رواية بحر ثائر الجزء الثانى الفصل الخامس والثلاثون والاخير
وراء كل نهاية بداية، تتعدد القصص والكاتب واحد .
يرحل من حياتنا بشر ويأتي غيرهم، ونذهب ونعود بين مكسبٍ وخسارة،نحزن تارةً ونفرح أخرى ولا شيئٕا ثابتًا في هذه الحياة .
ليتنا ندوّن على جدران أفعالنا علامة مميزة لنراها حينما نعود من دائرة الدنيا فلا نقع ولا نتوه بعدها، ليتنا ندرك أن الكلمة التي تخرج من ألسنتنا معقودةٌ بحبلٍ مطاطي مهما ابتعدت ستعود وترتد داخلنا، فلنقل خيرًا أو لنصمت حتى لا يعود لنا الألم (بقلم آية العربي)
❈-❈-❈
في تركيا
نزلت مسرعة ذلك المنحدر لتصل إليه قبل أن يغادر ، فقد أخبرها منذ 30 دقيقة أنه ينتظرها على الرصيف في سيارته ، ولكن قام كمال بتعطيلها كالعادة .
لم تعد تطيقه ، لم تعد تحتمل تصرفاته ، بات عبئًا عليها ، ما يجعلها تصبر هو صغيرها الذي لن تستطيع الاعتناء به الآن ، فلديها أحلامًا يجب أن تحققها .
وصلت لتجده يتأفأف ويطوف حول سيارته وكاد أن يرحل بالفعل ولكنه لمحها لذا صاح وهو يقترب منها :
– قلتي دقيقتين وجاية وبقالك نص ساعة ، فيه إيه ؟
وقفت تطالعه بنظرات استعطافية ثم نطقت بهدوء وأسف :
– معلش يا أسامة كمال مزودها أوي معايا ، ده ماكنش عايزني أخرج دلوقتي وفين وفين لما أقنعته .
زفر بتهكم ثم عاد يطالعها ويتساءل :
– وكمال ده هيفضل كل مرة كدة ؟ أنا مش فاهم إنتِ مستحملاه على إيه ؟ المفروض بعد ما رفض العرض اللي قدمتهوله تعرفي إن ده واحد غبي .
أومأت باقتناع تجيبه بضيق :
– معاك حق ، بس هعمل إيه ؟ وبعدين أنا بقول أهو بياخد باله من البيت والولد لحد ما اخلص شغلي ، ومش مهم هو بقى ، أصلًا لو كان عمل الحلقات اللي إنت عايزها دي كان هيعك الدنيا ، سيبك منه .
أشار لها برأسه نحو السيارة يردف بنزق :
– طب اركبي يالا .
بالفعل أسرعت تستقل المقعد الأمامي والتفت أسامة يستقل مقعد القيادة وتحرك يغادر المنطقة ويتجه معها نحو وجهتهما ويفكر قليلًا أو يدعي ذلك ثم نطق بخبث :
– فيه عرض عمل جايلي في بريطانيا ، وبفكر فيه ، حاسس إنه هيبقى أفضل من هنا بكتير .
عم الذهول ملامحها والتفتت تطالعه وتردف باستنكار :
– نعم ؟ هتسافر ؟ هتسافر وتسيبنا هنا يا أسامة ؟ إحنا مانعرفش حد غيرك ، وشغلنا ؟ هنعمل فيه إيه ؟ أنا ماعرفش اشتغل لوحدي ، وبعدين أنا لسة مابعرفش اتكلم تركي كويس .
اعتراضاتها واهنة ولكنها لا تريده أن يرحل فقد اعتادت عليه ، بل أنها باتت تراه خيارًا أفضل من كمال الغبي الذي رفض عرضًا كان سيحقق لهما الكثير ، وحينما حاولت إقناعه أخبرها أنه لن يعمل لحساب أحد ، أي حساب ذلك الغبي ، هم يعملون فقط للحصول على الأموال ولا ينشغلون بمن وما وراء ذلك العمل .
وجدته ينظر أمامه لبرهة ثم تحدث بنبرة يسقط منها الخبث في حجره ولا تراه :
– على فكرة أنا كنت هقولهم اسمك وتيجي معايا بس طبعًا ده مش هينفع في وجود كمال .
تلاعب بخيوط عقلها يحركها كيفما يشاء لذا مالت تطالعه بتمعن ثم تساءلت منجذبة لحديثه :
– أجي معاك فين ؟ بريطانيا ؟ معقول ؟
أومأ مؤكدًا ثم توقف جانب الطريق والتفت يطالعها بعمقٍ ليجيبها مؤثرًا :
– أيوة بريطانيا ، وعلى فكرة هناك أحسن من هنا بكتير ، ومافيش قيود هتتفرض علينا ، لو حابة تفكري فكري ، بس لازم تطلعي برا دايرة كمال .
قطبت جبينها تحدق فيه ، تحاول استنتاج ما يلمح له ، لتؤكد لها نظراته أنه يقصدها لذا هزت رأسها برفضٍ تجيبه بذرة أمومة معلقة على نافذة قلبها المتآكلة في مهب الرياح :
– لاء ، صعب جدًا ، سيبك من كمال ، بس ابني ماقدرش أبعد عنه .
