رواية غوثهم الفصل المائة والواحد والثمانون 181 بقلم شمس محمد


 رواية غوثهم الفصل المائة والواحد والثمانون 


______________________
أتيتُ قاصدًا عفوك وأنا أعلم أنه أعظم..
وأنا الذي ملأ الظلام قلبه، وفي حق نفسه أجرم..
ربي أعلم أنك لا ترد عبدًا قصد بابك
وأنت الذي وصف نفسه بالعفو
فعلمت أنك على نفسي أكرم..
فليتك تحلو والحياة مريرة
وليتك ترضي والأنام غضاب
وياليت الذي بيني وبينك عامر
وبينى و بين العالمين خراب
إن صح منك الود فالكل هين
وكل الذى فوق التراب تراب…
“مقتبس أبو الفراس الحمداني”.
____________________________________
هناك ليلة واحدة تأتيك فتخبرك أنك لم تتخط بمثقال ذرةٍ..
ليلة فيها ستعرف أنكَ الخاسر الوحيد لكل شيءٍ كان حولك،
ليلة لن تمر بالرغم أن ما فيها مر، ليلة إن وُضِعَت في حد التعبير لم تجد لها التعبير المناسب، فغريبٌ أن يثقل روح المرء بأشياءٍ مرت لكن أثرها بداخله لم يمر…
فكيف أخبرك أن هذه الأشياء هي صنيعة يدي؟
كيف أخبرك أنني بمحض إرادتي؟ كيف أخبرك وأنا الصمت يقتلني؟ أتعلم؟ أود اخبارك أن الصمت ليس مجرد علامة على الرضا، فأنا صمتي علامة خيبتي،
صمتي كان ولازال دائمًا علامة يأسي وانتهاء مخزون الأمل في قلبي، أتعلم أيضًا إنه لأمرٍ في غاية الصعوبة أن يصبح المرء في حروبٍ مستمرة دون أن يستقر له بالٌ ولو لطرفة عينٍ..
الأمر في غاية الألم على النفس أن تصبح كل الأشياء هي بذاتها سبب الهزيمة وهي في يومٍ ما كانت سبب الربح الوحيد،
أتعلم قسوة المشهد وأنتَ تُطالع سبب قهرك اليوم وهو بالأمسِ كان سبب علوك ورفعك بين الناسِ؟ أعلم أنني صامتٌ أمامك لذاك الحد الذي يُقنعك أن كل شيءٍ على ما يُرام وأن قلبي ليس به ما يُحكىٰ، لأن في حقيقة الأمر هناك صدمة قتلت في نفسي شيئًا لم استطع أن أُحييه من جديد، فصدقًا لو سنحت لك فرصة واحدة كي تدخل لقلبي، لن تجد ما يُقال..
ستجد ما بين الروح وبقاياها فقط الدمار..
<“ياليتني ما بِكَ يومًا تباهيت، وياليتني لكَ ما سلمت”>
ألا ليت بِكَ من بين الناس ما بُليت..
وألا ليت لنفسي يومًا في حُبك ما استمعت، فأنتَ الذي كنت أراهن عليه نفسي والعالم، ولأجلهِ خسرت العالم ونفسي حتى غدرت من بعدهِ أتساءل كيف كانت قسوة العالم معي، إذا كانت تلك القسوة بأكملها أتتني منك وحدك؟..
بينما هو فعليًا فبدأ يستعيد وعيه ويفتح عينيه بتروٍ بعدما داهمه الضوء فجأةً فعاد يغلق عينيه من جديد، حاول أن يعتاد على الضوء وينازع ألم رأسه الساقط على عينيه وما إن نجح بدأ يراقب المكان حوله ليجد نفسه فوق فراشٍ وثيرٍ وما إن حرك رأسه للجهة الأخرى وجد رجلًا بملامح أجنبية يهتف ببرودٍ وببسمةٍ ثلجية:
_نورت إيطاليا يا سيادة القبطان،
ولا أقولك يا سيادة القبطان العاشق لحنين؟.
وهذا هو السيف وتلك هي الرقبة،
فإما النجاة من ضربة سيفٍ غادرٍ
وإما ضياع العُنق والروح، هكذا جذبه الصوت موازةً بجذب الملامح نحوه فكانت النظرة قلقة وهي تتفحص الملامح، حينها تنهد “ماكسيم” ثم مال بجسده للأمام يهتف ببرودٍ محتفظًا بتلك البسمة البغيضة لعين من يراه:
_نورت يا “نـادر” تصدق بابا كان معاه حق لما قال إنك هتيجي هتيجي، طلع ناصح وعارفك وعارف دماغ ابنه، بس أنتَ غبي برضه، يعني تخيل تبقى حياتك هناك كويسة ومرتاح، وتيجي هنا علشان خاطر “سـامي” وتقطع كل المسافة دي؟ وكمان مخطوف؟…آه سوري قصدي يعني جيبتك لهنا بمعرفتي وطريقتي كمان.
