رواية علاقات سامة الفصل الثالث والاربعون 43 والاخير بقلم سلوي فاضل


 رواية علاقات سامة الفصل الثالث والاربعون والاخير

«جَبْر»

انقضت عدة أشهر وحان موعد الجلسة الثانية لقضية سارة، ما حدث بالجلسة الأولى تكرر بالثانية ادِّعاءات كاذبة مماطلة وتأجيل، تراقصت على شفتي كمال بسمة منتصرة متجبرة سبقت خروجه مِن القاعة بعدما رمقها شامتًا ولم يخفَ عنه ذُعْرَها المتراقص بمقلتيها؛ فزاده غطرسة وتباهٍ. 
لم يتخلَ عنها مؤنس، رافقها بالجلسة ثم أوصلها إلى طيف التي ثقلت حركتها كونها بشهرها الأخير بفترة الحمل، آوت سارة إليها تبكي بين ذراعيها بانهيار، لم يعد لها ملجأ سواها، فبرغم أن والدة مؤنس تتواصل معها باستمرار وتعاملها بود إلا أنها لا تنفك عن ذكر طيف بما ليس فيها، تراها مَن هَدَم حياتها ولا تعلم أن كل ما حدث نتيجة فعلها هي، فطيف لم تجبرها على إجهــاض أطفالها، لم تلفت نظر مؤنس ولم تطلب منها التَّعاون مع كمال، جمعيها أفعالها هي وأخطائها. 

كافأ نفسه بسهرة خاصة؛ فالحظ حليفه بهذه الفترة، انتهت مشكلة عمله وأي نهاية! فقد ظهر بصورة الضابط الشريف الذي تلاعب الفاسدون بالحقائق لتدنِيس طهارته؛ فنال ترقية استثنائية تكريمًا لطهارة يده، وهو الآن في طريقة للإيقاع بفريسة جديدة يسـطو على أموالها ويمارس متعته عليها. 
استكفى مِن السهر فاستقل سيارته عائدًا إلى المنزل، ارتسم على جانب فمه بسمة متهكمة وهو يتذكر هيئة سارة حين أخبروها بعدم وجد الغرفة المنكوبة، كيف وقد هدم الجدار الذي يفصلها عن ردهة الفيلا! كما زيَّن المكان وجمَّله بالزرع وبعض الأشجار فبدا جذَّاب للعين ومريح عكس ما صوَّرت لهم تمامًا فأظهرها بعيونهم مدَّعية كاذبة.

ولأن الفيلا هذه صومعته التي يبيح لنفسه داخلها المحظورات ويطلق فيها لجام نفسه لتسوق أفعاله إلى ما تهوى؛ فلم يعين لها حارسًا مكتفيًا بتطويق المكان بالكاميرات وأسوار منيعة شاهقة وبوابات إلكترونية ضخمة، ولم يعين خادمة مستدامة أيَّهن تأتي لتؤدي مهمتها ثم تغادر بالطَّبع في حالة عدم وجود صيد جديد، جلس منتشيًا يخطط لما سيفعله الفترة القادمة، قطع تركيزه شعوره بحركة غير طبيعية بالحديقة أثارت ريبته؛ فعرض ما تلتقطه الكاميرات فوجدها جميعًا معطلة تعرض السَّواد، سبَّ سُبة مُتدنيَّة، ثُمَّ تأكد من وجود مسدسه بحوذته مُتحرِّكًا بحذر يستكشف حديقة الفيلا يتمنى أن يكون سارق؛ ليكمل جمال يومه بممارسة متعته.

تحسس المكان فوجد كل شيء بموضعه ولا يبدو أن أحدهم جرؤ على الاقتراب، غمس مسدسه داخل جرابه والتف ليعود أدراجه؛ لكن صوت وقع على مسامعه جعله يقف محله مصدومًا لوهلة: 
-     على فين يا باشا؟!! 

سيطر على انفعاله وكل ما دار بذهنه سريعًا ثم التف إليها بغطرسة ساخرة 
تقدم منها خطوات متأنية مدروسة لم ترهبها أو تهابها. 
-    أنتِ! ده قلبك جمد قوي، أيه حبيتي اللي حصل لك وعايزة تعيدي هنا بعيد عن حبس الدَّاخلية، خلي بالك هنا حاجة تانية بمزاج أكتر. 
-      في الحقيقة أنا هنا عشان أنا اللي أوجب معاك وما جتش بأيدي فاضية أصل اللي بيحبوك كتير قوي يا باشا. 

