رواية مع وقف التنفيذ الفصل السادس والعشرون 26 بقلم دعاء عبدالرحمن


رواية مع وقف التنفيذ الفصل السادس والعشرون  بقلم دعاء عبدالرحمن 


عالم السجون ... إنه عالم اختلفت فيه المعايير وتغيرت المقاييس - لم يعد السجن هو مصير المجرمين والسفاحين فقط, بل أصبح السجن مصير المتدينين وأصحاب الرأى أيضا وكل حر يأبى أن يضع رأسه في التراب ويدفتها بين حيات الرمل.

دفع ثلاثتهم بقوة داخل العنبر وأغلق الباب الحديدي خلفهم ليصدر صريراً مزعجاً أيقظ على أثره التيام داخل العنبر .... وقف ثلاثتهم ينظرون إلى بعضهم البعض وأعينهم تفيض بسؤال واحد فقط .. وماذا بعد .... وقعت أعينهم على رجل ملتحف ببطانية سوداء في أحد الاركان على أرض العنبر فاقترب بلال منه بقلب مقبوض وكأنه يشعر لماذا هذا الجسد قد شجي هكذا وقبل أن بلمسه, هتف أحد الرجال الآخرين من زملاء العنبر :

- سيبووا رو میت

أصابتهم غصة في حلوقهم وهم يتبادلون النظرات ... أنحنى بلال لينظر في وجهه فوجد ما كان يعتقده ... شاب صغير في السن له لحية صغيرة واضح عليه اثار التعذيب بشدة، أغمض بلال

عينيه بألم وهو يقول :

إنا لله وإنا إليه راجعون

غادر أربعة مسئولين سرائرهم واقتربوا منهم متسائلين :

انتوا جايين في ايه.. مفيش مظاهرات الأيام دي....

قال الرجل الآخر :

بس حظكوا حلو والله انكوا جايين في الوقت ده.. لو كنتوا جيتوا الصبح كنتوا حضرتوا

حفلة الاستقبال

عقد فارس بين حاجبيه وقال :

- حفلة استقبال أيه

قال الرجل :

حفلة الاستقبال دي يا سيدى بيستقبلوا بيها كل عربية ترحيلات بتوصل السجن بالكلاب

البوليسية وانت وحظك .. وبعد ما تنزل وانت بتجرى من الكلاب قبل ما تتعض يستقبلوك العساكر بالعصابة الكهربا والكرابيج ساعة ساعتين لحد ما كله يقع على الارض ويستسلم للضرب

.. بعدها بقى يوزعوهم على العنابر ... دى بقى حفلة الاستقبال

اوما بلال براسه وهو يربط على كتفهم مطمئنا ونظر لهم نظرات مطمئنة أنهم قد عبروا تلك المرحلة بأمان فمن الواضح أن صديق فارس كان يعلم هذا أيضا لذلك أمر يترحيلهم في هذا الوقت من الليل ... شعر فارس بغصة في قلبة وهو يرى بلاده لأول مرة بصورة حقيقية غير التي كان براها في الخارج .. في خارج ذلك العالم .. عالم السجون والمعتقلات .. أخذهم زملاء العنبر إلى أفرشتهم كل واحد منهم على سرير صغير عليه بطانية خشنة ...

جلس عمرو على طرف فراشه مشدوها لما رأى في تلك الأيام أولا في أمن الدولة وثانيا هنا في

السجن ... وقال بغضب وعصبية موجها كلامه الفارس :

وبعدين يا فارس هنفضل كده لحد امتى حتى متعرفش تهمتنا ايه

جلس أحد الرجال على السرير بجواره قائلا:

لا لازم تهدى وعلى صوتك اللى بيعلى صوته هنا بيتسحب على عنبر التأديب

التفت عمرو إليه وحدق به قائلا :

ايه عنبر التأديب ده كمان

أبتسم الرجل وقال :

اه معلش كان المفروض أشرحتكم من الأول ... النظام هنا .... السجن متقسم كذا عنبر .. عنبر التأديب وده متقسم زنازين صغيره مترين في مترين وده بيبقى انفرادی ... وعنبر الجناني ودول بقى تجار المخدرات وقتالين القتلة وغيرهم وعنبر التخابر وده بقى مخصص للجواسيس وده بقى انضف عنبر هو وعتبر القضاة وأفراد الشرطة اللي ييجى هذا متهم في قضية رشوة ولا فساد والمعاملة فيهم معاملة خمس نجوم .....

