رواية اشتد قيد الهوي الفصل الثاني والعشرون
بين الحب والاشتياق كنت انت... بين الهجر واللقاء كنتَ انت بين الراحة والعذاب كنتَ انت الكلمة ونقيضها... شعورين متضادين كنتَ بينهما تقف لي بالمرصاد...
واليوم يقف قلبي لي بالمرصاد يئن بوجع بضعف بشوقٍ لأن يرنو إليك... وليحدث ما يحدث بعدها...
لكنّ الاختيار صعب...
وضعتُك أنتَ وحبك في كفة وابنتي وأمومتي في الكفة الأخرى....فعذرًا لمشاعري المتلهفة إليك فان الأمومة تفوز مهما كنتَ قريبًا إلى قلبي ستظل كفة ابنتي الأرجح قبل الجميع..
دارت بحدقتيها في أرجاء الشقة الصغيرة بعد أن فرشتها وأرهقت نفسها في تنظيفها وترتيبها....
كانت تريد أن تتوقف عن التفكير به لكنه لم يغب عن بالها ولو لثوانٍ...
أجهدت جسدها في التنظيف بقسوة لكنها لا تشعر بعظامها المستغيثة منها... كل ما تشعر به هو وجع قلبها حرقة في صدرها ونيران تشتعل في جسدها...
شعورٌ بأنها تريد العودة إليه تريد أن تكون معه... فكيف ترفض رجلًا بروعته؟ لم يخطر ببالها يومًا أن تحظى به أو حتى أن يلتفت إليها....
وحين حدث أن رآها وانجذب لها وطلبها بالحلال اختفت من حياته دون سابق إنذار.
فرت هاربة من حياته بجبن... خشيت عليه وخشيت على نفسها من تلك الزيجة.
لم يكن تصرفها عقلانيًا أن تختفي فجأة كما جاءت فجأة لكن الاتصال الذي جاءها منذ أيام قلب حياتها رأسًا على عقب.
ألقت شروق جسدها المنهك على الفراش بجوار ابنتها النائمة بعد أن أخذت حمامًا باردًا لعلّه يطفئ النيران المستعرة في قلبها وجسدها...
نظرت إلى السقف المشقوق الذي يوشك أن يسقط فوق رأسها ورأس طفلتها في أي لحظة لكن السمسار طمأنها بأنه آمن صامد منذ سنوات طويلة...
نعم هكذا كانت تظن... كانت تعتقد أن الشقوق في حياتها صامدة ولن تُشكّل خطرًا... لكنها فجأة سقطت فوق رأسها دون سابق إنذار...
كانت خفقات قلبها لرجلٍ آخر أشبه بزلزال أسقط فوقها كل الشقوق التي تركتها دون أن ترأب فكانت النتيجة...
الهروب من الرجل الصالح خوفًا من الصعلوك... طليقها....
ذاك الطليق الذي أفسد حياتها طوال ست سنوات ودفعت ثمن اختيارها المعطوب. وحين تحررت منه وظنّت أنها النهاية عاد ليخبرها....
إما أنا وابنتي... أو لا شيء...لن تحصلي على شيء....
لن تحصلي على شيء إن اخترتِ صالح... إن اخترتِ حبك له...
يجب أن تنسي هذا الشعور وأن تتابعي حياتك.
لن تُضحّي بابنتها مهما كانت الخسائر....
صدح الهاتف مجددًا فنظرت إليه لتجد رقم
(صالح) يضيء الشاشة لكنه يغيم عليها بالحزن والقهر... فالتردّد بات رفيق عينيها
والآه أصبحت الكلمة الوحيدة التي تنطق بها كلما اتصل بها...
فهي لا تملك سوى الحسرة... والصمت.
لا تملك الشجاعة لمواجهته حتى عبر الهاتف... هذا أكبر من قدرتها على الاحتمال.
وحين انتهى الاتصال للمرة المئة طوال اليوم سكنت جوار ابنتها تضمها بين ذراعيها وهي تبكي...
تبكي حتى غفت متعبة مرهقة حزينة... بائسة بجوارها......
قبل أيام....
حين عادت من المشفى وبعد الاطمئنان على حالة ياسين أوصلها صالح بنفسه ثم تركها وعاد إلى المشفى بجوار والدته وابنته...
دلفت سريعًا إلى المطبخ لتحضّر وجبة سريعة لابنتها حتى تأكل فقد تركتها وحدها منذ الصباح...
جاءها اتصال من رقم غير مسجّل فتحت الخط ووضعت الهاتف على أذنها بينما يدها الأخرى تقلّب بالمعلقة بسرعة...
"ألو..."
(أهلا بام بنتي... وحشني صوتك...)
توقفت يدها عن الحركة وتيبّس جسدها في مكانه جافلة بشدة بعينين متسعتين برهبة...
فدائمًا ما كانت تتلقّى اتصالات تهديد من زملائه في السجن لكنه لم يجرؤ يومًا على مكالمتها بنفسه...
فعلها مرة واحدة فقط في بدايات سجنه
حين أجهضت الطفل عمدًا...وكان ولدًا يومها...
ولدٌ كان ينتظره بفارغ الصبر بينما تخلّصت هي منه دون ذرة تردّد...
أخبرها وقتها أن بينهما ثأر وأنه سيقتل فرحتها يومًا كما فعلت به...
كانت القسوة والوعيد قيدًا من نار أحاط عنقها به وما زالت تخشاه وتخشى هذا الثأر...
لم تكن قضية الخُلع التي كسبتها تُشكّل فارقًا معه بقدر ما شكّله مقتل ابنهما... جعل منه غولًا هائجًا يتوعّدها بنفس الشعور...
ورغم مقتها لنفسها وحملها لذنب من الكبائر
إلا أنها لم تندم... يكفي طفلة واحدة تعاني بينهما...
(إيه مش عارفة صوتي؟..... ولا الفرحة لخبطتك؟...)
"إنت خرجت؟..."
سألته بصوت خافت... مرتعبة من الإجابة...
ضحك ممدوح ضحكة خشنة ساخرة تزيد مقتها وكرهها له...
(لو كنت خرجت مكنش هيبقى كلامنا في التليفون... أنا بحب كلامنا يبقى وشّ لوشّ... يمكن أحنّ وآخدك في حضني...)
تركت ما بيدها بوجه باهت هربت منه ألوان الحياة فجأة وانطفأت الفرحة في عينيها
وحلّ محلها الظلام والبُغض...
(فاكرة لما كنتِ بتزعليني... وبعد ما أضربك وأطلع عين أمك... أصلّحك بالطريقة اللي بتحبيها؟)
امتقع وجهها بقرف وهي تعرف إلى ما يرمي...حديث بذيء وقح ولحظات بشعة عاشتها وتحملتها بغباء...
قالت شروق بقرف...
"اللي إنت بتحبها بالغصب.... أكيد فاكر إنك كنت بتعمل ده بالغصب..."
ردّ دون ذرة ندم ضاحكًا بانتشاء...
(مش مهم... طالما مراتي وحلالي أعمل اللي أنا عايزه... بالغصب أو بالرضا... إنتي بتاعتي ومش هتكوني لحد غيري...)
جاش صدرها بالغيظ وقالت بحدّة...
"الكلام ده كان زمان... اللي بيني وبينك ملك... مش أكتر... لكن أنا لا ملكك ولا اخصك..."
أتاها صوته الهادئ المريب كأنّه متفهّم للوضع الجديد...
(آه..... ما أنا عرفت إنك بقيتي تخصي راجل تاني... ده اللي خلعتيني عشانه... وقتلتي ابني عشان تعرفي تكوني معاه...)
عقدت حاجبيها بتوجّس...
"هو مين ده.... هترجع تاني ترميني بالباطل؟!"
صرخ فجأة صرخة أفزعتها وجعلتها تنتفض..
(فين الباطل يا شريفة؟!..... وانتي ماشية على حل شعرك وعايشة في بيته...)
تشدّقت بصدمة....
"إنت تقصد مين؟!... "
صاح ممدوح باهتياج...
(هيكون مين.... ابن الـ** اللي سجن أمي ولبّسها قضية عشان خاطر عيونك يا فا***...)
جحظت عيناها بصدمة شديدة... فهذا الخبر حصري بالنسبة لها...
"صالح؟!...... صالح سجن أمك؟!"
هدر ممدوح بضراوة...
(آه..... استهبلي يا بت.... ده انتوا طبختوها سوا... مش بعيد يكون في حضنك دلوقتي...)
علا صوتها مثله بانفعال...
"احترم نفسك... إنت مفكر الكل زيك غاوي حرام؟!..... ده شيخ وعارف ربنا و..."
تشدّق ممدوح بسخرية لاذعة....
(شيخ؟!..... وماشي في الحرام مع واحدة
** )
قالت بعنف
"مفيش بينا حاجة وحتى لو فيه... إنت مالك؟!... "
أتاها صوته بوعيد قاسٍ...
(لأ..... يروح أمّك ليا... بنتي وانتي قبلها هتكوني تحت رجلي...)
لوت فمها بتهكّم هازئ...
"وعايز واحدة ليه مش شريفة... دور على غيري..."
همس بفحيح الأفاعي...
(هارجّعك على ذمتي... ومش هخليكي تنفعي لا ليا ولا لغيري... واطمني كده كده هجيب ست ستك.... وهدخل عليها قدامك عشان أكسر عينك....)
لم تغضب من كلماته ولم تتحرّك شعرة من رأسها بل استخفّت به قائلة بصلابة وعناد...
"نجوم السما أقربلك مني... يا حنِش... "
علت حدة أنفاسه وهو يصيح بتوعّد أسود..
(هَوصلك... متقلقيش... ما فاضلش كتير على خروجي... وهاجي آخدك لو فين بالذِي هَجيبك تحت رجلي...)
ثم استرسل بقتامة شديدة...
(ومتفكريش إن شيخ المنصر بتاعك ده هيمنعني... ده هو كمان حسابه معايا جاي... عشان يفكر يبص لحاجة تخصّني... وحبس أمي ده حساب تاني ليكي وليه... مش هرحمكم يا ولاد الـ...**...)
أغلقت شروق الهاتف في وجهه... لم تُرِد سماع المزيد.... يكفي نواياه الجبارة نحوها ونحو صالح...
وهي تعرف أن (حنش) لن يتراجع...
السجن قفص يمنعه عنها ويجعلها في أمان...
لكنه قريبًا سيخرج من القفص كالوحش الثائر
وتصبح هي فريسة له ولشروره...
لذلك... عليها أن تبتعد ولا تتسبّب بالأذى له...ولا لعائلته....
................................................................
منذ الصباح الباكر كان يصفّ سيارته على بُعد مسافة قريبة من المدرسة...
يُظلّل عينيه الخضراوين الغاضبتين بنظارة سوداء تُخفي خلفها ملامح متجهّمة ونظرة حانقة...
كلّ يومٍ يأتي إلى هنا ولمدة أسبوع دون أن يصل إلى شيء. قد توقفت ابنتها عن الذهاب إلى المدرسة... أو ربما هي من تمنعها لأسباب غير واضحة.
نفس تلك الأسباب التي جعلتها تبتعد عنه دون سابق إنذار...
وكأن معرفته لم تعد تُشكّل فارقًا لديها !...
قبض بيديه على عجلة القيادة بعصبية وعيناه تلتقطانها من بعيد آتيةً برفقة ابنتها... ظهرت أخيرًا بعد صبرٍ عظيم منه...
كانت ترتدي طقماً بسيطًا يليق بها... هل توقفت عن ارتداء العباءات؟.....
لماذا تبدو مختلفة أم أنه الشوق ذاك الذي يُحرّك فؤاده ويُشعل قلبه نحوها...
بلع ريقه والغضب يتصاعد بداخله يراها تبتسم ابتسامتها الفاتنة إلى( الفراش) وهي تُسلّم ابنتها أمام البوابة الكبيرة ثم تُحيّيه وتذهب...
وضع صالح يده على مقبض السيارة كان ينوي اللحاق بها في الشارع وأمام الناس لكنه تعقّل وتريّث في تصرفاته ريثما يعرف وجهتها القادمة...
فقد اكتشف خلال هذا الأسبوع أنها لم تَعُد تعمل لدى السيدة كوثر وتركت العمل عندها وبالطبع فعلت ذلك لتُصعب عليه مهمة العثور عليها...
لكن كان من الصعب عليها إخراج ابنتها من المدرسة خصوصًا مع اقتراب موعد الاختبارات...
لم تكن لتُجازف بسنةٍ كاملة ولذلك لم يملّ هو فكان كل يوم ينزل بعد الفجر كي ينتظر بالقرب من المدرسة وأخيرًا رُحمت انتظاراته وظهرت... ولهذا لن يُضيّع الفرصة ويجب أن يعرف مكان سكنها وعملها.
بعد فترة من المراقبة وجدها تترجل من سيارة الأجرة (السبعة راكب) لتقف أمام محلّ ملابس... توقّفت قليلًا أمامه ثم دلفت إليه
بعد ثوانٍ...
عقد صالح حاجبيه وهو يُدقق النظر في ذلك المحل التابع له ضمن سلسلة محلات خاصة بمصنع (الأبرار)...
كلّ الطرق توصلك إليّ..وما زلتِ تُنكرين الأمر.
يبحث عنها منذ سبعة أيام ويتصل بها كل دقيقتين على أمل أن تُجيب على اتصالاته... وفي النهاية تعمل هنا في أحد المحلات التابعة له... مِلكٌ له !....
"شروق..... في حد برّا عايزك..."
اقتربت منها زميلتها في العمل قائلة تلك العبارة... نظرت إليها شروق بحيرة ثم نظرت إلى الزبونة التي كانت تساعدها على انتقاء ما يناسبها....