ابتسم وهو يراها تتشكل بين كفيه كما يريد ليسترسل بنبرة ماكرة ترتدي ثوب العاطفة :
– ومين قالك إني هسمح تبعدي عن ابنك ؟ لو وافقتي على العرض هاخدك ونهاجر بريطانيا إنتِ وابنك .
شهقت بصدمة ليضحك ويستأنف قيادته وهو يردد بدهاء :
– فكري كويس يا زينة ، شوفي مصلحتك فين وقرري وبلغيني ، أنا قاعد هنا شوية وممكن أساعدك في موضوع كمال ، بس فكري .
غشت عينيها ضبابية كلماته فباتت تفكر في عرضه المميز، فها هو يتقبلها مع صغيرها ويفتح لها أبوابًا ظنت أنها فقد من عالم الأحلام، من مصر إلى تركيا كانت هذه أمنيتها، أما من تركيا إلى بريطانيا فهذا حلم لم تجرأ حتى على التفكير به، فهل تفعلها؟
❈-❈-❈
في فيلا ثائر
وبعد تناول العشاء وجمع المائدة .
نهض ثائر وهو يمسك بكف ديما حيث قررا أن يتحدثا مع الجميع الآن
تحمحم ثائر ونطق برتابة ومقلتاه تشعان راحة وسكينة :
– نورتونا النهاردة يا جماعة ، وبنشكركم طبعًا على تلبية دعوتنا وحضوركم الكريم وسطنا النهاردة و مشاركتنا فرحتنا ، وأنا حبيت نتجمع كلنا وتتعرفو على بعض لإن كل شخص هنا شارك بشكل أو بآخر في وصولي للحظة دي وإني أكون وسط أهلي وناسي ومع الشريكة اللي غيرت المعادلة كلها للأحسن طبعًا ، واسمحولنا بدقايق من وقتكم لإن ديما حبة تتكلم عن مشروعها اللي ناويين بإذن الله نأسسه ، واللي حابب منكم ينضم لينا أو يساهم ده هتكون حاجة كويسة جدًا وهنخدم بيها بلدنا بشكل مباشر وغير مباشر .
التفت ينظر لها بابتسامة ويشير ناطقًا :
– اتفضلي يا ديما .
ابتسمت له بامتنان كبير ونظرت للجميع وبدأت تردف :
– زي ما ثائر قال نورتونا النهاردة وحقيقي أنا مبسوطة جدًا بوجودكم ومبسوطة إني اتعرفت على مدام نارة ومدام خديجة .
أومأت لهما فبادلتاها مبتسمتان لتتابع :
– شكرًا لحضوركم واسمحولي أدخل في الموضوع علطول ، المشروع هو عبارة عن مؤسسة خاصة وعامة في نفس الوقت ، خاصة لإن إحنا اللي هنكون مسؤولين عنها وعامة لإنها هتشمل التربية والتعليم من بداية المرحلة العمرية للطفل لحد ما نوصلهم لبر الأمان ويقدرو يطلعو من المؤسسة على وظيفة أو عمل داخل حدودنا أو خارجها حسب رغبتهم بس هنوفرلهم على قدر استطاعتنا الفرصة الكافية لدا ، المؤسسة هتخدم أطفال الشوارع والأيتام ، طبعًا هيكون متوفر خدمات كتير ومجالات متعددة ومعاملة انسانية باحتة ، هنعلمهم مهارات تعليمية وأساليب حياتية وتنمية سلوك وأعمال إلكترونية بجانب طبعا التعليم الأساسي ، هنهتم بالتربية الدينية والرياضية والفنون والأدب ، يعني هتكون مدرسة متكاملة بحيث إنهم لما يكبرو ان شاء الله يخدمو بلدهم ويدافعو عنها ويواجهو أي تحديات تواجهها ، وده في حد ذاته هيكون استثمار عظيم ، لإننا حاليا بنشوف جيل للأسف بيتربى على عادات غلط وتصرفات مش أخلاقية وإدمان وإجـ.ـرام وكل دي حاجات دخيلة على مجتمعنا العربي والإسلامي ، دي سلوكيات تسبب فيها الاستخدام المفرط والغلط للإنترنت والإعلام ، علشان كدة لازم ناخد موقف وننقذ مايمكن إنقاذه من أولادنا لإن هما قلعة مصر اللي لازم تكون قوية ومتماسكة ، وانا بتمنى إن كلنا نشارك في العمل ده ومع الوقت نفتح باب المساهمة والتبرعات علشان نكبر المؤسسة ونعمل أفرع كتير داخل محافظات مصر كلها ، إحنا مش هنستنى لما التغيير يحصل وبعدين نتأقلم معاه ، إحنا لازم نمد ايدينا ونغير بنفسنا السلوكيات الخطأ مادام عندنا القدرة على ده ، واللي مش قادر يغير على الأقل يشجع بكلمة أمل مش إحباط وده اللي هنسعى ليه من خلال الدعاية والترويج للمشروع ، ياريت تعرفونا رأيكم ومن حقكم طبعًا تفكرو كويس وتبلغونا قراركم براحتكم ، وشكرًا مرة تانية على وقتكم ووجودكم معانا النهاردة .
