رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والثاني والستون 262 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والثاني والستون

تسارعت دقات قلب ظافر كطبول حرب تقرع في صدره حتى بدا وكأنها على وشك أن تخترق ضلوعه غير أن صوت ماهر جاءه كالخنجر البارد يغرس في عمق صدره يقتلع ما تبقى من أوهام معلقة
سيدي لا يربطك بالطفل أي خيط دم.
ترددت الكلمات داخله مرارا كصدى جليدي في واد مهجور.
لا روابط دم
لا شيء يمتد بينه وبين ذاك الجسد الصغير سوى الوهم
حينها فقط انكشفت أمامه الحقيقة العارية لم تكذب سيرين طفلهما مات قبل أن يرى النور. ونوح وزكريا لم يكونا ابنيه أبدا. كانا لها ولكارم!
قبض ظافر على يده حتى ابيضت مفاصله وارتجف صدره كمن ابتلع جمرة مشتعلة.
ارتفعت الحرارة إلى حلقه لكن صوته خرج خافتا منكسرا
فهمت.
ثم أغلق الهاتف ببطء كمن يغلق تابوتا على قلبه.
حل صمت ثقيل في السيارة حتى خيل إليه أن الهواء نفسه قد تجمد وانخفضت الحرارة من حوله فجأة لتتسلل البرودة إلى عروقه ومن ثم خفض بصره إلى