"مقالش مين؟... "
هزّت الأخرى رأسها وهي تتولى العمل عنها
"لا.... روحي شوفيه... وأنا هقف مكانك."
تركت شروق ما بيدها وخرجت من المحل تتقدم خطوة وتتراجع أخرى نحو سيارة سوداء فارهة مألوفة جدًا لها...
تسارع نبض قلبها حين رأته يفتح زجاج النافذة ويطلّ عليها بنظرات قاتمة تكاد
تبتلعها....
حرّكت أهدابها بتوتر مضطربة غير مصدّقة وجوده أمامها. ظلّت مكانها متيبسة وقد جفّ حلقها وهربت الكلمات منها وهي تتبادل معه النظرات بصمتٍ مشحون.
"اركبي...."
كلمة واحدة لفظها بأمر خشن مهيب.
قالت شروق بصعوبة هاربة من عينيه...
"مش هينفع... صاحب الشغل ممكن يخصملي وأنا ما بقاليش غير يومين هنا."
أطبق على أسنانه بقوة وأعاد الكلمة بأمرٍ قاطع...
"اركبي..."
رفضت شروق بعناد...
"بعد الشغل هنتكلم... بالله عليك متقطعش عيشي...."
زمجر صالح مشددًا على كلماته بغيرة..
"عيشك كده كده مقطوع من هنا... مفيش شغل في أي حتة... وإحنا متفقين على كده."
وخزها قلبها بينما لسانها يخرج كالمشرط يقطع الوصال...
"اتفقنا انتهى.... ولا انت مش واخد بالك؟"
أطال النظر إلى عينيها الهاربة منه وقد أوغر صدره بالغيظ منها ومن جفائها نحوه....
"لا واخد بالي...أمال أنا هنا ليه؟.... اركبي."
قارعته شروق بعناد وتحدٍ...
"لا.... أنا مش هخسر شغلي. نتكلم بعد ما أخلص.... أنا هخلص على الساعة أربعة...
ده اللي عندي... أنا مش حمل خصم... "
ثم غادرت من أمام عينيه المندهشتين إلى الداخل بينما ظل هو جالسًا مكانه بوجهٍ مكفهر وصدرٍ يموج بحنقٍ مكتوم....
وقبل أن ينطق بكلمة قد يندم عليها لجأ إلى هذه الجملة لعلّه يهدأ من ثورته العارمة...
"يا الله....... يا وليّ الصابرين..."
ثم ضرب على عجلة القيادة عدة مرات وبعد عشر دقائق كاملة من جماح الغضب الذي أثارته بعنادها المستفز...
ترجّل من السيارة متوجهًا نحو المحل....
كانت تولّي ظهرها للباب ترتب الملابس وتنسّقها في مكانها الصحيح كما أمرها
صاحب المكان...
اندفع الباب الزجاجي من خلفها بهدوء وتوغّل عطر العود إلى أنفها فأغمضت عينيها بعذاب وقلبها يكاد يقفز من بين أضلعها واقعًا أرضًا تحت قدمي من لا يرحمها ولا يرحل...
أطلقت تنهيدة من بين شفتيها تحمل أنينًا لا يسمعه سواها شعرت أن المكان صمت وأن حضوره صنع هيبة طغت على كل شيءٍ من حولها...
"أهلاً بالباشا... إزيّ حضرتك..."
عبس جبينها وهي تسمع صاحب المحل يرحّب به بحفاوة لا تخلو من التوتر وكأنها زيارة مفاجئة لم يكن مستعدًا لها...
رد عليه صالح وعيناه تبحثان عنها حتى رآها في أحد الزوايا تولّيه ظهرها...
"عامل إيه يا سعيد...... أي أخبار الشغل؟"
ردّ سعيد بارتباك...
"بخير الحمد لله... هي في شكوى جت لحضرتك؟"
هزّ صالح رأسه قائلًا بصلابة...
"مش بالظبط... انت عندك مشكله اشوف
املاكي وابشرها...."
ارتعد الأخير وصحّح القول...
"المال مالك يا باشا... أنا بس بديره وكله تحت إشراف ساعتك."
قال صالح بملامح جامدة...
"خد إجازة النهارده يا سعيد... شكلك تعبان."
توترت أعصاب الرجل وقال بخوف...
"أنا صحتي حديد.... أخد إجازة ليه هو حضرتك بتطردني؟"
هتف صالح بصبر....
"ربنا ما يجعلنا من قاطعين الأرزاق... أنا محتاج المحل النهاردة. خد إجازة وبكرة
ارجع باشِر شغلك..."
"بس..."
توقّف سعيد عن المتابعة عندما رآه يصعد أمامه إلى الدرج المؤدي للمكتب العلوي.
زم سعيد فمه وهو يصعد خلفه ليأخذ أغراضه ويغادر كما أمره رب عمله...
أما هي فكانت واقفة مكانها كتمثال منحوت فاغرة الفم يكاد فكّها يسقط أرضًا بعينين متّسعتين من صدمة كبرى...
إنها تعمل لديه... في أحد المحلات التابعة له
أيّ حظّ قادها إليه؟..... وكيف حدث ذلك؟!
سمعت زميلتيها تتحدثان بصوت خافت بالقرب منها...
"شوفتي صاحب المحل... أهو ده اللي بقولك عليه..."
قالت الأخرى بهمسٍ هائم...
"يخرب بيتُه يا نشوى... ده طول بعرض يابنتي
وحلو حلاوة.... إحلفيلي إنه مش متجوز..."
قالت نشوى بميوعة...
"أرمل.... وعنده بنت في كلية الطب."
فغرت الأخرى فمها بصدمة متشدّقة...
"ده عنده بنت؟!.... إزاي يعني ده ما يبانش عليه أكتر من خمسة وتلاتين... "
قالت نشوى بحذق...
"اتجوز وهو صغير وعنده تلاتة وأربعين سنه
مراته ماتت من عشر سنين وما اتجوزش من بعدها..."
تبرّمت الأخرى بحسرة قائلة....
"يعني مال وجمال وعايش على ذكرى مراته... لا.... ده محتاج حد يفكّ عقدته.. "
لكزتها نشوى بغيرة..
"يا ولية اتلمي انتي متجوزة... أنا اللي هفك عقدته...."
ضحكت الأخرى عليها وقالت بغمزة لعوبة..
"سنجل ويحقلك... بس مش كبير عليكي ده يا نشوى.... ده انتي اتنين وعشرين سنة يعني
من عمر بنته."
أرجعت نشوى خصلات شعرها للخلف وقالت بدهاء....
"ما هو ده السن المطلوب...اتفرجي وشوفي..."
وحين ابتعدت عنها سألتها الأخرى ضاحكة..
"رايحة فين يا بنت؟"
سارت نشوى للخارج بخطوات مائعة وهي تقول بجرأة...
"رايحة أجيب عصير لخطيبي..."
سخرت منها الأخرى بضحكة رقيعة...
"قوام بقى خطيبك طب اصبري... أما يبص في وشّك... "
ثم نظرت إلى شروق التي كانت تتابع الحديث بصمت فاقحمتها زميلتها بنفس الضحكة المتسلّية....
"نشوى عقلها طار منها... سمعتي اللي قالته؟"
أجابتها بإيجاز...
"سمعت."
سألتها الأخرى تلوك الكلام كما تلوك الحلوى مستمتعة بمذاق الحديث....
"وإيه رأيك؟... تفتكري هتعرف تجيب رجله؟"
ضاق صدرها بمشاعر عنيفة وقالت دون اكتراث...
"هي وشطارتها..."
انتبهت الأخرى إلى تجمّد تعبيرات وجهها ونظراتها الحانقة فسألتها بتذكّر...
"اللي صحيح يا شروق... مش صالح ده هو اللي كان مستنيكي بعربيته برا؟"
"لا..... ده حد تاني..."
ثم ابتعدت شروق عنها في اتجاه الزبونة التي دلفت للتو تبحث عن شيء معيّن وتحتاج إلى المساعدة...
بينما زمّت الأخرى فمها بشك تغمغم....
"حد تاني إزاي؟!"
في الطابق العلوي جلس خلف مكتبه يتابع من خلال الحائط الزجاجي القريب منه كل ما يجري في الأسفل حيث تظهر أمامه العاملات وسير العمل تحت ناظريه....
كذلك هناك شاشة أمامه ترصد ما يحدث في الأسفل من خلال عدسات المراقبة...
وحين لم يرها من خلال الحائط الزجاجي
رآها على الشاشة تتابع عملها بهمة تساعد الزبونة على انتقاء أفضل الأشياء المناسبة لها وتوزع ابتسامتها الفاتنة...ابتسامة تخفي خلفها انكسارها وحزنها الواضحَين لعينيه منذ أن التقى بها في الأسفل...
أطلق زفرة ثقيلة على صدره وهو يردد
بصبر..
"يا الله... يا ولي الصابرين..."
بدأ يُحرّك حبات السبحة السوداء اللامعة بين أصابعه بينما عيناه لا تحيدان عنها والغيظ يتغذى على ثباته وصبره عليها....
سمع طرقات رقيقة على الباب فعقد حاجبيه وهو يسمح للطارق بالدخول. دلفت شابة لم يدقّق النظر إليها حين لمح شعرها وملابسها الضيقة غضّ بصره عنها وقال بهدوء...
"في حاجة يا آنسة؟"
خطت نشوى خطواتها بحذر شديد وقالت برقة....
"كنت جايبة لحضرتك عصير..."
نظر إليها لثانية بحاجبين معقودين ثم أبعد عينيه قائلًا...
"بس أنا ما طلبتش عصير..."
قالت بابتسامة وضعت فيها كل مقومات الجمال وبصوت ناعم جدًا...
"بصراحة... دي أقرب طريقة أرحب بيك بيها."
سألها دون أن ينظر إلى وجهها أو يمنح ابتسامتها المنتظرة تصريحًا للظهور....
"ليه تعرفيني؟... "
قالت نشوى محاولة التودد....
"مين ميعرفش صاحب المكان اللي شغالين فيه..."
نظر إلى الشاشة نظرة طويلة عميقة وتمتم شارداً في الغزالة...
الغزالة التي شردت عنه بقسوة لم يعهدها بها...
"عادي... في ناس مكنتش تعرف..."
ابتسمت نشوى وظنت أنه الضوء الأخضر الذي منحها إياه فقالت بتملّق...
"اللي ما يعرفك يجهلك... دا انت صالح الشافعي... اتفضل العصير..."
حين وضعت العصير أمامه نظر إليه ثم إليها وقال بنبرة قاطعة....
"شكرًا... اتفضلي على شغلك."
فغرت فمها بصدمة من هذا الرد الجاف
السريع...
"هااااا..."
عاد ينظر إلى الباب بنظرة حادة ونبرة جامدة كالفولاذ....
"اللي قولته في حاجة غريبة... شغلك تحت
يا آنسة مش هنا."
ارتبكت نشوى واحمرّ وجهها من الحرج وأومأت برأسها عائدة أدراجها وهي تقول..
"آه طبعًا... أنا آسفة ماقصدتش حاجة..."
جاء صوته هادئًا رغم عبوس ملامحه...
"مافيش حاجة حصلت عشان تتأسفي... روحي شوفي شغلك.... "
غادرت نشوى دون كلمة واحدة ثم أغلقت الباب خلفها ونزلت على الدرج وهي تغمغم بإحباط....
"هو مالُه صعب كده ليه... دا أنا حتى ملحقتش آخد فرصتي..."
وحين اقتربت من زميلتها سميرة قالت الأخيرة بصيحة خبيثة....
"إي ياشوشو... سبع ولا ضبع؟"
ضمت نشوى شفتيها بتعابير مكفهرة وقالت..
"زفت... زفت أوي كمان..."
سألتها سميرة بدهشة...
"ليه؟....... إيه اللي حصل؟"
أخبرتها نشوى باستفاضة متحسّرة...
"هو أنا لحقت أعمل حاجة ولا أقول حاجة عشان حاجة تحصل... دا أنا يدوب بحاول أجرّ شوية كلام ناعم معاه وألفت نظره لقيته بيطردني من مكتبه بأدب... وبيقولي شغلك تحت... "
قالت سميرة وهي تلقي نظرة على شروق المنشغلة مع الزبونة...
"واضح إن في حد تاني شاغل باله..."
تشدقت نشوى بصدمة...
"شروق؟!...... وهي طلعت ليه إمتى؟!"
وكالعادة طعم الوِشاية على لسان سميرة كالحلوى فقالت..
"من غير ما تطلع واضح إنه يعرفها... من نص ساعة كان واقف بعربيته تحت ولمّحني واقفة قدّام المحل فطلب إني أنادي عليها بالاسم... ولما عملت كده ماكنتش أعرف إنه هو صالح الشافعي اللي انتي قرفاني كلام عنه... لمّا شوفته اتأكدت."
اشتعل صدر نشوى بالضغينة وسألتها بحيرة..
"كان عايز منها إيه؟..... ويعرفها منين أصلًا؟"
مطّت الأخرى شفتيها وقالت..
"الله أعلم..."
قالت نشوى بتشنّج وغيرة...
"أنا من الأول مكنتش مرتاحة ليها... كلامها قليل ولا بتقعد معانا ولا حتى بتاكل وتشرب... شايفة نفسها وهي من لبسها وشكلها أقلّ مننا..."
ردّت سميرة بمكر...
"أقلّ آه... بس وقعت صالح الشافعي اللي مدّكيش وشّ من شوية..."
هتفت نشوى بنظرة محتدة متوعدة...
"وحياتك لأجيب رجله... وأمشيها من المحل كله... بفضيحة كمان استني عليا..."
بعد ساعة تقريبًا وفي وقت الراحة بدأت الزميلتيها بإخراج علب طعامهما على طاولة صغيرة يتناولان عليها الطعام بعيدًا عن البضائع المعروضة...