دارت عينيه بالمكان هازئًا، ثُمَّ تحولت نظراته لأخرى ناقمة مُهدِّدَة مع ظهور العديد مِن الرجال ويبدو أنه تعرف على عدد منهم. 
-     عايزين أيه؟ 
-    التار يا باشا، حقنا. 

نطق بها أحد الرجال وكأنهم فوضوه عنهم. 
-     ولا تقدروا تعملوا حاجة! أنا كنت بنفذ القانون. 
-    القانون قال عذب لحد ما يمــوتوا في أيدك أو يتشـوهوا، القانون قالك تخلي رجالتك تعتَــدي عليهم. 
-    دول ستات شمال.. مدورينها هيفرق معاها رجالتي من الرجالة التانية. 

خرج من قلب الصفوف شاب يبدو من هيئته أنه لا ينتمي لعالم الجريمة، تحدث بنبرة قوية تشع رغبة في الثَّــأر من بين حروفه: 
-    وشباب الجامعات بردو مِن الستات اللي بتقول عليها فاكر مُنى اللي قبضت عليها مكان واحدة هربت منك وظبطت كل التفاصيل عشان تلبسها؛ ولأنها بنت فقررت تغير لقبها بنفسك وفي قلب مكتبك، وطبعًا ما حدش من العساكر يقدر يتكلم ولا يعترف عليك. 
-    حظها اللي وقعها في طريقي، قدر يعني. 
-    قدر!! الإيمان حضر دلوقت! على العموم الدين بردو بيقول ﴿ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب﴾ وبما إن القانون ما جابش حقها عشان ظابط فاسد زيَّك فأنا هاخد حقها بأيدي. 
-    لأ، كلنا هنا هناخد حقنا، ما هو الباشا موجب مع كتير، ما أنا مراتي تابت وبدأت معايا على نضافة ولأنه عايز واحدة تشيل قضية وخلاص لبسها لها عشان ما لهاش ضهر. 

كانت هذه كلمات شخص آخر من الموجودين وهم كثرة وهو وحيد بينهم، هددهم بكبر في غير محله: 
-    فاكرين إني ضعيف أنا اقتلكم من غير ديَّة! 

حاول إخراج مسدَّسه الذي غمده بجرابه فوجد مَن يقيده مِن خلفه وآخر يأخذ السلاح ويلقي بذخيرته بعيدًا، لم يشعر باقترابهما وسط موجة الغضب المحيطة به واستمع للأخير يتحدث بتهكم: 
-    لا يا باشا وقت عمايلك خلص، الدور دلوقت علينا، كل واحد فينا له عندك تار، فكرنا ولقينا أحسن حاجة نعمل معاك كل اللي عملته أصل حتى بتوع المزاج بني آدمين مش حيــوانات عشان تعمل فيهم اللي بتعمله. 
-    أنت اتجننت يا حيـــوان! 
-    لسانك طويل يا باشا وبتزود حسابك، بص احنا هنعمل تفاصيل اللي عملته بالظبط ومعنا اتنين من اللي طلعوا عايشين من تحت ايدك هما يحكوا واحنا ننفذ، أمَّا ولاد الناس المحترمين دول مش محتاجين يمدوا ايدهم هيشمتوا بس، وأول حاجة يا باشا واجب جماعي مننا كلنا. 

مع نهاية كلماته حاوطوه جميعًا وانهالوا عليه بالضَّرب المبرح، لم يتركوا انشًا بجسده إلا ونال الكثير، حتى خرَّت قواه ونَزَف وجهه ودَمَى، قضوا معه باقي سواد الليل -بضع ساعات- لم يكلُّوا، ردوا كل ما فعل بالتفصيل وبالنهاية مثلوا بجَسَدِه وعلقوه مجردًا على شجرة عالية بقلب حديقة بيته وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. 

يوم فالتالي ولم يذهب لعمله ولا يجيب على هاتفه، وبالبحث اُكتِشِفت الجريمة وذاع الخبر، شمت به الكثيرون (زملاء، أقارب، معارف، مرؤوسيه حتي العساكر) طال بطشه الجميع، رغم الخصومة الواضحة بينه وبين مؤنس إلا أن الأخير أشفق عليه لم يتصور أو يخطر بباله نهاية بشــعة كهذه، والأسوأ انتشار ما حدث كالنار بالهشيم وتداوله بالصُّحُف والسوشيال ميديا، وما جعلها أكثر ضجة ظهور فيديو مجهول المصدر يوثِّق الهَــوان والذُّل الذي طاله بلحظاته الأخيرة، يحاول المختصون الوصول لمصدر بثِّه. 

