![]() |
رواية هواجس معتمة الفصل السادس بقلم ايات عاطف
كنت واقف قصادهم، صوتي عالي وانا بقول:
_اثبت مكانك انت وهي.
بصلي بعيون كلها جنون وقال:
_لو قربت خطوة واحدة، هقتلها.
اخدت نفس عميق وحاولت أثبت، وقلتله:
_اللي بتعمله ده ملوش أي فايدة يا آسر،
انت كده بس بتزود عقوبتك.
صرخ في وشي كأنه فقد عقله وقال:
_وانت عايزني أسيبها عشان تاخدها؟
لأ انسَى مش هيحصل. هي يا تبقى ليا يا تموت.
قلبي كان بيتخبط جوه صدري،
وبصوت ثابت حاولت أسيطر على الموقف:
_نزل سلاحك يا آسر.
البوليس في الطريق أنا بعتلهم اللوكيشن،
يعني حتى لو قتلتها، وقتلتني، مش هتعرف تهرب.
فـ سيبها، أحسنلك سيبها.
مريم ضحكت بسخرية وقالت:
_انت فاكر نفسك بطل يا حضرة الظابط؟
فاكر إنك هتنقذها؟
لأ أنا مش هسمحلك.
بصت لسلمى بكره وقالت:
_عمرك ما هتعيشي في أمان طول ما أنا عايشة.
آسر زاد غضبه، وشوفت إيده بتتهز وهو
بيحاول يسحب الزناد عليا.
في لحظة، سلمى زقّت إيده بكل قوتها وجريت عليا…
وقفت قدامي…
وسمعت صوت الرصاصة.
جسمي اتشل، حسيت كأن الزمن وقف.
شفتها وهي بتقع في حضني، دمها بينزل على إيدي.
صرخت وأنا بمسك المسدس وضربت
رصاصة في كتف آسر قبل ما يحاول يهرب.
مريم صرخت:
_آسر!!
بس أنا مكنتش سامع غير أنفاسي المتقطعة وهي بتهرب مني.
وقعت على ركبتي وأنا شايلها بين إيدي، صوتي كان بيترعش:
_سلمى فوقي، بالله عليكي فوقي.
انتي ليه عملتي كده؟
هتبقي كويسة، صدقيني هتبقي كويسة.
بصتلي بعينيها اللي مليانة دموع وقالت بصوت مكسور:
_كان عندي أمل، أكمّل يا ياسين.
بس للأسف، طلع ماليش نصيب في أي حاجة بحلم بيها.
دموعي نزلت غصب عني، مسكت إيدها بقوة وأنا بترجاه:
_لأ ما تقوليش كده.
انتي تستاهلي كل حاجة حلوة…
أنا موجود معاكي وهفضل موجود.
هتعيشي، وتحققي كل اللي بتحلمي بيه بس فوقي.
مريم وقفت بعيد، ودموعها نزلت لأول مرة،
همست بكراهية لنفسها وندم بعد فوات الأوان:
_أنا السبب أنا اللي ضيعتك يا سلمى.
بس أنا مكنتش شايف غير سلمى…
مكنتش سامع غير أنفاسها الضعيفة…
ومكنتش قادر أصدق إن الرصاصة دي كانت ليّا…
بس هي اختارت تاخدها بدالي.
---
كنت واقف قلبي بيدق بنفس السرعه،
اللي كان بيدق بيها وقت الرصاصة.
آسر متكتف بالكلبشات،
وشه باين عليه الغضب والخوف مع بعض.
مريم كانت واقفة جنبه، وشها شاحب،
ودموعها نازلة من غير ما تحاول تمسحها.
سلمت الاتنين للبوليس، وصوتي كان مبحوح وأنا بقول:
_خدوهم ع القسم وانا هحصلكم.
سليم، بصلي وقال:
_اطمن أنا هحقق معاهم بنفسي، وهاخدلك حقك كامل.
بس دلوقتي روح لسلمى، محتاجينك هناك.
كلامه دخل قلبي زي طلقة تانية…
طلقة بتفكرني إنها لسه بين الحياة والموت.
ركبت العربية، وكل ثانية في الطريق
للمستشفى كنت حاسس إنها بتضيع مني.
الطريق كان طويل رغم إنه قصير…
الإشارات، العربيات، حتى صوت الناس في الشارع…
كله بقى بلا معنى.
كنت سامع بس صوتها وهي بتقول:
"كان عندي أمل أكمل يا ياسين."
