رواية للهوى رأي اخر الفصل الخاتمة بقلم سارة حسن


 رواية للهوى رأي اخر الفصل الخاتمة

تهادي وتدللي...
سيري إلي بخطوات ناعمة...
اهدني تلك البسمة من ثغرك،
وتلك النظرة من عينين كحيلتين تأسرني وتجعلني هائمًا بهما.
واهدني نظرة أخرى تروي ظمأي، بأن من كان حلمًا يومًا... حقيقة اليوم صنعها حبي وهيامي بكِ.
يا حجر كريم بلون السماء، تناغم بعشقي فاخذ من خضار عيناي فأصبح زمرد نادر الوجود.
خاطرة بقلمي/ سارة حسن

تهادت فيروز على درجات السلالم ويدها في يد عمها، طرحتها تغطي وجهها، وباقة من الورد الجوري بيدها، فستانها بلمساته الأخيرة زاده جمالًا، ذيله الطويل يحمله أميرات صغيرات من خلفها، خطوة وأخرى، وكانت أمامه، صافحت عمها وعينيه لا تحيد عنها، استمع لوصيته عليها وابتسم. حتى وقف أمامها وببطء أزاح الطرحة، وأول ما قابله عينيها خطفت أنفاسه برقتها، عينيهما كانت في ترابط، كل منهما مبهور بالآخر. فيروز كانت كالأميرة، وقاسم خرج من كتب الفرسان للتو، حلته السوداء المتناسقة على جسده، ظهره المشدود، ملامحه الرجولية، عينيه التي تجذب الأنظار بلونها وتغيراتها، كانا ملائمين لبعضهما، ليس من حيث الشكل فقط، بل الجوهر أيضًا. اختلافهما وتناقضهما ما زاد تمسكهما ببعضهما، فمن قال إن على كل حبيبين أن يكونا نسخة متطابقة؟ الأسمي أن يختلفا، ويتناقضا باعتدال، وفي النهاية يظهر الحب في تقبل اختلاف كل منهما للآخر.

بروية وهدوء، كانا يتوسطان ساحة الرقص، هدأت الأضواء، وصدرت الموسيقى الناعمة. انتبهت فيروز أنها الموسيقى في رقصتهما الأولى، دون أن تسأل بشفتيها، أومأ لها قاسم مؤكدًا، أغمضت فيروز عينيها بحلم، وتركت جسدها يتمايل بين يديه، تدور بين ذراعيه. كانت رقصتهما مختلفة، ففي الأولى كانت فيروز مشدودة ومتخبطة، وقاسم حركته بين النقيضين: الرقة والسطوة.

لكن الآن تفهمت واطمأنت وتركت قلبها له، وهو قدر ما بين يديه وأراد الحفاظ عليه الباقي من عمره، يلقى همسة ناعمة، فتتقبلها بابتسامة رقيقة، تنظر إليه وملامحه فاتخجل، فإمسك بها ويدللها، حتى انتهت الرقصة.

.................

وحفل زفاف مثل ذلك، لم تتوقف كاميرات الصحافة عن التقاط صور العروسين والمدعوين، خصوصًا وقد اجتمع صفوة رجال الأعمال والنماذج المهمة، وكان على رأسهم رجل الأعمال موسي رشيد.

تتشابك أيديهما أثناء دخولهما قاعة الزفاف، موسي رشيد وزوجته دهب رشيد، في أول دعوة رسمية تأتي إليها وهي زوجته، من شقيقها وفيروز. تتذكر دهب يوم أرسل لها الدعوة، بكارت خاص يطلب منها هو وفيروز الحضور، نظرة موسي وقتها كانت مترقبة، لكنها ابتسمت بعبث، مقررة أن تتجول معه كما تشاء لاختيار الفستان المناسب للزفاف.

وها هي، متأنقة بجانب زوجها أمام الجميع، فستانها الأسود طويل لكاحلها، يضيق من أسفل الصدر بقليل ثم ينزل باتساع تدريجي إلى الأسفل، وبجانب واحد فقط منه معقوص بكسرات من ذات القماش، أظهر قوامها بأناقة غير مبتذلة، ومن سيُسمح لها بإظهار إنش من جسدها من الأساس.

