رواية للهوى رأي اخر الفصل الثالث والعشرون 23 بقلم سارة حسن


 رواية للهوى رأي اخر الفصل الثالث والعشرون 

تقف في منتصف بهو القصر، تنظر للفراغ الواسع من حولها. منذ أن دخل وتمتم بعدة كلمات ودخل غرفة مكتبه، استمعت للنداء بداخلها، واتجهت إليه، وفتحت باب مكتبه. كان يقف أمام النافذة موليها ظهره، أصدر صوت كعب حذائها صوتًا جعله ينتبه ويلتفت إليها، تتطلع لها قليلاً ثم قال بضيق لم يتبدد بعد يشوبه الاعتذار:
_ ماكنتش أحب تتعرضي لموقف زي ده مع عيلتي

لم تجبه دهب، لكن تحركت حتى وقفت قبالته، وبتصرف جعله يتصلب، اقتربت أكثر حتى دست رأسها بصدرة. للحظات تجمد موسى، وبعدها ارتفعت يده وأحاطتها، ضغط عليها يقربها منه أكثر، وتمسحت بوجهها بصدرة أكثر، مغلقة عينيها مستسلمة لذلك الدفء والشعور الملح عليها في أن تبقى قليلاً.

يده تحاوطها وذقنه مستندًا على قمة رأسها، تتمسح به كقطة ودّية، ناعمة وهادئة. ابتسم واغمض عينه باستمتاع، وشدد عليها بقوة.

كانت لحظات بينهما ساحرة، ومسالمه وهادئة، خالية من الانفعالات والمشاحنات، بها سلام نفسي يحتاجه كلاهما بشدة.

_ طول عمري بدافع عن نفسي، شخصية البنت الضعيفة الوحيدة من غير أب ولا أخ، عمري ما حبيت أكونها، أكره الإهانة، وأرفض الضعف. شيلت مسؤوليتي من بدري جدًا، ماحدش له فضل عليا، جربت شعور النجاح والمسؤولية، مش بسيب حقي وأعرف أخده، لكن...

صمتت قليلاً وكان منصت لها جيدًا:
_ لكن النهارده حسيت إني قوية بزيادة، إني مش لوحدي، طعم الوحدة بعد الونس هايبقى مُر أوي

خرجت من صدره ببطء وأحاط موسى وجهها بيديه. كانت ناعمة جدًا، دهب رغم قوتها لكنها مرت بالكثير، ما أثر على شخصيتها بالسلب أو الإيجاب فقط، كون منها امرأة صلبة، لكن أيضًا كون تعقيدات بها، جعل بداخلها ذلك النزاع الخفي والذي يراه بعينيها، لا تعطي لنفسها راحة، حاجز خفي بينهما، لكن من ناحيته يشعر بتجاوزه، وأن ذلك السر الذي أثر على عائلته يومًا ليس لها يد به، ويستطيع تخطيه، ويفهم أنها لا تشبه والدتها.

اليوم لم يقبل المساس لكرامتها، منعها من العودة لوالدتها خوفًا عليها، وآخر ضرب رجل لمحاولته التحرش بها، وغيرهم تعمد إيذائها ولم يتوانَ في تلقينها درس قاسي في سوق رجال الأعمال.

ماذا بعد... ماذا يريد أكثر من ذلك؟ أدلة ليعرف أنها أصبحت جزءًا منه، أنها تحرك مشاعر عدة في آن واحد، أنها قادرة وهي بذلك الهدوء والنعومة والوداعة على أن تفقده السيطرة على نفسه، وفي جموحها وشراستها قادرة على أن تفقده الحكمة والسيطرة المعروفة بها.

زفر نفسًا عميقًا، الهب بشرته، وعينيه متعلقتان بعينيها الجميلتين قائلاً بهمس عذب:
_ ومن هايسمحلك بالوحدة تاني

اهتزت حدقتي عينيها وهمست بألم:
_ لأن غالبًا النهاية هاتبقى كده

تحرك إبهامه على وجنتها برقة:
_ وليه نوصلها لكده يا دهب، شيلي الحاجز اللي جواكي ده وكوني صريحة معايا

_ لأن دي المشكلة، مافيش بينا صراحة يا موسى. أنا، وغصب عني خبيت كاميليا وتصرفاتها المخجلة وتفكك عيلتي لدرجة مافيش بيني وبين أخويا أي علاقة، وأنت... كنت عارف كل حاجة، وشوفت بعينيك عرض من عروضها المخزية، وعلاقتك بقاسم، ده غير سرها مع والدتك واللي أنت مش عايز تقوله، كل ده ومش شايف بينا حواجز

صمت موسى ثم قال:
_ خلينا نفتح صفحة تانية

ابتسمت، وازداد التلألؤ في عينيها بالغلا:
_ أنا مابعرفش أهرب

_ ده مش هروب، إحنا بنحاول نتلاقي

انسابت عبرة شفافة بجانب عينيها، وأزاحها موسى بإبهامه وهمست بصوت يكاد لا يسمع:
_ أنت عايزنا نتلاقي؟

أومأ لها برأسه وبسمة صغيرة أجابها:
_ أنا عايز كل يوم الصبح أشوفك، بهدومك اللي بتعلي ضغطي، وسخريتك المستمرة، ونظرة عينيك المغوية، ولون شفايفك اللي بيخليني كل مرة...

