت، جلس على فراش أخته وفتح كفَّيه:
-فين الحنَّة اللي سرقتيها من خالتو رحيل؟.
جحظت الصغيرة عينيها:
-ياغشَّاش، كنت بتراقبني؟!. 
-هاتي الحنَّة، بدل ماأسوَّح لك في الفرح.
تخصَّرت الصغيرة، تهزُّ جسدها:
-لا سوَّحلي ياابنِ إلياس.
دلفت ميرال على كلمات ابنتها، تضرب على صدرها:
-يالهوي، إيه اللي بتقوليه دا، الحمد لله أبوكي مسمعكيش، كنَّا أخدنا درس في أخلاق الحارة.
قلَّدها يوسف وهو يضرب على صدره:
-يالهوي..ياماما بقيتي بتخافي من إلياس..نهض ينظر إليها: 
-يعني كلماتها عايزة درس من إلياس، ويالهوي مش عايزة، دي لازم تتشطب من نقابة الكلمات الأبجدية. 
رفعت عيناها إليه تضغط على أسنانها:
-بقيت أطول منِّي هقول إيه، ربِّنا يسهلَّك.
ضحك بصوتٍ مرتفع:
-حلوة أوي وإنتي طيبة ياميرو، المهمِّ خلِّي بنتك الفتانة تدِّيني الحنَّة..عايز أحط لضي منها وأصالحها.
جحظت عيناها بذهول، تشير إلى ابتسامة ضي..ثم ضربت كفوفها ببعض: 
-إنتي عبيطة يابنتي، يحطِّ لك حنَّة، هوَّ فيه ولد بيعمل كدا..اقترب يوسف من والدته بعدما علمت بما سيفعله، ثم قبَّل جبينها:
-إلياس باشا كان بيدوَّر عليكي، معرفش زرار قميصه شكله اتقطع. 
دلف بلال وهو يمسك طبلةً بيديه: 
-بدوَّر عليك يابغل من ساعتين والنانا قالت إنَّك هنا.
خطا إليه وأخذ الطبلة: 
-الله الله دي شكلها هتحلوّ ياض يابابلو.
صرخت ميرال تضع يدها فوق رأسها:
-هطلَّق بسببكم خلاص عرفت آخرتي. 
-مبروك ياماما، هدوَّرلك على شقَّة..
قالها وهو يقرع على الطبلة.. 
مع صوت يزن باسم ميرال، ثم دلف بعدما وجد باب غرفة شمس مفتوح:
-سمعت صوت هنا..دا صحيح ولَّا أنا عندي تهيؤات؟.
ألقى يوسف الطبلة على بلال ثم قفز فوق ظهر يزن:
-خالو حبيبي اللي بيضحك على ماما، أومال مين اللي اشتراها.
لكزه بقوَّة:
-يابن ال...
خرجت ميرال تضرب كفوفها ببعضهما..ثم اصطدمت بإلياس: 
ميرال، ماما تحت بتسأل عليكي..بتر حديثه صوت الطبلة وضحك يوسف وبلال يردِّدون:
أغنية سطلانة.
ضيَّق عيناه يشير إلى غرفة شمس:
-إيه الصوت دا؟.

أمسكت ذراعيه محاولة صرف انتباهه، لكن ضحكات يزن وبلال اخترقت الأجواء كسهام، فاستدار بخطوات ثابتة نحو الغرفة.
دفع الباب بهدوء، ليتجمّد مكانه، وعيناه تلتقطهم في ذهول.

بلال يجلس يدق على الطبلة بحماس، بينما يزن ويوسف يتمايلان على الإيقاع بخفة صبيانية، والفتيات يضحكن بلا توقف. ارتسمت ابتسامة طائشة على وجوههم، لكن عيني الياس ظلّت باردة، تراقب بلا أي انفعال ظاهر.

قفز يوسف فجأة مقلدًا حركات بهلوانية، بينما يقهقه بلال يلقي بالطبلة إلى يزن:
ـ طبل يا خالو، أنا عايز أتحزم وأرقص.
قاطعه يوسف بانفعال:
ـ وأنا كمان! بشوف الرقاصة لابسة حاجة بتتهز كده، مش عارف تجبلنا واحدة يا خالو، هو الواحد هينحرف كل يوم ولا إيه؟

التفت بلال إليه مازحًا:
ـ بص عند أختك الباردة دي، يمكن نلاقي عندها حاجة تنفع نرقص بيها.

