رواية بيت البنات الفصل الرابع والثلاثون 34 بقلم أمل صالح

  


 رواية بيت البنات الفصل الرابع والثلاثون بقلم أمل صالح


كيف لحُلمٍ بخفة الفراشات ورِقتها أن يثور مضطربًا كالبركان، ينثر نيرانًا في شتى البقاع لا تبقي ولا تذر أيًا مما تطوله؟! كيف لطموح كنسمات الهواء العليلة واللطيفة كانت تداعب وجنتيها أن يتحول لعاصفة عنيفة تقتلع كلَ ما يعترض طريقها؟؟!
كيف انقلبت الأمور رأسًا على عقب هكذا؟؟ حلم الأمس الذي جعلها تحلق في السماء عاليًا لا يسع المكان أجنحتها لشدة السعادة صار اليوم شوكًا يوخزها كلما لاح أيٌ مما يتعلق به بالأفق أمامها، أنيابَ وحوشٍ تنهش بها كيفما تشاء بلهفة لا تعرف الرحمة.
داخل المكتب الخاص بجنى وبعملها، ذلك المكان الذي كان بمثابة رُكنها الخاص للهروب من ضجيج العالم بالخارج والاحتماء بين جدرانِه من أنياب الحياة المتقلبة، هُنا حيث لم يعد أمان ولا سلام يملء صدرها كما كان يحدث سابقًا ما إن تطأ قدمها المكان، أضحى قلبها يصرخ باحتجاج رافضًا وجودها حول أحلامِها المهشمة وطموحها المدمر.
جلس “عمرو” فوق المقعد أمام مكتب جنى ومن أمامه “جميلة” تجلس على المقعد المقابل، تحدث بتوتر وهو ينظر لباب المكتب كل ثانية خشية أن تطل عليهما فجأة فتصلها كلماته: أنا مش عارف يا جميلة أطلبه منها إزاي وسط المشاكل اللي عيلتها فيها، حاسسها قلة ذوق بصراحة…
بلل شفتيه وأضاف وهو يشير بيديه للمكان حولهما والذي لم يتم ترميمه كاملًا منذ ما أصابه على يد عديم الرجولة والنخوة عصام: دا غير إنها برضو لسة مافقتش من صدمة المكتب واللي حصل فيه، ساعة ما بتدخل من المكتب عينها بتدمع تلقائي ومفيش خمس دقايق وبتتهرب في أي حاجة عشان تمشي!
علقت جميلة بضيق ونفور: منه لله اللي كان السبب، ربنا يجعل حياته جحيم بحق اللي عمله فيها…
أردفت وهي تنظر لعمرو وبنبرة مشجعة هتفت: بص أنت أول ما تتكلم معاك ارمي في وشها الكلمتين، أهو عدى يجي شهر على حادثة بنت عمها وهي رجعت تقعد في المكتب تاني وتستقبل المكالمات الحمد لله بعد كل الفترة اللي فاتت دي من غير شغل، هتلاقي برضو العيلة عندها رجعوا لحياتهم فأنت قولها إنك عايز رقم باباها عشان واحد اتنين تلاتة…
وزفرت تلتقط أنفاسها بعد هذا الحماس الذي ألقت به كلمتها قبل أن تسترسل بتحذير ومرح: وإلا البنت هتروح منك يا عمرو، وأنت من ساعة ما شوفتها بتقولي فيها شعر!
التمعت عينيه وهو يؤكد لها بصدق ووجه هذه الفاتنة الرقيقة لا يغادر ذاكرته: تستاهل كل القصايد، ملامحها حلوة أوي يا جميلة!
ضحكت على كلماته وهي ترفع كفيها للسماء تدعو له: يارب تتجوزها يارب…
“السلام عليكم ورحمة الله وبركاته…”
دخلت ملقية السلام عليهما فاعتدلت جميلة في مجلسها ووقف عمرو وهما يردان عليها هذا السلام، اقتربت من المكتب الخاص بها تجلس خلفه ثم رفعت يدها التي تحمل حقيبة ذراعها لتتركها أمامها.
نظرت إليهما وقد كانا يتبادلا نظرات غير مفهومة لها فعقدت حاجبيها ترميهما بنظرات جاهلة لما يقومان به: مالكم في إيه؟؟
ونظرت لعمرو الذي ظل واقفًا يتحرك في مكانه بعشوائية وأشارت للمقعد: اقعد يا عمرو.
ابتسم بارتباك وعاد ليجلس، بينما جنى فتحت درج المكتب تخرج منه دفترًا وقلمًا تسألهما ويدها مشغولة في العبث بصفحات الدفتر: مدير مصنع الـ … القماش رد علينا؟؟
تحمحمت جميلة وهي تجيبها بجدية تترك أمر عمرو جانبًا وتولي كامل انتباهها للعمل: أيوة رد بس للأسف يا جنى رافض يتعامل معانا تاني عشان فلوس القماش اللي ما وصلتوش من آخر مرة.
” مافهمتيهوش الوضع ليه يا جميلة؟؟ كنتِ … كنتِ عرفتيه إن الـ … المكان متبهدل و .. وحصل مشاكل كتير فيه لسة … لسة بنصلح فيـ .. فيها لحد دلوقتي!”
أجابتها جميلة هامسة وبكلمة واحدة وهي تنظر إليها بترقب: قولتله..