طالعه “نـادر” بعينٍ ناقمة وحتى لحظته تلك كان يشعر أنه في حُلمٍ بعيدٍ عن واقعه، كان كمن يركض خوفًا من هجومٍ ضارٍ عليه في كابوسه ولم يفق عند صراخه عاليًا؛ وإنما وجد الروح عالقةً بين الإفاقة وما هو دونها، لذا كانت نظرته تنطق بكل قهرٍ وتحكي عن حاله المذعور أمام الرجل الذي ترك مقعده ثم اقترب منه يهتف متلذذًا بنصرهِ عليه:
_عارف؟ أنا حقيقي مبسوط أوي إني قدرت أكسب التحدي مع نفسي عليك، بقيت مبسوط وأنتَ قدامي هنا حقيقي، هتبقى كارت كسبان في اللعبة كلها، هتخليني أكسب كتير أوي بوجودك هنا، تصدق غريب أوي إن الإنسان يخلي نفسه فريسة سهلة في أيد عدوه؟ غريبة العداوة اللي كانت بينك وبين “يـوسف” طول السنين دي، دا أنتَ طيب أوي وسهل يتضحك عليك بكلمتين.
طالعه “نـادر” بغرابةٍ وقلبه بدأ ينبض بخوفٍ خوفًا من تلك الفكرة التي استحوذت على رأسه أنه أتى يُلقي بنفسه في جوف الطوفان وهو الذي حسب نفسه سيأمن من كل هلاكٍ، اليوم يتأكد أنه في جوف الطوفان مدهوسًا بين السُفن العاتية، هذا الذي أتقن الإبحار وكان رُبانًا للسُفنِ وسط الأمواج القاسية، اليوم ينقلب عليه الطوفان وتهيج الأمواج وتعترض بالرياح سُفنه…
أما “ماكسيم” فهو تحرك نحوه يُطالعه من علياءه والآخر مُكبل الأيدي يعجز عن الحراك وعيناه تُشيء بحال قلبه المذعور فزعًا والحديث الآتي كان بمثابة مطرقة سقطت فوق الرأسِ حينما رماه بالحديث وقصد الرحيل من أمامه سريعًا:
_هبقى أقول لبابا ييجي يتطمن عليك، أكيد هيفرح أوي لما يشوفك هنا، مع إنه كان مشكك في قُدراتي أني أجيبك ليه لحد هنا، أبقى أقوله بقى إني شاطر وعرفت أجيبك.
توسعت عيناه من وفرغ فاهه وقبل أن يُبدي شكه في محض الحديث كان الآخر أخرج الدليل القاطع من جيب سترته حيث هاتفه المفتوح بشاشةٍ عرضت جلوس “سـامي” في الأسفل وسط مجموعة من الرجال أقوياء البنية وضِخام الهيئةِ، كل ذلك في حقيقة الأمر لا يهمه، وإنما ما كان يهمه حقًا هيئة والده الذي جلس كأنه يرأس تلك العصابة أو ربما كان زعيمًا لهم..
وهنا وفي تلك اللحظة بالتحديد..
علم أنه هان على من كان يحسب نفسه عزيزًا عليه،
كان كما السجين الذي عاش أسيرًا طوال عمره، ويوم أن خرج وانتهى أسره، وجد والده يُعيد الأسر عليه من جديد وهو يتبرأ منه أمام الناس بدلًا من الدفاع عنه وتولي مهمة حمايته..
هذا الذي ظن نفسه عزيزًا لا يُهان..
انتهى أمره وأمر عِزته حينما هان وبكرامته اُستهان..
____________________________________
<“وفي بالي أنتَ دومًا كأنك الجزء الذي لا يتجزأ مني”>
في الحقيقة أننا مع بعض الأشخاص قد لا نتذكرهم..
لأننا من الأساس لم ننسهم أو حتى نخرجهم من رأسنا، وتلك هي الحقيقة الأكثر دهشةً، أننا رغم انشغالنا في يومنا فنحن لا نتذكرهم لأننا لن نملك تلك الجُرأة أو ربما القسوة كي ننسى من هم كان ولازالوا جُزءًا من الروحِ..
فكيف نتذكر ما لم ننساه من الأساس؟.
بعد شروق الشمس بساعات قليلة..
كان “مُـنذر” يقف في مطبخ تلك الغرفة يتابع طهي الطعام حتى ينتهي قبل أن تستيقظ الأميرة الصغيرة كما يلقبها _ساخرًا بالطبع منها_ وقبل أن يفيق “يـوسف” من نومه بعدما سهروا مع بعضهم برفقة “چـودي” التي أصرت على ذلك، أما هو فهو لم يحبذ النوم طوال عمره، كان يرى في النوم ضعفًا وتسليمًا لسلطانٍ آخرٍ يوقعه في فخ الكوابيس القاسية، أما الآن فهو أصبح يخشى النوم كي لا يصطدم بحقيقةٍ ما يخشاها هو؛ ألا وهي أن كل ما وصل إليه مجرد أحلام عابرة وتمضي..
أخرج هاتفه حتى ينضج الطعام فوق الموقد ثم سحب هاتفه يتصفح أحد المواقع ثم انتقل لآخرٍ يختص بالمراسلات، وأول شيءٍ قابله كانت صورة زوجته برفقة شقيقها وابنته الصغيرة في صباح اليوم، بالتقريب منذ دقائق وهي بداخل السيارة تجلس بجوار شقيقها وهو يضحك لابنته وهي تُلثم وجنته، كانت صورة مثالية لعائلةٍ مثالية يتمنى هو أن يكون ضلعًا قويًا بينهم..
