رواية غرام الذئاب الفصل الثالث والعشرون
بعد مرور أيام، قد جاء اليوم المنتظر، ذلك اليوم الذي طالما رنَّ في ذهنها كصدى يُثير في قلبها مزيج من الترقب والرهبة. جلست أمام شاشة هاتفها، تحدق في الدعوة المدونة بعناية، وميعاد حضور الزفاف مكتوب بأحرف صغيرة لكنها ثخينة في وقعها على قلبها، حفل الزفاف اليوم!
زاد توترها، وانتشر شعور بألم خفيف في رأسها، وكأن ثقل السماء قد استقر على جبهتها.
هناك صوت ما زال يتردد في ذهنها منذ اللحظة الأولى، صوت يهمس ويأمرها بما يمليه عليها ضميرها، و هو أن تخبر زوجها و الجميع بالحقيقة التي تخفيها.
و إذا بها تنتفض عندما فاجأها صوته يقطع التفكير الدائر في رأسها
"سرحانة في إيه؟"
التفتت لتجد زوجها قد خرج من الحمام للتو، يغطي جسده بمنشفة قطنية خلعها ليرتدي ثيابه الأنيقة استعداداً للذهاب إلي العمل.
ابتلعت ريقها، وأجابته بنبرة مختصرة
"دماغي مصدعة شوية"
أخذ ثيابه من الخزانة وبدأ يرتديها، بينما يلتقط من حوله عابثًا بأزرار قميصه
"شكلك سهرتي انتي وياسمينا امبارح"
"يعني… بس أنا كان عندي أرق، غير الصداع ودايخة شوية"
أغلق أزرار قميصه وقال بابتسامة مائلة للحنان
"مستنية إيه؟، روحي اكشفي واطمني على نفسك"
هنا شعرت أنها أمام فرصة سانحة لاستغلال طلبه، فأخبرته
"ما أنا كنت بكلم ماما من شوية، قالتلي أقابلها ونروح عند الدكتور"
أمسك بمحفظته
"تمام… روحي وهاعدي عليكي، عشان ماما مجمعانا كلنا النهاردة في القصر"
انتفضت بتوتر، وشرحت له مخاوفها
"لاء… خليك أنت أصل الدكتور اللي رايحين عنده، عيادته بتبقى زحمة على طول، وكمان مش هاينفع آخد ياسمينا هناك… لتتعدى من حد من العيانين وهي يا حبيبة قلبي مناعتها ضعيفة وما بتستحملش... فأنا ممكن أخدها في طريقي وأطلعها لملك تروح معاهم"
اقترب منها، أمسك يدها بلطف وقبّل ظهرها بامتنان
"ربنا يخليكي لينا يا أحن قلب"
ارتسمت ابتسامة خفيفة على وجهها، وكلما لاحظت معاملته الحسنة، وهي في المقابل تخطو بخطوات أبشع، ازداد شعورها بتأنيب الضمير، حتى انتصر شيطانها في نهاية المعركة.
"ويخليك لينا يا حبيبي"
اقتربت بشفتيها لتكاد تقبله، لكنه انحنى ليلتقط البطاقة الائتمانية التي سقطت من يده
"اتفضلي… خلي معاكي الكريدت، الرقم السري 1997"
ضحكت بمزاح ساخرة
"رقم سري ده ولا تاريخ ميلاد؟"
أجابها بمسحة من الحزن
"تاريخ ميلاد ياسمين… الله يرحمها"
غادر علي الفور تاركًا وراءه كلمات تعيدها هي في رأسها، يزيدها شعورًا بالحقد والمرارة.
نظرت إلى صورته فوق طاولة الزينة، وراحت تهمس لنفسها
"وعمرك ما هتنساها… ولا تنسي أي حاجة تخصها… وأنا مش هفرط فيك مهما كان التمن"
❈-❈-❈
أخذت من الخزانة ثوبً أنيق، أبيض كالثلج المتلألئ في ضوء الصباح، متعمدة أن يكون اللون رمزًا للنقاء والمظهر البهيّ، وكأنها تريد أن تفرض حضورها في هذا اليوم المنتظر بأبهى صورة.