قبل أن تجلس في مقعدها تعالت التصفيقات بحرارة كدليل على تجاوب الجميع معها ، نظرات الفخر شملتها من والدتها ، داغر ، دينا ، وأولادها ، وبالطبع ثائر ، بل وامتدت نظرات الإعجاب وبحديثها بها من قبل الجميع ليتحدث رشدي بمسؤولية رجل دولة وبنبرة مرحبة :
– وأنا عندي مكان المؤسسة .
التفتت الأنظار له ليتابع بابتسامة ونبرة جادة ثاقبة :
– عندي فيلا مقفولة بقالها سنين ومساحتها كبيرة نقدر نستغلها في المشروع ده وهبقى مبسوط جدًا لو وافقتو ، أنا مش محتاجها في حاجة وانتو عارفين إني ماعنديش أولاد ، ده غير إن ليا شقتي فياريت تقبلوها .
نظر له ثائر بامتنان يصاحبه المكر ، فقد ضرب رشدي عصفورين بحجرٍ واحد ، تارةً هو صادق في مشاركته بفيلته ، وتارةً أخرى هو يُعرّف بنفسه أمام منال التي صفقت له بتلقائية وعادت تنظر لابنتها بفخر ثم أردفت بعاطفة :
– وأنا ممكن أساهم بنفسي وأراعي الأطفال الصغيرين ، إنتِ عارفة إني بحب الأطفال جدًا وكدة كدة أنا معظم الوقت لوحدي ، ياريت ابقى معاكو يا ديما .
ابتسمت لها ديما تجيبها :
– معانا طبعًا يا ماما .
بينما نظر لها رشدي بإعجاب ولسان حاله يردد ( هنراعيهم سوا إن شاء الله)
لتقبض بسمة على يد داغر كمشاركة وتردف بهدوءٍ ورشد :
– واحنا معاكي طبعًا يا ديما وهنساهم في المشروع .
يليها صالح الذي نطق وهو يمسك بكف دينا ويردف :
– و إحنا كمان معكن ، هالشي عمل عظيم وبيستاهل كلنا نكون إيد وحدة .
ابتسمت له دينا بسعادة ليردف صقر بثقل وتشاركه نارة :
– واحنا كمان يا ثائر معاكم طبعًا .
ليليه العابث ناطقًا بعدما استشار خديجته سريعًا وحاوط كتفها بحماس بينما هي تجلس كعادتها هادئة وخجولة :
– وأنا وخديجة مآكم ، خديجة شاطرة جدًا في تأليم اللغة والأطفال بيهبوها .
ليأتي دور دياب ويسرا اللذان نطقا في آنٍ بنبرة مرحبة ومتعاونة :
– معاكم طبعًا يا ديما ، إنتِ عارفة رأينا من الأول .
وأسما التي نطقت بابتسامة هادئة ومغزى حكيم :
– فكرة ممتازة يا ديما وكلنا معاكي طبعًا ، مافيش حد هيتردد إنه يساهم في حاجة زي دي ، خصوصًا إن فعلًا أولادنا بدؤو يبعدو عن هويتهم الحقيقية ، مش بس بالتصرفات الإجرامية ، كمان انبهارهم بالغرب ونزع حتة الانتماء لبلدهم من قلبهم ، أولادنا لازم نرجعهم لحضننا تاني ، لازم يأمنو ويثقو إننا بنحبهم وبنثق فيهم وإن طبيعي نغلط بس مش طبيعي نستمر في الغلط ، ولازم لما يندمو يلاقو ابواب قلوبنا مفتوحة ليهم علشان إحنا في حرب عقول دلوقتي ، أنا كمان معاكم بمقدرتي طبعًا .
كان حديثها يُسمع من الجميع وخاصةً شمس وليل اللذان نظرا لها بإعجاب ، فما قالته راق لهما ، خاصةً وأنهما بالفعل كانا يركضان في طريقٍ ليس لهما ، والآن بدأت تتضح لهما رؤية الحقيقة ، وأن الوطن يكون حيث تكون العائلة ، وأن الأمان يكمُن في دفء الأحباب وليس فقط في حصر الأموال وتحقيق الرغبات ، وأن منزلًا عامرًا بالحب خيرًا من ألف منزل عامرٍ بالرفاهيات .
ولكن ما أثار انتباه شمس نظرات والدها نحو أسما ،هناك إعجاب يلمع في عينيه ،خاصةً حينما تحمحم لينطق خلفها مباشرةً :
– وأنا طبعًا مشاركتي معاكم هتكون مادية بس للأسف ، بس ممكن شمس وليل يحبو يشاركو بمجهودهم ، ولا إيه ؟
قالها وهو يطالعهما فاكتفت شمس بإيماءة بسيطة بينما تحدث ليل بحماسٍ :
– أيوة ياريت ، أنا ممكن أعلم الأطفال إزاي يتعاملو مع الإنترنت ويستخدموه صح من خلال تقنيات جديدة اتعلمتها في دبي وناوي أطورها هنا كمان زي تحليل البيانات مثلًا .
طالعته أسما بإعجاب تردف :
– برافو عليك .
ابتسم لها ولم يخفَ ذلك عن شمس ، لتربت علياء على كتف حفيدها مشجعةً إياه و نطقت أيضًا وهي تنظر إلى منال بود :
– يبقى أنا بقى هشارك منال هانم في رعاية الأطفال على أد ماقدر .