"ما تيجي تاكلي يا شروق..."
أجابتها شروق بهدوء...
"مليش نفس..... يا سميرة..."
ألحت سميرة بطيبة زائفة بينما نشوى تكبح جماح غضبها وغيظها بصعوبة...
"يا بنتي تعالي هو كل يوم على الوضع ده حرام تفضلي واقفة على رجلك كل ده من
غير أكل..."
قالت شروق بود...
"مش عايزة يا سميرة... مليش نفس.
بالهنا ليكم...."
وحين ابتعدت شروق لكزتها نشوى عدة مرات بغيظ هامسة من بين أسنانها...
"مالك يا أختي عمالة تتحيّلي عليها كده ليه
ما إن شاء الله ما طفحت... "
توسعت عينا سميرة بلؤم مدّعية الطيبة..
"أحييه عليكي يا نشوى انتي قلبتي عليها
كده ليه يا بنت؟.. "
بدأت نشوى تمضغ الطعام بغيظ وهي تُشيّع شروق بنظرات حارقة من بعيد....
"عشان بصت لحاجة عايزاها... يبقى هي الجانية على روحها..."
قالت سميرة بعقلانية تحاول نصحها...
"ما تهدي يا نشوى... مش عايزين مشاكل تقطع عيشنا من المكان... دا محل محترم وصحابه ناس تمام وبيراعوا ربنا في شغلهم وفي الناس اللي شغالة معاهم... ولو لا قدّر الله حصل حاجة ومشونا..... والله ما هنلاقي زيهم..."
قالت نشوى باستنكار...
"هو أنا عبيطة عشان أقطع عيشي أنا همشيها هي... عشان متبقاش العقبة اللي قدّامي..."
تبرّمت سميرة ساخطة...
"يا أختي وانتي إيش عرفك إنها العقبة ما يمكن هو اللي مش عايز..."
قالت نشوى بثقة....
"هيعوز يا حبيبتي... خليكي انتي بس في حالك.... وطفحي وانتي ساكتة..."
أشاحت سميرة بنظراتها عنها وهي تغمغم بضيق....
"ياختي انتي حرة... لو عكيتي الدنيا
أنا معرفكيش... "
لم تمضِ دقائق حتى ظهر عامل التوصيل يحمل أكياسًا بلاستيكية تحمل شعار سلسلة مطاعم شهيرة منتشرة في أنحاء الإسكندرية باسم (الشهد... Shahd)، تفوح منها رائحة طعام شهيٍّ تتسلل إلى أنفها ورغم أنها كانت فاقدة شهيتها إلا أن بطنها بدأت تُصدر أصواتًا مزعجة مستغيثة...
أخبرها العامل أنه سيصعد إلى الأعلى فهذا الطعام خاص بصاحب المحل فأومأت برأسها في مكانها دون تدخل.
أدى العامل مهمته بنجاح ثم هبط الدَّرَج يعدّ الإكرامية السخية التي حصل عليها من صاحب المكان....
صدح الهاتف الأرضي المجاور لها فرفعت السماعة بتردد انعكس على صوتها...
"أيوه؟"
جاء صوت صالح هادئًا لا يقبل النقاش...
"اطلعي يا شروق.... عايزك."
نفذت أوامره وصعدت إلى الأعلى ثم دلفت بعد الاستئذان ووقفت أمامه قائلةً بتحفّظ:
"تؤمر بحاجة يا أفندم؟"
رفع حاجبه بدهشة معقّبًا...
"أفندم؟!"
وحين لم يجد منها ردًّا أو حتى نظرة أمرها بهدوء وهو يتسلّح بصبر قدر المستطاع..
"عايز آكل... طلّعي الأكل ده وحطّيه على الترابيزة عندك."
نظرت إلى الأكياس التي تملأ المكتب بروائح طعام لا تُقاوم... غطّت على عطر العود وعلى الهواء النقي من حولها وكأنها تفرض سيطرتها على الجائع والزاهد في الطعام معًا.
تركت العند جانبًا وحركتها عاطفتها نحوه
وهي تُخرج علب الطعام الأنيقة والنظيفة بدرجة امتياز وهذه نقطة تُحسب لصاحب المكان بعد الرائحة الشهية فيبدو أنه حريص على كل شيء ويباشر عمله بإتقان وهذا لا تراه في كل المطاعم خاصةً إن أخذت الصيت المطلوب...
حين انتهت ألقت نظرة على الأصناف المصرية المتنوعة التي نُفّذت بطريقة عصرية دون أن تفقد اصالتها....
"أنا خلصت..."
قالتها شروق وهي تهم بالمغادرة...
هتف صالح وهو يسحب المقعد ويجلس
"أكيد مش هاكل لوحدي... قرّبي يا شروق وكفاية كده."
"بس أنا مليش نفس..."
رفضت بعناد يتلبّسها أمامه كالشيطان...
أخبرها صالح بصبر هادئ...
"هنفتح نفس بعض... إنتي مكلتيش تحت معاهم.... فقولت نجيب أكل وناكل سوا."
رفضت بكبرياء..
"مليش نفس."
نظر إلى الطعام قليلًا ثم نهض ممتنعًا مثلها بوجوم....
"خلاص أنا كمان مليش نفس... نزّلي الأكل تحت لزمايلك."
رآها في اللحظة التالية تسحب مقعدًا وتجلس أمام الطعام بل وتهمّ بالأكل دون أن تتفوّه بحرفٍ واحد.
تنهد صالح بحنق مكتوم وهو يسحب مقعدًا في الجهة المقابلة لها قائلًا باقتضاب..
"إمتى تبطّلي عند... وتعقلي إحنا أكبر من الحركات دي."
قالت بغلاظة...
"لا كلام على الطعام."
ابتسم صالح وهو يهمّ بالأكل وعيناه الخضراوان تتابعانها بين الحين والآخر:
"بسم الله الرحمن الرحيم."
قالت شروق بعفوية بعد دقائق من مشاركته الطعام الشهي بصمت....
"الأكل حلو أوي...."
رد صالح بلهجة عادية...
"أكله نضيف وكويس... مش بجيب غير منه."
قالت شروق متذكرة بإعجاب...
"اسم المطعم الشهد..والأكل فعلًا زي الشهد ولا غلطة... "
"بالنسبة ليا أكلك أحلى... وليه طعم."
قالها صالح بصوت عميق حرّك عواطفها المتأهبة له دومًا...
توقفت شروق عن الأكل ورفعت عينيها البنيتين البديعتين إليه... عيون الغزلان...
"كملي أكلك.... متوقفيش...الحمد لله"
قالها صالح وهو ينهض مبتعدًا عنها فنادت عليه بضياع...
"صالح..."
"كملي أكلك."
أمرها وهو يتجه نحو المرحاض ليغسل يديه وفمه جيدًا متبعًا السنّة بينما هي نهضت تلملم العلب في الأكياس وبعد خروجه دلفت وغسلت يديها وفمها.
ثم خرجت إليه وحين رأته يجلس خلف مكتبه اقتربت من المكتب وجلست على المقعد المقابل له. ظل هو يتابع ترددها بصمت
منتظرًا بصبر...
حتى قالت الكلمة التي اختنقت في حلقها لسبعة أيام كاملة...
"أنا آسفة..."
سحب نفسًا طويلًا امتلأ به صدره ثم أخرجه على مهل وهو يقول بثبات هادئ...
"متأخرة أوي... كنت مفكر إن عقلك أكبر من كده وتصرفاتك محسوبة... فجاتيني ومش هأنكر إن أملي خاب فيكي... بس لسه بديكي أعذار ومستني أعرف ليه عملتي كده."
قالت بمناورة...
"مفيش أسباب..."
عقّب بجدية...
"مفيش حاجة ملهاش أسباب."
نظرت إليه بجرأة وقالت بضجر...
"لو زي ما بتقول ليه طلبت تتجوزني؟ أكيد عندك أسباب..."
لم تزعزع ثباته وهدوءه الذي يتميز به وهو يخبرها بصدق...
"أكيد عندي أسباب بس مش هقولها غير لما تكوني حلالي."
اندفعت بتسرّع أهوج...
"وليه متقولهاش دلوقتي؟"
حانت منه نظرة قصيرة إليها ثم أبعد عينيه قائلًا
"مش كل الكلام ينفع يتقال بينا دلوقتي..."
لم تعجبها إجابته فقالت بوهن..
"على الأقل قلبي يرتاح من الحيرة..."
لانت نظراته عليها وقال بصوت حانٍ أوقعها أكثر في هواه...
كم مرة عليها أن تقع في هوى الشيخ؟...
"سلامتك من الحيرة... اديني الموافقة أكتب عليكي وساعتها هجاوب على كل أسئلتك وريح قلبك من الحيرة..."
"مش هينفع..."
سألها عابسًا....
"والسبب؟"
قالت بتهرب...
"مفيش أسباب..."
تأفّف صالح والصبر بالكاد ينفد منه وقال..
"أنا مش بحب أعيد الكلام مرتين... وصبري ليه حدود... يا أم ملك..."
أطرقت شروق رأسها أرضًا تذبح قلبها بتلك الكلمات المسنّنة...
"مش محتاج تعيده مرتين... الحقيقة اللي أنا وإنت شايفينها وبنكدبها... إن أنا ما أنفعكش... إنت تستاهل الأحسن... دوّر هتلاقي كتير."
ظهر الاستهجان في عينيه وهو يقول بتهكم..
"لو كنت عايز أتجوز كنت عملتها من عشر سنين مش هستنى كلامك... انتي ليه مش عايزة تفهمي؟"
رفعت عينيها إليه تواجهه رغم ضعف قلبها أمامه...
"إنت اللي مش عايز تقول..."
علا صوت صالح بعصبية...
"عشان مش كل حاجة ينفع تتقال... لما تبقي حلالي هقول !"
تراجعت في مقعدها بخوف بينما تابع هو بتشنج...
"إنتي مش ملاحظة إني بغلط وبشيل ذنوب بسببك..."
توسعت عيناها بدهشة معقبة باستنكار...
"ذنوب بسببي؟!"
أومأ برأسه بملامح متجهمة مصرّحًا بالحقيقة التي تجهلها...
"من ساعة ما عرفتك... وأنا بتصرف غلط... وأكبر غلط إننا قاعدين لوحدنا هنا وبنتكلم وعيني في عينك... أنا عايز أعفي نفسي أنا وانتي من الغلط ده..... ليه بتصعبيها؟"
قالت بغباء أنثوي...
"على فكرة إنت اللي طلبت مني أطلع..."
ارتفع حاجب صالح ساخرًا من ردها...
"وإنتي مش فاهِمة أنا بقيت بتصرف عكس طبيعتي ليه معاكي إنتي بالذات؟"
لم ترد وظلت تضرب على سطح المكتب بأظافرها بخجل تُلهي عقلها عنه بينما قلبها يرتجف بين أضلعها من هول اعترافاته...
استرسل حديثه بنبرة خشنة ذات هيبة يصعب على المرء مقاومتها...
"قصر الكلام مش هقبل منك قبول أو رفض غير بعد أسبوع. بعدها... قبلتي أو رفضتي
أنا هاحترم ده... ومش هاظهر قدامك تاني."
"وكَمّلي شغلك هنا لو عايزة... على الأقل
أكون متطمن عليكي..."
نهضت شروق تنوي المغادرة فما سمعته كان كافيًا....
"خدي دول... خليهم معاكي."
رفعت عينيها عليه لتراه يمدّ يده بمبلغ من المال فسألته باستغراب...
"فلوس إيه دي؟!"
رد بإيجاز...
"فلوس شغلك."
قالت بهدوء...
"بس القبض كل أسبوعين..."
رد بقلة صبر...
"اعتبري الأسبوعين عدّوا."
"مش هقدر آخدهم..."
رفضت بكبرياء بينما يده ما زالت معلقة في الهواء تنتظر تكرمها عليه...
هتف صالح من بين أسنانه بغيظ شديد
"لا حول ولا قوة إلا بالله... بالله عليكي كفاية عند واستفزاز واسمعي الكلام... لو مرة واحدة."
نظرت إليه بتردد.... في الحقيقة هي بحاجة شديدة للمال حتى تغطي مصاريف ابنتها التي زادت عن حدها مع اقتراب الاختبارات النهائية للعام...
لكن كرامتها تأبى الفعل....
"اعتبريهم تحت الحساب... لحد ما معاد القبض يقرب."
كلماته كانت بمثابة رصاصة الرحمة مما جعلها تمد يدها وتأخذ الأموال ثم تغادر...
لكنها توقفت حين وصلت إلى باب الخروج وقبل أن تغادر عادت إليه تسأله بتردد...
"شيخ صالح..."
رفع عينيه عليها مستغربًا عودتها عضّت شروق على شفتها بتردد لعين وهي تقول بصعوبة....
"هو إنت... هو إنت شوفت نشوى؟"
هز رأسه باستفسار..
"مين نشوى؟!"
قالت بحنق بالغ والغيرة تشعّ من عينيها..
"اللي طلعت هنا بالعصير من كام ساعة..."
تذكّرها.... فقال بهدوء استفز أعصابها
"أيوه... مالها؟"
ألقت اتهامًا صريحًا من عينيها قبل أن تقول بهجوم أنثوي....
"هي حلوة؟!..... إنت شوفتها؟!..."
أرجع صالح ظهره للخلف بهيبة ووقار يزعزع ثباتها... تمعّن النظر إليها بعينين خضراوين قادرتين على إطفاء غضبها وإشعال قلبها عشقًا...
وبعد فترة صمت أخبرها صالح بصوته العميق الساحر...
"إنتي الست الوحيدة اللي عيني مش بتنزل من عليها... وإنتي اللي بسببك بشيل ذنوب أنا في غنى عنها... فاخرجي من قدامي دلوقتي وكفاية كده..."