توجهت إلى غرفة ياسمينا لتوقظها، وكانت الصغيرة تتصنع النوم، تحاول التملص من مواجهة زوجة أبيها.
أزاحت الدثار عنها، وربتت بخفة على كتفها
"اصحي يلا يا ياسمينا، عشان هانروح لعمتك"
وصلت إلى أنفها رائحة نفاذة، أقرب ما تكون إلى القذارة، فبحثت بعينيها عن مصدرها، فوجدت بنطال نوم الصغيرة مبتلاً، والفراش أسفلها أيضًا مبتل.
شهقت بازدراء
"نهار أبوكي أزرق، عملتي حمام على نفسك!"
فتحت الطفلة عيونها بخجل وخوف، فلم تستطع كبح دموعها، وانهارت بالبكاء. وبختها الأخرى بصياح هادر
"انتي لسه هاتعيطلي؟!، قومي فزي يا غبية، شيلي الفرش واقلعي هدومك المبلولة ارميها في الغسالة"
ازدادت الصغيرة بكاءً، وازداد معه غضب زوجة الأب القاسية التي صاحت بحدة صارمة
"هاتفضلي تعيطي كده كتير؟!، طب قدامك نص ساعة، لو معملتيش اللي قولتلك عليه، هامشي واقفل عليكي الباب، خليكي لوحدك هنا"
أسرعت الصغيرة بخوف لتنفيذ ما أمرتها به، واخذت حماماً علي عجلة من أمرها، ارتدت ثوب أنيق استعدادًا للذهاب معها إلى عمتها، كما أمرتها الأخرى.
وقفت أمام مرآة الزينة، وبدأت زوجة الأب تمشط شعرها وتجمعه في جديلة بشكل فوضوي، نظرت الطفلة إليها بحزن ورفض
"ما بحبش الضفيرة… عايزة أعمل تسريحة سندريلا اللي كانت مامي بتعملهالي"
نفخت الأخرى بضجر، وقالت بحدة
"وأنا مش فاضية لك، ولا فاضية لدلعك، عندي حاجات أهم"
رمقتها الصغيرة بسخط وثارت بغضب
"أنا بكرهك ومش بحبك… وكل يوم بدعي لربنا وأقوله يارب رجعلي مامي وخد طنط رودينا الوحشة"
شهقت الأخرى بصدمة وثار غضبها كالبركان، فقدت السيطرة على أعصابها، وصاحت في الوقت ذاته، مصحوبة بصفعة قوية هبطت بها على وجه الصغيرة
"بتدعي عليا يا قليلة الأدب وبتغلطي فيا كمان؟!"
تسمرت الطفلة في مكانها، تراقب رودينا فداحة ما حدث، وتشعر بحرارة أناملها المتوهجة على خد الطفلة المسكينة.
انهارت الأخرى في البكاء، دنت رودينا نحوها لتعانقها، محاولة تهدأتها
"حقك عليا يا ياسمينا… مكنتش أقصد خالص أمد إيدي عليكي، انتي اللي عصبتيني… بقي بتدعي عليا أموت؟! وتقوليلي بكرهك و انتي وحشة؟!، تعرفي بابي لو عرف إنك قولتيلي كده، هايعمل فيكي إيه؟"
نظرت الطفلة إليها، مصدقة كل كلمة ببراءة، فأردفت الأخرى بدهاء شديد
"هايدخلك مدرسة داخلية ومش هيخليكي تعيشي معانا تاني... هو كان قايلي لو فضلتي ما تسمعيش الكلام كده كتير هايوديكي هناك... وأنا قولتله لاء ياسمينا شطورة وبتسمع الكلام… هاتسمعي الكلام ولا أقول لبابي؟"
تفوهت الصغيرة على الفور بخوف ورعب
"هاسمع الكلام… بليز ما تقوليش لبابي"
ابتسمت الأخرى بدهاء أفعى سامة
"تمام… مش هقوله، بس تعتذري"
ظلت الصغيرة تنظر لها في صمت تأبى داخلها الاعتذار، لكن لم تجد مفر من ذلك، تفوهت بصوت يكاد تسمعه الأذن
"sorry"
❈-❈-❈
حل المساء وتلألأت الأضواء في أرجاء حديقة منزل عائلة رحيم، كأن النجوم قد هبطت إلى الأرض لتزين المكان.