يده حيث لا تزال آثار أسنانها مطبوعة على جلده كندبة ساخرة تنزف ذكرى. تصلبت ملامحه وامتلأت عيناه بحمم قاتلة بعدما أدرك كم كان ساذجا كم كان مغفلا وهو يسقط في فخ الحنين معتقدا أن سيرين منحته ما سلب من وبصوت لا يقبل الاعتراض أمر السائق
لم يشأ ظافر العودة إلى البيت الجديد الذي أحاطه بأوهام القرب منها إذ كان بحاجة إلى مكان يبتلع فيه مرارته يسكب قلبه في كؤوس مرة عله يجد في العتمة ملاذا من جرح ينزف دون توقف.
كانت سيرين عائدة إلى بيتها كمن يخطو بين ضباب غامض لا تزال ذهولاتها عالقة في حدقة عينيها كأن قلبها لم يغادر بعد ساحة الخطر.
تلمست جدار البيت بيد مرتعشة تحاول أن تقنع نفسها أنها في أمان قبل أن يهز صمت اللحظة رنين الهاتف.
ارتجف قلبها حين ظهر الاسم على الشاشة
فاطمة وبمجرد أن أجابت حتى انبثق من الشاشة صوتان طفوليان نقيان يتسابقان بنداء واحد
أمي!
أمي!
وامتدت
الصورة لتتفتح كزهرة على وجهي طفلين عيونهما تشع بالبراءة كنافذة على فردوس مفقود.
التفتت سيرين بخوف خلفها كمن تتأكد أن الأشباح لم تلحق بها وحين اطمأنت أن ظافر لم يتبعها أطلقت تنهيدة خفية وأجابت بارتباك حاولت إخفاءه خلف ابتسامة متماسكة
زاك... نوح!
جاهدت سيرين كي يبدو صوتها طبيعيا تخفي ارتجاف الأرض تحت قدميها.
اقترب نوح من الشاشة بعينين واسعتين دافئتين
أمي... متى ستعودين
راودتها رغبة أن تلقي بجسدها عبر الأثير وتحتضنهما حتى تذوب لكنها كبحت دموعها وابتسمت ابتسامة محمولة على الوعد
انتظرا قليلا... سأعود قريبا.
قال نوح بشغف طفولي يحفر في صدرها جرحا
أمي... أنا وزاك نفتقدك كثيرا.
تكسرت الكلمات في قلبها كأمواج هائجة لكنها تماسكت لتجيب بصوت مشبع بحنين موجوع
وأنا... أفتقدكما أكثر مما تتصوران.
تقدم زكريا هذه المرة بنظرات تحمل ثقل الحكمة رغم صغر سنه وقال بجدية
لافتة
أمي... لا تنسي شرب الحليب الليلة ولا تنسي الفيتامينات.
ارتسم على ثغر سيرين ابتسامة ممزوجة بين دمعة وامتنان وأومأت برأسها
فهمت ذلك... لن أنسى.
كان في داخلها يقين أنهما بضحكاتهما ومشاكستهما وبراءتهما هما السور الذي يحميها من انهيار نفسها إذ كانت تستمد منهما قوتها لكنها كانت تعرف أن الأقدار لا ترحم وأن قرارها بتربية أولادها بمفردها يعني أن تصبح قلعة لا تهزم لذلك همست في سرها بعهد جديد
ستتعلم الدفاع عن نفسها وستمتلك سلاحا يردع كل من يقترب من حمى قلبها.
وبعد أن أسدلت الستار على المكالمة أرخت جسدها المثقل فوق السرير  تبحث عن لحظة من الراحة الموعودة.
في الجهة الأخرى كانت فاطمة تجهز الصغيرين للنوم تغطي جسديهما الصغيرين بالبطاطين الناعمة وتغرس في أذهانهما الطمأنينة ولم تنس أن تذكرهما بموعد الطبيب غدا فنوح يحتاج رعاية لا تحتمل تأجيلا وبدورها
تخوض حربا صغيرة بصبر عظيم.
أغمض الطفلان جفونهما متصنعين النوم حتى إذا ما ابتعدت فاطمة وأغلقت الباب خلفها انبثقت من بين أنفاسهما همسات خافتة كطيور تتهامس في عشها ليلا.
قال زكريا بصوت حذر عينيه تلمعان في الظلام كأنهما تترقبان شبحا
نوح... لم تترك أي أثر خلفك حين غادرت قصر الغابة أليس كذلك
ارتسمت على شفتي نوح ابتسامة واثقة كابتسامة لاعب يخفي ورقته الرابحة
بالتأكيد لا... لقد استبدلت كل شيء حتى فرشاة أسناني وشعري.
كان قد تخلص نوح من فرشاته وخدع الخادمة بأن طلب استخدام فرشاة طفلها وتركها دون استعمال في حمام الغرفة وهكذا حين طلب ظافر إجراء فحص الحمض النووي لم يجد العلماء خيطا يربط بينه وبين نوح لقد نفذها نوح يومها كحيلة احتياطية لكنه لم يتوقع قط أن تنقذه من فخ محكم.
أومأ
زكريا بخفوت وقد ارتسمت على ملامحه ظلال تفكير عميق
حسنا...
لكن نوح لم يترك شقيقه يغرق في صمته بل أردف بنبرة فيها عتاب مشوب بقلق
زاك... أظن أنك تحتاج إلى مزيد من الحذر. كاد أن يقبض عليك في المرة الأخيرة حين سرقت المال من ذلك الرجل.
ارتعشت أنفاس زكريا ثم تنفس ببطء وهو يتقلب على جانبه
لم أكن أتصور أنه قادر على ملاحقتي بتلك السرعة...
تمتم نوح بنبرة مشوبة بثقل الإدراك
لو لم نعد مع أمي هذه المرة لربما كان ألقى التهمة عليها.
ساد صمت قصير صمتا مشبعا بخوف دفين حتى أن زكريا ذلك الذي يتظاهر دوما بالشجاعة لم يستطع إخفاء الارتجافة التي زلت في صوته
حسنا... لننم الآن.
لكن النوم لم يقبل على نوح إذ كانت عظامه تؤلمه كأن الليل يقرصه من الداخل ففتح عينيه
إلى السقف المعتم وهمس بجملة معلقة بين الغضب والعزم
زاك... هل سنترك هذا الظافر يرحل بلا عقاب
ابتسم زكريا ابتسامة ماكرة كسيف يسحب من غمده في هدوء
لا تقلق... قبل أن نغادر زرعت فيروسا صغيرا في نظام شركتهم.
اشتعلت عينا نوح بالفرح كأن شعلة أضرمت فيهما
رائع... أحسنت يا زاك!
وهكذا في غرفة غارقة في سكون الليل كان قلبا طفلين يحاكمان العالم على طريقتهما يحولان خوفهما إلى خطة ووجعهما إلى انتقام مؤجل.
كان ظافر غارقا كمن يحاول إطفاء حريق يتأجج في داخله غير مدرك أن هناك نارا أخرى تزرع بصمت في عقر شركته فكيف له أن يتخيل أن الأطفال الذين يراهم دوما مجرد ظلال بريئة قادرون على صناعة عاصفة لا يتخيلها عقل.
وفي الوقت ذاته بعيدا عن ضجيج كؤوسه ورائحة التبغ
العالقة في جوفه كان المقر الرئيسي لمجموعة نصران يستيقظ على فوضى غير مسبوقة فمع شروق شمس اليوم التالي بدأت الشاشات العملاقة في قاعة المراقبة ترقص على إيقاع عطب غامض إذ أضاءت الشاشات ثم أطفئت كعيون مبهورة بضوء خاطف تعرض صورا مشوهة تومض بلا نظام وكأنها أطياف عالقة بين يقظة وكابوس صور باهتة محورة بيد هاوية تتكرر بلا نهاية على الجدران الزجاجية كأنها انعكاسات أرواح ضلت طريقها وقررت السخرية من النظام كله.
أخذ الموظفون يحدقون في الفوضى بذهول أحدهم يصفع لوحة المفاتيح وآخر يعبث بأزرار لا تستجيب فيما بدا المكان كله كأنه مسرح تتلاعب به قوة خفية كان الخراب قد بدأ يتسرب إلى أنظمة الشركة مثل دودة صغيرة تخترق ثمرة ناضجة بينما ظافر ما يزال يظن أن
العالم يسير كما يشتهي.


تعليقات