ابتسم أمجد ومال عليها أمام الجميع ينطق بحبٍ يصاحبه المرح :
– وأنا مين يراعيني يا لولو ؟
ضحكو عليه ليبتسم على خجلها ويتابع بتنهيدة :
– كدة يبقى موافقة بالإجماع ، بالتوفيق يا اولاد ، جهزو بقى خطتكم وأوراقكم وتوكلو على الله وكلنا معاكم .
❈-❈-❈
بعد قليل داخل الفيلا .
وقفت منال تتلقى كلمات المدح من علياء أمام أمجد الذي يجاوره رشدي حيث قالت :
– يمكن صحيح ماحصلش قبل كدة فرصة أننا نقعد مع بعض ونتكلم ، بس أنا عرفت من ديما بنتك ، من احترامها لينا وأخلاقها العالية ونقاء قلبها ، بأمانة أنا كل ما بشوفها بقول في نفسي تسلم الست اللي ربتك ، مش سهل بردو الست مننا تبقى أم وأب بس انتِ كنتِ قدها .
ابتسمت منال بحرجٍ فهي تشعر بأنها اخطأت في الماضي حينما ضعفت وانحنت لحب ذلك الرجل السام ، كلمات علياء لم تسعدها بقدر ما آلمتها على نفسها وعلى أولادها ولكنها شكرتها تردف :
– تسلمي يا مدام علياء ، إنتِ كمان ونعمة الأم وأستاذ أمجد ونعم الأب ، وثائر انسان محترم وأصيل وحنين وأنا بحبه كأنه ابني وكفاية أنكو زرعتو فيه إزاي يحترم الزوجة ويقدرها ويصونها وأنا مطمنة على ديما معاه وقلبي ارتاح من ناحيتها ، ربنا يباركلو في بعض .
في هذا الوقت كان ثائر وديما يودعان صقر وزوجته نارة وخالد وزوجته خديجة ، واستأذنت أسما أيضًا لذا تحركا عائدين ليلكز ثائر ديما مشيرًا برأسه نحو والديه ثم ناداهما يردف بمغزى :
– بابا ؟ بعد اذنك ثانية إنت وماما .
أومأ أمجد له بتفهم وتحرك مع علياء نحوهما و تركا رشدي يقف أمام منال التي ازداد توترها ونظرت له تبتسم وحاولت أن تنسحب بإيماءة بسيطة ولكنه أوقفها يتساءل بمكر :
– هو إنتِ زوجك بردو توفى يا منال هانم ؟
وخزها قلبها وأجابته بخفوت ونبرة حزينة على ما مرت به :
– لاء ، أنا منفصلة .
أومأ بتفهم ثم أشار لها نحو المقعد يردف بتريث :
– طب اتفضلي اقعدي .
ابتسمت بحرجٍ ثم نظرت حولها بتوتر ، كأنها تخشى أولادها ولكنها لم تجدهم لذا عادت تطالعه وتحركت خطوة تجلس على المقعد ليجلس مقابلها ويتحمحم كدلالة على كلماتٍ يود تحريرها وبالفعل بدأ يحررها مستطردًا :
– أنا زوجتي اتوفت من حوالي 18 سنة ، من بعد موتها قررت اعيش لشغلي وبس ، ربنا مارزقنيش بأولاد بس كنت بعتبر الضباط اللي معايا هما أولادي .
أثارتها كلمة ضباط لتوليه انتباهها وتتساءل بترقب :
– هو حضرتك بتشتغل إيه ؟
ابتسم ونطق بهدوء :
– أنا رشدي عبد العال ، لوا في جهاز المخا..برات ، بس قدامي كام شهر واطلع معاش ، ودي حاجة مخوفاني ، أنا مابحبش الوحدة ، بخاف منها ، بس بيبقى فيه ظروف بتحكم والحياة شئنا أم أبينا لازم قوانينها تمشي علينا .
أومأت بتفهم برغم تفاجأها وتوترها من هيبة منصبه ، فهي تعاني من الوحدة منذ زمن ، وحدتها متعددة الأوجه ، فحينما كانت زوجة كانت وحيدة المشاعر ، وحينما انفصلت باتت وحيدة التفكير برغم وجود أولادها حولها ، وحينما تزوج أولادها باتت وحيدة العقل والقلب والواقع ، لذا فهي تشعر به وهذا ما وضحته حينما نطقت بهدوء مبهم :
– الوحدة صعبة أوي ، بتزود عمر الواحد وهمومه ، بس مافيش أجمل من إن الواحد يتونس بقربه من ربنا ويعوض تقصيره خصوصًا بعد العمر ده .
أراد أن يلطف الجو بينهما ، ويعطيها انطباعًا خاصًا عنه ، لذا نطق بنبرة تحمل على متنها مرحًا فقال :
– اسمحيلي يا منال هانم بس ممكن الوضع بالنسبالك يبقى مختلف علشان إنتِ حوليكي أولادك وأحفادك ربنا يباركلك فيهم ، إنما أنا وحداني .
نطق الأخيرة بنبرة استعطافية لذا حدجته بنظرة مشككة في أمره وغمرها التوتر في جلستها ليبتسم ويدرك أنه نجح في إيصال هدفه لها لذا كاد أن يسترسل في حديثه لولا مجيء داغر الذي لمحهما جالسان وتقدم يطالعه بتجهم ونطق بغيرة من هذا الوضع :
– يالا يا ماما علشان نروح ، عن اذنك يا أستاذ .