عاد للمنزل يشعر بما يجثم على صَدْره؛ لا يُميز حقيقة شعوره فهناك الكثير ممَّن انتهت مأساتهم بموته، لا يخص سارة وحدها فلكمال الكثير من العداءات غير أن له زيجتان فاشلتان تحملا الكثير والكثير من المشاكل وله من كل واحدة طفل، دلف بخطوات ثقيلة كعادتها تنتظره وتشعر به وتشاركه حالته، ربتت على كتفه بحنان ورمقته بتفهم. 
-    حمد الله على السلامة، أنتَ كويس؟! 

أومأ لها مطمئنًا ثم سألها عن سارة: 
-    سارة جت النهاردة؟ عرفت؟ 
-    جت وتقريبًا الناس كلها عرفت مش هي بس. 
-    استقبلت خبر وفاته ازاي!! 
-    حالتها غريبة الأول كانت متأكدة أنه بيدعي اللي حصل عشان يترصدها زي المرة اللي فاتت، ولما شافت الفيديو بقت تعيط وتضحك لدرجة إني قلقت عليها كنت هتصل بك، بس هديت شوية وفضلت تبكي كتير لحد ما جالها اتصال من طليقاته. 
-    لحقوا يعرفوا؟!! 
-    دول عرفوا ورتبوا أمورهم، ورتبوا يتقابلوا بكرة مع المحامين عشان إجراءات الورث وإعلان الوراثة، بيحمدوا ربنا أنهم تخلصوا منه وخرج من حياتهم للأبد. 
-    ربنا يعافينا الناس سيرة، وهو أذى ناس كتير، شكلك تعبان يا طيف. 
-    شكل ابننا ناوي يجي بسرعة.. تعبني حبة، دكتورة نيرة متوقعة أولد في أي وقت. 

   

اليوم فقط تشعر أن كابوسها زال دون رجعة، اليوم فقط انتهت إجراءات إعلان الوراثة، غادرت لتوها حبسها ومستنقعها السابق -الفيلا- اجتمعت قبل فترة تجهل مدتها بطليقتي كمال والمحامين ليفتحوا خزنته، استردَدْن مصاغهن الذي استولى عليه وهي تنازلت زاهدة عن إرثها منه مُكتفية باسترداد ما سلبه منها غصبًا؛ فقد جبرها على التنازل له عن كل ما ورثت من والدها، وهي الآن في طريقها لأعظم ما استردت بيت والدها، كم اشتاقت له! تتمنى لو يعود بها الزمان عامًا واحدًا؛ لترتمي بين ذراعي والدها تلازمه وتحاول الارتواء مِن حنانه والأمان الذي حاوطها به؛ لتعتذر له عن كل ما فعلت، عن كل ما اغضبه منها، عن كل ما تحمله من سوء أفعالها. 

اشرقت شمس طيف ومؤنس وداعب صوت البهجة قلبيهما بعدما وضعت حملها، رزقهما الله بحازم عمدت طيف على انتقاء اسم يتناغم مع اسم حلا ويحمل بعض أحرفها ولم تكف عن الدعاء برؤيتها والنعيم بقربها من جديد، حلق مؤنس بسماء السَّعادة شكر الله كثيرًا على جميع النعم التي حاوطه بها وعلى سيقياه بعد ظمأ أعوام طويله. 

شيماء ونادية فشاء الله أن ينعم عليهما بأن تحملا معًا بنفس الفترة، تحسَّنت حالة والدتهما الصحيَّة وتمكَّنت مِن تحريك يديها على استحياء، لم تتغير طباع سامح، بل زادت حدَّة. 
جلست شيماء بمكتب غادة صديقتها -كعادتهما كل صباح- لاحظت شرودها وتجهم ملامحها على غير طبعها المرح. 
-    مالك يا غادة! 