وفي داخل أحد الغرف تجهيز العروس، أنتهت الفتاة بوضع اللمسات الأخيرة على وجه أميرة المغمضة عينيها، كأنها لوحة فنية مكتملة الألوان والضياء.
قالت لها الفتاة بصوت دافئ
"افتحي عينيكي يا عروسة"
فتحت الأخرى عينيها، لترى انعكاسها في المرآة؛ كانت حقًا أميرة، ملامحها الهادئة الجميلة قد اكتسبت وهجً مضاعفً، إلا أن شعور غريب بالضيق ألم بها، كما لو أن قلبها يئن تحت وطأة انتظار غامض.
دخلت رجاء من الباب، ووقفّت متأملة أميرة بإعجاب
"ما شاء الله، اللهم بارك… إيه القمر والجمال ده كله يا عروستنا"
ابتسمت أميرة
"شكرًا يا طنط"
ضحكت الأخرى
"طنط إيه يا ميرو قوليلي رجاء عادي، أو جوجو، أي دلع… لكن طنط دي تقوليها لواحدة عجوز شمطاء"
ضحكت أميرة
"حاضر يا جوجو… بس أنا كنت عايزة الفستان مقفول شوية وألبس حجاب… مش متعودة حد يشوفني من غير حجابي"
قالت حماتها بحزم ودهشة
"فستانك إحنا جايبينه من برّه، من أفخم دور الأزياء في فرنسا، وحجاب إزاي مع فستان من الدانتيل والجوبير وفتحة الرقبة واسعة لحد اكتافك؟!، النهاردة انتي عروسة، وستايلك لازم يكون مميز"
وفي الأسفل جلس المدعوون في انتظار قدوم العريس وعروسه.
كانت رودينا في حالة توتر، تقضم أظافرها، ولاحظت والدتها ما تفعله
"قاعدة مش على بعضك ليه؟، وفين جوزك اللي عمالة تقوليلي جاي؟، عيب ابن خالتك يعزمه وهو ما ييجيش، دي اسمها قلة ذوق"
مال زوجها نحوها
"مالك يا شاهيناز بتزعقي لبنتك ليه؟، جوزها مش عايز ييجي هاتجيبه يعني بالعافية، ولا هاتفرحي لما تلاقيهم متخانقين؟!"
"ملكش دعوة أنت يا مهاب، أنا بتكلم مع بنتي"
و نظرت إلي ابنتها
"قومي تعالي"
ذهبا إلي زاوية هادئة، فسألتها والدتها "قوليلي الحقيقة وما تخبيش عليا"
اتسعت عينا ابنتها التي تشعر بالتوتر والقلق يملأ قلبها
"أقولك إيه يا ماما؟"
"اللي انتي مخبياه عليا"
ابتلعت ريقها، وأجابت بانكار
"مش مخبية حاجة"
"مخبية بس مش عليا… علي جوزك"
خفق قلب الأخرى بقوة، حتى أضافت والدتها
"مش قايلاله إنك في فرح ابن خالتك، ونفس الأمر حصل في الخطوبة، صح؟"
تنفست رودينا الصعداء، لكنها خشيت من كشف السر الحقيقي
"اه يا ماما… جوزي ما يعرفش إني هنا، ويا ريت تفهمي بابا كده بدل ما يقع بلسانه قدام ياسين… اللي لو عرف هايطلقني"
نظرت والدتها إليها بحدة
"و بالنسبة للصحفيين المرشقين في كل مكان، لما يشوفوا صورتك هاتقوليله إيه؟!"
"ياسين تقريبًا مقاطع السوشيال ميديا وما بيفتحش النت إلا على شغله وبس"
رمقتها والدتها بغضب
"وليه تكدبي على جوزك وتجي من وراه وإنتي عارفة دماغه؟"
أجابت رودينا بكذبة محكمة
"وخالتي وابنها لو سألوكي بنتك مجاتش ليه هاتقوليلهم جوزها مش طايقكم ومانعها تيجي!، وخالتي تشمت فيّا؟!"