طالعه رشدي بنظرات ثاقبة يوميء له بثباتٍ لتردف منال قبل أن تنهض وتتحرك مع ابنها المتأهب :
– عن اذنك .
– مع السلامة .
ودعها ليسحب داغر والدته معه ويتحرك نحو عائلته ويتساءل بخفوت :
– كان بيقولك إيه يا ماما ؟
أجابته بنبرة هادئة تخفي بها توترها :
– ده يبقى قريب عمك أمجد أو صاحبه ، وبيشتغل لوا في المخا..برات ، كان بيحكي عن شغله .
لم يكن يعلم أنه كذلك ولكن لم يزُل استفهامه حول جلوسه مع والدته والحديث إليها ليقرر تجاهل الأمر ظاهريًا أو إلى أن يثبت له العكس .
❈-❈-❈
عند بوابة المنزل
كادت أسما أن تعبر خارجها لتستقل سيارتها المصفوفة في الجوار ولكن لحق بها أحمد يناديها فتوقفت تلتفت له فوقف يطالعها بتمعن ثم أردف بابتسامة :
– خليني أوصلك ، الوقت اتأخر .
هزت رأسها تبتسم وتجيبه بثقل :
– لاء خالص الساعة لسة 11 ، خليك علشان الأولاد
ما يضيقوش .
لم ينسَ حديثهما سويًا آنذاك حين سمعته وأخبرته بقصتها ووعدته أن تعطي لعلاقتهما فرصة ولكنها أولًا تريد رؤية أولاده ، وها هي الليلة قد رأتهما لذا فهو يتلهف لمعرفة انطباعها عنهما وقرارها الأخير ، وقرأت هذا في عينيه ، فهو يتميز بالوضوح حتى في مشاعره لذا أجابته لتريحه :
– وأنا عند وعدي يا احمد ، علاقتنا محتاجة فرصة ، بس لازم أعمل حاجة مهمة قبلها وقبل ما أي حاجة تبقى رسمية ، لازم اقرب من أولادك أكتر وخصوصًا شمس ، لازم اتعامل معاهم عن قرب واتكلم معاهم ومش مرة واحدة ، لازم يتقبلوني كصديقة الأول ويحبوني علشان يتقبلو إني أكون مكان مامتهم ، وصدقتي أنا هقدر أعمل ده بمساعدة ديما طبعًا ، علشان كدة أنا بطلب منك تصبر شوية .
ازدرد ريقه وأومأ بتفهم ظاهري ، ولكن قلبه بحاجة إلى قربها ، فهل يصبر على سعادته أكثر من صبره كل تلك السنوات ليرتبطا ؟ لذا نطق بترقب :
– أنا فاهمك كويس يا أسما ، بس حقيقي أنا محتاجك في حياتي النهاردة قبل بكرة ، صعب تطلبي مني اصبر ، صدقيني أنا صبرت كتير .
نظرت لعينيه ولم تشعر بالضيق ، بل أحبت تعلقه بها ، وشعرت بمسؤولية أكبر تجاهه وتجاه أولاده ، شعرت بصدق مشاعره لذا أجابته بهدوء مبطن بالتروي :
– وأنا من النهاردة موجودة في حياتك يا أحمد ، وممكن تعتبرني صديقة العيلة لحد ما انجح واكسب محبة شمس وليل وبعدها هنغير الألقاب ، وعلى فكرة أنا نفسي طويل ومش بستسلم وبما إني وعدتك هكون قد وعدي ، بس خليني احاول اصلح المكسور عندهم الأول علشان نبدأ حياتنا صح .
بنظراتٍ من الحب والإعجاب بشخصيتها عبر لها عما بداخله ، يشعر أنها المرأة التي جاءت بعد عذابٍ لتعوضه عما عاشه وتعطيه درسًا في الحياة وتؤكد له كم كان مخطئًا وهشًا أمام العواصف التي مرّ بها .
إنها امرأة تستحق الاحترام ، والحب ، والاحتواء ، وتستحق أن يغير معادلاته لأجلها .
❈-❈-❈
في غرفة ثائر وديما .
تحديدًا في حمامها .
وقفا أمام مرآة الحوض يفرّشان أسنانهما وينظران لبعضهما بمغزى ، خاصةً بعدما تشاركا سويًا حمامًا دافئًا ومنعش في آن ، لم يكن ليخلو من حركات ثائر الرومانسية العابثة ، لذا فها هو يغمزها ثم غمر يده بالمياه وليغسل فمه من أثر المعجون .