جلسا على طاولتهما الخاصة، مال عليها موسي قائلاً:
_شايفة أخوكي ماسك في عروسته إزاي كأنها هتطير؟

ابتسمت له وقالت دهب:
_على حسب اللي عرفته، تستاهل، وهي كمان على فكرة بتحبه، يمكن أنا عرفت أنها بتحبه قبل ما تقول له.

قضب جبينه متسائلًا بحيرة:
_إزاي، انتي تعرفي فيروز؟

تلاقت بعينيه وأجابت بوضوح:
_يوم الحادثة اللي عملها قاسم، أنا رحت هناك وشوفتها.

اتسعت عينيه غير مصدق، وهتف:
_روحتِ إمتى؟ أنا طول الوقت كنت هناك.

عضت على شفتيها بتردد وأجابت:
_كنت هناك قبلك، وشوفتك وأنت داخل، بس أنت ماخدتش بالك مني.

ظل ينظر إليها دون تعقيب، قالت دهب مبررة:
_كنت مجروحة منك وقتها، ماكنش ينفع أقولك أنا هنا، وبعدين كانوا ١٠ دقايق وقاسم ماشافنيش يعني. هو أنت بصص لي كده ليه؟

ارتخت ملامحه وبخفوت سألها:
_ليه روحتِ؟

_هتصدقني لو قولتلك إني خوفت يكون لوحده؟ حسيت قد إيه قاسي أوى لما يفوق وما يلاقيش حد بأنتظاره، ما فكرتش فيك ولا في فيروز، فكرت بس إني أخته.

_وليه ما استنيتش لحد ما يفوق؟

_وجود فيروز والنظرة اللي شوفتها في عنيها طمنتني أنه مش هايكون لوحده، ولأني كنت في وقت ضعف وخذلان منك، ماكنتش حابة ألتقي معاك وأنا قلبي بينزف بحبك، ماكنتش هااستحمل أضعف قدام حد.

جذب يدها من على المنضدة وقبلها برقة شديدة:
_عمري ماقدر أخذلك، ولا تضعفي لأي حد، حتى لو أنا.

ثم غمز بعينيه وبعبث أرفق:
_بحبك وانت شرسة.

ضحكت دهب بدلال قائلة:
_خاف مني بقي.

جذبها عليه أكثر، غير مكترث بمن حوله، وبعينين تربكها، همس موسي:
_خافي انتي على نفسك مني.

همست قبالته بحب:
_أبدًا، مستحيل أخاف على نفسي وأنا معاك.
.......
تتجول هنا وهناك، كانت أشبه بشقيقة العروس أو هي أقرب لذلك، كانت سعيدة بالفعل، حتى ابتسمت للقادم واتجهت إليه أسيل وقالت:
_اتأخرت ليه؟

عدل من ياقة حلته السوداء وببسه مرحة، أجابها عدي:
_كنت بضبط نفسي، أول مرة أحضر فرح ناس مهمة كده.

حركت يدها وأخرجت جزءًا صغيرًا من المنديل من جيبه ضاحكة:
_لا شكلك صَرف.

لوح بيده وأجابها بنزق:
_أمال إيه، المفروض أبوكي يصرف لي إعانة، دي تمن شهرين مرتب.

ضحكت أسيل ووقفت بجانبه، تعرفه على المدعوين مع تعليقات عدي الضاحكة.

وفي مكان آخر، مال قاسم على فيروز هامسًا لها:
_بنت عمك مش ناوية تجيبها لبر.

تساءلت فيروز بحيرة:
_إزاي؟

أشار لها على وقوفها بجانب عدي، والجهة الأخرى كان ياسين بوجهه الأحمر المحتقن، لبَرّه ابتسمت ثم تساءلت:
_قولت لي إنك هاتصرف؟

غمز بإحدى عينيه بعبث يليق به وقال:
_عيب عليكي.

ثم أشار لأسيل التي اتجهت إليهم، فقال قاسم:
_شوفي تليفونك، باعتلك حاجة مهمة، بس اطلعي بعيد عن الدوشة.

نظرت فيروز وحركت رأسها لتفعل، أومأت براسها وابتعدت.