قالت لها والدتها بحدة وتهديد
"على راحتك يا رودينا… بس ما تجيش تشتكيلي وتقوليلي الحقيني يا ماما، لأن لو كان عليا نفسي يطلقك النهاردة قبل بكرة"
رمقتها رودينا بغضب وقالت بتحدٍ
"ولما تطلقيني منه هتستفادي إيه؟!، الأمل اللي حضرتك كنتي عايشة عليه… فرحه النهاردة يعني خلاص أحلامك بقت سراب"
تنهدت والدتها فقالت
"لما أروح أقعد مع باباكي، لأن الكلام معاكي بيرفعلي الضغط"
تركت ابنتها وذهبت لتخبر زوجها بعدم علم زوج ابنته بحضورها حفل الزفاف.
❈-❈-❈
في قصر البحيري، اجتمع أفراد العائلة، كل يحمل في صدره مشاعره، فمنهم من يسكن قلبه سعادة مكتومة، ومنهم من يحمل أعباء الأحزان والهموم الثقيلة.
كارين جلست جوار زوجها، عيناها تتبعان كل حركة في الصالون بصمت كأنها مراقبة هادئة، تحاول أن تحفظ حضورها دون أن تتدخل.
بينما خديجة فاختارت الجلوس بين حماتها و بين شيماء، كأنها تبحث عن الأمان بين أحضان الألفة العائلية.
وملك وصبا، يتبادلان الاحاديث والضحك.
آدم جلس متأملاً بين طه وقصي، وبجانبه مصعب الذي لم يحتمل الصمت، فارتفع صوته متسائلاً:
"فين يوسف وياسين؟"
تذكر آدم وعده لشقيقه، ألا يفشي سر أمره مع علياء أمام أي من أفراد العائلة، إلى أن يلتزم شقيقه بالتصالح ويعود كما كان، أو هكذا يتوهم!
أجاب آدم بهدوء محسوب
"يوسف في المستشفى عنده شوية حالات، وعلياء مامتها تعبانة وقاعدة معاها، أما ياسين...
لم يكمل الحديث، إذ قاطعه صوت مألوف يتردد في أرجاء القصر
"السلام عليكم يا عيلة البحيري"
دخل ياسين مبتسمًا، حاملاً في عينيه إشراقة المشاكس الدافئ، رد الجميع التحية.
قام بمصافحة الجميع، وقد لاحظت والدته إنه بمفرده فسألته
"رودينا ماجتش معاك ليه؟"
في تلك اللحظة، اندفعت ابنة ملك نحو خالها، وتلحق بها شقيقتها، تصيح الصغيرة محذرة
"بلاش يا مليكة، ياسمينا لو عرفت إنك قولتي لخالو هتخاصمك ومش هاتكلمك تاني"
انتبه ياسين للحديث وابتسم بخفة، ثم أشار إلى مليكة قائلاً
"تعالي يا ملوكه قوليلي، مالها ياسمينا؟"
نظرت الطفلة إلى والدتها أولاً، ثم حولت بصرها إلى الحضور، قبل أن تتوقف عند ياسين فاخبرته
"ياسمينا لما جت عندنا كانت عماله تعيط، وقالتلنا أنا ونور إنها طنط رودي ضربتها بالقلم…"
صمتت الطفلة، وانسكبت كلماتها في فضاء القصر.
شهق الجميع واعتلت الصدمة وجوههم، وانحشرت الكلمات في حناجرهم، بينما ساد الصمت المطبق لحظة قصيرة، قبل أن يكسرها صوت ياسين الهادئ، الذي كان يسبق العاصفة
"رودي ضربت مين؟"
أجابت الطفلة ببراءة طفولية، كأنها لا تدرك حجم ما تقول
"ضربت ياسمينا بالقلم عشان بتعيط، وقالتلها باباكي قالي لو مسمعتيش الكلام هيوديكي في مدرسة داخلية ومش هاتعيشي معانا تاني"
تردد اسم ياسمينا على شفتيه بغضب ماجن
"ياسمينا؟، ياسمينا؟"
جاءت الصغيرة في الحال والخوف يسيطر على ملامحها، ترتجف وتتكتم عن الحديث، كأنها تبحث عن منقذ يحررها من الرعب الذي دبّ في قلبها.