وصلت المستشفى، جريت على قسم الطوارئ،
سألت أول دكتور شفته قدامي:
_ سلمى فين؟
بصلي بقلق وقال:
_حالياً في غرفة العمليات، حالتها مش مستقرة،
فقدت دم كتير. إحنا بنعمل كل اللي نقدر عليه،
بس لازم تكون مستعد لأي احتمال.
الكلمة دي جرحتني "أي احتمال".
حسيت الأرض بتتهز تحتي.
مفيش احتمال مفيش. أنا مش مستعد أخسرها.
بعد شوية سمحولي أدخل أوضتها بعد ما خلصوا الإجراءات الأولية.
دخلت بخطوات بطيئة،
كل خطوة كانت تقيلة كأني شايل هم الدنيا على كتافي.
لقيتها نايمة على السرير ، لونها باهت كأنها ورقة اتسحب منها الحبر.
الأنابيب متوصلة بجسمها، صوت الأجهزة حوالينا بيدق برتم ثابت، كأنه بيناديني: لسه في أمل.
قربت منها وقعدت على الكرسي جنبها.
مديت إيدي، مسكت إيدها.
إيدي كانت بتترعش،
بس مسكتها بقوة كأني بخاف لو سيبتها تختفي.
فضلت أبص في وشها…
في ملامحها اللي حتى وهي متألمة لسه جميلة.
كل لحظة قدامي كانت بتعدّي ببطء قاتل،
قلبي واجعني من جوه كأني أنا اللي اتضربت.
همست بصوت مكسور:
_سامحيني يا سلمى، أنا السبب في كل ده.
انا معرفتش احميكِ.
عينيا فضلت معلقة على وشها…
يمكن لو فتحت عينيها تاني هتسمعني.
يمكن تحس إني جنبها، إني مش هسيبها،
إني مستعد أديها عمري كله عشان تكمل حياتها.
قعدت ساعات أو يمكن ثواني، مش عارف.
الوقت فقد معناه، وأنا ماسك إيدها، منتظر أي حركة صغيرة،
أي نفس يطمني، أي إشارة تقولي إنها هترجعلي.
---
"سليم"
سألتها بصوت هادي، حاد:
_احكيلي يا مريم عايز أعرف الحقيقة كلها.
ليه عملتي كده؟ ليه قتلتِ عمر المهدي؟
وليه لفقتي التهمة لسلمي؟
سكتت شوية، أخدت نفس عميق وكأنها بتحارب نفسها،
وبعدين قالت:
_طول عمري وأنا بغير من سلمي.
من وإحنا صغيرين وأنا متقارنة بيها…
جمالها، كلامها، حتى ابتسامتها.
أنا عمري ما كنت كفاية قدامها.
دموعها كانت محبوسة، لكنها كملت:
_ولما عرفنا عمر كانت هي الأول،
هي اللي عرفته وخلّتني أتعرف عليه.
بس من أول لحظة أنا حبيته، غصب عني حبيته.
وهو؟ ما كنش شايف حد قدامه غير سلمي.
حتى وهو ما اعترفش ليها، لكن كان باين في عيونه.
كلامها كان بيخرج زي السم، لكنها متوجعة:
_الشيطان لعب في دماغي.
كنت عايزة أخليها طول الوقت مشوشة، ضعيفة، تحت إيدي.
ابتديت أحط لها حبوب هلوسة مع العلاج اللي بتاخده.
كنت عارفة إن ده هيخليها تايهة ومش قادرة تركز.
اتنهدت وهي بتبص للأرض:
_آسر هو اللي شجعني.
هو مهووس بسلمي من زمان.
ولما لقى الفرصة قدامه، مسكها.
كان معاه نسخة من مفتاح الشقة…
لأن هو وعمر كانوا صحاب اوي.
سكتت لحظة، وصوتها اتكسر:
_في يوم الجريمة، آسر دخل الشقة.
اتكلم معاهم وهزر عادي.
عمل لسلمي عصير، وحط فيه قرص منوم وحباية هلوسة.
بس اللي ما حسبناهوش، إنها هتفوق في نص الليلة.
وآسر، وهو في لحظة جنون… قتل عمر.
دموعها نزلت على خدها، وبصتلي بعيون مليانة وجع:
_دي الحقيقة.
أنا السبب في كل اللي حصل.
أنا اللي بوظت حياتها وأنا مستعدة لأي عقاب،
حتى لو موتوني.
فضلت ساكت، جوايا وجع إني سامع الحقيقة البشعة دي.
لكن وشي ما بيّنش أي حاجة.
كتبت اعترافها كامل.