وهنا يقى العنبر السياسي وده كل اللى بيقول رايه في البلد دى ومعظمه مشايخ في ما أنت

شايف ... ابتسم بلال وهو يومىء برأسه

وقال :

ونسيت عنبر الاخوان

ضحك الرجل يصوت خفيض وقال لـ بلال :

اظاهر انك جيت هنا قبل كده با شیخ

قال بلال بجمود :

جيت مرة واحدة بس عرفت كثير

كنم عمرو غضبه وقال :

برضه محدش جاوبني هنفضل كثير ومن غير ما تعرف تهمتنا ايه ؟

ريت الرجل على كتفه قائلا :

طالما محدش حقق معاكوا يبقى مفيش تهمة وبما انكوا جايين دلوقتي يبقى انتوا مش

معتقلين رسمي

قال فارس باقتضاب :

- يعنى ايه مش رسمي

تكفل بلال بالرد عليه قائلا :

يعنى زي ما صاحبك قالك .. متوصى علينا

اقترب عمرو من فراش بلال وجلس على طرفه قائلا :

مين اللى هيوصى علينا يتعمل فينا كده مين

قال بلال وهو ينظر أمامه بشرود :

مش عارف يا عمرو بس الموضوع ده شكله طول ولازم تهدى علشان تعرف تکر...

قال كلمته الأخيرة تم نهض قائلا:

تعالوا تصلى على الأخ اللي مات ده

قال الرجل الذي يحدثهم :

هيجوا يخدوا جنته الفجر مع انهم عارفين أن في واحد ميت هنا من بعد العشاء

میرسی یا فندم ....

نطقت دنيا بهذه العبارة وهي تتناول الشيك من والدهاني المتهم في قضية القتل

وبرقت عينيها وهي تنظر للمبلغ المدون فيه وقالت بابتسامة :

حضرتك أطمن خالص أينك هيبقي في حضنك قريب جدا

قال الرجل بلهفة :

يارب يا أستاذة ربنا يسمع منك ....

ثم قال بتساؤل :

هو الدكتور فارس مجاش النهاردة ولا ايه

قالت بتمسالت

الدكتور فارس مش بيجي كل يوم.. ولما بيكون مش موجود انا يبقى مكانة

أوما الرجل برأسه متفهماً وقال :

المهم عندى أنه هو اللى يشتغل القضية بنفسه

رفعت حاجبيها بدهشة مصطنعة وهي تقول :

طبعا يا فندم القضايا اللى زى دى الدكتور فارس هو اللى بيكتب فيها المذكرات وهو اللي

بيترافع .. واحنا بس ينعمل الشغل الارى والمالي بتاعها علشان كده طلبت من حضرتك تكتب

بعد قليل انصرف الرجل ودخل خلفه وائل مسرعا وقال بعينين لامعتين :

أراكي الشيك

ابتسمت بثقة وهي ترفع الشيك أمام عينيه ثم وضعته في حقيبتها قائلة بقلق :

أهي الفلوس بقت معانا والراجل جاب الاتعاب كلها مش نصها زي ما كنا فاکرین عاوز ابنه بای

طريقة .. يارب بقى باسم يخلصا من القضية دى بسرعة بقى انا قلقانة أوى

قال وائل مشجعاً :

- متقلقيش يا استاذة.. أنت قدها وقدود والأستاذ باسم خلاص ظبط الناس مش ناقص غير

الفلوس علشان ينفذوا

ربتت على حقيبتها وهي تقول :

وأهى الفلوس .. يلا بقى كلمه وخليه يخلصنا

تحدث وائل هاتفياً مع باسم وأخبره أن المال قد أصبح بحوزت دنيا .. مد وائل يده بالهاتف إلى

دنيا قائلا:

الأستاذ عاوز يكلمك

تناولت الهاتف وقالت بتعالى :

أبوا

ابتسم باسم عندما لاحظ نبرة صوتها المتعالية وقال بسخرية :

طب حتى استنى لما تصرفى الشيك وبعدين ابقى اتغرى براحتك

مطت شفتيها بضيق وقالت :

- خير يا استاذ باسم

بكرة هنروح تصرف الشيك سوا وتطلع على طول على سكرتير النيابة نكيشه وتخلص معاه

قالت باقتضاب :

وبعدين تقعد مع بعض وتقسم الاتعاب علينا في ما اتفقنا ماشي ...