لم يكمل موسى حديثه، ومال يقبلها، تخشب جسدها من هجومه، بداية من حديثه الذي رفرف قلبها، نهايتًا بقبلته الأولى لها، ابتعد وابتسم بخفوت قاتل لقلبها:
_ مابقتيش مخيرة يا دهب، الخروج من منطقتي محظور.

---
تم العقد في الأسفل، اقترب موسى من قاسم وبغير رضا قال:
_ انت شايف إن اللي بتعمله ده صح؟

بجمود أجابه قاسم:
_ وهو إيه الصح يا موسى؟ أسيبها تمشي، ولو مشيت مش راجعة تاني، ولا أفضل أنا عايش بذنب غلطة مش عارف أصلحها

بتريث قال موسى:
_ الضغط عليها برضو مش في صالحك، هي كمان في وضع صعب وليها العذر، أنا مش عارف كانت ردة فعلك إيه بالظبط، لكن انت صاحبي وعارف بتبقى عامل إزاي في غضبك

تنهد قاسم بكبت وقال باختناق:
_ أنا حاسس إني في معركة ومش عارف أحارب مين ولا أصلح إيه، جهة الشغل والمؤامرات اللي مش بتخلص عليّ، ولا كوابيسي اللي مش بنام منها، ولا أختي اللي مش متقبلاني وليها كل العذر، ولا فيروز واللي عملته فيها، ولا قلبي اللي مش هايتحمل خسارتها. قولي يا موسى أعمل إيه ولا إيه؟

كان موسى يستمع وعينيه تتسع بصدمة. لم يكن يتخيل أن يسمع تلك الكلمات من جبل مثل قاسم، ولن تخرج تلك الكلمات من رجل إلا عندما يفيض به الكيل ويستنفذ صبره وطاقته، وبمعرفة بصديقه يعلم جيدًا أنه لو جبهة العشق عنده اتزنت فكل الجبهات الأخرى أمرها هين بالنسبة له.

ربت على كتفه بمؤازة:
_ انت قدها يا قاسم، ياما دقت على الرأس طبول، ده احنا عدّينا علينا كتير

ضحك قاسم بخفوت:
_ ياخوفي اللي جاي الاقيه طالع عليا برضو

ابتسم له موسى مشجعًا وقال:
_ بالعكس، أنا حاسس إن اللي جاي في خير كتير لينا

_ دهب كويسة؟

رأى قاسم عيني موسى التي التمعت ببريق يعرفه ولم يره في موسى من قبل:
_ أنا اللي بقيت كويس من بعد ما لقيت دهب، لكن هي محتاجة لك حتى لو بيظهر عكس ده

_ ومين قال إني مش محتاجلها؟ بس دهب عاملة زي حقل الألغام، طول الوقت مستعدة للقتال

ضحك موسى محركًا رأسه مؤيدًا:
_ سبحان الله، هي كده فعلاً، انت دهب عكس ما كنت شايفها خالص، يمكن انت الوحيد اللي كنت فاهم كده حتى وأنت بعيد

ابتسم قاسم وقال بعد ما اطمئن قلبه قليلًا:
_ ده انت لسه هاتكتشفها، بس أهم حاجة إني شايفك مبسوط، وهي كمان. دهب محتاجة تكون مرتاحة

أومأ موسى مؤيدًا بصمت، متفهمًا معاناة كل منهما، وتمنى أن يجد صديقه الراحة بعد ما عانى، وأن تكون زوجته متفهمة لما مر به، وهو متأكد أن قاسم لم يخبرها بشيء، وهو لا يملك الجرأة أن يفاتحه في ذلك الموضوع الشائك من قبل.

..................

_ أسيل يا أسيل

التفتت أسيل للصوت المنادي، اقترب منها ذلك الشاب ثم وقف أمامها يلهث من ركضه لملاحقتها، قال آسر من بين أنفاسه:
_ إزيك يا أسيل، ما بقناش بنشوفك ليه؟

ابتسمت له بتكلف قائلة:
_ وانت بتشوفني فين يا آسر؟ أظن لا أنا بكون في سهراتكم ولا عضوة في شلتكم، ولا حتى بكون في النادي كتير

ابتسم آسر بإحراج مبرر:
_ أقصد يعني، إن حتى صدف النادي ما بقاش بتحصل، مختفية ومحدش يعرف عنك حاجة

_ عادي يا آسر، أنا ماليش صحاب في النادي

_ عرفت إن ياسين سافر

أومأت برأسها دون تعقيب، فأكمل:
_ بجد ربنا بيحبك، علاقتكم ما كانتش هتكمل، انتي ما تستهلش واحد زيه كنتي خسارة فيه

نظرت إليه أسيل وقالت بتريث:
_ أنا ماقدّرتش اللي كنت بتعمله وعايز توصله ليا يا آسر، تقريبًا ما فيش مرة ياسين اتجمع معاكم غير وبعتلي صورة

تنحنح بارتباك مبررًا لصلاح نيته:
_ كنت عايز بس تعرفي حققته

_ مفهوم، طيب دلوقتي ياسين سافر، انت عايز مني إيه؟

بتسرع قال دون أن يحسب حساب لكلماته:
_ انتي...