طالعتها بنفس الشرود ثُمَّ نظرت أمامها بتيه؛ فاسترسلت شيماء تدعمها: 
-    عارفة بتفكري في أيه بس أنتِ غلطانة.. أيوة غلطانة، أنت عارفة طباع عمتي مش أنا بنت أخوها والله بتعاملني أسوأ منك، المهم أسامة بيعاملك إزاي. 
-    مِن يوم كتب الكتاب وهي بتتخانق معايا لأقل سبب، دي بتتهمني أني بقويه عليها! وربنا يشهد عمري ما قولت ولا لمحت بكلمة وحشة ولا حتى اشتكيت له مِن كلامها. 
-    هو عارف طبع والدته عشان كده مُصِر إن شقتكم تكون بعيدة عنها، والدته عايزة تشتري له شقة جنبها، ومش مقتنعة إن دي رغبته. 
-    طيب اقولها إني مش عايزة الشقة التانية!!! 
-    لأ طبعًا هتكبر المشكلة بينهم، يا إما هيضطر يقبل يسكن جنبها ووقتها حياتك هتبقى جحيم. 
-    طيب أيه يا شيماء أنا تعبت، أنا بفكر كل واحد فينا يشوف مصلحته بعيد عن التاني. 
-    أنتِ بتقولي أيه للدرجة دي هو مش فارق معاكِ! 
-    أنتِ أكتر واحدة عارفة مشاعري ناحيته، لكن مش عايزة أكون سبب مشاكل بينه وبينها. 
-    المشاكل هتكون مع مراته مش معاكِ تحديدًا، يعني أي واحدة هيتجوزها أيًّا كان اسمها، عشان كده هو مش معرفها إننا أصحاب وإلا الموضوع هيتلغبط زيادة، حظُّكم وقت كتب الكتاب كنت مسافرة لنادية فمحضرتش وما انكشفناش. 

ابتسمت غادة بوهن، فبادلتها شيماء البسمة ثم غمزت لها مازحة: 
-    الناس اللي بتيجي على السيرة، ولا كنتم متفقين؟! 
-    أسامة!! 

وبالقرب من باب المكتب وقف يطالعهما، متأكِّد أن حديثهما عنه، فحالها منذ يومان يؤرِّقه، خرجت إليه فاستقبلها ببسمة مطمئنة. 
-     عارف كلام ماما تقيل فجيت أصالحك لأني متأكد أنها زعلتك وأنك مش هتقولي حاجة، عايزك تثقي فيها وتأكدي إني مش هتراجع في موضوع الشقة عشان بحبكم انتم الاتنين ومش عايز اتحط معاكم في موقف يتعبنا كلنا. 
-    واثقة فيك واللهِ بس خايفة يجي يوم وتزهق. 
-    بزمتك ينفع ازهق من روحي! 

لازم القلق حسن طوال اليوم فنيرة استيقظت بالصباح في حالة إعياء ووهن شديد، لكنها أصرَّت على الذهاب لعملها لأمر ضروري، لذا ذهب إليها بعد انتهاء دوامه ليطمئن عليها ويصطحبها للمنزل، استقبلته ببسمة بالرغم من وهنها إلا إنها تشع بهجة فألقت بنفسه الفرحة والحيرة معًا، ثم زالت الحيرة وحلَّت مكانها غبطة كبيرة حين أخبرته أنها تأكدت مِن حملها؛ فشكر الله حامدًا أن منَّ عليهما بالذرية داعيًا بصلاحها، جعل الله من هذه الفرحة مدخل للمزيد من السعادة والهِبات؛ فانطلق لسان والده بالحمد بعد انعقاد دام أشهر طويلة، أقاموا حفل صغير دعوا فيه المقربين والديِّ نيرة ووالدة حسن وأخوه هاني، ما لفت انتباه سعاد ونال تعجبها هو وجود الضابط ياسين وقد لاحظت تطور علاقته بحسن وقد أصبحا صديقان يتبادلان الزيارات. 

مكائد تتصاعد حدتها ووتيرتها وبكل مرة يسرد عقله ويعيد عليه جزء مِن حياته مع طيف وبعض أفعاله معها، يعقد مقارنة بين ما فعله بها وما يُفْعَل به، بالماضي نظر لها مِن موقع قوة وظن ألن يقدر عليه أحد؛ فأوقعه شَيْـطانه بشر أعماله وها هو يذوق مرار صنيعه على يد مَن اغتر بما يملك مِن سُلْطة وجاه، مَنْ فاقه قوة وسلطة، بالبداية شعر بالغيظ مِن نفسه يعيد على سمعه مبرراته ومع الوقت وجد نفسه يضع نفسه أمام الحقيقة المُجَرَّدة دون تزين «تجبَّر عليها فتُجُبِر عليه» يسدد دينها المعلق برقبته، تُرى متى يَفِيِه كاملًا؟! 