انفجر يزن ضاحكًا، بينما يوسف تخصر قائلًا بجدية مصطنعة:
ـ يعني حضرتك جايب طبلة من غير بدلة رقص؟ طب دلوقتي هحزمه إزاي؟
هنا قاطعهما إلياس
ـ وماله يا حبيبي، تعالى أنا أحزمكم انتوا الاتنين.

تجمدت ضحكة بلال وهو يلمح عمه، ليقول.
ـ هو حضرتك رجعت؟! تيتا قالت هتبات في بيتكم.

لكزه يوسف من الخلف متمتمًا بخوف:
ـ الحمد لله إنك جيت يا بابا، علشان تعرف خالو المحترم جاب لنا إيه.

اقترب الياس بخطوات هادئة، وتمتم بصوت عميق:
ـ أيوة يا حبيبي، وعايز أعرف خالو المحترم جابلكوا إيه بالظبط.

ألقى بلال الطبلة إليه بارتباك:
ـ البتاعة دي.. منعرفش اسمها إيه.

ارتفع ضحك يزن أكثر، بينما يوسف اختبأ خلفه محتميًا من نظرات والده الثقيلة، ثم همس مضطربًا وهو يتجه نحو الباب:
ـ حضرتك مش محتاج احلف إني بريء.. أنا متربي على القيم والأخلاق.
حضرتك اللي مربيني، هتشك في تربيتك

اقترب بلال من الياس يضع ذراعه على كتفه مصطنعًا المرح:
ـ بتكدب ليه، دا حتى عمو عسل ومش قصده حاجة. كدبت ليه يا غبي، دا هو هيطبلنا دلوقتي ويرقص معانا.. مش كده يا عمو يا حَبّاب؟

صمت الياس و عينيه تتقلبان ببطء بين شمس وضي الجالستين في صمت متوتر. أخيرًا نطق بصوت خافت حاسم:
ـ حبيباتي.. انزلوا لماما تحت.

هنا ركض يوسف وبلال هاربين من الغرفة، تاركين خلفهم نظرات غضب إلى يزن

بعد يومين وهو اليوم المقرر للزفاف 
دلف مصطفى، عيناه تتفقدان صغيرته التي كبرت، وتألقت كالأميرات. توقفت الكلمات على طرف لسانه

-بابا… قالتها بصوت مرتجف وركضت إلى أحضانه.

ضمّها بحنانٍ أبوي، وقبّل جبينها طويلاً:
-ربنا يسعدك يا حبيبة بابا.

التفتت غادة خلفه، لتجد اسلام يقف مستندًا إلى الجدار، عينيه تلمعان بالحب والوجع معًا. اقتربت منه ببطء، توقفت أمامه بصمت، فابتسم واقترب هو الآخر، يسحبها إلى أحضانه حين لمح دموعها المتساقطة.

-بس بقى.. بطّلي عياط، مفيش عروسة بتعيط.

تمتمت بخفوت:
-لسة زعلان مني؟

طبع قبلة على جبينها هامسًا:
-ربنا يسعدك يا حبيبتي.. يلا، اجهزي، عريسك تحت مستعجل.

رفعت عينيها حول الغرفة، تبحث عنه:
-فين إلياس؟ مش المفروض ييجي؟

ابتسم إسلام وأشار إلى نفسه مازحًا:
-وأنا ما ينفعش؟

هزّت رأسها بالرفض، وشعرت بقبضة قوية تعتصر فؤادها، ثم استدارت إلى ميرال بصوت متهدّج:
"فين إلياس؟"
قالتها غادة وهي تنظر إلى ميرال بقلق خفي، ابتسمت ميرال ابتسامة مطمئنة وهي تشير إلى ساعتها:
_ "زمانه جاي، يمكن تحت كمان… يلا يا حبيبتي، انزلي مع أخوكي، ماينفعش نتاخر."

رفعت عيناها إلى إسلام بعد انسحاب مصطفى إلى الأسفل، ابتسم بدفء واقترب منها يمد ذراعيه ليعانقها، كأنه يزرع الطمأنينة

بعد لحظات، بدأت تنزل درجات السلم على وقع الموسيقى التي صدحت بالمكان، مع أغنية فستانك الأبيض، فزاد المشهد رهبة وبهجة.