اعتدل يجفف فمه ويناظرها مبتسمًا ومأخوذًا بها فابتسمت عليه وعلى مشاعره الطامعة وانحنت تغسل لثوانٍ ثم نهضت تنظر إليه متسائلة وهي تستل منه المنشفة وتجفف فمها متسائلة بابتسامة مشرقة :
– بتبصلي كدة ليه ؟
حاوط خصرها يقربها إليه أكثر حتى تلاقت أنفاسهما ليمعن النظر إليها مجيبًا :
– مش بشبع منك ، عايز عيوني تفضل متعلقة عليكي كدة علطول ، صابر الرباعي كان معاه حق لما غنى لحبيبته وقالها أجمل نساء الدنيا جوة عيوني إنتِ ، أنا النهاردة كنت فخور بيكي أوي ، وانتِ واقفة وبتتكلمي عن مشروعك كنت حاسس إنك بنتي مش مراتي ، كنت فرحان بيكي أوي يا ديما لإن ده مكانك الحقيقي ، إنت انسانة بتفكر إزاي تسعد وتساعد اللي حواليها ، علشان كدة مسؤوليتي ناحيتك لازم تكون كبيرة ، أنا إحساسي بيكي مختلف مش مجرد زوج وزوجة لاء ، أنا بحس إنك جزء كبير مني ، حتة من قلبي ، وانتِ بتتكلمي كإنك بترجمي اللي جوايا واللي أنا نفسي مش عارف اترجمه ، كإنك اللغة الوحيدة المفهومة في قاموس حياتي يا ديما .
رفرف قلبها بجناحيه فباتت تشعر بخفة وسعادة تجوب أركان روحها لذا تناولت كفه المحتضن لخصرها وانحنت تقبل باطنه قبلة متروية ، ناعمة ، مطولة ، لتعبر عن قوة حبها و امتانانها له .
اعتدلت تطالعه وتتنفس بحرارة قائلة بنظرات لامعة تنتمي لعشقه :
– بحبك .
– وأنا كمان .
❈-❈-❈
بعد عدة أيام في منزل منال .
تجمعت العائلة مساءً بناءً على رغبة ثائر ، لا يعلمون السبب ولكنهم أتوا بالفعل واندمجوا في حالة من الود والحفاوة .
جاءت منال من مطبخها تحمل صينية الشاي وتتبعها دينا تحمل صينية الكيك ليتحدث ثائر بتريث :
– تعالي يا ست الكل اقعدي وارتاحي علشان عايزك في موضوع مهم .
وضعت منال الصينية على الطاولة واتجهت تجلس وتطالعه بترقب ليحتل الشك عقلها ، خاصةً وأنها تفكر في أمر ذلك الرشدي منذ أن قابلها ، لذا تفشى التوتر فيها حتى تجلى على محياها وهي تتساءل بهدوء ظاهري :
– خير إن شاء الله يا ثائر ؟
نظر ثائر للجميع وآخرهم كانت ديما التي شجعته بنظراتها فنطق بترقب :
– اللوا رشدي عبد العال طالب إيدك على سُنة الله ورسوله .
عم الصمت لثوانٍ قبل أن ينطق داغر بحدة :
– نعم ؟ إيه الكلام ده يا ثائر ؟
لف ثائر أنظاره إليه ، كان يعلم أن الاعتراض سيأتي من داغر ودينا لذا استعد لمجابهتهما ونطق بهدوء مبهم :
– ده مش كلام يا داغر ده طلب حقيقي ، راجل عايز يدخل البيت من بابه ويتجوز والدتك ، ده لا عيب ولا حرام ، ولا إيه ؟
اعترضت دينا تردف باستنكار تجيب عن والدتها :
– ومين قالك يا ثائر إن ماما بتفكر في حاجة زي دي أصلًا .
التفت لها يجيبها بنبرة مشابهة :
– وتعرفي منين اللي والدتك بتفكر فيه يا دينا ؟
التفت صالح ينظر لها ويردف بهدوء رصين :
– روقي يا دينا ، بعتقد هاد قرار والدتك مش قرارك .
زمت شفتيها بضيق ونظرت نحو منال كأنها تستشف إجابتها بينما استطرد داغر بغيظ وغيرة :
– لا يا صالح مافيش الكلام ده ، إحنا عارفين قرار أمنا من غير ما تقول ، ولا إيه يا ماما ؟
هذا الكم من الضغط واجهته منال دفعة واحدة مع تلقيها الخبر فباتت في موقفٍ لا تحسد عليه وجلست تحدق بالجميع بتوتر ولا تعلم بماذا تجيب لتشعر بها ديما التي لم تحتمل ذلك ويبدو أن هرمونات الحمل ساعدتها لتنطق بنبرة حادة معنفة شقيقيها :
– ممكن تهدو شوية ؟ أنتو أصلا مادتوش فرصة لماما تتكلم ، أنا وانتو عارفين كويس ماما مرت بإيه .
أمعنت النظر إلى شقيقها الذي يجاور زوجته ويجلس غاضبًا تتابع :
– هو مش إنت يا داغر اللي شجعتني أكمل حياتي من مكان ما وقفت ؟ مش إنت اللي كنت مبسوط جدًا لما ثائر كلمك وطلب إيدي منك وكنت ومازلت شايف إن ربنا عوضني بيه عن كل حاجة مؤذية عشتها ؟ وبعدين إنت اتجوزت وبقى معاك شريكة حياتك اللي بتحبها وبتحبك وبتونسو بعض .
التفتت تواجه دينا وتعطيها نصيبها قائلة :
– وانتِ يا دينا لو سمحتي خلي ماما هي اللي تقرر واحترمي قرارها والمرة دي فكري فيها هي وفي حالتها خصوصًا بعد جوازك وخروجك من البيت .