بس منقعد في مكان عام مش عندك في المكتب

أيه موحشتكيش ولا ايه

أطلق ضحكة عالية أشعرتها بالاشمئزاز وقال يخبث :

اتسعت عينيها وشعرت أنها ستتقيا عندما ذكرها بما حدث سابقاً .. أغلقت الهاتف في وجهه وهي تنعم :

وقف صلاح ينظر إلى إلهام التي كانت تتحدث في الهاتف بلهفة وهي تقول المحدثها :

طبعا يا باشا من رجالتنا ومينفعش نسيبه كده ... دى حتى تبقى وحشه في حقنا وبعدين اللي

موصى عليه ده مش أكبر من معاليك

صمتت بعض الوقت تستمع إليه ثم قالت بثقة :

- يا فندم أرهاب أيه.. بقول لمعاليك من رجالتنا

صمت قليلا ثم قالت وهي تنقر على سطح مكتبها بأطراف أصابعها بعصبية :

ماشی يا فندم اللي تشوفه .. ساعتك المهم بس ميطولش كثير

أغلقت الهاتف وزادت عصبية نقرها على المكتب فقال صلاح متلهفاً:

ها یا بشمهندسة ايه الاخبار

ضربت المكتب بقبضتها وهي تقول بضيق :

لو كان لوحده كان طلعه بسهولة... المشكلة في الاثنين اللي معاه.. علشان كده بيقولي

الموضوع هياخد وقت

قال صلاح بحزن :

يعنى الولد المسكين ده هيفضل مرمى كده من غير ذلب

قالت بعصبية :

مش قادره اعمل اكثر من كده يا صلاح .. أنا وصلت لأعلى المستويات كل اللي وعدوني بيه أن

محدش هيقربله وهيفضل هناك معزز مكرم لحد ما يطلع ...

خبطت سطح مكتبها مرة أخرى حتى المتها قبضتها ففركتها بغيظ وضيق وهي

تقول :

لو كان لوحده كنت عرفت اطلعه النهاردة.. المشكله في الاثنين اللي مربين دقنهم اللي معاه

دول ... أنا عارفة أيه الأشكال اللي بيعرفها ديا

فتح باب العنبر مرة أخرى فتعلقت أبصار الجميع به ... دخل الشاويش المسئول عن العنبر وتقدم

باتجاه عمرو وفارس وبلال وأشار إليهم بحزم وقسوة قائلا:

تعالوا معايا انتوا الثلاثة

نظر ثلاثتهم إلى بعضهم البعض بتساؤل فصرح بهم بصوت كريه مرة أخرى :

- بقول قوم انت وهو

نهض ثلاثتهم وهم ينظرون إليه بحنق وتعلقت به ابصار شركائهم في العنبر وهم ينظرون إليهم

بشفقة .. سار ثلاثتهم خلقه وبعد أن أغلق العنبر أمرهم أن يسيروا خلفه . ساروا قليلاً حتى

توقف بهم أمام أحد الزنازين وشرع في فتح بابها وهو يقول متبرما :

حظكوا من السما .....

فتح الزنزانة ثم دفعهم داخلها بقسوة مرة أخرى وأغلقها خلفهم كانت الزنزانة أقل عددا من العنبر الآخر بكثير.. كانت تبدو أكثر آدمية من التي قبلها ... والفرش والأغطية كانت تبدو أكثر راحة من العنبر الأول نوعاً ما .... نظر زملائهم إليهم متسائلين كما يفعل مع كل معتقل جديد .

فالقي بلال السلام ... فأجابه البعض بخفوت

ألقى ثلاثتهم أجسادهم على فرسهم بإنهاك شديد ولأول مرة تذوق عيونهم طعم النوم منذ اعتقالهم .....