تدخلت والدته، بصوت حنون ووقار
"وطي صوتك يا ياسين، البنت مرعوبة منك"
نظر ياسين إلى ابنته بعينين يغمرهما الحنان، وتمعن في خديها المشتعلين بالحرارة والخوف، وسألها بنبرة حانية
"قوليلي يا حبيبتي، رودينا مدت إيدها عليكي؟"
نظرت له الطفلة بخوف متردد، مسترجعة كلمات زوجة أبيها، ثم اندفعت مبتعدة، واختبأت في حضن ملك، تتهاوى في عناقها وتعتصره بالدموع
"أنا خايفة يا عمتو، خديني من هنا"
وقف ياسين مشدوداً، يشاهد حال ابنته التي كانت بمثابة طعنة حادة في قلبه، تتلوى بين الخديعة والخيبة، وتساءل في نفسه، هل كنت بالفعل منخدعاً إلى هذا الحد من تلك الأفعى الخبيثة؟
الجميع حول الطفلة، شعروا بثقل الموقف، وتبادلوا الهمسات المثقلة بالحزن والأسى، تعاطفاً مع براءة الطفلة الصغيرة.
قالت جيهان لابنتها بحزم
"طلعيها يا ملك فوق، وأنا جايلكم"
أطاعت ملك ما أمرتها به والدتها، وارتفعت إلى الطابق الأعلى، بينما ياسين يقف مشدوداً، وشرار الغضب يندفع من عينيه، راغباً في إحراق الأخضر واليابس.
وفي لحظة مفاجئة، غادر القصر مسرعاً، صاحت جيهان خلفه
"ألحقه يا مصعب، قبل ما يعمل في مراته حاجة"
وقبل أن يلحق به مصعب، قال له قصي بحذر
"مصعب، لو هيتهور أنت عارف هاتعمل إيه؟"
أجابه مصعب بثقة
"ما تقلقش، أنا عارف هعمل إيه"
ركب ياسين سيارته، وانطلق بسرعة مخيفة، فيما ركب مصعب سيارته وشرع في مطاردته قبل أن يرتكب أي جريمة.
خلال الطريق، اتصل ياسين برودينا، فكان الهاتف ربما مغلقاً أو خارج الخدمة، فقرر الاتصال بالهاتف المنزلي لعائلتها، وانتظر حتى ردت الخادمة، وسألها بحدة
"رودينا عندكم؟"
أجابته الخادمة مترددة
"حضرتك ياسين بيه، صح؟"
رد بغضب كامن
"أيوه، أنا حضرة الزفت، رودينا عندكم؟"
أجابت الخادمة
"هي وست شاهي ومهاب بيه كلهم في فرح دكتور رحيم"
توقف ياسين فجأة حينما انكشف أمامه كذبها الصريح، وانطلقت أسئلته النارية
"الفرح ده فين؟"
أجابته الخادمة بعد تردد
"في فيلا الست رجاء، في زايد..."
استمع ياسين إلى تفاصيل العنوان، حفظها عن ظهر قلب، وأطلق محرك سيارته على الفور، متبعه مصعب، يتجهان صوب موقع الحدث، حيث ستنطلق مواجهة لن يرحم فيها الغضب، ولن يعرف فيها العقل سبيلاً إلا بعد أن تصدح الحقيقة بصوت عال وواضح.
❈-❈-❈
ها قد بدأت مراسم الزفاف، والجميع يترقب خروج العروس من باب المنزل إلى الحديقة المزينة بالأضواء، كأن السماء نفسها قد أُضيئت احتفاء بهذه اللحظة.
تطل أميرة، كملكة في يوم تتويجها، وقد عمدت إلى إلقاء وشاح الثوب على وجهها، خجلًا من النظرات الموجهة إليها، وكأنها تخفي بين خيوط الوشاح شغف قلبها المرتبك.
وينتظرها رحيم، كملك ينتظر قدوم ملكته، ومع كل خطوة تخطوها يختلط في قلبها خفقان الرهبة بشعور غامض لا تدري له سببًا، وكذلك هو يخفق قلبه من السعادة الغامرة.