ثم نظرت لوالدتها واسترسلت بنبرة حنونة وجادة في آن :
– وانتِ يا ماما لو سمحتِ ماتخليش كلام أي حد يأثر على تفكيرك وقرارك ، المرة دي لازم تفكري كويس وتحسبيها من كل النواحي ، إحنا التلاتة اتجوزنا وعايشين مع أزواجنا بعيد عنك ، ماحدش يحقله يقرر مصير حياتك هيمشي إزاي غيرك ، كلنا عارفين إنك اتظلمتي واتوجعتي أوي وكلنا مقدرين تضحيتك علشانا ، فكري كويس المرة دي علشان خاطري ، اللوا رشدي انسان محترم جدًا ومتفهم وطلبه ده مش عشوائي وهو عنده استعداد يقعد مع داغر ويتكلم معاه ، بس الأهم إنتِ فكري كويس وبلغي ثائر بقرارك وخدي وقتك .
وزعت نظراتها بين شقيقيها وتابعت بمغزى مرِح وهي تتكتف :
– وسيبك من داغر ودينا ، أنا وثائر وصالح وبسمة هنربطهم لحد ما تقرري .
ابتسمت بسمة تجيبها بحماس :
– وأنا جاهزة .
طالعها داغر بحنق ليجدها تهز كتفيها وتردف :
– معاها حق .
انزعج منها ومن الجميع لذا التفت ينظر لهم لثوانٍ قبل أن ينهض ويردف بملامح عابسة :
– طب عن اذنكو .
تحرك قاصدًا شقته ولكن ديما نهضت تخطو خلفه وتناديه قبل أن يصعد الدرج فوقف يلتفت لها ويطالعها بنظرة لومٍ وعتاب ، فهو لا يحتمل أن تتزوج أمه برجلٍ آخر ، كيف سيتعامل مع هذا الوضع وهو الذي اعتاد على تحمل مسؤوليتها بحبٍ ورضا .
نظرت له بعمق وتفهمت موقفه ولكنها لا تتقبله لذا اقتربت منه وأردفت بخفوت :
– ممكن تركن غيرتك دي على جنب لان مش في محلها خالص ، أنت أكتر واحد عارف ماما شافت إيه ، من حقها تلاقي راجل يعوضها عن حياتها مع أبوك اللي إنت مش بتحبه بسبب اللي عمله فيها ، لازم تفكر كويس وتبعد وتفصل بين علاقتك بماما وجوازها مرة تانية لإن ده حقها ، الرسول صلِّ الله عليه وسلم تزوج الأرملة والمطلقة وده أكبر دليل على إن حقهم يكملو حياتهم ويفرحو ويلاقو اللي يونسهم ويحتويهم ، خصوصًا لو زي حالة ماما ، أنا وانت عارفين أد إيه هي اتعذبت واتوجعت واتخانت وللأسف ماكنش عندها اللي يجيبلها حقها ، فكر كويس يا داغر وماتشاركش في الظلم لإنك فعلًا لو رفضت هتظلمها .
❈-❈-❈
بعد مرور عام
في فيلا داغر التي اشتراها حديثًا
يرتدي حِلته السوداء وينحني على صغيره الذي يرتكز في حضن أمه ويتناول وجبته منها ، يحاول استفزازه حيث يقضم وجنته المنتفخة بلطافة ويحدثه بغيظ :
– سيبهالي بقى يا واد ، مش عارف استفرد بيها ، حل عنها شوية يابن الــــ .
– داغــــــــــر !
نطقتها بسمة محذرة ومستنكرة تطالعه بعتاب وتتابع :
– بلاش يسمع الألفاظ دي ، إنت جرالك إيه ؟
ضيق عينيه واعتدل يردف مشيرًا بسبابته في اتهام :
– عمري ما هنسهالك لا انتِ ولا هو إن ماتقعديش من الشغل علشان خاطر حبيبك وتقعدي علشان السفروت ده ، ماشي يا بسمة .
ابتسمت ونطقت بدلال وهي تملس على ذراعه :
– مايبقاش قلبك أسود بقى يا ديغو ، وبعدين ده زي ابنك بردو .
عاد ينحني عليه ويقضمه مرة أخرى فيعطله عن تناول وجبته فيتملق الصغير بانزعاج ليتشفى داغر قائلًا :
– إنت لسة شوفت حاجة مني ، اصبر عليا يا ابن داغر ، ربنا يستر وماتطلعش زي أبوك وتتعبني معاك .
ابتسمت بسمة تعيد لفم صغيرها وجبته ثم رفعت نظرها تتطلع على داغر بحب وتجيبه بصدق :
– لا أنا عايزاه يطلع زيك ، ياخد منك الحنية والطيبة والكرم .
مال يلتهم شفتيها في قبلة عاشقة ثم ابتعد قليلًا يهمس بثقة ومرح :
– وياخد قلة الأدب كمان علشان مراته تحبه .
ضحكت عليه ثم أزاحته بيدها تردف بحدة زائفة :
– طب يالا بقى روح على شغلك وكفاية كدة .
نظر لهما بمحبة بالغة وتنهد مجبرًا على الذهاب فهو لا يود تركهما ولكنه أومأ وتحرك مغادرًا إلى عمله .
❈-❈-❈
في شقة رشدي الفاخرة
تقف منال ترتدي ملابسها الأنيقة الخاصة بالعمل ، حيث باتت هي وزوجها المسؤولان عن إدارة مؤسسة ( خطوة للحياة )
تحمل حقيبة يدها وتنادي زوجها بنبرة حبٍ :
– يالا يا رشدي الساعة هتبقى 11 .