بصدمة، كانت عينان فيروز على تلك السيدة الأنيقة التي تقترب للمباركة، نظرت فيروز لقاسم الذي بادلها نظرات قوية وشجاعة.
_مبروك يا قاسم باشا.

أجابها قاسم بنبرة عادية، فاتجهت نازلي لفيروز، وقفت أمامها للحظات قبل أن تقول معتذرة:
_سامحيني يا فيروز، أنا كنت وحشة أوي معاكي، ماكنتش شايفة غير إني لازم أكون صح على حساب أي حد مش مهم، لاقيتني بعدت اللي حواليا عني: أسيل وكمال، وانتي، أنا جاي ومن قلبي بتمنالك السعادة، وأقولك بيت عمك مفتوح ليكي دايمًا.

ربّتت نازلي على يد فيروز وغادرت، لم يكن للضغينة في قلبها مكان في يوم، فكما كل البشر تكره الإساءة وترفض الظلم، لكن في الصفح وعند الندم، تكون من الذين قال عنهم سبحانه وتعالى: "من عفا عفا الله عنه، ومن صفح صفح الله عنه".

شهقت فيروز عندما جذبها قاسم لتكون بجانبه أكثر، قائلة بأحراج:
_قاسم الناس...

_ناس إيه، أنا عامل الفرح علشان ننبسط.

ثم نظر لها وتسائل بخفوت:
_فيروز، انتي مبسوطة؟

رفعت عينيها إليه وللحظات تمنت ألا يقف العالم هنا، أجابته بابتسامة حقيقية:
_جدا، عمري ما كنت مبسوطة قد النهارده، كل حاجة جميلة، شايفة في كل حاجة بتعملها لي قد إيه عايزني مبسوطة، بس أنا مبسوطة بيك أنت، وعيني مليانة بيك أنت يا قاسم.

أغمض عينيه ومال يقبل جبهتها قبلة مطوّلة، ممتنة ومحبة، مؤكّدًا لنفسه أنه سيظل لها هكذا للأبد.

......................

وضعت السماعات بأذنيها بعد أن ابتعدت بمسافة كافية عن الضوضاء، فتحت الرسائل لعدة تسجيلات صوتية، انتبهت أسيل وعقدت حاجبيها بترقب:
_عايز توصل لإيه باللي بتعمله مع أسيل يا ياسين؟

أجاب ياسين بعد برهة:
_كويس إنك طلبت تقابلني بخصوص الموضوع ده يا قاسم، لأنك هاتعرف إذا كنت فعلا صادق ولا كذاب.

_أنا مش هاسمح أن أسيل تمر باللي مرت بيه معاك مرة تانية يا ياسين، أسيل بعتبرها أختي الصغيرة، بنت كمال، ومكانتها عند مراتي تسمحلي إني أدخل لأني خايف عليها.

أجاب ياسين وقال:
_أسيل مش بتديني أي فرصة معاها مرة تانية، من يوم ما سافرت لحد دلوقتي وانا بصلح فيها كل حاجة بعدتها عني، وتقدر تتأكد بسهولة وتعرف إيه حصل معايا طول الفترة اللي فاتت دي.

تحدث قاسم بنبرة بها بعض الحدة:
_وأنت اللي عملته مش قليل يا ياسين.

_كل إنسان فينا بيغلط، فيه اللي بيتمادي واللي بيصلح من نفسه، وعلشان بحبها مستعد أعمل أي حاجة عشانها.

صمت قاسم مفكرًا، الواقف أمامه عاشق وواضح وضوح الشمس في غسق النهار، أما عن الأخطاء، فأخطاء المحبين تكون دائمًا صعبة الالتئام.
لكن قرصة ودن صغيرة لن تضر شيء.

_أسيل جايلها عريس.

انتفضت وهي تسمع لشيء تحطم، وصوته الذي وصل لطبلة أذنها صارخًا:
_ده على جثتي!

لم تستطع منع تلك الابتسامة على ثغرها، حقيقة ممتنة لقاسم، وهي تسمع صوته البارد يهتف به:
_أسيل ألف شاب يتمناها!
_أسيل ليا، لو هاحارب الدنيا كلها!
_أسيل!