وها هي وقفت أمامه، تنظر له مبتسمة من خلف نسيج الوشاح الشفاف، وظل يتأملها، غير مصدق، متسائلًا: هل هذا الملاك سيصبح حقًا ملكه وله وحده؟
قال لها بصوت يملؤه الحنان
" ألف مبروك يا روح قلبي"
ردت بخجل وتضغط على باقة الزهور في يدها
"الله يبارك فيك"
فأمسك يدها، واتجها معًا نحو المنصة المخصصة لعقد القران.
همس في أذنها بلهجة مليئة بالمزاح والطمأنينة
"كلها دقايق ونكتب الكتاب وهتبقي حرمي المصون"
نظرت إلى الجهة الأخرى بخجل، فابتسم وضحك على خجلها
" هخليكي تودعي الكسوف ده خالص، بس هابقي أقولك لما نطلع أوضتنا فوق"
جلسا معًا خلف الطاولة، جاء المأذون وألقى عليهم تحية السلام، وبدأ في إلقاء الخطبة قبل عقد القران.
وذلك بالتزامن مع وصول ياسين للتو، والشر يفيض من عينيه، فرآه حماه ونهض مسرعًا ليلحق به قبل أن يتشاجر مع ابنته أمام الحضور.
"أهلاً وسهلاً يا حبيبي، نورت الفرح"
حاول ياسين التماسك
"أهلاً يا عمي، هي فين رودينا؟"
رد حماه بنبرة حازمة
"تعالي بس الأول نكتب كتاب دكتور رحيم، وبعدين نتكلم أنا وإنت"
اعترض ياسين بغضب
"وأنا مالي بكتب الكتاب؟!، أنا جاي أخد مراتي وهامشي"
أجابه حماه بحزم ودبلوماسية
"تعالي أنت ابن حلال، كنا لسه بندور علي الشهود، تعالي اشهد معانا وبارك للعريس والعروسة، وهنقعد أنا وإنت وبنتي نتكلم بس مش هنا، عندي في البيت مش دي الأصول برضه يا أستاذ مصعب؟"
كانت نبرة حماه توحي لياسين وكأنه يعلم أمرًا ما فعلته ابنته.
أومأ مصعب
"صح طبعًا وعين العقل"
"طيب يلا عشان المأذون مستني"
جلس كل من مصعب وياسين على الجهة الأخرى للمأذون، وكان ياسين يبحث بعينيه عن رودينا، وقلبه يخفق، ليس من التوتر، بل من شعور آخر مجهول، كإشارات لا يعي سببها.
وفي الداخل، كانت رودينا واقفة أمام الحوض، تغسل وجهها، وتحدق في صورتها في المرآة، محاولة تصم أذنيها عن صوت المأذون.
"مش هاينفع… اللي بيحصل ده كله غلط في غلط… أعمل إيه! … لو قولتلهم هخسر ياسين وهخسر رحيم وأهلي كمان… مش عارفة أعمل إيه… أنا تعبت"
"رودينا، يا رودينا"
صوت والدتها وتفتح باب الحمام، فوجدت ابنتها لتخبرها بالكارثة التي ستهبط فوق رأسها
"جوزك جه بره وشكله ناوي على مصيبة… الشغالة كانت مكلماني ولسه قالتلي إنه اتصل علينا في البيت… وقالت له إحنا في فرح ابن خالتك و الغبية اديتله العنوان… وطبعًا لما اكتشف كدبتك جاي ينكد عليكي وعلينا، ربنا يستر و ما يقلبلناش الفرح"
سمعت رودينا حديث والدتها وكأن الدنيا تدور حولها، والشئ الذي تهابه قد حدث بالفعل؛ سيرى زوجته، ويفتضح أمرها أمام الجميع.
قالت والدتها بحزم
"واقفة مكانك وسرحانة في إيه؟، يلا تعالي ما تخافيش… باباكي خد جوزك ومعاه مصعب جوز ملك يشهدوا على كتب الكتاب"
اتسعت عينا رودينا، ورددت بصوت خافت
"يشهد على إيه؟!، خلاص أنا كده ضعت… بيتي اتخرب، ياسين ممكن... لاء ده أكيد هايقتلني"
لم تفهم والدتها من همهمتها الخافته شئ
"إنتي بتقولي إيه؟! يلا قدامي وماتبقيش جبانة كده… يبقى يقرب منك وأنا اللي هقف له… هو ناسي ليكي أهل ولا إيه؟"
وفي الخارج، وضع المأذون الأوراق أمام كلا من ياسين ومصعب ليوقع الأول اسمه على عجل، فهو يريد أن ينتهي من هذا كله ويأخذ تلك اللعينة ليأخذ حقه ويلقنها عقاب قاسي.