بعد ساعة استيقظ بلال على هزات خفيفة ... أنتيه من نومه دفعة واحدة بالفعال فريت الرجل

الذي كان يوقظه على صدره يهدله وهو يقول :

أهدى يا أخي انا بصحبك علشان تلحق الصلاة متخافش

نهض بلال وهو يشعر أن عظامه مختلطة ببعضها البعض في ألم شديد .. توجه إلى فارس وعمرو وأوقظهما بنفس الهزات الخفيفة فاستيقظوا بنفس الانتباه المفاجيء واتساع حدقاتهما بانفعال

شدید فطمتنهم وهو يقول :

يلا قوموا علشان تلحق الصلاة

زفر عمرو بقوة وهو يقول :

يا أخي حرام عليك ده انا مصدقت بغمضلی جفن

توجه فارس إليه وهو يمسك بيده لينهضه رغما عنه قائلا :

قوم صلی یا عمرو .. الله أعلم احدا أعمارنا هتخلص أمتي هنا

وقف يلال بعد أن توضأ ليصلى بهم ولكن الرجل الذي أيقظه اقترب منه وقال محذرا :

كل واحد يصلى لوحده يا دكتور .. صلاة الجماعة ممنوعة هنا

أو ما بلال برأسه وقد تذكر .. فألتف إليه فارس قائلاً :

ويمنعوا صلاة الجماع ليه

ضرب عمر و كفا بكف وهو يقول :

هو أحنا في غوانتانمو ولا ايه

انتهى الثلاثة من صلاتهم تباعاً واحداً تلو الآخر.. مر يومان والحال هكذا لم يتغير ...

كانت بواية الزنزانة تغلق عليهم في تمام الخامسة والنصر مساءا وكذا يكون أنتهى اليوم داخل السجن فيبدأ بلال في أعطائهم بعض التمرينات الرياضية التي تقوى عظامهم لتستطيع تحمل خشن العيش داخل السجن، وليستطيع مقاومة الرطوبة المنتشرة في كل مكان فيه ... كان

الجميع يستجيب له إلا واحداً، لاحظ بلال أنه يرمقهم بنظرات غاضبة

وكارهة لهم, يظهر ذلك في عينيه جليا كلما التفت اليهم على مدار يومين كاملين، ولأول مرة يتدخل هذا الرجل بالحديث عندما رأى فارس ينهض من فراشه ويجلس على طرف فراس يلال

وهو يقول بقلق :

مفيش اى وسيلة هنا تطمن الناس اللى برا علينا ... زمانهم دايخين علينا في كل جانه دلوقتي ومش لاقين لنا اثر ...

فقال هذا الرجل هاتفاً :

والله أهلكوا زمانهم مستريحين منكوا ومن التشدد بتاعكوا

التقت إليه فارس بغضب بينما ربت بلال على ذراعه حتى لا يرد عليه بغضب فصمت فارس وترك المجال لـ بلال بالرد

فقال له بابتسامة :

هو في أهل في الدنيا يبقوا مستريحين وولادهم في السجن

ترك زملائهم في الزنزانة ما كانوا منشغلين به وبدأوا في متابعة الحوار ظنا منهم أنه سينتهي

بمعركة تكون نهايتها زنزانة تأديب منفردة لكل منهما.... نظر له الرجل يحتق قائلاً : لا طبعا بس اللى زيكوا أهلهم هيستريحوا منهم ... تلاقى كل واحد فيكم عنده اخت بيجرجرها

من شعرها وينزل فيها ضرب لو شافها بتسمع أغانى ولا بتتفرج على فيلم

اخر عبارة نطقها جعلت فارس وبلال ينظران إلى بعضهما البعض ويبتسمان رغماً عنهما ... مال فارس للأمام وهو يقول له :

حضرتك العنوان غلط ... اللى بيعملوا كده الممثلين اللى بيطلعوا في التلفزيون متى أحنا نظر له الرجل بتهكم وقال :

الممثلين دول بيمثلوا حياتكم واللي يتعملوه في أهلكوا بسبب الشددكوا في الدين

تدخل بلال قائلا:

ممكن اسأل حضرتك سؤال ... مش زمان كنا بنسمع أن الممثل علشان يندمج في الدور بتاعه لازم يروح يعيش في وسط الناس اللى هيمثل دورهم في المسلسل

یعنی مثلا كنا زمان تسمع ان واحد راح دخل السجن علشان يعرف يمثل حال المساجين صح ولا لاء

أوما الرجل برأسه قائلا:

أن طبعا سمعنا كده كتير

ابتسم بلال ثم قال :

طيب هل الممثل اللي بيمثل دور الملتزم ده بيروح يعيش مع الملتزمين في بيوتهم وبيشوفهم

بيعاملوا أهاليهم أزاى واخوتهم وزوجاتهم

قال الرجل ساخرا:

هیروح ازای یا شيخ يعيش معاهم في بيوتهم هو طبعا بيتصور حياتكوا مع اهاليكوا

رفع بلال حاجبيه وقال بهدوء :

طيب مش ببقى ده ظلم انه يحكم علينا اننا بتضرب اخواتنا وزوجاتنا وهو عمره ما عاش وسطنا وتجرجرهم من شعرهم كمان علشان بيسمعوا أغاني ويطلع يمثل كده في التلفزيون.