زحفت الحمرة إلى وجهها كله ورفرفت بأهدابها مرارًا كمن تحاول استيعاب ما حدث لكن عقلها كان قد توقف عن العمل تمامًا...
وتحت وطأة نظراته الثاقبة تحركت ساقاها بأعجوبة وغادرت المكتب تسحب الباب خلفها بصمتٍ مرتبك....
أطلق صالح تنهيدة طويلة مثقلة بالمشاعر وهو يغمغم بعذابٍ...
"وافقي وريحي قلبي يابنت الناس...وكفاية
لعب عيال......"
................................................................
أضعُ كلَّ الخلافاتِ جانبًا حينما تكونُ في أمسِّ الحاجةِ إليّ فأنا رغمَ غضبي وعتابي أملكُ قلبًا لا يزال يهواك...
ومن الصعبِ على المرءِ إخمادُ الهوى !...
دلفت إلى الشقة بعد يومٍ طويلٍ وحارٍ في الجامعة والتنقّل هنا وهناك...
أخذت حمامًا باردًا وارتدت ملابسها على عجالة ثم صعدت إلى الأعلى حيث شقة ياسين وبالطبع الجدة تقيم معه باستمرار منذ أن خرج من المشفى....
بدأت حالته تتحسن وكلها أيام وينزع الجبيرة من ذراعه وساقه.....
فتحت لها الجدة الباب ثم توجهت إلى المطبخ بسرعة وهي تقول...
"ادخلي يا أبرار... شوية والأكل يكون جاهز."
في الغالب أصبحا يتناولان وجبة الغداء هنا بالقرب من ياسين... تغيّر النظام قليلًا في تلك الفترة العصيبة...حتى إن البيت فقد شيئًا مهمًا منذ أن غادرت شروق وابنتها...
في السابق كانت تلك أمنيتها الوحيدة أن يعود بيتهما كما كان مختصرًا على أربعة أشخاص وهي من ضمنهم. لكن الآن...
أصبح الوضع مختلفًا... قد اعتادت على وجود شروق وملك....
ملك رغم صغر سنها إلا أنها تشعر معها بالألفة والمحبة وكذلك شروق...تعشق مناكفتها وتحب التحدث إليها.....
كلتاهما شكّلتا فارقًا في حياتها وحين رحلتا شعرت بالوحدة بكونها البنت الوحيدة التي
لا يفهمها أحد !...
في السابق كانت تلك نعمة تتباهى بها... والآن أصبحت نقمة تمقتها....
"ياسين نايم يا تيته؟"
أجابتها الجدة بصوتٍ مهموم...
"لا... في أوضته... مش عايز يخرج..."
تعرف ماذا يعني هذا الهم...
ياسين يرفض الخروج من الغرفة منذ أن خرج من المشفى.يرفض زيارة أصدقائه ينعزل عن الجميع بشكلٍ يوجع القلب...
كلما اقتربت منه أمه أو قابلها ينقلب إلى هذا الحال...
يصبح شخصًا انطوائيًا كارهًا للعالم وما فيه.
تكره تلك الحالة التي تتلبّسه لأيام...
عليه أن يخرج من غرفته... على الأقل يجلس معهم في الشرفة فوق السطح...
ألا يشتاق لنسمة هواء نقية......يذبح قلبها بتصرفاته كما ذبحها في تلك الفترة الماضية...
وما زالت بجواره رغم وجع قلبها... وكرامتها المُهانة منه.....
فتحت الباب دون استئذان وقبل أن تطل برأسها نادت عليه....
"ياسين... أدخل؟..."
أتاها صوته المتذمر قائلاً....
"الطبيعي إن الناس بتخبط قبل ما تفتح إنما إنتي بتفتحي الباب وزي ما تيجي... تيجي.. "
قالت بضيق مكتوم...
"ما أنا بقولك أدخل ولا لأ... فين الغلط؟"
قال ياسين بسخرية لاذعة....
"إنتي ينفع تغلطي برضو؟... اتفضلي ادخلي."
دخلت أبرار إليه فرأته جالسًا على الفراش يتابعها بعينيه الحانقتين....
"عامل إيه دلوقتي يا ياسينو؟"
قالتها أبرار بابتسامة رقيقة وهي تسحب مقعدًا وتجلس بجوار السرير....
رد بإيجاز...
"الحمد لله... في تحسن."
ثم سألها بفتور...
"كنتي في الجامعة؟"
أومأت برأسها وهي تقول....
"آه... لسه راجعة من نص ساعة... خدت علاجك؟"
أجابها وهو يختنق من تلك المعاملة العادية الباردة بينهما والتي لم يتعاملا بها يومًا والآن مضطر إليها...
فلم يعد شيء كالسابق !....
"خدت الصبح... وبعد الغدا في تاني."
عقدت حاجبيها بتساؤل....
"طب مالك مضايق ليه؟... ما عشان تخف...
ولا إنت مش عايز تخف؟"
سألها بنظرة تحمل اتهامًا صريحًا....
"إنتي شايفة إيه؟"
ازدردت ريقها وهي تتحاشى النظر إليه قائلة بعتاب....
"شايفة إنك مجنون... وكنت هتضيع عمرك وتضيعني معاك."
التوى فكه بتشنج ساخطًا....
"فارق أنا معاكي أوي..."
قالت بضيق مدافعة....
"إنت طول عمرك فارق معايا..."
أومأ برأسه والاستهزاء يشع من عينيه وكلماته
"واخد بالي... عشان إحنا إخوات."
وبعد تلك الجملة ساد الصمت القاتم بينهما... ربما هدنة أو الهدوء ما قبل العاصفة.
حتى قطعت الصمتَ بسؤال لم تستطع كبحه داخلها أكثر...
"لسه بتكلمها؟!"
قال بنظرة متشفية وبمكر....
"وده يشغلك في إيه؟!"
أوغر صدرها بالغيرة فصاحت منفعلة...
"يعني بتكلمها... "
"مش هريحك..." رد بأسلوب بارد جمدها.
مما جعلها تحدجه بذهول قائلة بوجع...
"إنت مش ملاحظ إنك اتغيرت معايا؟... وبقيت جاي عليا أوي..."
لم تلن نظراته نحوها وهو يقول بصوت خافت بين طياته انكسار...
"وانتي مجتيش عليا يا أبرار؟"
لمعت عيناها بدموع تهدد بالسقوط لكنها منعتها بقسوة وقالت باختناق....
"إنت ليه مش قادر تصدق إني مكنتش فاهمة مشاعري؟"
رفع حاجبه ساخرًا بغلاظة....
"غريبة... ودلوقتي فهمتيها لما شوفتيّني
مع ميار؟"
تبادلت معه النظرات بدهشة مؤلمة فرأت شفتيه تميلان في ابتسامة قاسية وهو يقول بتجريح....
"كل الحكاية إن أنانيتك هي اللي بتحركك... وبتخليكي تقولي الكلام ده."
قالت أبرار باهتياج...
"هترجع تاني توجعني بالكلام؟"
عقب بتهكم...
"مهما وجعتك... مش هييجي قد وجعي منك..."
أطرقت برأسها أرضًا صامتة تفكر بالرحيل وقلبها يأبى تركه والخروج.فهو يتعمد إيلامها وهذا التعمد أصعب من كلماته الأشبه بخناجر تضربها بلا رحمة....
"صحيح... سمعت إن شروق سابت البيت... مبروك....."
نظرت إليه بحدة معقبة....
"بتباركلي ليه؟"
رد بلهجة مستفزة مهينة...
"مش ده اللي كنتي عايزاه؟... وكنا ناويين نعمل خطة عشان ننفذه؟"
ظهر الانزعاج جليًا عليها وهي تقول بحنق
بالغ.....
"الكلام ده كان الأول بس دلوقتي مفيش بيني وبينها حاجة... ولا أنا السبب في إنها تمشي.."
أومأ برأسه وعيناه تبحران فوق صفحة وجهها
بلا رحمة...
"واخد بالي... وواخد بالي إنك زعلانة من ساعتها.... بس يا ترى زعلانة ليه؟.. مش ده الأحسن عشان أبوكي يفضل ليكي لوحدك؟"
قالت بنبرة مشحونة وهي تحذّره....
"ياسين... خفّ عليا. أنا مش ناقصة..."
لكنه تعمّد فظاظته أكثر من اللازم....
"إيه اللي تعبك؟... والبيت رجع فاضي عليكي... وبقيتي الدلوعة من تاني.. "
أثار حفيظتها بشدة فنهضت من مكانها كمن لدغتها حيّة وهي تقول بعنفوان...
"أنا مش دلوعة ولا عايزة حد يدلعني ولا عايزة منكم حاجة... "
ثم حدجته بنظرة غاضبة قبل أن تغادر الغرفة نادمة على التواجد معه وإعطائه الفرصة لجرحها كلما رآها...
"وعلى فكرة... مبقاش فارق معايا بابا يتجوز أو لأ دي حياته وهو حر ولو إنت كمان عايز تتجوز... روح اتزفت... أنا مش محتاجة لحد فيكم أصلًا.... "
زمّ فمه هازئًا....
"مش لايق عليكي دور حمامة السلام."
قالت باحتقار....
"كفاية إنها لايقة عليك إنت... "
ثم تحركت للخارج لكنها فوجئت به يسحبها من ذراعها بعنف لتقع على حافة الفراش مقابلة له....
حاولت إبعاد قبضته الفولاذية عن ذراعها
وهي تنظر إليه بشراسة...
"عايز إيه مني؟... والله لأضربك في دراعك المتجبّس ده لو اتمدّيت معايا تاني احترم نفسك بقى.... "
لم يحل ياسين وثاقها وهو يسألها وعيناه لا تحيدان عنها...
"إنتي صادقة في اللي قولتيه من شوية؟"
قالت بعنف وهي تحاول نزع ذراعها من قبضته المشدودة أشبه بكماشة حديد...
"أيوه..... ماعنديش مشكلة إنك تزفت.. "
أحكم يده عليها كمن يخشى أن تفلت منه روحه !...
"مش ده يا حلوفة..."
لكمته في صدره باحتجاج....
"احترم نفسك...وبلاش غلط...."
تمعّن فيها بنظرة طويلة وقال من بين أسنانه بغيظ مكتوم....
"الصبر... من بين كل الناس قلبي يختارك إنتي؟!....اي الحظ ده..."
تلوت بذراعها منه محاولة الإفلات وقالت بضجر...
"إنت هتلبّخ... سيب دراعي عايز إيه مني؟"
لم يتركها وسألها بصوت خفّف من حدته قليلًا كأنها الهدنة المنتظَرة....
"إنتي قولتي إنك مكنتيش فاهمة مشاعرك وقتها... دلوقتي فهمتيها؟!.... "
تلبّسها العناد والغيرة وهي ترد.....
"فهمتها أو لا... هتفرق معاك في إيه وإنت مع حد تاني؟... "
هدر بنفاد صبر....
"ردي على قد السؤال... "
نظرت له بعناد وتحدٍ وسألته...
"مش هرد قبل ما تقولي ليه معاها؟"
ضاق صدره بما لا يُحتمل واعترف بغضب...
"عشان أنسااااااكي... "
صدمتها الإجابة والصراحة المطلقة منه...
لم تكن تعلم أنه يحترق أكثر منها وأن كل محاولاته الفاشلة في الابتعاد عنها تزيده
اشتعالًا وشوقًا لها
ومع ذلك جرح كرامتها بهذا الرد فقالت بكبرياء أنثى...
"يا سلام...... وأنا أتنسي بواحدة؟!"
علّق بمرارة ساخرة...
"فعلاً... محتاج أعرف ستات العالم كله عشان أنسى حلوفة زيك... "
رمقته بنظرة ثقة تعرف أن الكفة تميل لها وحدها....
"وبرضو مش هتنساني... ومش هتلاقيني فيهم...."
تبرّم ياسين بجزع...
"لسه ما دورتش عشان أتأكد... إنتي إيه رأيك؟.. "
قالت بصوت واثق...
"رأيي إني قطعة واحدة ونادرة... ماليش مثيل."
أومأ لها بنظرة عاشق لا يملك على قلبه سلطان.....
"ما هي دي مشكلتي معاكي..."
نظرت إليه فالتقت عيناها بعينيه المنتظرتين لها... عينيه تحملان لهفة لا تُخفى وحبًّا يصعب على المرء مقاومته....
فلِمَ القسوة يا حبيب القلب؟.. وعيناك تفضحان خبايا قلبك !...
"أبرار... إنتي بجد حاسة بحاجة ناحيتي
ولا بتقولي كده وخلاص؟"
قطع لحظة تأملها به سؤال بين طياته مشاعر عنيفة تنتظر الإشارة الخضراء لتخرج إلى العلن دون مكابح...
أبعدت عينيها عنه وتفجّرت الغيرة في صوتها وهي تقول...
"مش هتسمع جوابي غير لما أتأكد إنك بعدتها عنك..."
أمسك بذقنها وأعاد وجهها إليه عنوة قائلًا بخشونة تنضح بالمشاعر المتأججة...
"مافيش بينا حاجة... صحوبية عادية... "
اغتاظت من الرد فقالت دون تفكير...
"أنا مش بقتنع بصحوبية الراجل والست... خصوصًا لو الراجل ده يخصني... "
جفل من ردها غير المتوقع وتراجع بظهره قليلًا إلى الخلف وهو يحدّق فيها مبهوتًا للحظات قبل أن يهمس بدهشة مذهولة...
"يخصّك؟!"
أكّدت بتملّك والغيرة تشعل صدرها كأتون
حارق.....
"أيوه... تخصّني ولا إنت معترض؟!"