تركت جنى القلم من بين أناملها تزفر باختناق وهي تضم رأسها بكفيها تخفي وجهها بالأرض، ترفض الانهيار، فتحدث عمرو سريعًا في محاولة بائسة للتهوين والتخفيف عليها: عادي يا جنى دا طبيعي، إحنا لسة كنا أول مرة نتعامل معاه والراجل كتر خيره وافق يدينا القماش بمقدم بسيط واتفق معانا إن باقي المبلغ بعدين فأكيد لما نروح نطلب منه تاني وإحنا ماكملناش الدفعة الأولى اصلا يرفض…
وزادت جميلة على حديثه: إحنا لسة جداد في الطريق ده يا جنى، شغلنا في الأساس كان تنظيم الحفلات وعمل ديكور الكوشات، طبيعي نكون مش عارفين حد ولا عارفين نتعامل في سكة تصميم الفساتين والدريسات اللي لسة واخدين خطوتها من كام شهر، محدش هيدينا الثقة اللي محتاجينها لأن ببساطة محدش يعرفنا في المجال ده…
رفعت جنى وجهها تطالعها بأعين دامعة تتحدث بحرقة وبصوت مختنق متقطع: أنتوا .. محدش فيكم هيفهم اللي … اللي أنا حاسة بيه! ده .. ده تعب سنين مش .. مش كام شهر زي ما بتقولي يا جميلة، شغلي في ديـ .. ديكور الكوشات والحفلات كان … كان تمهيد لحلمي الـ .. الأساسي ودراستي سنين الكلية كلها، كانت … كانت بداية صغيرة لحاجة كبيرة كنت بطمح ليها…
وزاغت عينها توزع نظراتها بينهما وقد انعقدت ألسنتهما فلم ينطق أي منهما ببنت شفة: كنت خلاص هعـ .. هعلن عن البراند، كل حاجة … كل حاجة كانت جاهزة … واقفة بس على الإعلان، وفي رمشة عين كل ده اختفى!!
وضعت كفها فوق موضع قلبها وتابعت بحدة تأبى هطول دمعة واحدة من مقلتيها أمام أي أحد: أنا جوايا نار … مستحيل تحسوا بيها، عارفين يعني إيه الـ .. الحاجة اللي كنتوا .. كنتوا بتحلموا بيها وتسعوا ليها و .. وشغالين عليها بكل سعادة وحب رغم أي تعب تبقى … تبقى هي هي نفس الحاجة اللـ .. اللي بتسببلكم وجع؟؟؟
أشارت للمكان حولها وداخلها يتلوى كمدًا لما تخفيه عن أعين الجميع من ألم: المكان اللي كنت بهرب من الدنيا كلها عـ … عشان آجي أقعد فيه بكل … راحة بقى هو المكان اللي بهرب منه، أو … أول ما بحط رجلي فيه قلبي بيتقبض!
وكل ما قابلها هو صمت طويل لم يتجرأ أي منهما بقطعه، وكيف وهما بالأساس لا يمتلكان ردًا لها، حتى أبسط كلمات المواساة لم يجدا لها مكانًا بعقليهما.
عادت جنى لتمسك برأسها بعنف قبل أن ينفجر وهي تهمس دون النظر إليهما بتعب وإرهاق تكلما منها: قوموا روحوا…
حاولت جميلة الإعتراض فزجرها عمرو بنظراته لتتنهد بحزن وهي تقف مع عمرو لتلبية مطلبها بالمغادرة، وما إن صار المكان خاليًا إلا منها ومن صوت تنفسها الذي بات واضحًا مسموعًا، سمحت لنفسها أخيرًا بالانهيار، تلقي برأسها فوق ذراعيها على المكتب تخفي وجهها الباكي عن اللاشيء.
أرهقتها الحياة بكل ما فيها، باغتتها بضربة عنيفة ولم تُتح لها الفرصة للإستيعاب حتى توالت عليها بالضربات تفقدها المتبقي من قدرتها، ضربة تلو الأخرى وهي لا تعي شيئًا، كلما ظنت أنها على دراية بالضربة القادمة فاجئتها الحياة بغدرها..
تركت مكانها ووقفت تتحرك صوب إحدى الغرف، دفعت بابها الذي سبق وكُسر مقبضه، ثم أشعلت الأضواء لينتشر الضوء من حولها بكل نقطة بالمكان، تحركت ببطئ وأقدامها ترفض الحركة، بثقلٍ وكأنها تحمل فوق عاتقيها العالم بأسره، تقدمت حتى توقفت أمام الحائط المقابل للباب، ترفع يده تتلمس بأناملها بقايا حلم، تصاميم جمة تم تنفيذ بعضها والبعض الآخر كانت ماتزال تعمل عليه، حائط بأكمله كانت تعلق عليه كل ورقة رسمت بها تصميمًا خطر ببالها لم يبقى من كل ما كان يحمله إلا قليلا.
جلست القرفصاء تلتقط بأصابعها واحد من التصاميم الكثيرة التي أسقطها الأهوج بما صنع لتملء الأرض من حولها، فستان رقيق باللون البُني، فضفاض دون رباط خصر ليلائم المحجبات، ذو أكمامٍ واسعة تنتهي بربطتين.
وضعت هذا التصميم بيدها الفارغة لتلتقط بالأخرى تصميمًا آخر كان من جزئين، تنورة بلون السماء تهبط فوق الجسد بوسع لا يصف شيئًا بمن ترتديه ومن أعلاها كنزة بنفس ذات اللون والوِسع.
وهذا التصميم، قبعت لساعاتٍ فوق الورقة تحمل بين أصابعها قلمًا وألوانًا حتى خرج من رأسها كما تخيلت بالضبط وبحماس كبير استمرت بالعمل عليه لأيام حتى أتمته وصار التصميم ملموسًا بين يدها.
اعتدلت واقفة تجر قدميها لأحد أركان الغرفة، حيث صندوق كبير ممتلئ بالكثير من الفساتين الممزقة والتي كانت قد انتهت من تنفيذها وعلى وشك عرضها..
ثم ماذا؟؟
ثم جاء ذلك الوغد وأهلك كل هذا بلمح البصر،
حلمٌ سهرت الليالي دون كلل أو ملل للعمل عليه وإتمامه فأتى هو بكل يُسر وفي دقائق معدودة جاعلًا من كل هذا – ومنها – أشلاءًا وبقايا.
أخفت وجهها بين قطعة من القماش وهي تبكي بأعلى صوت لديها ولسانها لا ينفك عن ترديد “يارب”، يارب فاق كلُ هذا قدرتي فارحمني يا رحيم وخفف على قلبي، يارب ألهمني الصبر على ما يمر بي من مصائب وفواجع، يارب .. يارب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
“لأ يا عمي بلاش الواد ده، سكته وحشة وملوش في الدُغري وكلام الرجالة…”
نطق بهذه الكلمات مَجد الذي كان يجلس أمام عمه توفيق داخل محل عمله، انعقد حاجبي توفيق وهو يسأله متعجبًا: أنت تعرفه؟؟
وكان المقصود بهذا السؤال هو “عمر”، فبعد أن جاء طالبًا القرب وخطبة صغيرته الأولى بسملة كان لا بد له أن يسأل عنه ويستفسر عن أخلاقه ووضعه وعائلته كما العادات..