جلس فوق فراشه ينفرد بنفسه شاردًا يتردد بكيانه كلمات والدته: «قهرتني عليك، مش هتتحمل عقاب ربنا، فوق مِن غفلتك» وكأنَّه لا يكتفي بوجَع جسَـده الذي لم يتعافَ مِن آثار ما نال بآخر مكيدة ليزيده بألم ذكراه وضميره الذي بدأ يصحو مِن بعد سُبات طال، أغمض مقلتيه بقّــهر صامت فقد حُكِم عليه بعدد وفير من الجَـلْـدات جعله يلزم الفراش حتى الآن رغم مرور ما يزيد عن الشهر. 

طرقات خافتة هادئة على باب الغرفة جعلته يبتسم ويشعر بمزيد مِن التأنيب، تناقض يضاف لباقي تناقضاته، دلفت حلا إليه ببسمة واهنة بائسة وخطوات هزيلة، روح تائهة مشتتة ألهَبَّها الاشتياق، كرهت حياتها بيتها ومدرستها، اليوم هو الأسوأ لها على الإطلاق كأنَّ روحها ما عادت تتحمل المزيد، تطبق أنفاسها عليها كما لو كانت على مشارف موت يأبى قطفها، دموع تكدَّست بقلبها أدْمَته، أنين يدوي بكيانها لا يسمعه سواها، لم ترِد زيادة معاناة والدها، لكن مَن لها سواه!! وقفت أمامه وقد فقدت مفرداتها خرس ناطقها صاغِرًا أمام شَقَائِها، التقت النظرات في حديث طويل منتحب؛ ففتح لها ذراعيه بدعوة واضحة لم تردها، الآن يعترف هو أيضًا اشتاق لحسن عشرتها، صبرت على سوء أفعاله لم تؤذيه وهو لم يرحمها يومًا، وها هو نال عِـقَـابه "ريڤال"، ليته استمع لوالده! بل ليته استمع لأمه الراحلة! سحب نفس عميق وأخرجه: 
-    مالك يا حبيبتي؟ 

أجابه فيض دُمُوعِها فاغمق مقلتيه ليتماسك: 
-    وحَشِتِك؟ 
-    قوي قوي، قلبي واجعني. 

زلزلت ثباته المُدَّعى، لم يظن يومًا أن يغلبه شعوره ولم يجد بُد من المجازفة. 
-    تزوريها؟ 

لوهلة ظنته سيثور بعد تساؤله أو ربما تتوهم عرضه، تساءلت نظراتها فأومأ بتأكيد وبسمة تخفي خلفها خوفه مِن فقدها، لكن الفرحة التي تراقصت بمقلتيها والبسمة التي تغلغلت بخلاياها منحته بعض الراحة والسلوان، تعلقت حلا بعنقه لا تجد الكلمات التي تعبر عن مدى سعادتها؛ فصدرت عنه أنَّة وجع نبهتها لمصابه فابتعدت سريعًا ومالت علي يده تقبلها فجذبها إليه يخفي حرجه الذي قصمه وأصاب كِبَرِه، وبصوت مختنق أكمل سعادتها: 
-    أيه رأيك تقضي أجازتك الجاية معاها كلها؟! هاحجز لك التذاكر وجدو ينتظرك في المطار يوصلك، مبسوطة؟ 
-    قوي، قوي يا بابا. 
-    هترجعي تاني؟!! 
-    أكيد هرجع لأحسن أب. 

سؤاله أقرب للرجاء فهي الضوء الوحيد الذي يسطع في حياته هنا التي يكرهها ولا يقوى على الانسحاب منها؛ فليس لديه الطَّاقة للبدء من جديد وأي بداية وقد شارف على الأربعين! هداه تفكيره لوقف ممارساته مع ريفال، يكفي نديَّة ووعيد يكفي تهور ومكائد، إن لم يكن من أجله فمن أجل ابنته، هنا تذكر زعمها الأيام السابقة بحملها منه، هو يقربها من حين لأخر أحيانًا يخرج بها غضبه وأخرى كفرض واجب، لكنها دومًا تخبره أنها تتخذ حيطتها كي لا تنجب طفل يذكرها به، تُراها كاذبة! أم إنَّه القدر؟!! 

