رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والخامس والخمسون
تسوية لكافة المسائل العالقة بينهما!
مد ظافر يده إلى الوثيقة يقلب صفحاتها ببطء كمن يفتش بين السطور عن خيانة أو طعنة مغلفة بالحبر كانت الكلمات واضحة حاسمة قاطعة لشريان ما تبقى بينه وبين سيرين حتى وصل إلى الخاتمة
المبلغ التعويضي.
توقف بذهول ارتعشت عيناه للحظة وتمتم بنبرة مخنوقة بدهشة
ثمانية... مليارات دولار!
تساؤل مشحون بالريبة تردد داخله
من أين أتت بكل هذا الثراء المفاجئ
لقد قلب دفاترها اقتحم عالم شركتها وأحصى أصولها السائلة بنفسه لم يتجاوز الأمر بضع مليارات بالكاد حتى لو تحولت أسهمها إلى رماد في المزاد فلن تبلغ هذا الرقم الخرافي.
ابتسم ابتسامة ساخرة تحمل مرارة رجل يعرف أنه لم يهزم بعد شق الأوراق التي بين يديه ورماها في سلة المهملات كمن يلقي جثة لا يريد لها أن تدفن في ذاكرته ومن ثم قال ببرود متماسك
ما الذي يجعلك تظن أنني سأوقع على هذا الهراء
تقدم ماثيو يزن كلماته بصرامة وفي صوته نبرة قديمة تحمل صدى سنوات
طويلة من حمايته لسيرين
قالت موكلتي إن رفضك لا يثبت إلا شيئا واحدا أن المال لا يعنيك ورغم ذلك ستطوى كل الملفات القديمة بينكما إن قبلت به. وأرجوك...
خفض صوته قليلا كأنه يخشى أن يسمعه صدى الجدران
لا تجعل من هذا ذريعة كي تشعرها بالذنب مجددا هي لم تبخل أنت من يرفض.
كان كلامه أشبه بصفعة مبطنة غير أن ملامح ماثيو لم تتغير بل ظل واقفا في مكانه يعرف أنه يتكلم باسم طفلة رآها تكبر بين يديه وها هو الآن يحاول أن يصون قلبها من رجل يعرف أنه قادر على حرق مدن بكلمة.
توقع أن يطرده ظافر بعاصفة من الغضب غير أن الأخير اكتفى بأن قال بنبرة وداعة خالية من الانفعال
اطمئن... لن أذكر هذا الموضوع مجددا.
ارتبك ماثيو للحظة لا يصدق أن الوحش قد أخمد مخالبه فجأة وبذلك كان مجبرا على المغادرة بخطوات مترددة تاركا خلفه صمتا يقطعه ثقل الأفكار.
جلس ظافر للحظة شاردا في جمود ذهنه صافي كمرآة نقية لكنه يرى في انعكاسها عناد سيرين إصرارها الذي جعلها ترمي أمامه
ثروة فلكية كي تغلق الباب بينهما نهائيا.
وبعد أن انفرط الصمت استدار نحو ماهر وسأله بصوت ينزف سؤالا أعمق مما يبدو
قل لي يا ماهر... ماذا كنت فاعلا لو غير شخص تحبه رأيه فجأة
أطبقت الحيرة على صدر ماهر الذي تسللت صورة حبيبته إلى ذهنه فأجاب بصدق عار
لو أحبت رجلا آخر... لجعلتها تندم.
ارتسم على ثغر ظافر ابتسامة باهتة فكلمة ندم أضاءت شيئا مظلما في داخله.
رفع يده ليضغط عظمة أنفه ببطء ثم نهض حاسما أمره
هيا بنا إلى المطار.
هتعمل إيه يا ابن شادية
أدرك ماهر أن لا جدوى من محاولات المنع لذا تبعه في صمت مستسلما لتيار يجرفهما معا نحو قدر مجهول.
كانت كوثر قد استراحت يوما كاملا ثم أعدت حقائبها واستجمعت قواها متهيئة للرحيل ورافقتها سيرين حتى المطار تسير بجوارها صامتة وحين لوحت لها كوثر مودعة ابتلعتها الزحام وبقيت سيرين وحدها تواجه خواء اللحظة.
وفي طريق العودة اخترق صمت سيارتها صوت رنين الهاتف وكان اسم كارم يسطع على الشاشة رفعته إلى أذنها
ضاغطة زر الإجابة فجاء صوته متهدجا محملا بالتحذير
سيرين... عليك أن تتحركي من جديد ظافر قادم.
تصلبت أنفاسها في صدرها كأنما جمدها الصقيع إذ ظنت أن أمامها شهورا طويلة قبل أن يعثر على أثرها... لكنها نسيت أن الرجل الذي يطاردها ليس عابرا بل عاصفة تتبع رائحة أنفاسها حتى آخر الأرض.
همست وقد ارتجف قلبها بين أضلاعها
كارم... خذ فاطمة والأطفال أبعدهم عن هنا أولا.
تردد كارم للحظة حائرا بين الغضب والذهول
وأنت! لن ترحلي معهم
أغلقت سيرين عينيها واستنشقت نسيم البحر الذي صفع وجهها ببرودة مريرة وجاء صوتها مثقلا بالتعب مثقوبا بالخذلان
لا أريد أن أظل أركض... هذا العالم واسع يا كارم لكن ما دام ظافر لم يتخل عن مطاردتي فسيجدنا أينما ذهبنا.