انتفضت والتفتت للخلف ووجدته، نظرت حولها لم يكن في المكان سوى هم، على سور حجري مطل على حوض سباحة ضخم، كانت تقف وهو أصبح قبالتها، يضع كلتا يديه في جيبي بنطاله، ملامحه حزينة، ونظرته بها من الرجاء والحب.
_كفاية بقى، ما تعبتش... ما حنتيش!

اخفضت عينيها عنه، وسمعت صوت تنفسه الذي يزفره بإرهاق:
_أنا بحبك... مش هاخذلك.

لم تجيبه بشيء يريحه، فقال مرة أخرى:
_افتكري لي أي حاجة حلوة عملتها معاكي، أي إحساس حلو صادق مني حستيه.

ضمت شفتيها ولم يصدر منها شيء، ابتسم بمرارة لخسارتها، مرارة حياته القادمة من دونها، ندمه الذي لن ينتهي بخسارتها، تحرك ياسين مبتعدًا.

خطوتين واستمع لصوتها الهامس باسمه، بتردد التفت إليها، ظنًا أنه يتوهم، لكن عينيها أكدت له وهي تتطلع إليه، عاد الخطوتين وبعينيه طلب الصفح، رفعت أصبعها أمام وجهه بصرامة محببة إليه:
_ولو...

قاطعها رافعًا أصبعه على شفتيها مبتسمًا بحب:
_مافيش لو.. مش هاخذلك.

وابتسمت، وعادت روحه من جديد إليه، فرفع رأسه للسماء صارخًا:
_رضيت، رضيت يارب... أنا بحبك أوي!

ضحكت أسيل وهي تلتفت حولها قائلة:
_بس الناس تقول إيه؟

قبل يدها وهو يجذبها إلى الداخل قائلاً بقرار لا عودة فيه:
_أبوك فين؟ النهاردة هاطلبك منه، النهاردة أنتِ خطيبتي ونخلص الليلة ونحدد الفرح.

وقف أمام كمال لاهثًا وهتف ياسين:
_عمي أنا عايز أتجوز أسيل.

دارت أنظار كمال بينهما وقال:
_طيب يا بني، تعال أنت وأبوك ونتكلم، مش هانتكلم هنا.

_يعني أنت موافق؟

تساءل كمال ابنته:
_انتي موافقة؟

ضحكت أسيل وهي تنظر لياسين بخجل، فابتسم كمال وقال:
_شرفونا في الميعاد اللي يناسبكم يا بني.

التقت نظرات أسيل بعدي الواقف بركن منزوي، أهدى لها ابتسامة مشجعة، ولوح لها بأحد المقرمشات التي وزعت على المدعوين، وكان هو يلتهمها ويشاهد المدعوين كأنه في إحدى صالات السينما، ضحكت أسيل عليه، متمنية لشخص مثله السعادة والحب.
ح
برقصه جماعية كان ختام الزفاف الضخم، من أبرزهم العروسين: دهب وموسي، ياسين وأسيل.
.......
بعد مرور عام،
في حديقة قصر قاسم عمران، يقف بشخصه وبملابسه المريحة البيتية، يحتضن فتاة صغيرة حمراء اللون، تتأوه وتحرك كفيها وقدميها، تفتح فمها فتصدر نغماً كالزقزقة.

ماسة… ابنة دهب وموسي، في عادة شهرية تتجمع فيها العائلات ببيت موسي أو قاسم، وأوقات أخرى كان يتمسك كمال بدعوتهم، لكن اليوم الحديقة مزينة بماسة.

أتت والدتها، بعدما غيرت الأمومة الكثير من شخصها وحتى في معالم جسدها، كما قال موسي، أصبحت تحمل لقب أم.
قالت وهي تقترب منه:
_ماسة عاملة معاك إيه؟

أجابها وهو يحملها بين أضلعه خوفاً من سقوطها، وبحنان قال:
_ولا حاجة، ولا سألت عليكي، يالا روحي شوفي كنتي بتعملي إيه.

شهقت قائلة بحزن مصطنع:
_كده، بعتيني يا بنت!

أصدرت ضحكة رائعة لقاسم الذي ضحك بسعادة:
_شوفي ضحكتلي إزاي، روحي يالا، الله يسهلك.