أمسك بذراعيها برفق وكأنها الركيزة وسط الأمواج الهائجة وقال بصوتٍ مشتعل
بالعاطفة....
"أعترض إيه؟!...... ده أنا ما صدّقت.."
ارتفع حاجباها بدهشة، وهي تلاحظ أنها اعترفت بمشاعرها في غمرة غيرتها عليه...
قال ياسين والابتسامة الغائبة تنير وجهه
من جديد...
"انسي ميار خالص... وانسي أي واحدة طالما إنتي معايا يا أبراري..."
رمقته بعتاب معقبة...
"دلوقتي بقيت أبراري؟... من شوية
كنت الحلوفة... "
لم تغب ابتسامته وهو يقول بعذوبة...
"ده كان الأول... دلوقتي بقيتي أبراري."
لم تستطع مجابهة عينيه فهربت من نظراته والحرج يشتعل في وجنتيها بغباءٍ أنثوي أشرق معه قلبه أكثر...
"ما تهربيش من عينيّا يا أبرار... وكفاية عذاب بالله عليكي... أنا استويت... "
أمسكها من ذقنها مجددًا حتى تعود عيناها السوداوين البراقتان إليه... مجرّته ذات الكواكب والنجوم التي لا يراها سواه...
وحين التقت عيناها بعينيه أسقطت كل أسلحتها جانبًا وقالت بصوتٍ مرتجف... كقلبها المضطرب بين أضلعها في تلك اللحظة...
"مكنتش أقصد نوصل لهنا... أنا والله بحبك أوي يا ياسين... أنا كنت هموت لو جرى لك حاجة..."
إن كانت تنوي قتله ما أنزلت اعترافاتها بهذا التتابع الذي يُضعف من قدرته على الاستيعاب...
حتى في تبادل الحب... لستِ هينة!
الرحمة يا حبيبتي...
لقد اعتدتُ على حبك وحدي وظننته لوعتي في وحدتي حتى أتيتِ أنتِ وأثبتِ لي أنها كانت رحمةً... ولوعة قادمة لا محالة !...
"بتحبيني أنا؟...."
عبست نظراتها وقالت بحيرة...
"هو في ياسين في الأوضة غيرك؟!... إنت سخن ولا المضاد الحيوي أثر عليك؟!"
اتكأ ياسين على ذراعيها وهو يقرّبها منه
أكثر....
"أنا مفيش حاجة مأثّرة عليا هنا غيرك... إنتي قولتي إيه؟... "
اعترفت بلوعة الحب متنهدة...
"قولت إني بحبك... وإنك لازم تخطبني من بابا..."
هزّ رأسه وعيناه تسيران فوق ملامحها بلهفة عاشق....
"مش هقدر... لا."
رفعت حاجبيها إلى أقصى درجة بصدمة...
"نـعـم؟!... "
عزم ياسين النية وقال بثبات....
"أنا هكتب الكتاب... موافقة نتجوز؟!"
جحظت عيناها بصدمة وهي تنزع ذراعيها من يديه قائلة باحتجاج...
"لا طبعًا.... إحنا لسه محتاجين ندرس بعض..."
سخر من جملتها بنظرة مشبعة بالضجر...
"ندرس بعض؟!... تحبي أقولك بتحبي تاكلي إيه وبتشربي إيه... وإيه اللي بتكرهيه وإيه لونك المفضل...
وكام مرة بتوقفي قصاد المراية... بتصحي إمتى وبتنامي إمتى وبتذاكري إمتى... وبتدخلي الحمّام كام مرة..."
ورغم احمرار وجهها من وقاحته الزائدة إلا
أنها قارعته قائلة....
"كمان عارف إمتى بدخل الحمّام؟! طب والله برافو عليك بس ده ليه علاقة بإننا ندرس بعض؟!.... هما المخطوبين بيعملوا فترة خطوبة عشان يعرفوا الحاجات دي؟!"
أومأ برأسه مؤكدًا...
"أمال إنتي مفكرة إيه؟!"
اعترضت أبرار بأسلوبها الحكيم الذي غالبًا
ما كانت تستخدمه في دراستها وتعاملاتها بالخارج... والآن عليها أن تُظهر هذا الجانب أمام زوجها المستقبلي !....
"أمال؟!... أولًا الخطوبة اتعملت عشان نعرف هنتفق مع بعض كاتنين بيحبوا بعض وناويين يكملوا حياتهم سوا ولا لأ...
قبل كده إحنا كنا بناكل في بعض وإحنا ولاد عم... فلو ده حصل في فترة الخطوبة أعرف إن التفاهم بينا مستحيل."
حديثها لم يُحدث فارقًا عنده وهو يقول بهجوم....
"حتى لو التفاهم بينا مستحيل..هتجوّزك برضو...."
فغرت فمها بدهشة معقبة باستنكار رغم خفقات قلبها المتجاوبة مع هذا المتملك
الهمجي....
"إنت واخدها تحدي بقى؟!"
أومأ بتأكيد وهو يقول بصوتٍ رخيم...
"لو بتحبيني بجد... هتعدّيلي وأنا كمان هعدّي ليكي.
مفيش اتنين مش بيختلفوا ومش بيحصل بينهم مشاكل... المهم يعرفوا يحلّوها ويعدّوها لبعض من غير ما يسيبوا بعض أو يدخلوا حد بينهم... "
استرسل بنظرة راجية...
"مش عايز حد بينا يا أبرار... حتى في زعلنا.
اللي هيدخل بينا هيخرب حاجة ميعرفش قيمتها غيرنا..."
لامستها كلماته فقالت مذعنة بابتسامة حنونة من أم صغيرة قبل أن تكون حبيبة دائمة...
"إن شاء الله مش هتوصل لكده... بس تفتكر بابا هيوافق؟... "
سحب ياسين نفسًا طويلًا وقال بحذق...
"مش عارف... بس دلوقتي مش هينفع أتكلم معاه في حاجة لازم يرجع اللي يخصّه الأول... ساعتها باله هيروق وهعرف أتكلم معاه."
قالت دون تعبير واضح....
"قصدك شروق؟... "
أكد ياسين قائلًا....
"أكيد خدتي بالك الأيام اللي فاتت كان عامل إزاي..."
شردت بنظراتها الحزينة متذكرة الأيام الماضية والتغيّرات التي طرأت على الجميع وكان والدها أولهم.....
"ومين ماخدش باله... قلّة أكله... عصبيته الزيادة عن حدها وهو بيدوّر على أي حاجة تخصّه...قلّة قعدته معانا وإنه أغلب الوقت بيكون برا...بابا اتغيّر أوي... "
رد ياسين بنبرة ذات مغزى يعنيها بكلماته....
"معذور... إن غاب الحبيب عن العين..."
رفعت عينيها إليه سائلة بلؤم...
"وإنت كنت كده بقى؟"
رد بصوتٍ فاض منه العشق...
"أنا طول ما أنا بعيد عنك... واحد تاني معرفوش...."
أفصحت عن مشاعرها بعفوية...
"وأنا كنت هموت في الفترة اللي بعدت فيها عني... ولما شوفتك مع غيري كان هاين عليّا أضربكوا إنتوا الاتنين بالنار."
كان يبتسم وهو يستمع إليها حتى آخر جملة تراجع للخلف مدّعيًا الخوف قائلًا....
"عنيفة إنتي أوي.... "
ابتسمت أبرار له فاعتذر منها بتأنيب ضمير كان يلازمه طوال تلك الفترة منذ أن تعمّد إيذاءها مرة تلو الأخرى...
"حقك عليا يا أبراري... في كل كلمة قولتها."
نمت الغصّة في حلقها فجأة وهي تواجه نفسها أمام مرآة الحقيقة قائلة...
"رغم إن كلامك وجعني... بس هي دي حقيقتي... أنا فعلًا أنانية وفكرت في نفسي طول الوقت..."
لاح الندم في صوته وهو يخبرها...
"مش حقيقة... إنتي كنتي بتتصرفي بدافع الحب...."
قالت أبرار بتهكم...
"حب أناني... المهم إني أكون مبسوطة ومش مهم اللي حواليّا..."
ثم نظرت إليه وتحشرج صوتها وهي تصل إلى ذروة الشجاعة متقبّلة الوضع قبل أن يُفرض عليها....
"بس زي ما قولتلك... مش هزعل لو بابا اتجوز بالعكس...زي ما أنا فكرت في حياتي معاك من حقه هو كمان يفكر يعمل لنفسه حياة وعيلة... ويارب أكون أنا فيها... "
شعر ياسين بوخزة شديدة في قلبه فور تفوهها بتلك الكلمات فهو من دفعها لهذا اليقين لكن بقسوة هي أرقّ من أن تتحمّلها
"يا هبلة... مين يقدر ينساكي؟!...
ده أبوكي وإنتي بنته الوحيدة... وحتى لو
ربنا كرم وخلف انتي هتبقي أختهم الدكتورة اللي هيتباهوا بيها قدام الناس وفي كل حتة...
بلاش تفكري بالطريقة دي..."
ثم استرسل بصوتٍ دافئ حاني....
"والعيلة اللي هو هيعملها... إنتي فرد أساسي فيها.... وأنا وإنتي هنعمل عيلة صغننة كده جنبه..... وكلنا هنكون في بيت واحد... مش هاخدك وأهرب أنا..."
ثم مد يده يقرص وجنتها قائلاً بتسلية...
"بس ممكن آخدك وأهرب... لو أبوكي ركّز معايا وعمل عليّا حما...ما أنا عارفه مش بلعني... "
استطاع بعدة كلمات أن يخرجها من قوقعة حزنها وهي تدافع عن والدها بحب...
"حرام عليك... ده بابا بيحبك أوي..."
ضاقت عيناه بشك قائلًا...
"بيحبني عشان أنا ابن أخوه... لو بقيت جوز بنته الوضع هيختلف... "
تدللت في امتناعها....
"مفيش جواز غير لما أخلص الجامعة يا ياسين..."
نظر إليها وهي تنهض من أمامه وقال
بقنوط...
"ومين عنده صبر يستنى خمس سنين؟!"
مسك يدها مجددًا قبل أن تفلت منه...
"استني... مفيش حاجة تحت الحساب بمناسبة إنك وقعتي في دباديبي أخيرًا..."
نزعت يدها عنه بصعوبة قائلة بتغنّج...
"لمّا نبقى نتجوز..."
زمّ فمه متذمرًا معترضًا....
"اللي هو كمان خمس سنين؟!... اعملي حسابك أنا مش بتاع خطوبة هكتب عليكي وابقى استنى الخمس سنين.. "
تورّدت وجنتاها بخجلا بعيدًا عن عينيه
ثم ادعت الحنق قائلة....
"آه يا قليل الأدب... عشان تاخد راحتك... "
غمز لها بشقاوة...
"أحبك وإنتي معايا على الخط..."
ثم ضحك ياسين ضحكة مفعمة بالسعادة والحياة أشرق معها وجهه وتلألأت عيناه مجددًا بالحب...
بينما هي خرجت راكضة من أمامه بوجهٍ متورّد وقلبٍ يخفق بين أضلعها بنشوة
الحب...
..............................................................
تشعر أن ساقيها رخوتان لا تحملانها بالقدر الكافي فتستند على سور السلم بيدين ترتجفان رجفة تشبه رجفة قلبها وهي
تذرف الدموع بلا صوت....
الرؤية ضبابية أمامها والدرج ممتد إلى ما لا نهاية.... صدرها يضيق وأنفاسها تتقلص بين رئتيها بقسوة وكأن جسدها يحتضر... يناجي الموت حتى يأتي ويخلّصها من عذابه...
يصبح الموت رصاصة الرحمة التي نتمناها حين تضيق بنا الدنيا ونواجه ما لا نقدر على احتماله.....
وصلت إلى باب الشقة ووقفت أمامه قليلًا بأكتاف متهدّلة بالخيبات وعينين تحملان نظرة مأساوية في حزنهما تعكس كسرة قلبها وغصّة الخزي التي تجرح جوفها....
دخلت بالمفتاح ووصلت إلى غرفتها التي تتشاركها مع أختها...
ألقت حقيبتها جانبًا ونزعت حجابها بعنف غير مبرر هكذا رأتها ندى التي كانت منشغلة في رسمتها الجديدة
عن رجلٌ ينتزع قلب امرأة عنوةً عنها ويحدّق فيها بظفرٍ لعين بينما هي على وشك الموت بملامح تستغيث بالرحمة....
لمحت نهاد الرسمة جيدًا وهي تنزع ملابسها بنفس العصبية...
"مالك يا نهاد؟... "
سألتها ندى وهي ترى شحوب وجه أختها وعينيها الحمراوين المتورمتين وكأنها تبكي منذ ان خرجت قبل ساعتين....
"مفيش..."
قالتها نهاد وهي تنهي ارتداء المنامة ثم توجهت نحو فراشها تندس أسفل الغطاء وتخفي وجهها عنها....
زمت ندى شفتيها بضيق ولم يُرِح الرد قلبها فعادت إلى الرسم الذي اكتشفت أنها أبدعت فيه أكثر من أي وقت مضى حتى تعابير وجهيهما بدت معبّرة لدرجة تنبض بالألم...
نظرت مجددًا إلى أختها لترى جسدها يهتز أسفل الغطاء فتأكد حدسها أن الرسمة ما هي إلا انعكاس لشعور متصل بينهما منذ الصغر.
تركت ندى ما بيديها ثم اقتربت من أختها تنزع عنها الغطاء برفق قائلة بمرح....
"مفيش حد بيتغطى في عز الحر خصوصًا
إنك بترفسي الغطا في عز الشتا...وكل شوية بصحى أغطيكي خوفًا تبردي وتعديني."
نظرت إليها نهاد وهي تستلقي على ظهرها رافضة أن تتحرك بينما استرسلت ندى في حديثها وعيناها تتفحصانها مليًا...