وعندما لم يستطع توفيق الوصول لكافة المعلومات التي تنفعه حول ذلك العمر قرر أن يفعل بمساعدة أبناء أخيه، بالنهاية هم شباب مثلهم كمثل عمر وربما يعرفونه أو يعرفون أي شيء يتعلق به يمكن أن يفيده عن خلفية هذا الشاب، ولحسن الحظ وقع اختياره على مَجد!
الذي ما إن قال ما قال اعتلى التعجب وجه توفيق وقد مرت هيئة عمر أمام عينيه متذكرًا اليوم الذي جاءه به، لم تبدو عليه أي اثار تدل على أنه من هذا النوع من الشباب الذي وصفه به مجَد!!
بينما مَجد كان يخبر عمه بكل صدق وجدية ودون أن يزيف كلمة واحدة، فهذه الصفات التي ألصقها بعمر كانت بسبب ما رآه منه مع ابنة عمه، فإن كان يريدها صدقًا كما يدّعي لماذا تركها تسير معه في علاقة محرمة دون أي رابط شرعي؟؟ لماذا استحل لنفسه ملامسة أصابعها ولُقياها في الخفاء؟؟ إن كان يريدها بحق كانت أول خطوة واجبة عليه أن يتقدم بطلب لأبيها..
وكان مجَد جاهلًا تمامًا عن حقيقة أنها هي مَن رفضت تقدمه لخطبتها، وأنه بالفعل أول ما طلبه منها هو رقم والدها والذي رفضت إعطاءه له دون أسباب واضحة، جاهلًا بحقيقة أنها هي مَن صنعت تلك العلاقة المحرمة وليس هو..
وها هو مَجد يجلس أمام عمه بثبات يُحسد عليه في مثل هكذا موقف؛ فقد كان لتوه عائدًا من عمله بعد يومٍ شاق في طريقه لبيتهم ليتخلص من هذا التعب والإرهاق ببعض الراحة قبل أن يتجهز للذهاب للمشفى، ليتفاجئ بعمه يشير إليه من محله يطلب منه الحضور لبعض الوقت للحديث بأمر هام!
وكانت صدمته عندما قال “في واحد إسمه عمر محمد عمر متقدم لبسملة، جالي هنا المحل وقالي إنه مهندس معماري وعنده ٣٠ سنة بس أنا معرفتوش أوي من اسمه قولت يمكن تكون أنت أو حد من اخواتك عارفينه.”
إذًا فعلها وتقدم لخطبتها فعلًا كما قال!
تحمحم مَجد مجيبًا على سؤال توفيق بهدوء تفنن في اصطناعه عكس رغبته المُلحة بالصراخ في وجه عمه بأن هذا العُمَر لا يجوز لإبنته بأي شكل من الأشكال وأنها لا يجب أن تكون له يومًا:
” ماعرفوش شخصيًا يعني، بس أنت عارف بقى يا عمي، الشباب بينهم وبين بعض عارفين كل حاجة، والواد ده بتاع حوارات ومش كويس..”
وكانت هذه حجة غريبة استطاع بها إقناع توفيق؛ هو بالأساس أراد أن يسأل أيًا من أولاد أخيه لأجل هذا السبب؛ أن الرجال وخاصة في سن الشباب هذا تجدهم كلهم كما الحلقة، مترابطة وكل نقطة بها على دراية بما يجاورها.
تنهد توفيق هامسًا وهو يحرك رأسه بالإيجاب وعينه مثبتة فوق بقعة معينة شاردًا بها وهو يفكر في أمر ذلك الشاب الذي ظنه لوهلة صالحًا لإبنته، لتأتيه حقيقة فساده وسوئه: ربنا يسترها علينا وعلى بناتنا..
تحمحم مَجد يجذب انتباهه إليه قبل أن يقول بتردد وهو يطالع شروده: يستحسن ماتعرفش بسملة بقى يا عمي إن في حد اتقدم أو غيره، ده لو مكنتش قولتلها يعني، خلّص أنت الموضوع من بعيد لبعيد وهي مش لازم تعرف، ولو عايزني أنا أوصله الرفض معنديش مشكلة..
وقال آخر جمله بترقب شديد ينتظر ردًا بالموافقة ليذهب ويخيب آمال عمر بسعادة، فربت توفيق على قدمه مبتسمًا بإمتنان يصفع بآماله تلك عرض الحائط: لأ ماتشغلش دماغك أنت، هو كدا كدا سابلي رقمه وأنا قولتله يستنى الرد مني….
أبعد يده عنه وأضاف: وبسملة كدا كدا متعرفش حاجة، هو الواد ده جالي من هنا حصل اللي حصل لنرمين من هنا واتلبخنا كلنا في ١٠٠ حاجة ولا لحقت أقول ليها حاجة ولا لبسنت..
حرك مَجد رأسه في الجانبين بعدم فهم لذكره أمر بسنت الآن فابتسم توفيق وقد علم من تلك النظرة التي علت وجه مَجد أنه لا علم له بما قام به أخيه فضحك بخفة وهو يتذكر كيف جاء سامر هو الآخر طالبًا سرقة آخر جواهره الثمينة ليقول موضحًا للماكث الذي لا يعي شيئًا أمامه: جالي هو كمان البيت، قعد يتكلم في حاجات عبيطة ملهاش علاقة ببعض، ومليون موضوع وموضوع، عشان يقولي في الآخر عايز اتجوز بسنت..
ابتسم مَجد ضاحكًا هو الآخر فأكمل توفيق يؤكد له صدق حديثه ولازال ثغره محتفظًا ببسمة من بقايا ضحكاته: أقسم بالله فضل بتاع عشر دقايق بيكملني وهو متضايق أوي إن الطماطم غِلت وبقت الكيلو بعشرة مش بخمسة!!
صدح صوت مَجد الضاحك وهو يضرب قدمه بكفه متخيلًا شكل صغيرهم سامر وهو يشتكي لعمه غلاء سعر الطماطم!
بينما توفيق استرسل: أنا اتكلمت مع حامد وهو اللي قالي بالنص ماتريحوش ولا ترد عليه بحاجة دلوقتي وسيبهولي لحد ما أرد عليك أنا….