حدد موعد سفرها بعد إتمام أداء امتحاناتها وتركها تشتري ما أرادت، ثم هاتف والده يخبره وينسق معه ترتيبات سفرها متوقع ثَـوْرة والده. 
-    أنتَ واعي لكلامك! تقوم من فخ تقع في اللي بعده! مش بتتعلم من غلطك أبدًا، طيف أيه اللي عايز بنتك تزورها! 
-    بابا... 
-    أنتَ فاكر ما اعرفش اللي بيحصل عندك! أمها كل يوم والتاني تتصل يا تشمت يا تشكي، وبالتأكيد مراتك لها يد في اللي بيحصل لك، أكيد معارفها موصيين عليك. 

ابتسم متهكمًا بمرار، لا يعلم والده أن الأمر تعدى ظنونه، أجاب بإصرار: 
-    أنا أخدت قراري يا بابا وحجزت لها التذكرة كمان باقي لها شهر واحد على معاد نزولها، لو مش عايز تتواصل معهم أنا ممكن اتصرف. 
-    مفيش فايدة اللي في دماغك تعمله مهما اعترضت، أفتكر إني حذَّرتك. 

انتفضت مِن نومها تنادي على ابنتها، فاستيقظ مؤنس مع حركتها. 
-    اهدي يا حبيبتي، اهدي. 
-    كانت هنا يا مؤنس كانت بتكلمني. 

لم يجد كلمات مناسبة تهون فجذبها إليه جاعلًا ذراعاه تعزف لها كل مشاعر الدَّعم وأصغت حواسه لحروفها بأنين. 
-    وحشتني قوي، حتة من روحي غايبة نفسي أعرف أي حاجة عنها، أطمن أنها بخير، حاسة بوجعها بحلم دايمًا بها تبكي وتناديني، كل ما أضحك قلبي يوجعني، ظلماك معايا، لكن مش بايدي سامحني! 
-    مقدر صدقيني، أنا حاولت كتير مع جدها وروحت له كذا مرة، لكنه قافل كل الأبواب وشهاب ما نزلش مصر من وقتها. 

أيام تلتها أيام يتفاقم حزنها ويقــتلها الاشتياق، صوت داخلها يبشرها بقرب الفرج فتظنه مِن فرط التَّمني، عجز مؤنس عن فعل أي شيء يخفف لوعتها، حاول مع والدته لتتقرب لها وتهوِّن عليها، لكنها رفضت بإصرار في حين تتواصل سارة معها تؤازرها وكأن تشابه قدريهما وتشابكه قرَّب بينهما ونسج خيوطه ليقوي صلتهما، ورغم ذلك عجـزت عن مداواة جرحها، كيف! وقد أدمتها الجراح وأمرضت روحها لم تنتهِ معاناتها بــموت كمال كم ظنَّت، باتت تتابع مع طبيب نفسي يعجز أحيانًا أمام هلــعها أو أوهامها. 

لم يعلم الجميع أنَّ القدر يعد لطيف مكافأته؛ ليمحو بها آثار العذاب ويكللها بتاج الراحة ولمِّ الشمل، اكتفى والد شهاب باقتفاء أخبار مؤنس والتأكد من مكان إقامته، استقبل حفيدته بالمطار ثم توجه إلى منزله. 

مع مغيب الشَّمس أشرقت سعادة طيف، طرقات هادئة على بابها جعلت دقات قلبها ترتجف وترتفع وتيرتها ولا تعلم السبب، أشفق مؤنس عليها فنهض يستقبل الطارق، مراهقة بوجه طفولي وجسد فارع يناسب شابه وخلفها والد شهاب بعليائه وكبره، جالت نظراته عليهما وكأنَّه يتأكد من ظنه وقد بخل الآخر بكلماته، ارتسم الخجل والاحراج على معالم حلا، وبالداخل تنظر طيف لظهر مؤنس بوجل حدسها يخبرها بحدث جلل لا تعلم ما هو وقد تسلل القلق لقلبها. 
ملك الصَّمت الزمام وحده وكلٌ له سببه، حتى قطَعَت حلا قيوده بصوتها الذي رغم نضوجه وتغير نبرته إلا أنَّ طيف سمعته بقلب الأم الذي أخبرها بهوية صاحبته وحركها إليها مُسيَّرة. 
-    ماما طيف هنا؟! 
-    حلا!

نطقت بها حواسها جميعها، تحركت قدامها وطار الفؤاد يسابقها، جذبتها بين ذراعيها تغرسها داخل قلبها تروي اشتياقهما معًا وقد التقى الشَّتيتان بعد أن ظنَّا كل الظَّنِ ألَّا تلاقيا، آهات تسطر اشتياق وتُطيب جروح وتروي ظمأ، تحنو على قلبين كادا يتمزَّقا. 