رأى بعينيه الحديث الذي أضافته أسفل الصورة، حينما كتبت باللغة الإنجليزية تمدح طَّلتهم صباح اليوم مع بعضهم:
_قد تظن نفسك مُخطئًا، لكن في حقيقة الأمر أنتَ ترى شروق الشمس مرتين، فأنا لم أغرب قط، بل دومًا ستجد شُعاعي يُرشد تيهك مهما كنت حائرًا..
ابتسم باتساعٍ ثم فتح التسجيل الصوتي وأرسل لها:
_دا أنا اتنسيت خالص بقى، ياترى لسه على البال ولا روحت منه بسبب المسافات اللي فصلت بينا دي يا “فُـلة”..
واسمها منه تحديدًا يسلب قلبها..
فيبدو أنه لم يكن بارعًا في القتل فقط، وإنما يبدو أنه أيضًا يُجيد السرقة ببراعةٍ كي يسرقها من نفسها في كل وقتٍ يتغنى به لسانه بحروف اسمها المُميز، والذي يزداد تميزًا بفعل نطقه لها، لذا تنهدت ما إن وصلها صوته المتُحشرج بسبب سهره، فاختلط ببحةٍ مُحببة لقلبها المُولع بحبه، ثم أرسلت له أغنية تشاركه بها ردها عليه وتتركه يعلم تلك الحقيقة الغائبة عنه، كما غابت شمس عينيه عنها..
_أنتَ اللي شاغلني، طول ليلي ونهاري على بالي،
ولا بُعد يغير حالي، مهما بتبعد جوة عينيا،
وبتملى الدنيا عليا، دايمًا على بالي حبيبي دايمًا،
صورتك في خيالي مبتروحشِ، من غيرك الفرحة متكملشِ،
غالي أنتَ عليا مبتهونشِ،
دايمًا على بالي حبيبي دايمًا، صورتك في خيالي مبتروحشِ،
من غيرك الفرحة متكملشِ، غالي أنتَ عليا مبتهونشِ..
كانت حينذاك بمكتبها وهي تبتسم بسعادةٍ لمشاعره التي أضحت بائنة في الأوقات الأخيرة عن السابق، لذا لم تبخل عليه بمقصد الكلمات وهي تعلم أنها رسالة مختصرة عن حديث قلبها له، بينما هو فكان يبتسم بحنينٍ وفي تلك اللحظة احتلته رغبة في ضمها بقوةٍ كي يُخبرها بكل حديثٍ بخل عليها به في السابق..
فحتى في الغياب والمُدن تفصل بينهما وتدخل المسافات تقطع اللقاءات المعتادة، كانت ولازالت هي بالعالم أجمع في عينيه..
كأنها المدينة المرصودة من عيني مُشردٍ يأمل في احتوائها له.
ترك الأغنية بجوارهِ ثم عاد يطمئن على الطعام وترك قلبه يطير مُحلقًا من سجنه وهو يطمع في لقاءٍ قريبٍ معها، بينما في تلك اللحظة خرج “يـوسف” له بعدما جذبته الأغنية من غرفته فخرج له وجلس على المقعد المرتفع يستمع للكلمات بوجهٍ مبتسمٍ وملامح مُنبسطة، ثم عاد للخلف يستند على ظهر المقعد وهو يسأله بتعجبٍ:
_بس غريبة يعني، دا أنتَ صاحي رايق بقى.
التفت له “مُـنذر” ثم حرك كتفيه ببساطةٍ كأنه لم يقصد فعل أي شيءٍ فتركه “يـوسف” على حُريته ثم انتقل بجواره يعاونه في تحضير الطعام حتى خرجت لهما الصغيرة تضحك بسعادةٍ لأجل هذا الاهتمام المُفرط منهما لها، كانت تشعر بشيءٍ لم يفهمه عقلها الصغير ولم يترجمه لسانها الذي لم يدخر حصيلة لغوية كبيرة سوى أن ما تشعر هي به “فـرحة”..
ركضت تجلس فوق المقعد بعد أن ألقت عليهما التحية، ثم ظلت تراقب تحركات كلًا منهما فانقسم قلبها لشطرين حُبًا لكليهما، لذا قالت بضحكةٍ واسعة:
_أنا مبسوطة أوي أنكوا جيتوا هنا، فرحانة أوي أوي أوي، ونفسي أفضل أرقص وأغني واتنطط كتير أوي، وبحبكم كلكم أوي وبحب “إيـهاب” كمان أوي أوي، يا رب نفضل مع بعض.