ويخلي الناس تصدق عننا كده وتخاف مننا واحنا مش بتعمل كده أصلا

تدخل زميلاً آخر لهم وقال :

والله أنت معاك حق يا شيخ ده أنا ليا جار زيك كده لما مراته بتقعد مع مراتي يرغوا مع بعض

شوية بترجع مراتى تقولى انت مش رومانسي ليه زي جارنا الشيخ

قال الرجل الاول معترضاً :

- والله بقى أحنا خدنا عنكوا الفكرة دى بسبب التشدد اللي انتوا فيه

وكل حاجة حرام حرام حرام ... حرمتوا علينا عيشيتنا

انكا بلال على أحدى جانبيه وقال :

طب ممكن اسألك سؤال كمان ومعلش تعالى على نفسك وجاوبني

قال الرجل يمثل :

- اتفضل

قال بلال بجدية :

حضرتك عندك سخان غاز ولا كهرباء

سخان غاز أو سيد ليد

نظر له الرجل بدهشة وقال متهكماً :

ابتسم بلال قائلاً :

ممتاز ... فاكر حضرتك أول مرة ركبته فيها

فاكر

اعتدل بلال في جلسته و قال باهتمام

يا ترى شغلته لوحدك

زاد الرجل مثلا وهو يجيب قائلاً :

لاء طبعا صاحب المحل قالي معاه كتالوج ولازم أمشى على الخطوات اللي فيه بالظبط

قصد بلال ان يقول ببرود:

وسمعت كلامه ليه

هتف الرجل بعصبية :

یعنی ايه سمعت كلامه ليه مش هما اللى عاملينه وأدرى بيه

عقد بلال بين حاجبيه وقال :

صاحب المحل اللي اشتريت منه السخان متشدد زينا

صوب الجميع نظرة لبلال الذي كان يتحدث باريحية وسلاسة في الحديث والغلاف الذي كان يميز حديثه هو المنطق والهدوء .... وخصيصا عندما ظهرت علامات الدهشة على وجه الرجل

وقال بحيرة :

مش فاهم

عقد بلال ذراعيه بهدوء وهو يقول :

یعنی ربنا سبحانه وتعالى هو اللي خلقنا وهو اللى قالنا عن طريق رسولنا محمد صلى الله عليه

وسلم أن ده حرام وده حلال سواء في القرآن أو في السنة ....

يعنى القرآن والسنة دول ومن بعديهم اقوال السلف الصالح هما الكتالوج يتاعنا

علشان كده لما أنا أقرا في الكتالوج ده و أعرف أن ده حرام واقولك عليه مينفعش حضرتك

تقول عليا متشدد لاني كل اللى عليا أني بنقل لحضرتك كلام ربنا وأوامره ونواهيه مش أكثر من

كده يبقى انا متشدد ليه بقى

أطرق الرجل مفكراً وسادت همهمة بسيطة خافتة بين شركاتهم في الزنزانة معجبين بحديث

بلال بينما ابتسم فارس وهو ينظر لبلال بإعجاب شديد...

فاروق بلال قائلا:

وزى ما حضرتك متأكد أن المصنع اللي صنع السخان وعمل الكتالوج وحط فيه ضوابط

للتشغيل هو أدرى بالسخان وباللي ينفعله واللى مينفعلوش

واللي يبوظه واللی میبوطوش يبقى برضة لازم حضرتك تبقى متأكد أن الحرام والحلال دول

مش علشان يضايقوا حضرتك لام ده علشان ربنا سبحانه وتعالى هو اللي خلقنا وهو أدرى بينا وبقلوبنا وايه اللي يخلينا عباد الله المؤمنين وايه اللي يخلي قلوبنا فاسدة وعياذ بالله .