ادمعت مقلتي مؤنس من فرط تأثره ورقص قلبه طربًا من أجليهما وبرفق أحاطهما بذراعيه يوجههما لداخل المنزل ثم همَّ بدعوة الجد للدلوف، لكنه لم يجده وتوقع انسحابه فادخل حقيبة حلا ثم انسحب للداخل تاركهما تنفردان ببعض الخصوصية. 

حلَّقت السعادة بينهم ولم يبخل مؤنس عليهم، ترحاب وتنزُّه وسهرات مرحة وأخرى تخترقها الدموع وذكريات مؤلمة، سعدت حلا بأخيها وتشابه اسميهما «حازم وحلا»، عادت البسمة تعلو شفتيها تتذوق حلاوتها، وبقرب انتهاء اجازتها راود القلق قلب طيف ووخزه خوفه، وسؤال أرَّق مضجعها، هل سيحرمها شهاب منها من جديد؟! 
-    مالك يا ماما؟ 
-    هترجعي تاني؟! 

ابتسمت بشرود نفس سؤال والدها، رغم السعادة التي عرفت طريقها إلا أنَّه قد كُتب عليها التشتت بينهما. 
-    إن شاء الله يا ماما، بابا أتغير بقى شاغله راحتي بس، معاكِ رقمي ونزلنا تطبيقات على الموبيل نقدر نتواصل بها بسهولة كأني معاكِ هنا بالظبط. 
-    مرتاحة هناك؟! 
-    وأنا في حضنك أنت أو بابا بكون مرتاحة. 

بمنزل حسن عادت سعاد من الجامعة وقد ظهرت نتيجتها وتخرَّجت أخيرًا، لم يهدأ حسن حتى أقنع والدهما بقطع الجفاء ومسامحتها قرر إقامة حفل صغير لها بالمناسبتين، قبل نهاية الحفل وقفت سعاد بالشرفة تطالع القمر بشرود، أصبح لها نصيب وافر من اسمها وبالرغم من ذلك هناك بقعة بأعماق قلبها تنزف وجعًا وما فعلته بنفسها بلحظة تهور دنَّسها بلا رجعة، انتبهت من شرودها على صوت مألوف يحدثها لأول مرة فدومًا تسمعه يخاطب الجميع إلَّا هي وللحق هي مَن تتعمد ألا تتحدث معه. 
-    مبارك النجاح، ناوية تشتغلي ولا تاخدي الطريق من نهايته وندور على عريس؟!! 

رغم النبرة المرحة ومحاولته إضفاء بعض الفكاهة إلا أنها أخذت الكلمات لمعنٍ آخر لم يقصده: 
-    طبعًا كلامك ده عشان الموضوع القديم، أحب أقول لحضرتك إنك غلطان، مش هكرر غلطي تاني يا سيادة الرائد. 
-    أنا ما قصدتش حاجة كنت بحاول اهزر عادي، انتِ اللي أخدتي الكلام على محمل تاني. 
-    قصدك على راسي... 
-    مش قصدي حاجة، ليه دايمًا يا تهربي يا تتحفزي في كلامك. 
-    أهرب ليه؟ ومِن مين؟ 
-    بتسأليني أنا! 

دلف حسن إليهما حين لاحظ توتُّر الأجواء: 
-    صوتكم عالي في حاجة يا ياسين؟! 

انسحبت سعاد فزفر ياسين بقنوط: 
-    مش عارف هتفضل كده لأمتى؟!! 
-قولت لك أكلمها أنا الأول، وبصراحة كنت متوقع. 
-    أنا ماشي. 

نظر في أثره باشفاق، ثم تابع باقي المهنئين وحين انتهى الحفل جلس يتحدث مع سعاد بغرفتها: 
-    بالذمة ده شكل واحد فرحانة بتخرجها واتقبلت في شغل تحت التدريب كمان.. أفهم من الصَّمت ده أيه! 
-    ولا حاجة يا حسن، ولا حاجة. 
-    والتنهيدة العميقة دي عشان ولا حاجة يا حسن!!! أنت عارفة أنه عايز يتقدم لك. 
-    مش هينفع، مش هينفع، يا ريتني لجأت لك من البداية، كان ممكن وقتها أكون طايرة بطلبه، لكن بالوضع ده لأ. 
-    ليه ياسين بيحبك طلب مني كذا مرة افاتحك وكنت برفض عشان تركزي في دراستك وتتخلصي من أثر اللي فات، أنا شايف فيه قبول وهو إنسان محترم وخلوق، كفاية أنه ساعدنا قبل كده بدون مصلحة. 
-    أنت قولتها، هو اللي ساعدني هو اللي شهد على غلطتي ومش أي غلط، إلا دي يا حسن. 