وارتفعت الأنظار جميعها صوب السلم الكبير. لتظهر العروس كأنها لوحة من نور، تتهادى بخطوات بطيئة واثقة،
بفستانها الأبيض الذي يتلألأ تحت الأضواء كقطعة من القمر، ينساب من حولها في انسيابٍ رقيق
تعلّقت العيون بها، همسات الإعجاب اختنقت في الحناجر

مع صدح الموسيقى في الأرجاء، تنسجم مع خطواتها في إيقاع مهيب، وكأنها تعزف لحن ميلادها جديد.
ارتجف قلبها وهي تمسح بعينيها اللامعتين على الوجوه، تبحث بينهم عن عينيه… عن الأمان الذي يكتمل بوجوده.
كل ثانية من نزولها كانت كأنها عمر كامل، يختلط فيه الفرح بالرهبة، والأنوثة بالبراءة، وكأنها أميرة تتوج أمام عرش الحياة.

كانت عيناها تبحثان بلهفة بين الحضور، تبحث عن إلياس وكأن وجوده يكمل لها معنى الفرح. همست إلى إسلام بصوت مرتجف:
_ "أخوك لسه زعلان مني؟"

ابتسم وهو ينظر للجميع متجنبًا أن يحزنها عليها:
_ "حبيبتي، اضحكي وافرحي بعريسك… هو يمكن دلوقتي بيجهز حاجة."

لم يكمل جملته حتى ظهر إلياس بجوار إسحاق وهما يدخلان القاعة في هذه اللحظة، فتلألأت عيناها بالسعادة وكأنها رأت الأمان أمامها.
_ "جِه… وعمو إسحاق كمان معاه!"

اقترب مصطفى ليستقبل ابنته، يضمها بنظراته قبل أن يسلّمها لعريسها كما يسلّم أغلى ما يملك. صوته اختنق قليلًا وهو يقول لمالك:
_ "بنتي… وقطعة من قلبي… وأغلى ما أملك بقيت ملكك يا مالك. أتمنى تحافظ عليها."

وضع مالك يده على صدره بحزم ممزوج بالحنان، ثم أجابه بخشوع:
_ "بنت في الحفظ والصون يا عمو… ووعد، هتكون أميرة قلبي قبل حياتي."

ارتسم الخجل على وجه غادة، واقترب منها مالك يلثم جبينها بخفة، ثم همس بصوت حنون جعل جسدها يرتجف:
_ "مبروك… ربنا يتمم سعادتنا على خير."

شعرت كأنها طائر يخفق بجناحيه في فضاء السعادة، وكل الحاضرين ذابوا في تلك اللحظة الممزوجة بالرهبة والحب.

جلست بمكانها المخصص، ترتب أنفاسها بعمق، والابتسامة لا تفارق محياها وهي تجول بعينيها على القاعة المضيئة بالأنوار.
انحنى مالك نحوها، يهمس كمن يخشى أن يفسد اللحظة:
ـ إيه الجمال دا… حقيقي يابختي.

رفعت حاجبها بمشاكسه وهمست بخفة:
ـ أوووه، حضرة الظابط نزل من برجه العاجي، وبقى يتكلم زي بني آدمين.

ضحك بخفوت:
ـ ليه، حد قالك إني مش بني آدم؟

مالت نحوه هامسة:
ـ أحسن بني آدم في الدنيا… بس مغرور غرور الطاووس يا سيادة الظابط.

أومأ بثقة وهو يبتسم ابتسامة جانبية:
ـ خليكي فاكرة الكلمتين دول، علشان هتحتاجيهم بعدين.

خجلت، وأبعدت عينيها عنه بسرعة، لتدور نظراتها بين الحضور، تتأمل الفرح حولها.
وبأحد الأركان كانت غرام تجلس، تحدّق فيه بتساؤل صامت.

التفت إليها أرسلان فجأة، بعينيه التي التقطت شرودها:
ـ مالك يا غرام؟ بتبصي عليا كدا ليه؟

ترددت قبل أن تنطق:
ـ أرسلان… مين اللي بلّغ عن أحلام الجارحي؟

تجمدت ملامحه لثوانٍ، ضاقت عيناه، ثم ابتسم مصطنعًا وهو يمد يده نحوها:
ـ مين أحلام الجارحي؟ بقولك تعالي نرقص مع العرسان… وبطلي تفكير يا حبيبتي.