وضرب كفيه معًا مردفًا بدهشة وهو غير مدرك لمراد أخيه خلف ذاك الطلب: مبقتش عارف مين متقدم لمين ولا مين المفروض يرد على مين!!!
ويبدو كذلك أن مَجد لم يفهم الهدف من مطلب والده بعدم إجابة سامر بما يُريحه، تنهد وهو يشارك توفيق التفكير بصوت عالٍ: أكيد بابا في دماغه حاجة خليته يقولك كدا يا عمي، الله أعلم هي إيه بس الأكيد إنه خير..
أكد توفيق على هذا بحركة من رأسه وهو متيقن أن خلف طلب أخيه سببًا قويًا لا يعلمه سواه، في حين ابتسم مَجد يغمز لعمه بمراوغة وقال بمكر لا يليق بوجهه الهادئ البتة: بس أنت ردك إيه؟؟
ضحك توفيق على تعابير وجهه الخبيثة وتلك الغمزة من عينه قبل أن يجيبه بجدية: والله يا مَجد أنا مش هلاقي حد أسلمه بنتي بإيدي وأنا متطمن قَد سامر، يكفي إنه متربي على ايدي، بس الرد الأول والأخير في ايدين بسنت، أنا لسة مكلمتهاش في حاجة خالص ولا هي عاشت الحاجات دي قبل كدا فهتكون محتاجة وقت تفكر فيه، فهقولها وهسيبها براحتها تقرر اللي هي عايزاه..
اومأ له مَجد وقال مازحًا: يارب اللي هي عايزاه يبقى اللي احنا عايزينه إن شاء الله…
ضحك توفيق على كلماته يردد من بعده: إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تكورت بكامل جسدها داخل أحضانه كالأطفال، تتعلق بقميصه وهي تبكي بعنف وكل ثانية والأخرى تنفلت من بين شفتيها شهقة تأبى السكون بأعماقها، تلتصق بصدره وكأنه ستخترق ثناياه لتسكن داخله، ولم يبخل عليها هو وأخذ يشدد من عناقه لها حتى أخفاها بالكامل بين ذراعيه، يتركها تنهار باكية كيفما تشاء وجل ما فعله هو المسح على ظهرها ورأسها دون أن ينطق بكلمة واحدة..
“أنا خايفة أوي يا أبيه، خايفة أوي..”
قالت هايدي من بين الكثير والكثير مما كانت تهزي به فسقطت دمعة حارة من عين ناصر استقرت فوق ذراعه الذي يعانقها به وهو لا يعرف بما يهونها عليها وهو في أمس الحاجة أن تُهون عليه؟؟
كيف يخبرها أنه في أشد الحاجة لمن يدفنه داخل أحضانه كما يفعل هو معها الآن؟؟ كيف يخبرها أنه يتشبث بطرف خيط التماسك والتحمل من أجلها هي فقط؟؟ أنه يتمنى لو ترك هذا الخيط ليسقط متخليًا عن كل هذه الأمور التي تؤرقه!
سقطت الصغيرة بين أحضانه في النوم لشدة التعب وما مرت به خلال تلك الأيام المنصرمة، استقبلت الغيمة السوداء بأذرع مفتوحة ورضا وقد وجدت أخيرًا مَسكنًا خاليًا من آلام واقعِها.
أسند ناصر رأس شقيقته بحرص شديد وحذر على الوسادة ثم جثا أرضًا جالسًا القرفصاء يناظرها بأعين تغلفها طبقة رقيقة من الدموع، يرى في قسماتها البريئة معاناة طفلة صغيرة حُرمت من حقوقها التي سُلبت منه عنوة..
طفلته التي غدر بها الزمان طابعًا خيانتَه على وجهها البريء، جاعلًا منها أخرى مختلفة، بعيدة كل البعد عن صغيرته هايدي المدللة، أخرى أقسمَ بالله أن ينفض غبار القهر والقسوة التي اندست بها عنها ليسترد شقيقته البهية المشرقة.
مد يده يمسح وجهها من الدموع التي كانت لازالت تهبط من عينيها رغم نومِها، وأرجع بعض خصلاتها المتمردة فوقه ثم مال بجذعه يطبع قبلة طويلة فوق جبينها قبل أن ينتصب ويخرج من الغرفة..
خرج من غرفةِ الأطفال بمنزلِه بعد أن تأكد أنها غافية وتحرك بصعوبة صوب إحدى الأرائك ليجلس فوقها، استند بمرفقيه على قدميه ثم أمسك رأسه بكلتا يديه ينظر أرضًا..
يستر دموعَه المتمردة التي فشل في كبحِها، يسمحُ لها بالتحررِ من مُقلتيه بصمتٍ قاتل، ازداد الألمُ بقلبِه ورغبتُه بالصراخ والبكاء عاليًا تزداد جموحا، إذ يبدو أن هذا البكاء الصامت لم يُجدِ نفعًا مع غصة صدرِه..
“ناصر..”
ناداه صوتُها المتلهف ثم وجدها تهرعُ إليه تترك كلَ ما بيدها بعد أن رأت جسده يهتز مصدرًا أنينًا خافتًا وكأنه يخشى أن يسمعه أحد فيفتضح أمرَه.
جاورت مجلسه بسرعة وأخذت تمرر يدها فوق ظهره بحنو بالغ وهي تسأله بقلق:
“ناصر!
في إيه مالك يا حبيبي؟!”
أبعد يداه عن رأسه ونظر إليها، فأبصرت ندى احمرار عينيه ووجهه الذي أغرقته الدموع فتوسعت عيناها بصدمة وهي تقترب ماحية المسافة الصغيرة الفاصلة بينهما لتلتصق به تجذبه لأحضانها وكأنه طفلها.
بينما تخلى ناصر عن قناع جمودِه أخيرًا يسمح لنفسه بالانيهار أمامها، فرفع ذراعيه يجذبها إليه أكثر من خصرها يدفن رأسه في ثنايا كتفها وهو ينتحب متحدثًا بصوت متحشرج مختنق: مابقتش قادر يا ندى، مابقتش قادر والله!