طالعها كلاهما بملامح مُنبسطة وضحكة، ولأن “يـوسف” يعلم كيف هي مشاعرها المتراكمة فوق بعضها تحرك مقتربًا منها ثم حملها فوق كتفيه وأخرج هاتفه ووضعه بجوارهِ ثم قام بتشغيله لها وهي تُصفق بكفيها ثم نزلت ترقص وتقفز أمام عينيهما وهي تضحك بسعادةٍ فضحك كلاهما لها وقد ركضت هي تبدل ثيابها في تلك اللحظة، بينما “مُـنذر” فتنهد بقوةٍ ثم همس لـ “يـوسف” بقلقٍ:
_خايف أوي عليها بعد الفرحة دي كلها ترجع بخاطرها مكسور، هنعمل إيه؟ تفتكر عمها كدا خلاص اقتنع بكلامنا وهيسكت؟ رغم إني بصراحة ماظنش إن دا ممكن يكون هيحصل، بس لازم ناخد برضه حذرنا، بس أنتَ قولتلي إنك هتتصرف، ناوي تعمل إيه؟.
عاد “يـوسف” وجلس فوق المقعد يقول بعد فكرٍ عميقٍ لم يدم كثيرًا منه، وإنما تجاوزه سريعًا يُعرب عنه بقوله:
_هلعب على مشاعر الأنثى، وخصوصًا لما تكون أنثى مجروحة في كرامتها ومشاعرها، بتبقى فيه نار قايدة فيها وبتحاول على قد ما تقدر إنها تاخد حق كرامتها ومشاعرها دي، علشان كدا بقولك نلعب على مشاعر الأنثى، يمكن تيجي بفايدة ونستفيد بحاجة منها وخلاص، بس أنا مش هخاطر وأخرج من هنا من غير ضمان.
طالعه “مُـنذر” بسهامٍ مُستفسرة فجاوب عليها الآخر بثباتٍ وثقةٍ:
_بمعنى إن “أحـمد” ميتضمنش، عامل زي العيل الصغير لما يتساب لوحده دماغه بتسوحه على الغلط، الممنوع عنده مرغوب بشكل باين أوي، يعني مثلًا عندك “سـهر” أخت “سـراج” الله يرحمها كانت زميلة أخوه من صغرهم، مع بعض طول عمرهم، بس هو حبها هو كمان، والحقيقة هي كانت مثالية أوي، جمال وأدب وأخلاق وعلم وذوق، كانت مطمع لأي حد، بس أمه جوزته قريبتها “عيشة” بما إنه الكبير يعني، ساعتها “ممدوح” أخوه بدأ يجهز حياته علشان يتجوز “سـهر” وكانوا فرحانين أوي، بس “عيشة” حست إن جوزها مايل لواحدة غيرها، وياريتها واحدة عادية، دي خطيبة أخوه، علشان كدا كانت بتكرهها وبتغير منها أوي، وكرهها زاد لما شافته يوم الجنازة بيعيط عليها، ساعتها “سـراج” قرر يقطع معاهم خالص، وخد بنت أخته علشان ميسيبش ليها وجع وسطهم، ساعتها بدأ “أحـمد” يستوعب إنه خسر حياته، وأي فرصة تخليه يوصل لبنت أخوه كان بيحاول يستغلها..
تنهد بقوةٍ ثم بدأ الحديث من جديد بقوله:
_ساعتها كل اللي قدر عليه “سـراج” إنه يعيش علشان خاطرها هي، نضف فلوسه كلها، كتب نصيب أخته ونص نصيبه باسمها هي، دخل في شراكة مع الحج والفلوس دي بتتحط علشانها في مكان لوحده، عرف يكون ليها دنيا تانية، وهي كمان روحها فيه، وعلى فكرة “چـودي” كان ليها ورث ونصيب في فلوس أبوها، وكأن ليها شقة تعملها دلوقتي مليون جنيه، بس جدتها رفضت وقالت إن هي صغيرة ودا تعب ابنها، وساعتها “سراج” رفض يستلم منهم أي حاجة خالص، وقال إنه مش عاوز جنيه منهم، كل دا “عيشة” كانت موجودة فيه وكان كرهها كل مادة بيزيد للبت الصغيرة اللي جوزها كان بيحب أمها، وكملت الحياة على كدا، “سـراج” مسكتهم بالفلوس وإنه ساب حق بنت أخته ليهم، وسابلهم الشقة كمان، وقصاد كدا اتنازلوا عن البنت، وجدتها هي اللي وافقت على فكرة، وقالت إن البت مش لزماها، بس المهم شقا ابنها ميروحش هدر..
توسعت عينا “مُـنذر” وفرغ فاههُ وهو يحاول فهم تلك العائلة البغيضة، لكنه زفر بقوةٍ ثم قال بجمودٍ وقسوةٍ:
_تصدق يغوروا في داهية كلهم أحسن؟ علشان لحد آخر لحظة كنت فاكر إنها خايفة على بنت ابنها وشايلة همها، حتى “أحـمد” دا كنت فاكره عاوز يحافظ على الأقل على “چـودي” بس طلعت أهبل، علشان اللي عنده دا مرض نفسي، حاطط صورة الماضي في الحاضر ومضيع نفسه وبيته، لو حسبها بالعقل وركن مشاعره شوية هيلاقي إنه بيخسر بكل الجوانب، علشان كدا بكرهه وبكره غبائه اللي مسيطر عليه، وعلشان بكل أسف هو أناني وأنانيته عمياه عن الصح، عايش دور الضحية والمظلوم وهو محكمش عقله مرة واحدة بس؟ مهما شاف هييجي بصعوبة اللي واحد فينا شافه؟.