ولما خلصت، رفعت راسي وبصيت لها وقلت:
_كل كلمة قلتيها هتتحط في المحضر،
والعدالة هتاخد مجراها.
هي حطت وشها في إيديها وفضلت تبكي…
وأنا ما كانش في بالي غير حال ياسين دلوقتي.
---
كنت نايمة على السرير،
عيني مقفولة بس حاسة بدنيا غريبة حواليا.
فجأة، إيدي اتحركت حركة بسيطة كأنها عايزة
تصحى بس مش قادرة.
سمعت صوت جنبي بينده عليا بلهفة:
_سلمي سمعاني؟ سلمي!
صوت ياسين كان بيرن جوا وداني،
قلبي وجعني وأنا بحاول أفتح عيني.
النور ضرب في عيني مرة واحدة،
الدنيا كانت مشوشة، مش شايفة غير ضباب أبيض.
شفت الدكتور واقف جنبي، ملامحه فيها قلق واضح.
قالي بنبرة مستعجلة:
_سلمي، إيه كل النوم ده؟
الممرضة قلقتني لما قالتلي إنها حاولت
تصحيكي وإنتِ مش بتفوقي.
اتلفّت حواليّا باستغراب، قلبي بيجري ومش فاهمة أنا فين.
طلعت الكلمة مني ضعيفة ومتلخبطة:
_فين ياسين؟ أنا فين؟
الدكتور وقف لحظة كأنه مصدوم من سؤالي.
وبعدين قال بهدوء غريب:
_ياسين مين يا سلمى؟ مفيش حد هنا غيري.
إنتِ في المصحّة النفسيّة.
حسيت جسمي كله بيتجمد.
الكلمة تقيلة "المصحة النفسيّة".
فضلت أبصله بتوهان وعيوني بترتعش.
سألت بخوف وارتباك:
_يعني مفيش مريم؟
مفيش آسر؟ ولا حتى ياسين؟
الدكتور نزل عينيه الأرض،
وبعدين رفعها فيا وهو بيتنهد بخيبة أمل:
_رجعنا للخيالات تاني يا سلمى.
إنتِ أهملتي دواكِ،
وعشان كده رجعتي تاني تتخيلي حاجات مش حقيقية.
الكلام وقع عليا زي جبل.
فضلت ساكتة، مش قادرة أنطق ولا كلمة.
جوا دماغي المشاهد بتتكسّر:
رصاصة… دم… مريم… آسر… ياسين.
كل حاجة كنت عايشة فيها راحت في ثواني،
بقت مجرد وهم.
حاولت أفتكر، أضغط على دماغي عشان ألاقي حقيقة واحدة.
ولقيت فعلاً إن ده مكاني، إن حياتي هي هنا في المصحة.
وكل اللي فات ماكانش إلا خيال صنعته عشان أهرب من الواقع.
لكن اللي وجعني بجد إزاي كنت حاسة إن كل ده حقيقي أوي؟
إزاي الألم كان بيمسني؟
إزاي الضحك والدموع كانوا عايشين جوايا بصدق؟
الدكتور خرج من الأوضة، سابني لوحدي مع أسئلتي.
قمت من السرير بخطوات تقيلة، رجلي مش عايزة تتحرك.
لكن قلبي كان بيقولي إن لازم أواجه.
نزلت الجنينة.
الهوا كان خفيف، بيداعب وشي كأنه بيطبطب عليا.
العصافير بتغرد، والناس اللي قاعدين
حواليا عايشين في عوالمهم الصغيرة.
قعدت على كرسي خشب، وسرحت في السما.
ولقيت نفسي ببتسم.
ابتسامة صغيرة وبسيطة، من غير أي سبب.
يمكن لأني أول مرة من سنين أحس إني خفيفة.
يمكن لأنها أول مرة أقبل نفسي.
وقتها فهمت إن الهروب عمره ما كان حل.
وإن الخيال مهما كان جميل، مش هيغير الحقيقة.
أنا سلمى.
وده واقعي.
ولازم أتعلم أواجه الحقيقة مهما كانت صعبة.
---
"أدركتُ أخيرًا أنّ الهروبَ وهمٌ، وأنّ الحقيقةَ ـ
مهما كانت قاسية، هي وحدها التي تُعلِّمنا كيف نعيش.
فما عُدتُ أبحثُ عن عالمٍ يَحتويني في الخيال،
بل وجدتُ في ضعفي قوةً، وفي ألمي بدايةً جديدةً.
الواقعُ لا يرحم، لكنّ مواجهةَ الحقيقة
أرحم من ضياعٍ طويلٍ خلف الأوهام."
---
"النهاية"