وعقب هذه الكلمات غزت الدموعُ عيون ندى واجتاحتها رغبة قوية في البكاء لهذا القهر المصحوب بنبرته، ولكنها حاربتها بكل ما تملك ورفضت الانصياع لها فشددت من عناقها إليه تربت على رأسه المستكين فوق كتفِها، وما إن فعلت حتى صُدمت به يزداد انتحابه ويجهش في البكاء بصوت عالٍ كالأطفال..
ناصر!
رجلُها الحنون الهادئ، الرجل الذي طالما استقبلها بأحضانه بصدرٍ رحب لتلقي بكل أعباءها وما يؤرقها إليه، يبكي الآن بين أحضانها يعلنها صراحةً أنه لم يعد قادرًا؟!!!
وهي ما بيدها حيلة سوى المشاهدة بعجزٍ، تواسيه بهذا العناق وصمتِها دون أن تنطق بكلمة واحدة تخفف بها عنه، تستمع لبكائه بقلب يتمزق مئات المرات مع كل دمعة وشهقة تصدر منه وقد تركت العنان لدموعها لتهبط كيفما تشاء.
وفي الأسفل؛ الطابق الأول من المنزل، كانت الأرض تهتز على أثر صوت صراخها ونواحها الذي ملئ المكان، تضرب صدرَها تارة وتلطم خديها تارة أخرى، تنتحب وكأنها استقبلت خبر موته وليس حبسه، تدعو الله أن ينتقم من الطاغين المتجبرين وكأنها ليست واحدة منهم!
تدعوه أن يقحم كلَ مَن كان له يدًا فيما طال ولدها في جهنم وبئس المصير، تصيح بكل تجبر عن مدى الظلم والاستبداد الذي تعرض له ابنها، تأبى الإعتراف بحقيقة الأمر، حقيقته التي تعرفها كل المعرفة ولكن يستحيل عليها أن تقر بها.
تتذكر ذلك اليوم بكل تفاصيله، عندما اقتحم سيد ابنها الشقة الخاصة بها والتي تسكنها وحدها بعد أن تخلت عنها هايدي..
ولج المطبخ وهو يتجاهل نداءها يبحث داخل أواني الطهي عن أي شيء يؤكل ليُخرس به أصوات معدته التي تطالبه بالطعام فتحركت إيمان خلفه تتكلم بدهشة وهي تراه يعبث بالمكان هكذا: أنا مش بكلمك يا سيد؟ بعدين أنت بتهبب إيه كدا؟!!
زفر بضيق وهو يصفع الأطباق أمامه فوق الرخامة قبل أن يلتفت إليها يجيبها بغيظ: بدور على لقمة أطفحها يامّا، فين بقى الأكل اللي هنا؟؟
رفعت حاجبها تعلق بسخرية وبابتسامة متهكمة على سؤاله: وماطفحتش في بيتك ليه يا حيلة أمك؟؟
وأشارت للأواني التي سبق وكشف أغطيتها تجيبه: أديك شايف الحلل فاضية ومفيش حاجة اتطبخت، ابقى اطلع اسأل الدلوعة مراتك منزلتش ليه عشان تطبخ…
اشتعلت عينيه بالغضب وهو يقول جاززًا فوق أسنانه: يعني مطبختش فوق ولا تحت؟؟ ونايمة ولا اللي على رجليها نقش الحنة!
خرجت إيمان من المطبخ وهي تتمتم بصوت تعمدت أن يصله واضحًا: نسوان مايعة، مانت لو ظابطها صح كانت قامت من الفجر شافت مصالحها، ادي آخرة الدلع الماسخ..
خرج سيد خلفها يصيح غاضبًا: هو إيه اللي لو ظابطها دي؟ جرا إيه يامّا؟!! أنا جاي من الشغل مش شايف قدامي أصلًا وعلى أخري.
استدرات إليه تصرخ بالمقابل: “نعم يا قلب أمك؟؟ زعلتك دي اوي؟؟ يعني هو حلو لما الراجل يرجع البيت مهدود حيله بعد شغل طول اليوم يلاقي مراته نايمة ومعملتش حاجة في يومها الأسود؟؟”
وصفعت كفيها معًا تنفث خبثها تقصد بها عُقد رجولته: ما أنت لو ممشيها على المسطرة مكنتش جيت هبيت كدا، جاي تزعق فيا وترزع في الحتة هنا بدل ما تمسكها وتعجنها عشان تعرف إن الله حق!
استطاعت تلك الأفعى السامة أن تشحن صدره بالسواد والغل تجاه تلك المسكينة التي كانت تستلقي في فراشها بتعب لم تستطع مقاومته..
صعد السلالم بسرعة ومراجل غضبه تزداد غليانًا بينما ارتفع صوت أنفاسه التي تسابقت في الخروج من صدره المتلظي.
دخل الشقة صافعًا الباب خلفه بقوة تسببت في انتفاضة جسدها بالداخل، وما كادت تترك السرير لترى سبب هذا الصوت العالي حتى وجدته يهجم على الغرفة يصرخ باسمها: نــــورة…
شهقت نورة بخوف وفزع وارتفع كفها بتلقائية تضعه فوق قلبها الذي هلع هو الآخر ينبض بقوة وكأنه سيغادر صدرها هربًا من المكان.
نظرت إلى وجهه ورأت تلك النظرة بعينيه والتي تعلمها تمام العلم، تلك النظرة التي ستُلقى بعضها في جحيم لن ينجدها أحدٌ منه أو ينتشلها، رفعت أقدامها عن الأرض وأخذت تعود للخلف برعب وهي تراه يتقدم منها يتحدث بصوت مجلجل وبأعين متسعة تنطق بالوعيد: نايمة بروقان هنا وجيبالي الكلام والتهزيق تحت؟؟
نفت نورة براسها وفتحت فمها لتخرج الكلمات منه متبعثرة ضاللة طريقها: لا والله … أنا وحياة ربنا … أنا كنت تعبانة ومقدرتش والله أ….
صرخت بفزع تبتر كلماتها عندما رأته ينقض عليها ليلتقط خصلاتها بين يده يشدها بعنف حتى خيل لها للحظة أنه اقتلعها بين يديه: إنشالله تكوني بتموتي سامعة؟؟ آجي من الشغل ألاقيكِ والاقي البيت على سنجة عشرة
“والله ما كنت قادرة أقوم من السرير، والله بطني كانت بتتقطع وجسمي كله بيموتني!”