"أصل معروفة... مسافة ما بتتعبي أنا باخد الدور وراكي على طول... ولما بتزعلي ببقى أول واحدة ملاحظة ده عليكي مهما خبيتي... فبلاش تقولي مفيش حاجة.... عشان فيه ودموعك اكبر دليل على ده..."
اعتدلت نهاد في نومتها جالسة رافضة التحدث لكن عينيها كانتا تحكيان الكثير.
سألتها ندى بشك....
"انتوا شديتوا مع بعض؟... انتي قولتي إنك خارجة معاه... إيه اللي حصل الخطوبة كان دمها تقيل؟... أحرجك قدام حد؟"
أسدلت نهاد عينيها تحدق في رسمة الغطاء التي لم تدقق في تفاصيلها يومًا....
سألتها ندى بإلحاح وقلق....
"يا نهاد ردي... أنا أختك توأمك يا هبلة... لو مش هتفتحي قلبك ليا.... هتفتحي لمين؟"
تجمعت الدموع في عيني نهاد حتى تشوشت الرؤية أمامها وهي تقول بتلعثم....
"سلامة سبني يا ندى...قال إنه مش عايز
يكمل معايا..."
اتسعت عينا ندى بصدمة بينما ألقت أختها نفسها بين ذراعيها باكية بحرقة......
أطلقت ندى صيحة مستنكرة...
"هو اللي سابك؟!.. بعد كل اللي عملتيه
عشانه ده إنتي كنتي ناوية تقطعينا كلنا لو
حد اعترض عليه وأنا أول واحدة كنتي هتعملي معاها كده.... هو اتجنن؟! هو اللي
بقى شايف نفسه دلوقتي؟! لما ضمن حبك..."
زاد نحيب نهاد حدة فربتت ندى عليها تقول بحمائية....
"ممكن تهدي... بطلي عياط... هتموتي نفسك عشانه؟!.... "
قالت نهاد بصوت مختنق بالبكاء....
"أنا مش عارفة ليه عمل كده... أنا وافقت على كل حاجة... قال هتقدملك قولت موافقة وهقف قصاد أهلي والناس عشانك... قالي
مش هتعلم بعد ما وعدني قلت خلاص... قال هشتغل وهحاول أجيب شقة نتجوز فيها ما اعترضتش مع إني كان نفسي يكمل تعليمه ويبقى إنسان تاني... بس طالما هو مش عايز خلاص..."
سالت الدموع من عينيها بغزارة وهي تقول بتهدج....
"إيه اللي غلط فيه... عشان حضرنا فرح ناس صحابي سوا..... أنا كنت عايزة أبقى معاه والناس تشوفنا سوا... مكنتش عايزة أحرجه ولا كان في ضميري حاجة..."
همست بأنين يعتصر أحشاءها....
"اتهمني إني جايباه هنا عشان أفرّجه على صحابي وأفرحهم... وأجرحه قدامهم ظلمني وأنا والله مفيش في ضميري حاجة..."
همست وسط شهقات تكاد تمزق نياط
قلبها...
"ليه أعمل كده..... اتخلى عني ليه في أول خلاف بينا؟... "
هتفت ندى بغيظ...
"كنتي قولتيله طالما هو غبي وبيحكم وخلاص..."
قالت نهاد بصوت ضعيف....
"قولت كل حاجة ينفع تتقال... صمم إنه مش عايز يكمل... ومن الأول مكنش ينفع نبقى مع بعض..."
انفجر الغضب في صدر ندى وهي تصيح بكراهية....
"يا سلام !...وهو اللعب بالمشاعر وببنات الناس سهل عنده؟!.... شوية بحبك وعايزك... وشوية مش عايز أكمل ومينفعش نكون مع بعض..."
ثم أضافت بمقت...
"هو من الأول مين اللي انسحب من لسانه واعترف إنه بيحب التانية مش هو.... جاي دلوقتي لما اتأكد من حبك ليه وضمن وجودك يشتري ويبيع فيكي ده عايز وقفة..."
ابتعدت نهاد عن أختها تواجهها بنظرة محتدة محذرة....
"إياكي تعملي حاجة يا ندى... إياكي..."
فغرت ندى فمها مصعوقة من ردة فعلها الساذج لذلك صبت جم غضبها عليها قائلة
"لسه خايفة على مشاعره؟!.... بالله عليكي
هو قدّر مشاعرك ولا اهتم بيها... إزاي يسيبك تمشي وإنتي في الحالة دي... وليه يكسر قلبك وفرحتك...ده إنتي كنتي خارجة من هنا طايرة من الفرح إنك هتكوني معاه..."
ثم حدجتها بحيرة متعجبة من تعلقها المريض
"نهاد انتي بعد كل ده مقتنعة إنه يستاهلك؟! والله لا يستاهلك ولا يعرف قيمتك... والحب فيه خسارة....لأنه مش جدير بيكي..."
ثم حركت شفتيها بشراسة مشددة على الحروف....
"الراجل اللي يفش غلّه وخيبته في واحدة ست... بتحبه يبقى نطع وخسارة فيه الحب ونظرة العطف حتى..."
هزت رأسها وهي تقول باستهجان...
"حقيقي مستغرباكي... أوعي تقوليلي إنك هترجعي ليه بعد اللي حصل؟!"
هربت نهاد من السؤال وهي تلقي نفسها بتعب بين ذراعي أختها هامسة بلسان ثقيل وكأن الحديث صار مجهودًا كبيرًا عليها في تلك اللحظة تحديدًا...
"ندى بالله عليكي كفاية... سبيني أنام في حضنك لو سمحتي... عايزة أنسى..."
تلقفتها ندى بين ذراعيها بصبر وحب وهي تقول بعطف....
"هتنسي يا نهاد... لو حبيتي نفسك أكتر وقدرتيها.... هتنسيه والله... حاولي..."
وكل محاولاتي في نسيان حبك انتهت بفشلٍ ذريع فكيف لي أن أنسى جرحك؟...
الأمر أشبه بالمستحيل...
أغمضت عينيها بتعب وانسابت دمعتان على وجنتيها قبل أن تستكين في أحضان أختها كمن وجد أخيرًا ملاذه....
...............................................................
تتحرك هنا وهناك كالفراشة بينما عطرها ينتشر حوله كوردة تتفتح في موسم الربيع....
خطواتها الأنيقة تشع أنوثة لا تُقاوَم يشعر بأنها تسير على حافة قلبه يتفاعل معها بخفقات عالية وكأنها الموت والحياة في آنٍ واحد.
تشبه الحب في كماله...
امرأة يبدأ معها كل شيء.... ودونها يصعب تخطي أي شيء !....
ينتابه الخوف من ضياعها في غمرة عنادها وتكبرها تقسو عليه وتطرده من جنتها.
يخشى على هذا الحب... ويخشى عليها من نفسها....
عاد إلى الرسمة التي لم تكتمل بعد كقصة بدأت لتوّها معالمها مبهمة لكن كاتبها شغوف بالوصول إلى نهايتها.
لم يشعر بنفسه وهو يطلق تنهيدة طويلة وصلت إلى مسامعها فتوقفت عمّا تفعل وهي تستدير إليه....
تتمعن في النظر إليه يبدو مهمومًا يرهق نفسه في العمل والتفكير... وفي كثير من الأوقات يصبح بعيدًا عنها بفكره ومشاعره. ماذا يحدث معه؟
"مالك يا أيوب؟... "
انطلق لسانها بهذا السؤال بحاجب معقود وهي تقترب منه بخطوات هادئة ثم جلست على مقعد أمام طاولة الاجتماعات بالقرب منه.
كانا يعملان في قاعة الاجتماع أغلب الأوقات بعيدًا عن مكتبها والموظفين...
طال أيوب النظر إلى وجهها وعينيها قليلًا وكأن هناك ما يود قوله وعاجز عنه.
"إنت مخبي عني حاجة؟"
ألقت السؤال بعينين حائرتين فساد الصمت أمام تأمّله القوي لها أربكها وخفق قلبها هاتفًا باستنكار مع ابتسامة خجولة...
"بتبصلي كده ليه؟.... أول مرة تشوفني؟"
هتف أيوب دون مقدمات....
"لسه بتجيلك رسايل؟"
هزّت رأسها نافية وقد سقطت ابتسامتها الناعمة وهي تتساءل....
"لا... وصلت لحاجة؟"
ردّ عابسًا مفكّرًا....
"مش بالضبط بس مصيرنا نعرف مين ورا الرسايل..."
ثم لمعت عيناه العابثتان بالفطرة قائلًا...
"صفصف بتسلم عليكي وبتقولك مش ناوية تيجي تزورينا تاني؟"
زمت فمها بدلال رافضة....
"المروحة بتاعتكم وجعت ضهري."
التوى فكه متهكمًا....
"ده على كده التكييف مريح للعَضْم؟"
أومأت برأسها بتغنج تشاكسه بعينيها...
"جدًا.... لما تجيب تكييف هتعرف."
قال أيوب بعد تنهيدة حارة....
"ربنا يدينا أجيب بس الشقة وبعدين التكييف."
سألته وهي تحرك القلم الذهبي بين أصابعها بخفة....
"وبالنسبة للعروسة؟"
زاد ألق عينيه العابثة وهو يقول بمناكفة...
"دي على صفصف... هي بتدور ليا متقلقيش."
اغتاظت من رده المستفز...
"والله؟... وحضرتك صغير عشان حد يدور لك؟"
بنظرة مداعبة أخبرها بصوت أجش...
"ما هو إنتي مش فاهمة يا حلاوة أنا ناوي أتجوز أربعة واحدة أمي تختارها ليا وواحدة إخواتي البنات ودي غالبًا هتكون واحدة صاحبتهم... وواحدة كيرفي.... وواحدة اختيار قلبي."
أشار على صدره بابتسامة متفاخر فجزّت على أسنانها بغضب والغيرة تنهش صدرها.....
"جاك وجع في قلبك."
قالتها نغم وهي توجه له لكمة في صدره ثم أضافت بضجر...
"ركز في التلاتة وسيب قلبك على جنب
مش لازم تراضيه."
رفض أيوب وعيناه تكتسحانها ككلماته...
"مقدرش ده أهم حاجة قلبي... ولا إيه يا قلبي؟.... "
رمقته شزرًا معقّبة بسخط...
"أنا مش قلب حد...ركز في رضا أمك وإخواتك البنات و... إنت قولت التالتة إيه؟"
أجابها بغمزة وقحة....
"كيرفي... أصل ده نوعي المفضل."
سحبت نفسًا حادًا وهي تشيح بعينيها عنه ناظرةً إلى الملف أمامها...
مال أيوب عليها قائلًا ببراءة...
"إنتي قفشتي ليه؟..... الكلام أخد وعطا."
أمرته بسطوة أنثى....
"بُصّ في ورقتك."
قطّب جبينه عابسًا وهزّ رأسه وهو ينظر
حوله...
"بُصّ في ورقتك؟!.... هما هيلموا الورق إمتى؟ إنت يا كل الحب.... رد عليا."
خبط كتفه بكتفها وعيناه لا تبتعدان عنها ولو لثانية حتى ردّت عليه متاففة...
"عايز إيه؟"
نظر إلى الورقة ثم لعينيها الهائجة بالغضب وقال بمزاح....
"السؤال رقم أربعة كله اختيارات... أختار إيه؟... "
ردّت واجمة...
"اختار الكيرفي."
شملها بنظرة غير بريئة وهو يقول بمناغشة..
"ما يبقاش قلبك أسود... طب ما إنتي كيرفي برضه.... بس على خفيف."
رفعت حاجبها بضجر...
"والله؟"
أومأ قائلًا بمشاكسة....
"وبعدين إنتي محتاجة حلة محشي كل يوم والدنيا هتظبط معاكي."
زمت فمها معترضة وهي تقول....
"بس أنا بعمل حِمية وماشية على نظام."
ظهر الإزعاج على وجهه وهو يقترح عليها بلؤم.....
"ما هو ده اللي جايبك ورا... أقولك تعالي اتغدي عندنا كل يوم...أنا أمي حبتك وإخواتي... يبقى كده فاضل نوصل للمرحلة التالتة وتبقي بالأربعة."
انتفخ أنفها تلقائيًا مع ارتفاع وجهها بعزة نفس وهي تقول بثبات...
"أنا بالأربعة من غير ما أوصل لحاجة... ولو مش عاجبك.... الباب يفوت قطيع."
ارتفع حاجباه بصدمة جافلًا ثم ظهر الغيظ عليه وهو يعقّب بغضب مكتوم...
"قطيع؟!.... الكلمة دي بتنرفزني أوي... هي أصلا إسمها الباب يفوت جمل. جبتي قطيع
دي منين؟"
ردّت نغم بلا مبالاة....
"ده باعتبار إن الباب كبير أوي... وبعدين ما تلعبش بالنار وترجع تشتكي أنا بعرف أرد."
ردّ ساخرًا...
"تصدقي كنت فاكرِك خرسة.... "
مد أيوب يده وأعاد خصلة من شعرها خلف أذنها ومع تلك اللمسة ارتجف قلبها وسرت قشعريرة في كامل جسدها وهي تنظر إلى عينيه التي تحتويها بدفء العالم....
"مروحتنا وجعت ضهرك بجد؟"
سألها باهتمام أذاب غضبها منه وأشعل قلبها نحوه أكثر....
قالت نغم بجزع....
"هي مش بتجيب هوا أصلًا."
سألها وعيناه تُغرقانها في أمواج عالية وكأنها تحلّق بين كلماته ونظراته....
"عشان كده جيتي وقفتي معايا في البلكونة؟"
ابتسمت برقة وأكدت دون مناورة...
"تقريبًا كنت بتلكك عشان أبقى معاك."