ابتسمت دهب إليه دون أن ينتبه، لم تكن سعيدة في أيامها من قبل مثل هذه الأيام، علاقتها به تتحسن يوماً بعد يوم، خصوصاً بعد قدوم ماسة وتعلقها بها، وللغرابة تعلق الفتاة به أيضاً، وفي وجوده لم تتذكر دهب أو موسي. على ذكر موسي، اتجهت إليه دهب ليلقي على مسامعها بعض كلمات الغزل ويذكرها أنه مقصر هذه الأيام.

..................

كانت تتابعه دون أن يراها، كان رائعاً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، يداعب الطفلة، تضحك فايجلجل بضحكاته، يتفاعل بوجهه حتى تبتسم وكأنها أصبحت هويته المفضلة.
جانب الأبوة في قاسم لم تكتشفه فيروز بعد، لكن المؤشرات كلها أكثر من ممتازة، وضعت يدها على بطنها المنتفخة، تحسب المتبقي على قدوم طفلها الأول، الحمل عليها صعب ومرهق للغاية، أصبحت ثقيلة في آخر شهورها، كثيرة النوم، متقلبة المزاج، وهو معها وهذا ما تريده وفقط.

رفع عينيه فجأة فألتقط عينيها بعينيه، ابتسم لها وأشار لها أن تأتي، اقتربت وتمسحت بصدرة وداعبت الصغيرة.
تساءل قاسم بخفوت:
_انتي كويسة؟

أومأت برأسها بالإيجاب، فقال وهو يمسح يدها على بطنها:
_وعمران عامل إيه؟

تمسحت به أكثر وقالت بخفوت:
_تاعبني.

ضحك بخفوت وقال بعبث:
_لا، ما يصحش، اللي يعمله عمران يصلحه أبوة.

لكزته على صدرها، فاضحك وتعالت ضحكات الصغيرة أيضاً. ولحظات، كانت أسيل وياسين على الباب وكمال معهم، استقبلهم قاسم بحفاوة، وقبلتها فيروز وتسائلت بفضول:
_ها جبتيه؟

أومأت أسيل برأسها وبترقب، تساءلت:
_ها وإيه الأخبار؟

ادمعت عينين أسيل وقالت لتخبرها بتأثر:
_عملت الاختبار وطلعت حامل، ياسين لسه ما يعرفش، هاعملها مفاجأة.

احتضنتها فيروز مهنئة، وقبلت عمها الذي سأل عن عمران الصغير منتظر قدومه ولم يتبقى عليه سوى القليل.

أسدل الليل ستائره، وبعد العشاء الذي لم يخلو من الضحكات والأصوات المختلفة، والضوضاء التي تظهر الحياة داخل قصر عمران بعد سنوات من الصمت والسكون، كان الجمع يتجول هنا وهناك.

مالت أسيل على كتف ياسين وقالت:
_هو انت ليه عمرك ما اتكلمت معايا في موضوع الخلف يا ياسين؟

أجابها بعد ما قبل يدها الممسك بها:
_مش عايز حاجة تضايقنا، احنا كشفنا وإحنا الاثنين بخير، نسيب كل حاجة لربنا، أنا راضي بيكي بنتي ومراتي وكل دنيتي.

قبلت هي يده هذه المرة وهمست له:
_بحبك يا ياسين، يا أول راجل يدخل قلبي ويملك روحي وقلبي.

وتابعت ببطء شديد منتظرة ردة فعله الأولى:
_أنا حامل.

لحظة وأخرى، وكأن المسكين لم يفهم بعد، تساقطت عبرتين منها وهي تومئ برأسها دون القدرة على التفوه بشيء، فاجذبها لصدرة بشدة، مشاركها دموع فرحتهم بفرحتهم الأولى.

...........

_ماتيجي نسيب ماسة مع أخوكي ونروح؟
التوي فم دهب وقالت:
_اتحجج بماسة بقي.