ضحك له “يـوسف” ساخرًا ثم جلس يُشعل سيجاره وأضاف:
_ماهو صوابعك مش زي بعضها، مش كل الناس بتقدر تقف على رجليها وتكمل بالحلو اللي فيها، لازم حاجة بتموت فينا، ولازم بنقف ونتغير ونتبدل، بس بنبقى عاوزين حد يقولنا إحنا بشر ولينا طاقة مش مقالب زبالة، أنا يمكن أكون مش طايقه بس أكيد هأذيه، على الأقل علشان عياله الصغيرين، فأنا كلامي مع “عيشة” وهي اللي هتساعدني.
أومأ له “مُـنذر” موافقًا ثم عاد يتابع عمله لتحضير الفطور، أما “يـوسف” فجلس يتابع الهاتف حتى يهاتفه الضابط الذي أخبره عنه “أيـهم” لمساعدة طليقته في تلك المحنة التي تمر بها في الخارج، كان يجلس بصمتٍ يود أن يشكو حاله لكل مارٍ، لكنه كما الخيول توجعه الشكوى، ويؤلمه الإنحناء، فكان أبلغ الحديث الذي يصفه:
“‏كالخيلِ يمنعُنا الشُّمُوخُ شِكايةً
وتئِنُّ من خلفِ الضلوعِ جروحُ”
____________________________________
<“قالوا أنني نسيتكِ، وفي الحقيقة أنا نسيت العالم إلاكِ”>
كذبوا في حقي وأطلقوا عليَّ الحديث كذبًا..
لكني لم أبالِ، فحتى لو قالوا أنني نسيتُكِ، من منهم يعلم قيمة وجودك في حياتي؟ فهل تدرين أنكِ وحدك محور الكون بعيني؟ ربما تكون راحت من ذاكرتي بعض التفاصيل، وربما أكون نسيت بعض اللقاءات بيننا، لكني لن أنسي أنكِ أنتِ وحدك من أمسكتِ يدي وعبرتي معي من الظلام نحو النور،
فكنتِ خير الضُحى الذي أضاء نهارًا من بعد عتمة الليل..
كانت هي بذاتها تخوض التحدي الأكبر،
فكانت تعلم أنها تُبحر وسط طوفانٍ قاسٍ عليها وعلى قُدرتها لكنها كانت تحاول بكل ذرةٍ بها أن تُكمل الطريق حتى نهايته، واليوم كانت في عملها ترى الجميع يتجهزون لحضور مناسبة المساء، أما هي فكانت تائهة بينهم وهي تبحث عن طريقةٍ ما ترفض بها الحضور، كانت تخشى أن تكون بمفردها بينهم والأعين تتربص لها بأسئلةٍ هي تسعى للفرار منها..
جلست “ضُـحى” تتابع عملها وهي ترمي بكل اهتمامها فوق الورق الموضوع أمامها وتتجاهل بكل قصدٍ حديثهم عن زفاف زميلتها بمقر العمل، وقد أتت واحدةٌ من بينهم تسألها بتعجبٍ:
_أنتِ لسه قاعدة زي ما أنتِ يا “ضُـحى” مش هتقومي؟ إحنا النهاردة كلنا نص يوم علشان فرح “رانيا” بليل والمدير عارف إننا هنمشي قبل الضهر واليوم محسوب شغل، قومي علشان تلحقي تجهزي نفسك.
انتبهت لها “ضُـحى” وهي تحاول أن تهرب بعينيها من الحديث المحمول في المُقلِ لكنها صمدت وأكملت الجمود فوق ملامحها وعبرت به لعينيها ثم قالت بشيءٍ من اللامبالاةِ كأنها حقًا لا تكترث:
_لأ أنا للأسف مش هقدر آجي، هخلص الشغل اللي ورايا وهروح أرتاح شوية في البيت علشان أكيد هترجعوا هلكانين من الفرح، عمومًا أنا هبقى أبارك ليها وممكن أروح بيتها معاكم، عقبالك يا حبيبتي.
كانت بارعة في إخفاء ضعفها، وشامخة في تزييف قوتها، لم تكن ذات يومٍ تلك التي ترتكن على الجدار باكيةً من غدر الناس والأيام، وإنما هي الحائط لنفسها والجدار بذاته، لذا هربت سريعًا بعينيها وهي تتذكر حديث “جـواد” و “مُـنذر” عن حالة زوجها حينما أخبروها أن تتوخ الحذر معه في علاقتها به، وحينما أخبرته بموعد زفاف صديقتها قال لها هاربًا من الحضور:
_مش هقدر أكون تحت ضغط زي دا وأنا وسط ناس المفروض إني عارفهم وهما عارفيني، هتعامل إزاي وأنا غريب بينهم مش عارف حد فيهم؟ بلاها أحسن، لو تحبي روحي أنتِ.
هكذا كان رده عليها فأيقنت أنها أمام غريبٍ عنها..
نعم تعرف اسمه ووصفه وماضيه وحاضره ولو شاء الخالق ستكون هي المستقبل بذاته، لكنه غريبٌ عنها،
غريبٌ عن قلبها، حتى عيناه بذاتها رغم أنها كانت السكن لها، أصبحت الموطن البعيد الذي كلما جلست تمنت أن تعود له..