بصوت عميق متلهّف اعترف لها...
"وأنا كنت مستنيكي في البلكونة وعارف إنك هتيجي.... "
شردت بعينيها قليلًا وهي تتذكر منذ أيام
حين ذهبت معه إلى البيت واستقبلتها عائلته قضت معهم بعض الوقت ثم نامت في غرفة الفتيات على سرير ندى بينما التوأم ناما في السرير الآخر بجوار بعضهما...
وقتها كانت مروحة السقف بالكاد تأتي بنسمة هواء ناهيك عن صوتها العالي وكأنها صرخات لامرأة تستغيث. كانت متعجبة من أن التوأمين قد ذهبا في ثبات عميق وسط هذا الضجيج العالي المزعج والمرعب...
بالطبع مرعب فعندما فتحت عينيها بملامح منزعجة تنظر إلى السقف رأت المروحة تتراقص يمينًا ويسارًا كمن أصابه مسّ وكأنها ستسقط محطّمة رأسها هي والتوأم....
شعرت بالاختناق في هذا الجو الشوب وعقلها بدأ ينسج لها أبشع التخيلات عن مقتلها بسبب مروحة راقصة....
أبعدت الغطاء عنها وخرجت من الغرفة وهي ترتدي منامة خاصة بنهاد تلك التي تحوي رسمة كرتونية لشخصية (مارد وشوشني)
تعجبت من أن نهاد أعطتها نفس المنامة بحكم أنها جديدة كما أخبرتها المرة السابقة وهذه المرة أيضًا...
لم تُتح لها الفرصة للتفكير وهي تخرج معه يدها بيده يهربان من العالم والمشاكل التي تحيط بها إلى منزله الآمن الدافئ حيث عائلته وهو.
فتحت الثلاجة وأخرجت زجاجة ماء شربت منها ثم أخذتها معها وتحرّكت إلى الشرفة التي تعرف مكانها جيدًا....
وكأنها صاحبة البيت تسير بأريحية ولو رأتها صفية لكانت دقّت عنقها في الباب... هكذا فكّرت وهي تفتح باب الشرفة وتدلف إليها.
توقفت مكانها شاهقة وهي تلاحظ من يقف مستندًا على السور....
عقد أيوب حاجبيه متعجبًا وهو يراها أمامه...
رغم أنه كان ينتظرها ويراهن على قلبه أنها ستأتي إلا أن رؤيتها أدهشته فعلًا فعلق عينيه عليها لبرهة ثم قال....
(إيه اللي مصحيكي دلوقتي؟ الساعة لسه خمسة ونص...)
بعد أن ذابت الصدمة عنها اقتربت منه مسندة على السور مثله وهي تقول...
(أنا مش عارفة أنام من الحر...)
سألها أيوب....
(ليه المروحة مش شغّالة؟!..)
مطّت شفتيها باستياء....
(هي تقريبًا مشكلتها إنها شغالة...)
استغرب ردها وسأل....
(مش فاهم...)
قالت نغم بوجوم...
(يعني محتاجة تتصلح... أو تترمي ويتجاب غيرها... لأن بصراحة حرام تفضل في أوضة البنات...)
عقّب أيوب باستنكار...
(بس البنات عمرهم ما اشتكوا منه دي عندهم من زمان...)
قالت نغم ببساطة...
(ده سبب كافي تغيرها... على فكرة الأحسن تجيب تكييف...)
التوى فمه هازئًا وتجلى السخط في نبرته وهو يقول بمزاح ثقيل...
(والله أنا ونص الشعب المصري نفسنا نجيب تكييف بس خايفين ناخد برد في عضمنا فبنشغّل المراوح... أهي حاجة من ريحة
الزمن الجميل.)
رمقته شزرًا...
(إنت بتتريق عليّا؟!...)
نظر أيوب إلى الشارع متمتمًا...
(اللي مش بيشوف من الغربال بيبقى أعمى...)
سألته بعدم فهم...
يعني إيه؟...)
"لا.... ولا حاجة... هاتي أما أشرب..."
مد أيوب يده ليتناول منها زجاجة الماء التي شربت منها للتو لكنها رفضت قائلة...
(لا مش هينفع..... أنا شربت منها...)
سألها عابسًا...
(وأي المشكلة؟...... إنتي عندك برد؟)
فغرت فمها مستنكرة...
(هو ده السبب الوحيد اللي يخليك متشربش مكان حد؟!...)
أومأ أيوب مؤكدًا....
(أيوه... كله إلا البرد....)
فقالت نغم بأنفة...
وبالنسبة للمكروبات والفيروسات الخفية اللي ممكن ننقلها من بقّ بعض؟...)
برقت عينا أيوب فجأة وهو يسحب الزجاجة منها قائلًا بتلذذ وهو يشرب من فوهتها مباشرة...
(إيه ده مكروبات وفيروسات خفية.. ده
نوعي المفضل.....)
أنزل الزجاجة عن فمه بعد أن شرب متمتمًا بوقاحة...
(حلوة حلاوة...)
احمر وجهها خجلًا وقالت بضيق...
(إنت وقح... وقليل الأدب...)
دافع عن نفسه بخشونة...
(فين الوقاحة؟!... أنا كنت عطشان على فكرة...)
تبرمت قائلة...
(بجد... وشربت !...)
هز رأسه وبنظرة ذات مغزى مال عليها
قائلًا....
(لسه... مش ناوية تبلي ريقي يا حلاوة؟)
تراجعت نغم خطوة للخلف قائلة بتهديد...
(ممكن أنادي طنط... هي اللي تبل ريقك.)
تراجع أيوب عما كان ينوي فعله قائلًا..
(لا.... وعلى إيه... الطيب أحسن...)
ضحكت نغم وهي تستند على سور الشرفة بظهرها قائلة...
(بس واضح إن مامتك بتحبك قوي وبتغير عليك أوي....)
وقف مثلها وأعطاها نظرة عابثة وهو يغمز لها قائلًا...
(أنا أتحب وأستاهل الغيرة... ولا إنتي شايفة إيه؟...)
قالت نغم بقلق...
(شايفة إني أكيد هتعب مع مامتك..)
طمأنها أيوب بنظرة مداعبة...
(صفصف دي مفيش أطيب منها... إنتي بس راعي ابنها وهي هتراعيكي...)
سألته بسذاجة...
(وأراعيك إزاي بقى؟..)
ارتفع حاجبه بدهشة مع اهتزاز رأسه بعدم رضا....
(من قلبك بتسألي؟!... إنتي مش عجباني... محتاجة تاخدي كورس على إيد العبد لله يمكن تتلحلحي...)
سألته بلؤم...
(كورس لغات؟!..)
قال بملامح مستنكرة وبجدية...
(لغات؟!.... أيوه محتاجة تاخدي كورس في أهم لغة في العالم...)
سألته برقة....
(اللي هي؟...)
أجاب باختصار...
(الحب...)
ابتسمت نغم بدهشة جميلة بينما واصل هو بعذوبة...
(تيجي أديكي دروس في الحب... وأعلمك...)
سألته بنظرة أنثوية ناعمة..
(وإنت شاطر على كده ؟...)
هتف دون تفكير..
(اسألي عني أي حد....)
انقلبت ملامحها فجأة مائة وثمانون درجة سائلة بضجر...
(والله... وعلمت الحب لمين يا أستاذ؟..)
ابتسم أيوب وهو يرى شرارات الغيرة تشع من رماديتيها فقال معترفًا....
(إنتي أول واحدة....)
قالت بسطوة أنثى...
(وآخر واحدة ولا لسه بتفكر؟...)
رضخ لأمرها قائلًا بمداهنة...
(لا براءة.. هو حد يشوف الحب ويدوّر على بديل؟...)
(بقولك إيه... تيجي ننزل نفطر؟..)
سألته باستغراب...
(نفطر فين دلوقتي؟..)
قال أيوب بابتسامة جذابة...
(هقولك... تيجي معايا؟...)
أومأت نغم برأسها
(مش محتاجة سؤال... معاك...)
نظر أيوب إلى الطبعة الموجود على منامتها وقال بمزاح...
(طب روحي غيري... وشوشني ده وتعالي...)
نظرت نغم مثله وقالت بقرف...
(شكله بايخ أوي...)
استفزها قائلًا...
(تصدقي فيكم ملامح من بعض؟...)
تصدق إنك قليل الذوق... شوف مين هينزل يفطر معاك...)
لكمته نغم في صدره بضيق ثم غادرت الشرفة بينما هو بقي مكانه يضحك بملء شدقيه عليها...
كانا يقفان بجوار بعضهما أمام عربة الفول في الشارع وضع أيوب اللقمة في فمه وهو ينظر إلى نغم قائلاً بمزاح...
(يعجبني فيكي شخصيتك القوية... كلمتك مش بتنزل الأرض أبدًا... لا بجد أنا أمي داعيالـي...)
احمر وجهها بالحرج وهي تبرر موقفها قائلة..
(على فكرة أنا مكنتش هنزل ولا هعبرك... بس ده عشان جعانة مش أكتر...)
ابتسم أيوب بسمة جانبية ثم على صوته إلى صاحب عربة الفول قائلاً...
(ونبي يا عمنا كتر من الزيت الحار...)
مالت عليه نغم هامسة...
(خليه يجيب مخلل...)
أومأ أيوب موافقًا بصوت مسموع...
(مخلل وبصل أخضر يا عمنا... عايزين نتعمي على الصبح...)
ضحكت نغم وهي تضع في فمها اللقمة المغموسة بالفول مستمتعة بطعمها الغني...
(أنا أول مرة آكل على عربية فول...)
رد عليها أيوب بغرور....
(عشان تعرفي إني مش حارمك من حاجة... إيه رأيك؟..)
وضعت لقمة أخرى وهي تنظر إلى رغيفها مصدومة...
(الفطار طعمه حلو أوي ويفتح النفس... ده أنا قربت أخلص الرغيف...)
تبرم أيوب ساخرًا معقبًا...
(أنا إخواتي البنات بياكلوا الرغيف ده وهما بيحضروا الفطار... كلي يا نـغـم وارحمي أمي العيانة...)
قالت بفتور....
(أنا أصلاً مش بحب أفطر...)
أردف أيوب بخشونة...
(معايا لازم تحبي كل حاجة... تحبي الحياة والناس... وأهم حاجة تحبيني...)
رفعت عينيها إليه بدهشة...
(يا سلام .... وانت عندك شك؟...)
هز رأسه وهو يحتويها بنظرة خاصة...
(لا.... بس أحب أسمعها على طول...)
تنهدت نغم بنعومة وهي تقول بعينين تنبضان بالعشق...
(والله بحبك يا أيوب...)
(ألف مبروك يا أيوب..... الفرح إمتى؟...)
جفل الاثنان بعيون متسعة وهما ينظران إلى المرأة الواقفة خلفهما وكانت إحدى الجارات التي يعرفها أيوب منذ الصغر....
"أم سماح؟!........ خير؟!"
برقت عينا المرأة بسعادة لا توصف وكأنها حصلت على كنز ستحكي عنه لمائة عام قادمة....
بدأت توزع عليهما النظرات القوية بسعادة عارمة تثير القلق وهي تجيب...
(كل خير... البنية قالتلك بحبك... الشبكة إمتى؟..)
توجست نغم وهي تتبادل مع أيوب النظرات
(الشبكة إمتى؟!)
وقبل أن يرد أيوب اندفعت المرأة قائلة بتطفل.....
(شكلك جديدة هنا... بصي بقى أيوب ده الحيلة بتاعتنا آه... عايزين نحضر فرحكم قريب...)
هتف الاثنان معًا في نفس واحد....
(فرحنا؟!....)
أومأت السيدة وهي تقول بعجالة...
(وتشدي حيلك كده... عايزين نشوف عيالكم...)
اختنقت الكلمة في حلق نغم وهي تخرجها بصعوبة....
(عيالنا؟!....)
هتف أيوب معترضًا وهو يمسك نغم من
يدها....
(شوية وهتقولك اتأخرتي ليه في الخلفة... الحياة سريعة عندها... يلا بينا...)
سألته السيدة جافلة بنظرة فضولية وهي تراه ينوي المغادرة بعد أن دفع ثمن الفطار....
(رايح فين يا أيوب؟!...)
(رايح أشتري هدوم البيبي...) قالها وهو يسرع الخطى هو ونغم في شارع نهايته البحر مباشرة....
ارتفع حاجب المرأة مصدومة (هو خلف؟!..)
ضحكت نغم بقوة حتى دمعت عيناها وهي تجلس بجواره على صخرة أمام البحر...
(بجد ست فظيعة...)
رفع أيوب زجاجة المياه الغازية على فمه وأخذ منها القليل ثم أنزلها وهو يرد عليها....
(لا.... أم سماح دماغها مهوية... بس طيبة...)
أخذت نغم رشفة كذلك من مشروبها الغازي وهي تتأمل زرقة البحر والشمس الساطعة فوقه بدفء ينتشر في المكان مع نسمة
الهواء المنعشة...
(حلو البحر أوي النهاردة...)
رد أيوب وهو ينقل عينيه بين البحر وعينيها قائلاً بصوت عذب...
(البحر مع عينيكي حاجة تانية...)
توردت وجنتاها بحياء ثم تنهدت بحيرة قائلة ما يعتمل في صدرها..
(تعرف إنك تركيبة غريبة... ملغبطاني...)
سألها أيوب....(إزاي يعني؟...)
نظرت إلى البحر وهي تقول بنظرة حالمة وكأنها ترسم لوحة..
(يعني أوقات دمك خفيف... وأوقات بداري غضبك بنفس الطريقة بخفة دم وسخرية... أحيانًا جد... وكتير بتبقى ضارب الدنيا طناش ومش فارق معاك حاجة...