كان يحضر من مطبخه طعام القطط التي تمكث أسفل بنايته ، تقدم منها ونطق بلين :
– جيت أهو يا حبيبتي ، إنتِ نسيتي أكل القطط .
شهقت وضربت رأسها بخفة تردف :
– كويس إنك افتكرته يا رشدي ، أنا مابقاش فيا عقل .
نطق معترضًا بمحبة :
– لاء يا غالية دانتِ العقل كله ، بس يمكن قلقك على دينا طول الليل هو السبب ، أنا بس مش عايزك تخافي عليها ، هتبقى زي الفل صدقيني .
تذكرت ابنتها التي تعاني من الحمل ، حيث باتت على مشارف الولادة ويبدو أنها تواجه صعوبة بالغة على التحمل ، ولولا مراعاة صالح لها طوال الأشهر الماضية لكانت التزمت المشفى .
تنهدت بعمقٍ وأردف وهي تفتح الباب ليغادران :
– يارب يا حبيبي ، ربنا معاها ويكرمها ويهون عليها يارب .
– آمين يارب .
قطع حديثهما رنين هاتف منال فاستلته من حقيبتها لتجده صالح لذا وخزها قلبها على الفور وأجابت بلهفة وقلق متسائلة :
– أيوة يا صالح ؟ دينا كويسة ؟
أجابها بعجالة كأنه يركض وهو بالفعل كذلك :
– دينا بتولد هسا يا أمي ، إحنا بمشفى **** ، هي
بدا إياكي لا تتأخري .
❈-❈-❈
بعد مرور خمسة وعشرون عامًا
هبطت الطائرة القادمة من باريس في مطار القاهرة الدولي، بدأ الركاب يتحركون نحو باب الخروج وبالفعل غادر الجميع بعد وقتٍ إلا شابًا لم يتحرك من مكانه ، بل يبدو وكأنه التصق بالمقعد ، بجسدٍ متصلب وأعصابٍ مشدودة حتى يظن من يراه أنه سينفـ.. ـجر .
يصدر صوت أنين من بين أسنانه التي تسحق بعضها ، قبضتاه تمسكان ذراعي المقعد حتى بات وكأنه جزءًا لا يتجزأ منهما .
أسرعت إحدى مضيفات الطيران نحوه حينما استمعت لصوته بعدما ظن الجميع أن الطائرة قد خلت من الركاب ، وجدته على حالته لذا حاولت مساعدته ولكنه بدى كالمتحول أو على وشك التحول لوحشٍ أو لمصاصِ دماء .
لم تستطع مساعدته لذا أسرعت نحو غرفة القيادة لتطلب النجدة أو لترى كابتن الطائرة ولكنها لم تجد سوى مساعدته التي عُينت حديثًا وهذه أولى رحالتها .
وقفت أمامها تردف بملامح متوترة :
– يا فندم فيه راكب لسة مانزلش من الطيارة وتقريبًا كدة بيعاني من تشنجات معينة ، حاولت أساعده بس حالته صعبة ، ممكن تطلبي الإسعاف ؟
كانت هذه الجميلة تتحدث مع والدها وتطمئنه بأنها وصلت أرض مصر سالمة ، فهي تعلم جيدًا مدى قلقه وخوفه عليها ، ولكنها أردفت وهي تنهض على عجالة :
– بابا أنا لازم اقفل دلوقتي .
أردف ثائر بتوتر وترقب مستفهمًا :
– فيه إيه يا دليدا ؟
– أبدًا يا بابا فيه حد من الركاب تعب فجأة ولازم أشوفه ، هكلمك تاني ، يالا سلام .
أغلقت معه وتحركت من غرفة التحكم إلى الخارج متجهة مع المضيفة نحوه لتجده بالفعل يعاني من تشنجات حادة لذا أسرعت تلتقط قناع التنفس وتعلقه حول فمه مردفة بنبرة آمرة :
– اطلبي الإسعاف بسرعة .
تحركت المضيفة تنفذ ما طلبته ووقف ديما مع هذا الشاب الذي أشار بعينيه نحو جيبه فتعجبت ودست يدها بالفعل في جيبه لتجد بخاخ دواء فأسرعت تفتح فمه ووجدت صعوبة في ذلك خاصة مع التحام صفي أسنانه في بعضهما ولكنها ظلت تحاول إلى إن نجحت وقامت بالضغط على الزجاجة ليتفشى السائل داخل فمه وما هي إلا ثوانٍ حتى وجدته بدأ يستعيد وعيه وتتراخى أعصابه شيئًا فشيئًا تحت أنظارها المترقبة .
ازدردت ريقها ونطقت بترقب بلغة أنجليزية :
– هل أنت بخير الآن ؟ على العموم الإسعاف في الطريق .
تنفس قليلًا وأومأ لها وبدأ يحرك كفيه قائلًا :
– شكرًا لكِ أنسة ــــــــــــ!
– دليدا .
نطقتها بجدية وهدوء ليمد يده نحوها في وضع السلام مسترسلًا بابتسامة شقت ملامحه الوسيمة :
– وأنا قصي ، قصي توماس أورليان .
تمت بحمد الله