خرجت من العمل بحالٍ غير الحال، حيث كانت واجمة الملامح شاردة الذهن بعيدًا عن الجميع، ركبت سيارة الأجرة وبعد دقائق من شرودها صدح صوت هاتفها برقم “سـمارة” فجاوبت على المكالمة بعدما مسحت عبراتها وقالت بصوتٍ مُختنقٍ:
_أيوة يا “سمارة” عاملة إيه يا حبيبتي؟.
والأخرى من مجرد الرد فهمت ما بها فتنهدت وهي تجاوبها أن الأمور بدأت تصبح أخيرًا على ما يُرام، ثم سألتها عن الزفاف وحضورها بالمساء، فقالت الأخرى وهي تتصنع القوة:
_لأ بصراحة مش هقدر أروح، أنا هلكانة أوي بقالي فترة ومش قادرة، هقعد في البيت أرتاح شوية، وبصراحة ما صدقت إنه نص يوم ورميت الشغل كله على اللابتوب وهخلصه من البيت، وبصراحة “إسماعيل” قالي لو عاوزة تروحي روحي أنتِ، فمش حابة أروح لوحدي.
فهمت “سـمارة” ما بها بل تيقنت أن ما فكرت فيه كان صحيحًا لذا أغلقت معها المكالمة دون أن تُحمل طاقتها المزيد من الهموم، ثم أخرجت الهاتف تطلب رقم زوجها “إيـهاب” الذي كان في المكان الخاص بـ “يـوسف” يتابع شئونه لحين عودته، وما إن وصلته المكالمة وجاوبها، قالت هي بحاجةٍ لحضوره:
_عاوزاك تيجي نص ساعة والله وتنزل تاني، مش هخليك تتأخر.
تعجب هو من مطلبها ومن طريقتها، فأول ما بدر لذهنه كانت ابنته التي معها وأن المرض ربما يكون طرق الباب عليها فسألها بلهفةٍ:
_هي “دهـب” كويسة طيب؟ تعبت تاني؟.
ابتسمت يائسةً ثم قالت بتهكمٍ تسخر منه:
_لأ يا أخويا كويسة، كأنك مبقاش عندك غيرها يعني، تعالى بس عاوزاك ضروري ولما تيجي نشوف حل، وخلي “دهـب” تنفعك.
ضحك ساخرًا عليها ثم أغلق المكالمة وترك العمل وبعد ما يقرب النصف ساعة كان ذهب لبيت “نَـعيم” فوجد زوجته بالفعل تنتظره في بهو البيت وهي تحمل ابنتها فاقترب منها يسألها بعينيه عن سبب طلبها لحضوره فقالت هي بهمسٍ خافتٍ:
_بص هقولك حاجة مهمة، أقعد بس علشان الكلام على الواقف معاك بيعصبني بصراحة، ممكن تقعد شوية؟.
جلس “إيـهاب” أمامها وبداخله تزداد الحيرة أكثر بينما هي فقد برمجت الحديث على طرف لسانها وما إن سنحت لها الفُرصة قالت بهدوءٍ:
_بص عاوزاك تتكلم مع “إسماعيل” تقنعه يروح الفرح مع “ضُـحى” علشان يقربوا من بعض شوية، البت زعلانة وباين عليها القهرة من حالها وحاله، وهو مش راضي يروح معاها، قوله يروح معاها وخليه يقتنع بالفكرة كدا، إيه رأيك؟.
تباينت ملامحه أمامها وبدا حائرًا لكنه حسم أمره وقال بصرامةٍ:
_طب هو مش عاوز يروح، هجبره أنا على المشوار معاها؟ هو حر يا “سمارة” ومتنسيش كلام الدكتور اللي قتل بلاش نضغط عليه علشان يرجع تاني يفتكر أو يعمل حاجة هو مش قادر عليها، أنا مش هقدر أجبره، يبقى خليه براحته.
ولأن حديثه لم ينل إعجابها قالت بإندفاعٍ في وجهه:
_هو إيه الكلام دا؟ كل إنسان طبيب حاله، وهو دكتور نفسه علشان يقدر يعالجها، إنما كلامكم دا هيخليه يقفل على نفسه أكتر ما هو قافل، خليه يخرج معاها ويشوف الناس، يا كدا يا يطلقها ويسيبها تشوف نصيبها الصح، هو مش هيقدر يبقى لازم هي تشوف حياتها، وأظن كدا الحسبة صح وسهلة أهيه، ماهو ميبقاش الواحد عارف علاجه ويهرب منه.
زفر هو بقوةٍ ثم تحرك من مكانه بعدما بدأ حديثها يصيب الهدف لديه ويلمس أوتاره الأكثر حساسيةً وهي حبه لشقيقه، وقد خرج يقصد حظيرة الخيول الذي يقف فيها شقيقه يرعى خيوله بعدما وجد الرحبة بينهم بعدما تغرب وسط الناس، فكان يجلس وفي يده كوب الشاي وسيجاره وآشعة الشمس الذهببة تسقط فوق بشرته الحنطية فتوازي دفء عينيه المنبثق بأمانٍ يسرد حكايا وطنٍ مكلومٍ في صُلبهِ..