قالت وقد تناست في هذه اللحظة مرضها وألمها، تحاول التبرير له عله يغفر لها، بينما سيد لم تهتز به شعرة واحدة فقط شفقة قليلة الحيلة بين يديه وكلمات والدته تتراقص أمام عينيه تعميه عن رؤية أي شيء آخر..
ترك شعرها وهبط بكفه بصفعة على وجهها يصرخ بجنون وهو ينهال عليها بالضربات: وكمان بتردي عليا يابنت الـ** أنتِ؟؟ كمان بتردي عليا؟؟
“والنبي يا سيد حقك عليا والله،
أنا آسفة بالله عليك خلاص!”
جذبها من جلبابه البيتي يجرها خلفه بقوة ناحية باب الشقة ينوي إذلالها وتهديدها بالطلاق كما كان يفعل دائمًا: خلاص؟؟ خلاص ده إيه يا روح أمك أنتِ، والله لتروحي لأمك بعاهة النهاردة عشان تحرمي بعد كدا..
وأخذ يصفعها ويركلها وهو يراها تحاول تقبيل يده وقدمه تطلب العفو والغفران عن جُرم كبير لم تقترفه ولكن لا حياة لمن تنادي، تكالب عليها كالذئاب الضارية التي لم ترى لحمًا لأيام حتى سقطت فريسة بين أيديهم ليزهقوا روحها..
وعندما لم يلن قلبه أمام ضعفها اعتدلت بعد عناء تدفعه بكل ما أوتت من قوة تسير ناحية الباب بتعرج وترنح ولم تجد سبيلًا للهروب من أنياب هذا الذئب إلا الهروب..
حتى وإن تلطخ شرفها واسمها كما كانت تهددها والدتها دومًا فهي لا تبالي إلا بالفرار حية من بين براثنه، وما إن فتحت الباب وصارت خارج الشقة مستغلة سقوطه وقربها من الباب كان هو الاقوى والاسرع في هذه المباراة؛ إذ اعتدل بسرعة وتحرك بخبل وجنون صوب المطبخ يجذب أول سكين التقطته عيناه ثم عاد لها يسقطها أرضًا أمام الشقة..
انخفض لمستواها يصفعها مرارًا وتكرارًا وهو يصرخ بهذيان وبعنف أفقدها الوعي: بتهربي مني، بتهربي مني يابنت الـ ** يا ** أنت!
وبطيش ودون وعي طعنها بجانبها بالسكين رغم غيابها عن الواقع وفي هذه اللحظة خرجت صرخة فزعة من إيمان التي سمعت صوت صراخها واستغاثتها من البداية ولكن لم تعر الأمر اهتمامًا لطالما كان هذا روتينًا بحياتها..
ولكن عندما بات صوت الصراخ واضحًا وقريبًا جدا، تكرمت وتركت مكانها لتهرول لترى ما وصل إليه الأمر هذه المرة، وياليتها ما صعدت ورأت هذا المنظر الذي أفقدها النطق لثواني قبل أن ينطلق صراخها يعم المكان…
عادت إيمان لحاضرها تحرك رأسها بوهن يمينًا ويسارًا بينما تضرب فخذيها بحسرة: منك لله يا نورة، أنتِ السبب في اللي حصل لإبني، حسبي الله ونعم الوكيل ربنا ينتقم منك…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتحرك في ردهة المشفى ملقيًا السلام على هذا وذاك، يخفي كفيه داخل جيوب معطفه الأبيض الطبي الخاص بالعمل ويعلق السماعات الطبية حول عنقه.
يسير بهدوء وثقة وبسمة صغيرة لا تفارق ثغره، بهيئة وشكلٍ كان يطمح إليهما منذ سنين، حتى لامست أصابعُه أخيرًا وبعد طول انتظار حلمَه، وسُبق اسمه بلقبٍ تمنى سماعه الكثير والكثير؛ “الطبيب عثمان شريف القاضي”.
تدهورت صحته بشكل ملحوظ؛ كان تارة يعالج ظهره وتارة عيونه التي تضررت حتى انتهى به المطاف لا يرى بشكلٍ صحيح دون النظارات، حتى شعره الكثيف والذي ورثه عن والدته لم يرحمه “الطب” وأسقط منه كمًا لا بأس به!
خسر الكثير والكثير في سبيل تحقيق هذا الحلم، ضاعت عليه مئات من فرص الحياة التي لا تعوض فابتسم يلوح لها بالهواء لا مباليًا، والله وإن عاد بي الزمان وخيرتُ بينَك وبين الحياة لاخترتك مغمض العينين يا طب!
هذا ما قاله لعثمان لنفسه خلال توجهه لإحدى غرف المستشفى التي تعين بها حديثًا بعد استقالته من الأخرى وذلك بسبب سوء إدراتها، طرق الباب مرتين قبل أن يضع يده فوق المقبض ويلج غرفة مريضه.
ابتسم للصغيرة فوق الفراش بعد أن القى سلامَه على السيدة أو الفتاة التي ترافقها في الغرفة وقد كان لا يعلم كنيتها بالنسبة للصغيرة، اقترب ليجلس أمامها فوق مقعد سحبه من أحد الأركان متحدثًا: ألف سلامة عليكِ، قلقتِي المستشفى كلها عليكِ أنتِ وماما…
وأشار بالنهاية للسيدة التي ابتسمت بمجاملة في حين ردت الصغيرة والتي كان جسدها يتصل بمحلول مائي عبر أنبوب معلق جانبها بضحكات صغيرة تغيظ بها شقيقتها الكبيرة على الكنية التي أُلصقت بها: دي نسمة أختي…
ضحك عثمان على وجهها وهي تحاول إشعال شقيقتها التي توعدتها سرًا قبل أن يقف يبعد السماعات عن عنقه ليستخدمها في فحص الصغيرة كاشفًا عن بطنها: المهم قوليلي أنتِ حاسة بإيه؟؟
“عايزة أرجّع، بُقي طعمه وحش!”
قالت بضيق فانتصب رافعًا حاجبه موبخًا: عرفتِ بقى الاندومي والحاجات الوحشة دي بتعمل إيه؟؟
وانخفض قليلًا يهمس إليها بصوتٍ لم يتخطى مسامعهما: أختك لو عرفت والموضوع وصل للجهات العليا هتباتوا برة النهاردة..