فتحت عبير باب شقتها لعزة التي دخلت مسرعة وقالت بليغة :

عبير عرفنا مكانهم يا عبير

اتسعت عيناها وتشبئت بملابسها وهي تقول بلهفة أكبر :

بالله عليكي يا عزة عرفتوا مكانهم.. طب هما فين وعاملين ايه و عرفتوا ازاى ؟

جاءت ام بلال على صوت عبير الملهوف وتعلق بصرها بعزة وهي تنقل بصرها بينهما

وتقول :

الأستاذ صلاح اللي عمرو كان شغال عندهم في الشركة كان به سأل على عمرو من يومين كده .. ولما عرف اللي حصل قالي أنهم هيحاولوا يعرفوا طريقهم ... واتصل بيا النهاردة من شوية وبلغني أنهم عرفوا انهم موجودين في سجن طره وانهم كويسين أوى وبيتعاملوا كويس أوى ومفيش تهمة معينة متوجها لهم وهيخرجوا قريب ان شاء الله

وضعت أم بلال يدها على صدرها وهي تقول :

- الحمد لله

هوت عبير إلى الأرض ساجدة تبكي وتدعوا وهي تشعر أن قلبها لم يعد ينبض منذ أن غادرها في ذلك اليوم المشنوم ولكنها بدأت تطمئن شيئا قليلاً بعد هذه الأخبار وأخذت تدعوا الله أن يرده

اليها ردا جميلاً وأن يحفظه.

عانقت أم فارس شهرة وهما يبكيان من الفرحة لمجرد أن علموا أنه بخير ولم يصبه مكروه مما كانوا يسمعوا عما يحدث للمعتقلين من قبل .... ابتعدت شهرة قليلاً وهي ممسكة بيد أم فارس

وقالت بهيستيرية :

لازم تعمل المستحيل ونروح نشوفه يا ماما

أبتسمت أم فارس وهي تستمع لتلك الكلمة من فمها لأول مرة وقالت :

الزيارة دى متنفع ولا لاء وهنعملها ازاى ....

يابني الحمد لله اننا عرفنا مكانه وانه بخير هو وصحابه الحمد لله ... مش عارفة بقى حكاية

صمتت قليلاً ثم قالت :

انا متصل به دنيا علشان ابلغها الأخبار الحلوة دى ... وأكيد هي مش هتسكت و متحاول تروحله

وساعتها تبقى تاخدنا معاها .....

هرولت مهرة إلى الهاتف وهي تقول بلهفة :

طب يا ماما كلميها دلوقتي مش لازم نضيع وقت

أخذت أم فارس الهاتف وقصت عليها ما حدث مما جعل دنيا تبتلع ريقها بصعوبة واستشعرت

الخوف من احتمالية خروج فارس بهذه السرعة فالقضية ما زال أمامها شهرين على الأقل قبل

النطق بالحكم سمعت أم فارس وهي تقطع عليها أفكارها فقالت :

ابوا معاكي ... طيب انا هشوف الحكاية دى وابلغك بالتطورات قريب أوى ان شاء الله.. أنا

مقفل دلوقتي علشان معايا شغل مهم .

أغلقت أم فارس الهاتف وهي تنظر له مندهشة وتقول متعجبة:

- غربية أوى ... كنت فكراها هتطير من الفرحة مش عارفة كلمتنى كده ليه أنا قلبي مش مطمن

قالت مهرة بسرعة :

خلاص يا ماما متزعليش نفسك انا هحاول مع علاء ثاني

نظرت لها أم فارس غير راضية وقالت باستنكار :

لالاء مش عاوزين منه حاجة.. مش ​​محترف اللي عملوا فيكي قبل كده هترجعی تتذلیلوا ثانية

نظرت أمامها بشرود وهي تقول بخفوت :

زی بعضه ثاني وتالت كله فداهم

وضعت أم يحيى أكواب الشاي أمام علاء ومهرة وهي تقول برجاء:

- معلش يا علاء علشان خاطرى انا حاول

هر علاء رأسه نفياً وهو ينظر إلى عينيي شهرة الراجية ويقول :

- كله إلا سمعتى .. مقدرش .. أنا نجم ولو شمعتي حصلها خدش واحد موهبتی مش متنفعني

نظر له يحيى بإزدراء, لأول مرة يراه على حقيقته زال الأنبهار الذي كان يشعر به تجاهه وقال

بلفور :

كل ده ميجيش حاجة قدام حياة ثلاثة كنا بتعتبرهم مثلنا الأعلى

نظر له علاء متهكماً وقال بسخرية :

مثلك الاعلى أنت مش أنا

شعرت مهرة ببغض شديد تجاهه وهي تتبادل النظرات المعاتية مع والدتها وهي تقول موجهة

الحديث إليه :

والدكتور بلال ميخصكش هو كمان مش ده كان ليه فضل عليك بعد ربنا

وضع علاء كوب الشاي بعصبية وقال :

كده مكنتش جيت من أساسه ....