وقف “إيـهاب” يطالع حاله بصمتٍ فتألم لأجلهِ،
تألم وهو يرى شقيقه يعود ويغلق أبواب الحُرية على نفسه ويعيش عاكفًا على نفسه مبتعدًا عن الجميع، فتحرك أخيرًا له وجلس فوق الأرض يجاوره ثم قال بهدوءٍ:
_هتفضل قاعد لوحدك كدا؟ طب الشغل طيب؟ مكانك محتاجك.
انتبه له بعينيه ثم ترك ما يمسكه في يده وقال بخيبة أملٍ:
_مش قادر أشوف الناس، تعبت وأنا بحاول أداري نفسي منهم ومن نظراتهم وكلامهم اللي عاوزين يسألوه، مش قادر أواجه أي حاجة غير إن يومي يعدي عليا بسلام من غير ما أسبب أذىٰ لحد ولا عاوز حد يأذيني، مش قادر أكون معاهم يا “إيـهاب”.
فهم شقيقه ما يدور في خلده فقال بطيبةٍ يجبر بخاطر قلبه المكسور الذي كلما مر عليه الوقت وجد نفسه يغرق أكثر في العُمق:
_فاهمك وحاسس بيك، علشان في غيابك ماكنتش حابب أكون معاهم، كنت قرفان منهم، مبقيتش بحبهم، كلهم منافقين وعالم بوشين، واللي النهاردة معاك بكرة هيكون ضدك، واللي قالك النهاردة بكرة هو بنفسه هيقول عليك، علشان كدا اللي قبلنا قالوا إن البُعد عنهم غنيمة، وغنيمتك تكون في قوتك بطولك، بس عندك “ضُـحى” دي هتعمل إيه فيها؟ دي مينفعش تكون الطرف اللي أنتَ هتخسره مع خسارتك للعالم، كمل علشانها يا “إسماعيل”.
طالعه “إسماعيل” بتيهٍ وحينما ذُكِر اسمها وجد قلبه ينقبض كأنه لم ينبض من قبل، بينما شقيقه ربت فوق كتفه ثم قال بحنوٍ:
_كلمها النهاردة وقولها تروح الفرح وأنتَ هتروح معاها، متسيبهاش لوحدها في الموقف دا، ومش طبيعي برضه تخليها تروح لوحدها وأنتَ موجود، خليك معاها وفي ضهرها، خليك محسسها إنك بتحاول علشانها، ولو على الناس، أنتَ هتكون معاها، وهي بحد ذاتها بناس الدنيا كلهم يا “إسماعيل”.
في تلك اللحظة بدأت ملامح “إسماعيل” تتأهب للرفض، لكن “إيـهاب” قال بصرامةٍ أشد قوةً من تعنت شقيقه:
_قبل ما تعترض على الكلام، أسمعني، هي عاوزة “إسماعيل” حبيبها اللي عمره ما كان هيسيبها لوحدها في موقف زي دا، “إسماعيل” اللي هي عرفاه كان ملازمها زي ضلها وعمره ما خلاها لوحدها، ساعدها وقرب منها، وهي مستنياك من تاني، يلا قوم كلمها وخد تليفوني أهو لحد ما “مُـنذر” يسمحلي أرجعلك التليفون بتاعك.
مد يده بالهاتف له فأخذه منه شقيقه ثم رحل من أمامه يطلب رقمها وقد جاوبت هي بعد المرة الثانية بصوتٍ مُجهدٍ:
_إزيك يا “إيـهاب” عامل إيه؟.
ما إن وصله صوتها بدأ يستفيق وينتبه لها، لذا قال بصوتٍ مُضطربٍ:
_أنا “إسماعيل” يا “ضُـحى” عاملة إيه؟.
توسعت عيناها وهو يحدثها بعد إنقطاع تلك العادة بينهما، أما هو فانتظر ردها وحينما طال صمتها ووصله صوت أنفاسها المُضطربة قالت بعدما أطلق تنهيدة مُتعبة:
_أنا بكلمك علشان أفكرك بميعاد الفرح وهاجيلك على الساعة سبعة كدا علشان نوصل هناك على ٨، متقلقيش مش هتأخر عليكِ..
وبدلًا من أن تجد الرد لم تجد إلا الصمت المُتناهي، كانت حائرة من مطلبه ومن حديثه بينما هو فازداد حيرةً لكنه تمالك أمره وقال بتوضيحٍ أكثر:
_أنا لما فكرت قولت نروح علشان متكونيش لوحدك هناك، ولو على الناس أنا هكون بعيد عنهم شوية على جنب علشان محدش يسألني على حاجة، بس ينفع منتأخرش هناك؟ يعني بدري بدري نتحرك، ممكن؟.
وهي أمام طريقته ومحاولته لأجلها رضخت بالفعل، لم تمتلك طاقة كبرى كي تعانده لذا ابتسمت وظهر ذلك في صوتها وهي تقول:
_كفاية إنك هتحاول علشاني، وعامةً يعني أنا مش هتأخر علشانك بس أنا وحشني أوي نكون مع بعض من تاني، كنا كل يوم تقريبًا مش بنفارق بعض، يمكن تكون ناسي بس هحاول تاني علشانك أنتَ.