ضحكت تشير على نسمة التي حاولت التلصص والاستماع لما يقول بفضول: هي اللي جايبهولي، كانت بتاكل معايا.
توسعت عينيه بدهشة وهو ينظر لنسمة متذكرًا كيف جاءت تركض في المكان صارخة بنجدة الصغيرة المُسممة وهي في حالة يرثى لها أصر خوفها، حركت نسمة فمها بسباتٍ لم يسمعها أحد وما إن وجدته يلتفت يطالعها بتعجب ابتسمت بتوتر تبعد بصرها عنه تتصنع إنشغالها بالهاتف بين يدها..
عاد ببصره للصغيرة يسألها وهو يزيل عبوة المحلول التي فرغت من ذراعها: أنتِ بقى قولتيلي اسمك إيه؟؟
رفعت وجهها تجيبه ببسمة صغيرة جميلة: جنى…
وتابعت وهي تعد فوق أصابعها: جنى محمد علي السيد..
حدق بها عثمان لثواني معدودة بصمت دون وعي منه، ابتسم بعدم تصديق قبل أن يحول ببصره عنها ليستكمل ما يفعل وهو يحرك رأسه بالهواء بيأس من شيء لا يعرفه سواه متمتمًا ببسمة: أتاريكِ!!!
انتهى من ما كان يفعل فنظر للصغيرة ينحني بنصفه العلوي عليها وهي نائمة يزيل إبرة المحلول من ذراعها قبل أن يعتدل يُلقي بتعليماته الواجب اتباعها لتجنب التسمم مرة أخرى ولتطهير معدتها من ما سبق وأكلت.
فقاطعه صوت رنين هاتفه فأخرجه من جيبه ثم نظر مرة أخيرة للصغيرة مبتسمًا: ألف سلامة عليكِ يا چنچونة، نخلي بالنا المرة الجاية بقى عشان ده ميحصلش تاني…
واستأذن بالخروج وهو يرفع الهاتف فوق أذنِه: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، في حاجة يا جهاد؟!
قال بإستغراب لمكالمة شقيقته له في هذا الوقت من اليوم، فأتاه رد جهاد مُجيبة بهدوء وهي تطالع أظافرها بتقييم وبنظرات باردة: لأ متقلقش، حاجة بسيطة كدا…
“اخلصي مش قاعدين في صالون البيت…”
قطب عثمان جبينه بعدم فهم يسألها بريبة لذلك الصوت الغليظ الذي التقطته أذنيه: حاجة بسيطة إيه؟؟ أنتِ فين؟ ومين اللي بيتكلم جنبك ده؟؟
“أنا في القسم…”
انتفض بفزع يعود للخلف خطوة عن موضعه يصيح بأعين متسعة: قسم؟؟ قسم إيه يخربيتك أنتِ مش نازلة الصبح مع هدى صاحبتِك؟!!
أشاحت جهاد ببصرها عن أظافرها لتلقي نظرة على صديقتها “هدى” التي جلست فوق المقعد المقابل لمكتب الضابط بأريحية؛ تُرجع ظهرها للخلف وتعقد ذراعيها أمام صدرها بينما وضعت ساقها اليمنى فوق اليسرى، تنظر لشاب يجلس بالمقعد المقابل لها – لا تعلم أيكبرها سنًا أم يصغرها – بنظرات متحدية تترقب أن ينطق بكلمة لتحيل حياتَه جحيمًا..
ابتسمت جهاد على هيئة صديقتها ثم رفعت بصرها لضابط الشرطة تُزيد من بسمتها اتساعًا تتعمد إستفزازه، وكان لها ما أرادت؛ إذ وجدته يتلوى في مقعده بغيظ يلقيها بنظرات مشتعلة متوعدة لما تفعله منذ وطأت أقدامها المكان.
“آه هدى معايا برضو..”
ازداد جنون عثمان عقب هذه الجملة ليتحرك في بهو المشفى بخطوات شبه راكضة وهو يصرخ بها: بتهببوا إيه في القسم يا جهاد؟؟ قسم إيه ده؟؟ وفين مصطفى؟!!
_مش بيرد تلفونه مغلق، تعالى وجيبوا معاك..
_ أنتِ هتجننيني يابت أنتِ، ماتنطقي تقولي بتعملوا إيه ولا إيه اللي حصل…
وتوقف عن السير – وإن صح تسميته بسير – وهو يسأل بحدة وأعين بارقة: حد عملِك حاجة يا جهاد؟؟
التمعت عينا جهاد وهي تنظر لذلك الشاب البغيض تجيب على سؤال أخيها بصوتٍ جاهدت لإخراجه ثابتًا قويًا: حــيــوان…
ومن بعدها لم يصله سوى صوت يعلن انتهاء المكالمة ليعلو صوت نبضات قلبه المضطرب ولم يفهم ما تعنيه أخته بهذه الكلمة الوحيدة التي قالت ولكنه رغم ذلك متيقن أنها ليست على ما يرام.
حاول أن يتصل بها مرة وأخرى لكن دون جدوى وكأن الهاتف قد سُلب منها، عاود الركض حتى خرج من المستشفى ليشير لأول سيارة أجرة مرت من أمامه يصعدها ويده مشغولة في البحث عن رقم أخيه “مصطفى” الذي يستطيع مساعدتها بأي مأزق كانت بمكالمة هاتفية واحدة.
وضع الهاتف فوق أذنه يحرك قدمه لأعلى وأسفل بتوتر وهو يهمس: رُد يا مصطفى، رد!
وبعد ثلاث أو أربع محاولات أتاه صوت مصطفى أخيرًا: إيه يا عثمان في إيه؟!!
تحدث بلهفة: أنت فين يا مصطفى؟؟
ورغم تعجب مصطفى لهذا السؤال وهذه النبرة التي خرج بها إلا أنه أجاب وهو يغلق باب سيارته: لسة واصل القسم حالًا، في إيه!
_ أختك عندك يا مصطفى..
توقف مصطفى عن السير: إيه؟!
فكرر عثمان وهو يجوب الطريق بعينيه يعين الوقت المتبقي لكي يصل: جهاد عندك في القسم..
ولم يستمع مصطفى لباقي حديثه، قبض على الهاتف بين يده وتحرك بخطوات واسعة صوب الداخل وهو ينظر لكل إنش بحثًا عن صغيرته وقرة عينيه “جهاد”.