_ أنا؟ أنا إيه بالظبط؟

تلجلج وبتلعثم تحدث:
_ بصراحة، أنا حابب نكون أصدقاء، أنا عارف إنك مش هاتقبلي بأي مسمى في أي علاقة خصوصًا الفترة دي، لكن اديني فرصة أقرب منك وأعرفك و...

قاطعته أسيل مشيرة له بيدها، ثم بسخرية لاذعة قالت له:
_ وانت شايف نفسك تفرق عن ياسين اللي كنت بتحذرني منه؟ ده انت بتقعد نفس مكانه وسهراته، حتى البنات. انت عارف الفرق بينكم إيه؟ ياسين كان بيعمل لكنه كان واضح، أما انت خبيث، وأي حاجة كانت سببها الأول كرهك لياسين وغيرة منك

صرخ بوجهها فجأة مما جعلها تنتفض مكانها:
_ غيرتي منه ولا عليكي؟ لو هاتسميها غيره فا علشان كان معاه واحدة زيك وكان رمرام، كنتي في إيده وما حافظش عليكي

صمتت للحظات وبصوت حاد تساءلت:
_ هسألك سؤال واحد يا آسر، ويريّت تكون صريح ولو لمرة واحدة، ياسين حصل بينه وبين دلال علاقة؟

_ وانتي الخيانة عندك علاقة وبس

صرخت قبالته بغضب هادر:
_ بطل لف ودوران وجاوبني

_ لا

تنفست بعمق دفعة واحدة، وشئ ثقيل على قلبها قد انتزع، لكن كانت صدمتها بصوت آسر الذي قال بخفوت:
_ أسيل، أنا بحبك

_ مش هاننفع بعض يا آسر، لو سمحت خليك بعيد عن حياتي

_ اشمعنا هو؟

_ دي المشكلة، اشمعنا هو؟ مقارنتك بيه، انت عملت كل حاجة علشان علاقتي بيه تنتهي، وأنا مش بلومك. على فكرة ياسين كان خاين فعلاً، لكن انت كمان مش أحسن منه.

بتلعثم وبصوت أقرب للتوسل قال:
_ مش يمكن أكون كويس وأنا معاكي؟

_ أنا بتمنى فعلاً تكون كويس، وتركز في حياتك ومستقبلك، السكّة اللي انت فيها دي كلها خساير

_ اشمعنا هو؟

أغمضت عينيها بتعب، يضغط عليها بإجابة يصعب عليها الآن الاعتراف بها، ولن يكون حالها أفضل بعد سماعها، فا ابتعدت عنه خطوتين وكادت تتحرك، لكنه وقف أمامها مانعًا إياها من الهروب.

عادت أسيل خطوتين للخلف محذّرة:
_ آسر، ابعد من قدامي

_ بعد كل ده ولسه بتحبيه يا أسيل؟

_ كفاية كلام في الموضوع ده، لو سمحت ابعد

_ هتقدري تنسيه؟

أغمضت عينيها، متجاهلة ذلك الألم في يسارها، ودون أن تدرك تحركت رأسها بالرفض.

ثبتت أنظاره عليها، ورأى الألم في عينيها، ولا سبيل له معها حتى بعد ما انتهى دور الآخر، فقال:
_ دلال كانت عايزاه وحاولت كتير، لكنه كان بيصدها. في مرة قال لها إنه معاه ملاك بيبعده عن الغلط، وإنه مش بيحب يقابلك بعد ما بتخلص سهرته لأنه بيكون قرفان من نفسه. يوم ما شفته كان شارب، شربناه كتير أوي لحد ما بقي مش شايف وبعتلك رسالة تيجي وتشوفي، وقبلها كان شارب برضو بس ماكنش عارف. قولناله مشروب جديد، لكن كنا حاطين فيه نوع كحول، وصورته برضو وبعتلك صورة.

كانت تنظر له بصدمة، ثم خرجت من صدمتها قائلة بخفوت:
_ يمكن انت كنت سبب في حاجات كتيرة، لكن ما ينفعش أمسك النار في إيدي وأقول مش هاتحرقني.

ثم ابتعدت عنه شاعرة بالبرودة، وغصة في حلقها، أراحتها بتلك الدمعتين على خديها، مقررة أنهم سيكونوا آخر دمعتين.


تعليقات