(ساعة حنين وساعة عصبي... كلامك في الحب حلو... وساعات كتير بترمي دبش وكأنك عمرك ما قولت كلمة حلوة...
(جدع وشهم وطيب... وبتحب أهلك وتفديهم بعينيك...تركيبة غريبة حلوة وفي نفس الوقت متعبة...)
اندمج معها بالحديث وهو يقول بصدق بينما عينيه تأسرها بالحب...
(ليكي حق تتلغبطي... أنا ذات نفسي ساعات بستغرب نفسي... الحقيقة إن أنا كل دول يا نغم... وزيدي عليهم إني بحبك وعيني مش شايفة غيرك...)
أسبلت جفنيها وقد داعبت شفتيها ابتسامة ناعمة وهي تهمس له بحرارة..
(وأنا كمان يا أيوب بحبك أوي... ومش شايفة حد غيرك...)
انتفضت نغم من شرودها جافلة على صوت أيوب الذي ضرب سطح الطاولة الاجتماع أمامها وهو يقول....
"يا عم السرحان... روحت فين؟"
قالت بجدية وهي تنظر إلى دفتر الرسم
أمامه....
"معاك... خلصت التصميم."
أغلق أيوب الدفتر قائلاً بإرهاق...
"على وشك... تيجي ناخد نص ساعة راحة؟"
سألته نغم....
"وهنعمل فيهم إيه؟"
أسند مرفقه إلى سطح المكتب وأراح ذقنه في كف يده هامسًا بنظرة ونبرة مداعبة...
"نحب في بعض..."
تخضبت وجنتاها ممتنعة بغنج....
"أيـوب..."
أقنعها أيوب بنظرة جذابة تلمع بالعبث الفطري الذي يصعب مقاومته....
"هنستريح وإحنا بنحب في بعض..."
ضحكت نغم برقة وهي تومئ برأسها موافقة..
"إذا كان كده..... ماشي..."
غمز لها قائلاً بغلاظة....
"معجب جدًا بشخصيتك القوية..."
امتقع وجهها وهي تقول بأمر....
"بطل غلاسة... وبص قدامك..."
لم تتحرك عيناه عن وجهها وعينيها مما جعلها تعود بعينيها إليه هامسة برجاء....
"إيييوب..."
ابتسم أيوب عيناه تكتسحانها ككلماته وهو يسألها بخبث....
"نفسي أعرف دي عنيكي ولا عدسات..."
تبرمت بملل قائلة....... "عدسات..."
زم فمه مدعيًا التجهم....
"مفيش فايدة يعني..."
أومأت برأسها وهي تهرب من عينيه القويتين القادرتين على إذابة عظامها عشقًا فما بالك بقلبها الذي انصهر وانتهى الأمر !
.................................................................
أوقف أيوب السيارة النصف نقل الخاصة به في منطقة راقية ثم ترجل منها ورفع عينيه نحو الطابق المنشود....
فبعد بحث دام أسبوعين تمكَّن من تحديد مكان رقم الهاتف الذي كان يرسل لنغم الرسائل بمساعدة صديق سلامة (الهاكر) الذي حدد الموقع واتضح أنه هنا....
وبما أن أيوب وسلامة يعرفان عنوان بيتها جيدًا من مراقبة سلامة السابقة لها فلم يكن أمامهما سوى ربطها بهذه الرسائل واحتفاظها برقم (آسر العزبي)... أو ربما يكون آسر نفسه حيًا ويقيم في شقتها متخفيًا عن رجال الشرطة....
الأسئلة كانت تدور في رأسه كزوابع لا تهدأ لكن كل ما يعرفه أنه يجب أن يواجه تلك المرأة ويعرف الحقيقة التي كلما اقترب
منها ابتعد عنها أكثر....
بعد قليل كان يضغط على جرس الباب
منتظرًا أن تفتح له بملامح جافية ونظرة جامدة متأهبة....
فتحت جيداء باب الشقة بملامح هادئة وبسمة خبيثة غير مطمئنة....
عقد أيوب حاجبيه إذ بدا له أنها لم تتفاجأ بوجوده وكأنها كانت بانتظاره !...
وبالفعل كانت جيداء بانتظاره على أحرّ من الجمر فهي ألقت الطُّعم وهو تلقفه مدعيًا الذكاء والدهاء...
ونسِي أنه يتعامل مع امرأة تتلون كالحرباء حتى تنال ما تريد....
ومنذ ظهور أيوب عبدالعظيم في الصورة وهو يفسد مخططاتها بشهامته الزائدة عن الحد
وقد أرجعها عشرات الخطوات للخلف بسبب حب نغم له.... فأصبح يشكل خطرًا عليها بعد أن وصل إلى (عدي) وسمع منه أشياء لم يكن يجب أن يعرفها....
كان لا بد أن تنتقم منه بالطريقة المناسبة والرسائل كانت الطُّعم الذي جاء به إلى هنا وعليها الآن أن تنفذ الجزء الأهم...
"أيوب؟!…إيه المفاجأة الحلوة دي.. تفضل..."
ابتعدت عن الباب تدعوه بلطف يزيد نفوره منها فدخل أيوب وهو يقول بصوت خشن..
"في كلام جاي عشان أقولهولِك..."
كانت جيداء ترتدي مئزرًا طويلًا يخفي جسدها وتربطه بإحكام حول خصرها فقالت بحبور زائف...
"طب اقعد استريح واشرب حاجة وبعدين اتكلم براحتك..."
هتف أيوب بشراسة وهو يلقي عليها نظرة قوية...
"انا مش جاي اضايف..... اسمعي يا جيداء... الرسايل والهبل اللي بتعمليه مع نغم ده
مش جـ..."
قاطعته جيداء بصدمة...
"رسائل إيه؟... "
استفزه ردها الماكر فقال بتهكم...
"الرسايل اللي بتبعتيها من رقم جوزك… قصدي طليقك آسر العزبي... أنا عرفت كل حاجة من صاحبه عدي... اللي كان شاهد على الجوازة العرفي اللي تمت بينكم في السر..."
مطَّت جيداء شفتيها بصفاقة ولم تهتز عضلة في وجهها وهي تقول ببرود...
"والله دي حاجة تخصني… جواز أو طلاق ملكش تحاسبني."
قال أيوب بنبرة ذات مغزى....
"أنا مش بحاسبك… بس كان واجب النيابة يكون ليها علم بده… ده واحد مات مقتول ولسه قضيته شغالة ومش راضية تتقفل..."
لاح التعجب عليها قائلة بخبث....
"بس أنا أعرف إن آسر مات منتحر مش مقتول..... "
هز أيوب رأسه متمعنًا بالنظر إليها بملامح مظلمة مكفهرة...
"الله أعلم… الحقيقة فين وانتي تعرفي إيه ومخبياه..."
هزت جيداء كتفيها بمسكنة وهي تقول بمكر الأفاعي...
"أنا معرفش أكتر من اللي سمعته… وبالنسبة لرقمه فهو مش معايا… ومعرفش حاجة عن أي رسايل..... إنت غلطان..."
"طب وماله.... ما تيجي نتأكد..."
في الخطوة التالية أجرى أيوب اتصالًا بالرقم الذي ظل مفتوحًا منذ ثلاثة أيام كاملة ما دسهَّل عليه معرفة موقعه....
صدح الهاتف بالقرب منهما فاقتربت جيداء وتناولته بين يديها وأغلقت الاتصال بملامح واجمة.....
قال أيوب ساخطًا....
"ده نفس الرقم اللي متسجل عند نغم باسم آسر العزبي… يا ترى بيعمل إيه عندك..."
رفعت جيداء عينيها إليه فارتبك أيوب من اتساع ابتسامتها المفاجئة وكأن مسًّا هناك
أصابها لتقول بلؤم....
"برافو بجد… إنت فاكر نفسك كده ذكي
وأنا غبية وكشفت نفسي ليك بسهولة..."
عقد أيوب حاجبيه بعدم ارتياح من نبرتها وبسمتها الواثقة....
"تقصدِي إيه؟"
همست جيداء بكراهية....
"أقصد إنك زي ما خدت صاحبتي مني وقلبتها عليا.... أنا كمان عملت الفيلم ده كله عشان أجيبك لحد عندي… والباقي سيبه عليا."
رن جرس الباب مجددًا فتوسعت الابتسامة على ثغرها المطلي بالحمرة وعيناها تبرقان بظفر الانتقام...
"نغم جت… مواعيدها مظبوطة..."
شعر أيوب وكأن قلبه هوى أرضًا وهو يراها تنزع المئزر عنها كاشفة عن قميص نوم قصير لا يترك شيئًا للمخيلة....
ثم بدأت تعبث في شعرها وتلطخ حمرة شفتيها حول وجهها وهي تخبره بجنون...
"كنت متفقة معاها نشرب قهوة سوا ونتكلم ونتصافى… بس طبعًا إنت جيت في وقتك… وهي كمان جت في الوقت الصح..."
ظل أيوب جامدًا مكانه ملامحه فقدت تعبيرها وعيناه خاليتان وكأنه يتابع حدثًا خارج إطار حياته....
فتحت جيداء الباب بهذا المظهر المثير للشك وقالت...
"نغم… إنتي جيتي بسرعة دي!"
قطبت نغم جبينها بارتياب....
"مالك متوترة كده ليه... ومال شكلك متبهدل… إنتي في حد معاكي؟"
تمسكت جيداء بحافة الباب بميوعة وكأن ساقيها لا تقويان على حملها من شدة المشاعر التي ادعت عيشها بالداخل....
"تتوقعي كنت في حضن مين دلوقتي؟"
زمت نغم فمها بحيرة وحرج....
"معرفش… إنتي اتجوزتي؟"
"على وشك نتجوز.... مش كده يا أيوب؟… إنت وعدتني..."
قالتها بخبث وهي تنظر خلفها حيث يقف أيوب كالصنم....
رمشت نغم عدة مرات بتوتر وقالت بتحفز..
"أيوب؟!… إنتي بتقولي إيه يا جيداء؟… أيوب مين؟... "
أطلقت جيداء تنهيدة ناعمة ثم فتحت الباب أكثر ليظهر أيوب خلفها عينيه في عيني نغم.
"أيــوب… إنت بتعمل إيه هنا؟"
سألته نغم وهي تتحرك نحوه تمسك بذراعيه وكأنها تتأكد أنه حقيقي....
قالت جيداء من خلفهما بنبرة قميئة...
"هيكون بيعمل إيه؟… بيقضي معايا وقت لطيف..."
"اخــرسـي... "
صرخ أيوب فيها بوجه محتقن بالغضب وصدر
يشتعل كمرجل ناري بعد ان ذابت الصدمة عنه
وادرك انه وقع في فخها بمنتهى الغباء....
القى عليها نظرة قاتمة كسفاح يوشك على سفك دمائها.....
ظهر خط من الخوف في عيني جيداء لكنها تماسكت قائلة بميوعة...
"مش لازم نمثل أكتر من كده… معروفة إننا بنحب بعض… وبدليل دلوقتي..."
سألتها نغم بصدمة والدموع تتجمع في
عينيها رغم عنها....
"يعني جبتيني لحد هنا… عشان أشوفكم؟"
قالت جيداء بمسكنة...
"عشان أثبتلك إنه خاين وبيلعب عليا وعليكي..."
هزت نغم رأسها نافية وعادت بعينيها الدامعتين إلى أيوب تسأله بصوت
خافت مترجي...
"أيوب اتكلم… إنت جيت هنا ليه؟… والكلام ده صح؟… انطق..."
أمسك أيوب بذراعها يسحبها معه للخارج
معه
"خلينا ننزل دلوقتي ونتكلم تحت..."
"نتكلم تحت؟!"
سحبت ذراعها بعنف تحدجه باحتقار والغيرة والغضب يشتعلان بداخلها....
"خليك جنبها… كملوا اللي كنتوا بتعملوه… أنا اللي همشي... "
ثم غادرت كالإعصار ولحق بها أيوب مناديًا..
"نــغــم…...نــغــم..."
وقبل أن يتجاوز باب الشقة قالت جيداء بشماتة....
"تعيش وتاخد غيرها… يا أبو الشهامة..."
عاد إليها أيوب بخطوات سريعة ونظرة مرعبة جعلت الدماء تهرب من وجهها....
"ورحمة أبويا ما هرحمك… بإيديا دول هوصلك لحبل المشنقة..."
رفعت عينيها بثبات...
"وأنا مستنية أشوف ذكاءك هيوصلك لحد فين… أثبت إنه اتقتل.... مش انتحر..."
ثم استرسلت بنبرة لئيمة...
"وخد بالك من حبيبتك… عشان دورها قرب أوي..."
رفع أيوب إصبعه في وجهها محذرًا اياها والشرر يتطاير من عينيه....
"لو لمستيها… هقتلك... "
أرخَت حاجبيها للأسفل متصنعة الحزن فيما عيناها تفيضان بشرّ ومكر يكفيان لإغراق العالم....
"أنا برضو أعمل كده في صاحبة عمري… أخص عليك… شكري العزبي هو اللي هيقوم بالواجب.... متقلقش..."
اتكأ أيوب على أسنانه وعيناه تكادان تنفثان نارًا تحرقها وهو يقول بقتامة....
"هي دي الخطة من الأول… تخلصي منه بالموت وتنتقمي منها وتفضل طول عمرها فاكرة إنها السبب في موته...."
"هي فعلاً سبب موته...."
قالتها جيداء بجمود تام وكأنها تقر ببرود بما انتهى به الحال...
لم يجد أيوب فائدة من إضاعة ثانية واحدة أمامها.... فهي من نسل شيطاني والحديث معها دون فائدة.....
لذلك أسرع في خطاه خلف نغم لكن الأخيرة كانت قد استقلت سيارتها ورحلت دون ان تنظر خلفها.....