بينما عثمان دس الهاتف في جيب معطفه الطبي الذي لم ينتبه لكونه لازال يرتديه وهو يدعو الله سرًا أن يحفظ شقيقته وأن ينجي المتسبب في دخولها هذا المكان من بين براثين أخيه..
أما مصطفى الذي كان يبحث عنها بين مكاتب زملائه وغرف المكان ما إن وقعت عينه عليها داخل أحد المكاتب تقف رافعة رأسها بشموخ والكبرياء لا يغادر نظراتها حتى سارع إليها يمسكها من مرفقها ليُديرها إليه: جهاد! بتعملي ايه هنا؟!!
أما عن ضابط الشرطة فما إن رأى مصطفى حتى اعتدل واقفًا بتلقائية وهو يطالع مصطفى بإحترام وخشية لمكانتِه التي تفوق خاصته، قد صدقت تلك الفتاة إذًا عندما قالت أن شقيقها ذو رتبة عالية هنا ولن يرحم أيَ أحد تسول له نفسه أن يقترب منها! وهذا ما جعله يتركها تقف هكذا ترمي الجميع بإستحقار وكأنهم حشرات لا تبصرهم، ينتظر حضور ذي الرتبة ذاك بإستهتار بحديثها وقد ظن أنها فقط تحاول إيخافته، ليتضح أن أخاها هو نفسه مصطفى!! هذه مشكلة … مشكلة كبيرة.
تمسكت جهاد بكف شقيقها الأكبر ووالدها الثاني تضغط عليه مستشعرة قُربه وتستلذ هذا الأمان الذي حاوطها منذ اقتحم صوته أذنها، كبحت دمعة كادت تفر من مقلتها وهي تهمس بصوت مختنق وقد انهارت هالة القوة والثبات التي كانت تحيط بها: مصطفى!
نظر للوجوه حوله بنظرات ثاقبة تكاد تخرقهم ثم إليها ولعينها التي فشلت فشلًا ذريعًا في موارة خوفها عنه: فــي إيــه؟!! مـين زعلِـك؟!
تحمحم ضابط الشرطة يعلن وجوده بالمكان فاستدار إليه مصطفى يرميه بنظرة لولا مكانته وشكله أمام زملائه والعساكر لفر هاربًا ليتجنبها، تماسك يشير بيده صوب ذلك الشاب الذي ارتعبت أوصاله ما إن رأى هيئة ذلك الرجل فارع الطول قوي البنية: يا باشا الآنسة مسكناها قُدام القسم بتُجر الشاب ده هي والآنسة اللي معاها ونازلين فيه ضرب…
نظر مصطفى للشاب الذي كان وجهه متورم، وبعض الأجزاء فيه لازال أثر الدماء يغطيها ثم عاد بعينه لجهاد يسأله بصوتٍ قوي: عملِك إيه؟؟
وتلك الغصة بحلقها لم تساعدها أبدًا في سرد ما حدث معها، اخذت تبتلع ريقها مرات متتالية وهي تحاول في كل مرة فتح فمها والحديث ولكن كانت تعود لتغلقه بسرعة تتجنب الانفجار باكية أمامهم.
فمنذ ما تعرضت له منذ ساعات وهي لديها رغبة ملحة في البكاء والصراخ بقوة ولكنها وبصعوبة كبحت هذه الرغبة كي تلقن الحقير درسًا لا ينساه وكي لا يستهين بها أيٌ من المتواجدين، ولكن الآن وبعد أن غمرتها السكينة والاطمئنان بوجوده، عادت تلك الرغبة تطالب بحقها في الظهور..
نظر مصطفى لحالتها تلك فأخذ يحرك رأسه بالإيجاب يعطيها ما تريد من الوقت حتى تهدأ وهو يربت على ظهرها: براحة … براحة، خُدي وقتِك.
اقتحم عثمان في هذه اللحظة المكان ينادي بإسمها بفزع يتجاهل كلَ الموجودين بالمكان وهو يجذبها من بين أيدي مصطفى إليه يتفحص كل إنش بها وعينه تنبض بالخوف: جهاد! حد عملِك حاجة؟؟ حد كلِمك؟؟
وما زادت هذه الكلمات وهذا الخوف والقلق بعينيه رغبتها إلا جموحًا وإصرارًا، رأى عثمان هذا الصراع الذي تواجهه مرتسمًا على تعابير وجهها التي تارة تنكمش مهددة بالبكاء وتارة تنبسط بإدراك لوجود غرباء بينهم، فجذبها لصدره يخفيها عن الأنظار بظهره وهو يربت على ظهرها بحنان أجبرها على الاستسلام وإطلاق العنان لمشاعر المكبوتة بالإنفجار.
أخذت تبكي بصوت عالٍ حفز كل خلية بجسد أخيها الأكبر وهو يلتفت يطالع هذا الشاب بهيئة جعلت القشعريرة تسري بجسده وهو لا يراه إلا وحشًا سيهجم عليه خلال لحظات.
ابتلع الشاب ريقه يعتدل في مجلسه وهو ينظر مستغيثًا لضابط الشرطة الآخر الذي توترت عيناه فأخذ ينظر لكل البقع عدى البقعة التي يقف مصطفى بها.
_ هو .. هو قالي كلام وحش يا عثمان، فضل يضايقني أنا … أنا وهدى ومشى ورانا الطريق كله، وكان .. كان بيقرب مننا…
بترت باقي حديثها وتلك اللحظات المروعة تعاد أمام عينيها، فازدادت انتحابًا وتعالت شهقاتها بشكل أثار فزع عثمان الذي أبعدها بسرعة يعاونها على التنفس بشكل صحيح: براحة يا جهاد … براحة يا حبيبتي، خُدي نَفَسِك، خُدي نَفَسِك.
تخلت هدى رفيقتها عن صمتها أخيرًا وأشارت لذلك الذي كاد يبلل سرواله لشدة الخوف تجيب عن التساؤلات التي تقفز من عين مصطفى وبصوت أكثر وضوحًا عن صوت جهاد التي لم تتمكن من التحدث بشكل صحيح وبجملة واحدة كانت بمثابة قنبلة ألقتها في الوجوه:
_ إتحرش بينا..

تعليقات