_اتحجج؟
أجابته بنبرة طفح الكيل:
_آه، تتحجج، فين موسي وكلام موسي، فين الدلع؟

ارتفع حاجباها للسماء وهتف بها غير مصدق:
_أنا؟ ده انتي زي القطط تاكلي وتنكري، مين اللي نايمة طول الليل على صدره رغم إنك بتشيلي الغطا من علينا لكني برجعه، مين اللي فطرك امبارح، مين اللي…

_خلاص خلاص.

ضغط على خصرها بخفة قائلاً:
_انتي عايزاني جنبك ٢٤ ساعة؟

مالت عليه وبدلال لم تفقد سحرها لليوم:
_وفيها إيه مش حبيبي وأبو بنتي؟

أخذ بسحرها موسي، فأكملت بهمس:
_عايزة أكون معاك طول الوقت، تمشي البنت اللي جبتها وأنا أرجع مكاني.

لحظة رمش بعينيه عدة مرات، ورفع حاجبيه قائلاً:
_قولي كده.

بتصميم قالت دهب وهي تداعب زر قميصه:
_آه أقول، أنا بغير.

ابتسم بحنان ومسح على وجنتها، مقبلاً كل منهما وتحدث بصوته الرخيم:
_غيرة إيه، حد يبقى معاه دهب ويبص للقشرة؟

كان التصميم بعينيها رغم لمساته المؤثرة، فقال موسي:
_موافق تنزلي الشغل لكن لما ماسة تكبر شوية، ولحد ما ده يحصل سكرتير يمشي معاكي، راضية ياستي؟

حاوطت رقبته بيديها وهمست له بسحرها الأنثوي:
_راضية بيك أنت.

...............

بحركة بطيئة كانت تتحرك فيروز، يتابعها قاسم بقلق من تقاسيم وجهها المرهقة وشحوبها الملحوظ، وهي لا تعرف بالضبط ما ذلك الألم، تقلصات حمل معتادة أم شيء خطير، لكنها تتألم ولم يبقَ على تحملها سوى القليل.
انحنت فيروز للأمام، فأحاط قاسم خصرها بين ذراعيه متسائلاً بقلق:
_فيروز مالك؟

بصوت متحشرج وبضعف قالت:
_تعبانة، مش قادرة.

حملها قاسم بين ذراعيه، فانتبه الجميع وأصابهم القلق، بسرعة فتح حراسة قاسم السيارة وأمرهم بالتوجه لأقرب مشفى، ومن خلفهم سيارات موسي وكمال وياسين وزوجاتهم.

ساعتان… ساعتان انقضيا ما بين صراخها المتألم وتحضيراتها لولادة قيصرية مستعجلة، وقاسم يكاد يقتلع شعره من جذوره، وعائلته من خلفه تطمئنه وتدعو لفيروز، التي لم تكن تريد أن تترك يده متمسكة بوجوده، حتى تركها أمام غرفة العمليات.

لحظات أخرى وكان خروجها لغرفة عادية، لم يفرق يدها، حتى أنه لم يرَ طفلهما، مصمماً أن يراه لأول مرة معها.
يمسح حبات العرق عن جبهتها ووجهها الذي فقد لونه إثر عمليتها الجراحية، هامساً بكلمات مشجعة لتجاهد لاستعادة وعيها لتطمئنه.

حتى أتى الأمير الصغير، حمله قاسم، ادمعت عيناه بتأثر هامساً باسم (عمران)، ثم وضعه على صدر فيروز، التي بكت بتأثر ومشاعر عدة.
فتح الصغير عينيه وأغلقهما ثانية، لم تكن سوداء، ربما ستكون مزيجاً غريباً بين الزمرد الأخضر والفيروز.
تلاقت عيناهم للحظات، أهدها إحدى نظراته الممتنة، وأهدته نظرتها المحبة له.

همس لها بخفوت مؤثر:
_أجمل هدية جاتلي، انتي هديتي الأولى، ومن بعدها ربنا بيديني كل يوم هدية، حبك وضحكتك وجمالك وقلبك، لحد عمران.

لامست أصابعه وجنته بصدق وحب شديد:
_ده… أنا صالحت الدنيا بيك ومعاك.

وكل حكاية، ورغم تدابير القدر المدهشة، وحكمة مقلب القلوب، يكون دائماً… للهوي رأي آخر.


تمت بحمد الله 
تعليقات