شقَّت دموعها سبيلها على وجهها وصمت حسن، فنفس الشيء يؤرِّقه وجعله يرفض مرارًا بزعم تعليمها، يتوجس أن يسبب لهما الأمر مشاكل وتعقيدات فيما بعد وبنفس الوقت يخشى تفريقهما هو يشعر ببذرة مشاعر تنمو بينهما. 
-    طيب فكري خدي وقتك. 
-    صعب أو مستحيل، مع كل مشكلة هيفتكر، مع كل خلاف هيفقد ثقته فيَّا ولو ما عملش أنا هاخد كل كلمة كأنه بيعايرني، عارف مرة لقيتني بفكر لو حصل زي الأفلام وبقى المنقذ هو الحبيب اترسمت ابتسامة دبلت قبل ما تكمل لما تخيلته لو حس بالغيرة من زميل أو جار وتصورت ممكن يقول أيه وقتها عرفت إن هو تحديدًا استحالة يكوف فارس الأحلام. 
-    لو قولت لك أني رفضت كتير وهو مصمم وعايز يكلم بابا. 
-    بلاش يا حسن عشان خاطري مش هأقدر، ولو بابا وافق استحالة اعارضه أنا لما صدقت رضي عني وكلمني. 
-    سيبي الباب موارب وأنا هوضح له وجهة نظرك، يمكن شمس بكرة تدوب ذنوب امبارح. 

خمسة أعوام أخرى مضت، اتمت حلا عامها السابع عشر من يراها يظنها تجاوزت العشرين، ورغم توقف المكائد بين ريفال وشهاب إلا أن خلافاتهما تزداد عمقًا وحِدَّة، زاد حنقها عليه لدرجة جنونية، فحدثت أبو عبد الله بما أثار حفيظته. 
-    شو ريڤال، أرى عقلك طاح منتچ، چنيتي، تدرى عن شو راح تتحدثين، هذا ريال مو جليل، واللي راح تسوين إذا ما صار راح توجعين نفستچ بمشكل كبير وايض. 
-    ليه ما يصير؟ راح يصير، شهاب بقي مستبيع، صحيح سلاحه في لسانه بس، لكنه زي طلقات المسدس ودايمًا يصيب، جربت معاه كل حاجة أحكام قطَّعت جلده، شغله خليتهم يغرقوه خصومات ومشاكل، قولت له كل الكلام اللي يقــتل كرامته ولسه واقف زي الصخرة، يبقى اللي فاضل أءذيه في بنته، خليها تشرب اللي عمله فيا. 
-    تهذين، رديتي كل شي سواه الصاع اثنين، يكفي ما نسويه بكل سفره، أنا خايف عليتچ ريفال، إذا خالفتي وزوجتچ ما رضي أنا ما فيني ساعدتچ، ارجعي ريڤال، ارجعي عن هذا التفكير. 
-    أنا خليت حد يكلمه خلاص. 
-    جنيتي والله جنيتي وراح تضعين ريڤال! راح تضيعين. 

بالمنزل وداخل غرفتيهما أخبرته ريفال بما فعلت، فصاح بها شهاب بغَضَبٍ هادر: 
-    أنتِ بتستعبطي! مين فوضك تتكلمي عن بنتي. 
-    أنا في مقام المحروسة أمها، هجوزها واحد كبير في البلد هنا ولو جدع اقف قدامه وقول لأ، تروح ورا الشمس. 
-    فاكرة ممكن أسلم بنتي لواحد معروف عنه يعمل ايه في كل اللي اتجوزهم، ده بيقطع لحمهم، أخباره متصدره منشتات الصُّحف الأجنبية، ابعدي عن بنتي، ركزي في ابنك عُدي بدل ما أنت رمياه للخدم وحلا هي اللي أخده بالها منه ابنك بيقولها يا ماما وبيخاف منك، فوقي، ابنك عنده أربع سنين ما عادش صغير. 
-    أنا بلغته موافقتنا، لو شاطر بلغه بالرفض. 

تمت بحمد الله 
انتظرونا في الجزء الثاني 

تعليقات