بينما خرجت رودينا برفقة والدتها على وقع صوت المأذون، الذي يردد بطمأنينة روحانية
"بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير، إن شاء الله"
أطلقت رجاء الزغاريد بسعادة، تملأ المكان صخبً وفرحً، بينما التقط ياسين بعينيه رودينا التي اختبأت خلف والدتها، تلقي نظرة نحو منصة عقد القران، فإذا بها قد اختفت من أمامه.
بينما هي ظلت تلتفت من حولها باحثة عن مأواها الآمن، فلم تجد سوى داخل منزل خالتها.
و لدى العروسين... أمسك رحيم يد زوجته، ونهض الاثنان واقفا أمام بعضهما، رفع الوشاح ليكشف عن وجهها، وقبّل جبينها برقة وحنان
"وأخيرًا بقيتي حبيبتي ومراتي"
بدأت الموسيقى تعزف أنغامها، وأمسك يدها متقدمًا بها إلى ساحة الرقص، بينما أغنية فستانك الأبيض بصوت حسين الجسمي الذي يصدح في الأرجاء، يملأ الجو بهجة وغرامً.
وفي زاوية بعيدة، كان مصعب يبحث عن ياسين بعينين حذرتين، غير مكترث بما يحدث حوله؛ فكل همه أن يمنع ياسين من ارتكاب حماقة أو فعل يندم عليه مع رودينا، التي لم تجد ملجأ سوى الاختباء داخل منزل خالتها، تركض وقلقها يخنق أنفاسها.
وقبل أن تخطو قدمها داخل المنزل، شعرت بيد تجذبها بعنف، وصياح هادر
"بتهربي على فين يا هانم؟!"
التفتت إليه، عيناها مليئتان بالخوف والصدمة
"استني بس وهافهمك كل حاجة، تعالي ندخل جوه الأول"
رآه مصعب من بعيد، وفي طريقه إليه لمح شاشة العرض، حيث الكاميرا مصوبة على العروسين، ولا سيما على العروس.
تسمر مكانه، يفتح ويغلق عينيه ليتأكد مما يراه، لكنه تذكر اسم العروس الذي ذكره المأذون، فهي تدعي أميرة… لكن من تكون تلك؟!، ربما شبيهة لها ليس أكثر.
هيهات ولفت انتباهه صراخ رودينا، رآى ياسين يجرها من عضدها خلفه كالشاه، تصرخ برفض قاطع
"قولتلك مش رايحة معاك في حتة"
صاح كالوحش الكاسر
"اخرسي مش عايز اسمع صوتك… حسابي معاكي لما نروح"
اقترب مصعب منه
"ما ينفعش اللي أنت بتعمله يا ياسين"
رد الأخر بكل تحد ثائرً
"أنا عارف بعمل إيه، مراتي وأنا حر فيها، أجرها، أولع فيها، محدش يتدخل"
صاحت رودينا و تحاول نزع ذراعها من قبضته بقوة ودفعه عنها
"تولع فيا؟!، انت فاكر نفسك مين يا حيوان، ابعد عني"
جن جنونه من كلماتها، وغضبه انفجر كالبركان الذي يحرق كل ما يقابله من الأخضر واليابس، رفع يده عليها
"أنا حيوان يا زبالة، مش مكفيكي اللي عملتيه في بنتي، ولا كذبك عليا تقوليلي عيانة و اتاريكي هنا من ورايا، ده أنا همرمط بكرامتك الأرض يا وسخة"
مع كل كلمة كانت تتلقي صفعة تلو الأخرى، حاول مصعب فض الاشتباك، ورأت شاهيناز ما يحدث، فركضت لتنقذ ابنتها من قبضة هذا الثائر، وتبعها زوجها مسرعًا.
انتبهت رجاء إلى ما يحدث، فذهبت نحوهما وصاحت
"إيه اللي بيحصل ده يا شاهيناز؟، بنتك وجوزها جايين يخربوا فرح ابني!"