وفي مكان آخر…
وقف يزن بجوار إلياس وإسلام، يستقبل المدعوين بابتسامة رسمية، لكن عينيه تبحثان في القاعة بلهفة حتى وقعتا عليها.
كانت "رحيل" جالسة، عيناها شاردة، متسمّرة على رقص غادة ومالك

تقدم إليها بخطوات ثابتة، وانحنى بخفة، يمد يده أمامها:
ـ رحيلي… ممكن تشاركي زوجك الوسيم الرقصة دي؟

رفعت عينيها نحوه، ونجوم صغيرة تألقت في عيناها، هزّت رأسها، ترسم ابتسامة باهتة لا تصل لعينيها.
قرأ ما بداخلها ، فسحبها معه برفق إلى قلب القاعة، حيث تدفقت أنغام الموسيقى.
احتواها بين ذراعيه وبدأ يتمايل معها، صوته يهمس مع اللحن:
ـ أنا عايزك تفضلي جنبي…

لم تتمالك نفسها، دفنت رأسها في صدره، ودمعة خانتها وانسابت رغمًا عنها.
اقترب أكثر، يهمس في أذنها بنبرة منكسرة:
ـ آسف يا رحيل.

ابتعدت ببطء عن حضنه، كأن قلبها يُنتزع، همست بنبرة مخنوقة وهي تُشيح بنظرها بعيدًا عنه:
ـ بتتأسف ليه يا يزن؟… كل حاجة نصيب.

انتهت الرقصة، ليتراجع الجميع الى اماكنهم المخصصة، مع الموسيقى الكلاسيكية الهادئة.. مضت دقائق والهدوء يعم القاعة سوى من الموسبقى

تأفف بلال بجلوسه، ثم قال
-عمو اسلام فين، ماتيجي نروح له، انا اتخنقت
- وانا الصراحة... لمح دخول اسلام بجوار ملك، فغمز ليوسف الذي انحنى يهمس إلى بلال بعض الكلمات: 
_ عمو اسلام جه، ياله انا زهقت، وهنتحر
-تصدَّق أنا كمان زهقت، إيه الفرح اللي يحسِّسك إنَّك في المعتقل دا يابني؟. 
-طيب يالَّه.
-طيب أبوك وأبويا هيسكتوا؟.
سحبه وتحرَّك: 
-ياعم لمَّا الفرح يخلص كنَّا فكَّرنا في حاجة. 
-تصدَّق صح، إنتَ يلا خسارة في البلد دي.
أشار يوسف لنفسه بفخر:
-عارف متحلفش، المهم إنتَ تروح لموزِّع الموسيقى..أكون ظبَّطت الدنيا. 
طاف بلال بأعينه في القاعة: 
-واد يايوسف، دي كلَّها شرطة، هوَّ جدَّك بيحتفل بعيد الشرطة في فرح بنته؟.أنا خايف ليقلب علينا.
-اجمد يامتخلِّف، والناس بزيَّها دا ناقص يفتحوا النشيد الوطني، وماشربتش من نيلها.
قهقه بلال وتحرَّك إلى موزِّع الأغاني باتِّجاه يوسف إلى إسلام وبعض أصدقائه.. 
لحظات وعلت الموسيقى الصاخبة بالقاعة ممَّا جعل الجميع ينظرون بذهول.. 
ركض الشباب إلى حلبة الرقص على أغنية "مامتش أنا مامتش "
اقترب بلال ويوسف يجذبون إسلام وبدأ الثلاثي يرقصون بطريقةٍ هندية تمَّ التدريب عليها..
جزَّ إلياس على أسنانه يشير إلى أرسلان الذي ارتفعت ضحكاته، فنهض متَّجهًا إليهم.. 
تنهَّد إلياس ظنًّا أنَّه سيتولى الأمر ولكن جحظت عيناه وهو يراه يقوم بنزع حلته ويتراقص بجانبهم، اقترب مصطفى من إلياس: 
-العيال دي بتعمل ايه؟.

تعليقات