أنا أول مرة اعرف أن لما راجل يروح يزور مراته تقعد تكلمه على رجالة تانين أنا لو كنت اعرف

هب واقفاً وانصرف بعصبية .. كان يشعر بوخز الضمير تجاه بلال ولكن كرهه الفارس جعله.

معلش با مهرة متزعليش نفسك

نظرت لوالدتها مرة أخرى وهي تقول :

انا مش زعلانه منه .. أنا زعلانة عليه .. اللى زى ده بيفضل طول عمره عايش لنفسها وبس

علشان كده اما عمره هيخلص محدش حتى هيفتكر يترحم عليه.

مر شهرا كاملاً ثلاثون يوماً حتى تكونت صداقة بين أبطالنا الثلاث وزمّلهم في الزنزانة

حتى جاء ذلك اليوم الذي فتحت فيه بوابة زنزانتهم الحديدية معلنة عن قدوم أحد ما ... دخل

الشويش المسؤل عنهم وبصوته الغليظ أشار لـ عمرو قائلاً :

يالا علشان هتخرج يا عمرو

هب عمرو واقفاً غير مصدق لما سمع ونظر إلى بلال وفارس وقال :

طب وهما

صرح الشاويش فيه بنبرة قاسية :

بالا ياخويا .. في رحلة ؟ .. انت بس اللى هتخرج

نهض فارس وبلال عائقاه بحرارة وقد دمعت عينيه وهو يقول :

مش هسيبكوا وامشي

أبتسم فارس وهو يدفعه في كتفه قائلًا:

بالا يابني هتعملى فيها بطل ولا أيه.. ده احنا مصدقنا حد يطلع يطمنهم علينا.. يالا ...

أمسكه بلال من كتفه قائلاً بعينين دامعتين:

على مراتك تروح لمراتي وتطمنها عليا

ثم ابتسم وهو يردف قائلًا:

وعلشان تصدق اني انا اللى باعتلها الرسالة الشفوية.. دي خاليها تقولها .. بلال بيقولك انت

وحشتيني أوى وبضمير...

أوما عمرو وقد حفظ رسالة بلال ونظر الفارس الذي اختار ماذا يقول ما هي الرسالة التي يرسلها

لأهله فقال:

وأنا كمان روح البيت عندنا وطمنهم كلهم ​​عليا... وقولهم ان شاء الله اننا هنخرج احنا كمان

تقدم الشاويش وجذب عمرو من ذراعه بقسوة وهو يصيح به:

والا ياخويا بدل ما خاليك تكمل معاهم هنا

خرج عمرو ينظر إلى الطريق غير مصدق أنه مازال على قيد الحياة حتى هذه اللحظة نظر خلفه وكانه يرى أصدقاء محتله قابعون في زنزانتهم يودعونه بنظراتهم الدامعة .. أخذ شهيقاً كبيراً ليملا صدره بالهواء النقى خارج حدود أسوار السجون. بما فيها من رائحة الرطوبة العفنة وأصوات المعذبين واتجه إلى أول سيارة أجرة قابلته .. لم يسال عن وجهتها كل ما كان يريده هو

غادر عمر وسريعاً وهو يتذكر تلك الليلة. التي دخل عليهم فيها ذلك الشاب متقطعة أنفاسه من كثرة التعذيب .. تفوح منه رائحة شواء جلده من كثرة الكهرباء التي تعرض لها وكل هذا ليس لذلب اقترفه ولا ذنب ألم به سوى انه قال لظابط أمن دولة كان يقبض على صديقه دون حق فقال له ... اتقى الله .. لم يلبث الفني الصغير بينهم سوى دقائق ثم نطق بالشهادة بعد أن سالت دموعهم عليه تروى جرحه كما تروى السحب بامطارها حشاش الأرض.

تعليقات