رمقتها شقيقتها بامتعاض، ثم ألتفتت وصاحت في ياسين وتدفعه عن ابنتها
"ابعد إيدك عنها يا همجي يا متخلف"
فاطلق الآخر لسانه الذي لم يعرف الخجل والأدب في تلك المواقف
"لمي لسانك يا وليه أحسنلك، بدل ما أقل منك قدام الناس، طالما مش عارفين تربوا بنتكم، أنا هاربيهالكم وبعدين هرميها عندكم زي الكلبة اشبعوا بيها"
تدخلت رجاء وصاحت بصوت يحمل القوة والحزم
"اتلم أنت يا اسمك إيه؟، خد مراتك وغوروا من هنا، بدل ما اندهلكم الأمن يرميكم بره"
بينما كان رحيم وأميرة لم ينتبها لما يحدث بسبب الموسيقي و الأغنية، ارتفع صخب المدعوين ونهض بعضهم من مقاعدهم ليشهدوا المشاجرة، واستغل المصورون والصحفيون هذا الحدث لالتقاط الصور والفيديوهات، فامتزجت الفوضى بالتعجب.
توقفا عن الرقص، سألت أميرة بقلق
"هي الناس بتقوم و بتجري ليه؟"
نظر رحيم نحو وجهتهم فرأي ما يحدث، فقال لعروسه
"روحي اقعدي في الكوشة وأنا هاروح أشوف إيه اللي بيحصل"
"لاء أنا جاية معاك مش هاسيبك"
توجه رحيم نحو المشاجرة، وتتبعه أميرة دون أن تحصل علي موافقته، و مع كل خطوة لها، يخفق فؤادها، وضعت يدها علي موضع قلبها، اكملت السير حتي توقفت بقرب الحدث.
صدح صياح ياسين وهو يوبخ السيدة رجاء وشقيقتها
"خليكي في حالك يا وليه منك ليها… أنا جاي أخد مراتي... أنا ماسك لساني عنكم بالعافية... غوروا من وشي"
لم يشعر رحيم بنفسه و يندفع نحو الثور الهائج الذي يمسك بابنة خالته و يطيح في كل من يقابله أو يعترض طريقه
"انت مين إدالك الحق تتهجم علينا في بيتنا وتقل أدبك على خالتي وأمي يا بني آدم أنت؟!"
حدقه ياسين بشرر وهجوم
"وأنت مالك أنت كمان، ابعد لأقل منك قدام معازيمك وعروستك"
اندفع رحيم بغضب، صوته يملؤه التهديد والحزم
"لاء، ده انت قليل الأدب ومش لاقي حد يوقفك عند حدك"
وجّه له لكمة خاطفة، شهق الجميع من شدتها، فدفع ياسين رودينا أرضًا ليتثنى له الرد على رحيم، تحت صياح والدته
"ابناااي"
التفتت رجاء من حولها صارخة
"فين السكيورتي؟، تعالوا خدوا الحيوان ده من هنا"
ركضت أميرة نحو رحيم عندما تشابك ياسين معه، يقبض علي تلابيبه و إذا به يطرح رحيم علي الأرض، ليكيل له اللكمات،فصاحت بخوف على زوجها
"ابعد عنه حرام عليك"
لم يكن يسمعها و مستمر في ضرب رحيم، تدخل مصعب و لم ينجح في ابعاد ياسين، تجرأت أميرة من هذا المعتدي علي زوجها وتحاول دفعه عنه وتصرخ
"وحضرتك فاكر نفسك كده راجل لما تتهجم على بيوت الناس وتمد إيدك عليهم؟!، ابعد عنه"
ختمت حديثها بدفعة من يديها، جعلته توقف فجأة و يلهث، رفع رأسه فانقشعت غيمة الغضب من علي عينيه وحينما تحقق من رؤيتها، حدق فيها بعينين جاحظتين، وكأن الزمن تجمّد من حوله حين رآها ، ترتفع دقات قلبه فجأة، وكأنها تعيد له الحياة، تردد شفتاه اسمها بتعجب ودهشة، كأنه لا يصدق ما يراه
"ياسمين!"