طوال سنوات الغربة كانت كمن تحمل مدينة بأكملها على كتفيها كلما حاولت الاستقرار جاء طيفه يهدم كل ما شيدته لقد استنزفها الهروب وأتعبها الاختباء.
أضافت بصوت حاسم كمن يجرد نفسه من آخر خوف
أريد أن أواجهه... أن
أوضح له أن ما بيني وبينه قد انتهى إلى الأبد.
ساد الصمت على الطرف الآخر لثوان بدت أبدية ثم أطلق كارم كلماته كرصاص
سآتي حالا وإن تجرأ على إجبارك فسأجعله يتمنى الموت!
وقبل أن تنبس بشيء كان قد أغلق الخط بعنف تاركا قلبها يضج بارتطاماته العاصفة.
لم يكونوا في المدينة... لم يكونوا على أرض ظافر حيث يستطيع أن يطوع الناس والظلال. هنا ربما سيجد لأول مرة أن قبضته ليست مطلقة وأن القلوب حين ترفضه تصبح عصية حتى على سلطانه.
بعد ساعة من القلق والترقب كانت فاطمة قد حسمت أمرها مع الصغيرين جلست على المقعد الخلفي للسيارة بينما احتضنها نوح وزكريا دون أسئلة فقد اعتادا الترحال كمن ولد ليعيش بلا جذور لكن ملامحهما الصغيرة حملت بصمت ثقلا أكبر من أعمارهم ثقلا صنعه الغياب المتكرر والبيوت التي لا تعمر طويلا بينما عين سيرين لم تفارق فاطمة تخفي خلف ابتسامتها شعورا ينهش قلبها كالذئب
هل تتحمل المرأة المسنة هذا النمط من الهروب
الدائم هل يقوى جسدها الواهن على حياة لا تعرف الاستقرار
اقتربت منها سيرين بحرارة أشبه بالوداع الأخير ومن ثم همست بصوت مرتعش
فاطمة لابد أن الأمر ثقيل عليك.
قهقهت فاطمة بخفة تمسح على شعر سيرين كما كانت تفعل يوما وهي صغيرة
أيتها الغبية أنا شخت نعم لكن لا شيء صعب ما دمت بينكم نحن عائلة والرحيل ليس سوى محطة أخرى نقطعها معا.
تألقت ابتسامة دافئة على شفتي تلك العجوز الرؤوم وهي تصعد إلى السيارة تاركة خلفها قلب سيرين يرتجف كجناح طائر يقاوم ثم تحركت السيارة ببطء وانسحبت من المشهد مثل ظل يتلاشى مع الغروب.
وقفت سيرين في العتبة تراقب ذهابهم حتى غابوا عن ناظرها لتكتشف أن البيت الذي بالكاد اعتاد أنفاسها ليومين صار فجأة أكثر برودة وفراغا من مقبرة الجدران عارية والهواء ثقيل والصمت يخنق المكان كأن الأرواح هجرته إلى الأبد.
حل الليل وتمددت على الأريكة تلف جسدها ببطانية خشنة تستمع
لدقات قلبها تتردد بين الجدران كأنها طبول حرب قادمة حاولت إقناع نفسها أنها بخير لكن الفقد كان ينهشها ببطء
وفجأة!
ارتج البيت بصوت هادر كالرعد.
صرخة باب يقتلع من جذوره ارتطام حديد بالأرض صدى اخترق سكون الليل.
رفعت رأسها بذهول وإذا بالباب يفتح بركلة قدم عنيفة والريح تندفع مع الظلال إلى الداخل.
وهناك وسط إطار الضوء البارد ظهر ظافر
واقفا كطوفان مثقل ملتف بهالة من القسوة والهيمنة عيناه تحترقان كجمر أعيد إشعاله للتو محاطا بصف من الحراس الشخصيين وجوههم قاسية أجسادهم كتلا من الصخر أعينهم حادة كأنهم تماثيل خرجت من باطن الأرض لتحرس سيدها.
ارتجفت البطانية بين أصابع سيرين وأخذ جسدها ينكمش في مقعد الأريكة لكن عينيها ظلتا ثابتتين عليه خليط من الخوف والغضب والحنين المسموم لحظة صارت فيها الجدران أضيق من صدرها والهواء أثقل من رئتيها والوقت نفسه معلقا بين انفجار أو انكسار.
ابتسم
ظافر ابتسامة مائلة كأنها جرح مفتوح
ظننت أنك تستطيعين الهرب مني
كل حرف خرج من فمه كان طلقة تصيبها في مقتل ومع ذلك ظلت واقفة على حافة الإرادة تصارع ارتعاشها الداخلي تحاول أن تخفي دموعها الآسرة.
تقدم خطوة ثم أخرى الأرض تحت قدميه ترتج كأنها تعرف أن عاصفة توشك أن تهدمها.
أما سيرين فقد شعرت أن الليل كله انكمش داخل الغرفة وأنها أمام اختيار حاسم
إما أن تواجهه بقلب الحب والخيانة معا أو تتركه يسحقها تحت وطأة ماضيهما الذي عاد أقسى من أي وقت مضى.
وهنا توقف الزمن.
عيناه في عينيها.
والشرارة الأولى لمواجهة تشبه انفجار شمس في غرفة ضيقة. مواجهة لن تترك أحدهما كما كان.
ما تتغابش يستر عرضك البت مش ناقصة.