وهكذا أنتهى الحديث وأنتهى الكلام،
وأخيرًا من بعد حروب دامت وطالت أتى السلام،
فتلك الحياة التي كانت تؤلم المرء وتُنهيه بالأيام
هي بذاتها إن ذاق المرء فيها حلوها،
نسى الإيلام وعاد من الخِصام..
____________________________________
<“هذا جناه أبي وتلك هي قضيتي، أنني ابنه”>
بعض الذنوب لا ذنب لنا بها..
خطايا لم تكن بأيدينا وإنما هي من فعلٍ غريبٍ أتانا من قريبٍ، تحديدًا ممن هو أقرب من الروحِ، ذنبٌ أتانا ودمر تلك الحياة التي كنا نحلم بها ونسعى ونطمع إليها، واليوم وأنا لا ذنب لي، يحاسبني أهل الذنب بذاته على ذنبٍ لم أقترفه أنا وإنما فقط غدوت أعاني من أثر هذا الذنب في أيامي..
في حديقة واسعة في “إيطاليا”..
كان “سـامي” يجلس وسط الرجال وهو يحاول التحكم في أعصابه قبل أن يُطيح بتعليمات “ماكسيم” ويدخل لابنه في البيت، حاول أن يُجاهد نفسه قبل أن يفعلها، لكن “ماكسيم” ولج له يقود مجموعة من الرجال ثم جلس بجوارهِ وقال بضحكةٍ ثلجية مثله:
_عارف إنك خلاص مش قادر وهتموت وتشوفه.
حينها انتفض “سـامي” من مكانه وهو يقول بجمودٍ:
_ماهو أنت عديم الإحساس ومش مقدر موقفي، أخلص ابني كويس ولا لأ يا “ماكسيم” وجيبته هنا ليه؟.
وبنفس البرود فتح له الآخر الهاتف وفتح الشاشة على ابنه حبيس تلك الغرفة البيضاء وهو يجلس أسيرًا فوق المقعد وأطرافه مُكبلة من كل جهةٍ، حينها زفر “سـامي” براحةٍ ثم عاد يجلس فوق المقعد وهو يلتقط أنفاسه، وحينها سمح له “ماكسيم” أن يراه، فهرول له بخطواتٍ واسعة يضرب الأرض أسفل منه وخلفه تحرك الرجال يقودونه لغرفة ابنه، تغلبت عليه فطرة حبه للحظاتٍ عابرة جعلته يرغب في رؤية ابنه..
ولج له بعد أن أرشده أحد الرجال نحو الغرفة فكانت خطواته مهرولة وسريعة كي يرى ابنه المُقيد، وما إن وجده في الغُرفة ركض نحوه سريعًا يحل وثاقه وهو يقول بشوقٍ ولوعةٍ:
_أنتَ كويس يا حبيبي؟ طمني عليك، حد عمل فيك حاجة؟.
كان يسأل تزامنًا مع حركة يده وهي تحل الوثاق، بينما الآخر فكان خُذلانه أكبر من رد فعله، كان صامتًا وعيناه تُطالع والده بحيرةٍ وهو يسأل نفسه من هذا الرجل؟ وكيف من المُفترض أن رابطة الدماء بينهم واحدة؟ كيف يكون هذا والده وحصنه وهو بنفسه الذي يُحاربه؟.
طالت نظراته في وجه والده الذي رغم خوفه من هذا اللقاء إلا أنه تسلح بالتجبر وهو يقول بجمودٍ واهٍ على عكس لهفته:
_بتبصلي كدا ليه؟ أنتَ كويس يا “نـادر” طيب؟.
طالعه ابنه بخيبة أملٍ وكرر خلفه مستنكرًا تلك الكلمة:
_كويس؟ هبقى كويس إزاي وأنا شايفك قدامي كدا؟ هبقى كويس إزاي وأنتَ أبويا وأنا هنا بسببك؟ تصدق إني دلوقتي بس صدقت كلام “عُـدي” اللي قاله عنك؟ صدقت كلامه لما قالي الكلب أحسن منك، أنتَ إزاي سايبهم يعملوا فيا كدا؟ دا أنا ابنك !!.
كان يؤنبه بالحديث المؤلم بينما الآخر فهبط بجسدهِ يجاور ابنه فوق الفراش ثم قال مُرغمًا على الرد أمام عتاب ابنه بقوله:
_بلاش نتكلم دلوقتي أحسن، خلي الكلام لبعدين، المهم طمني عليك، أنتَ كويس؟ فيه حاجة تعباك؟ تحب ترتاح شوية؟.
كان يسأل بتلك الأسئلة الكاذبة على نفسه، فلم يُعجب ابنه بهذا التمثيل الكاذب، لذا ترك موضعه منتفضًا بانتفاضة ثائرٍ للدفاع عن الحق:
_أنتَ إزاي بتسأل أسئلة زي دي وأنتَ عارف إني مش شايف حاجة من كل دول؟ هكون كويس إزاي وأنا صاحي لاقي نفسي متكتف زي الكلب وسط عصابة؟ بتقولي فيه حاجة تعباني وتسأل وأنا مش تاعبني غيرك أنتَ، تاعبني إنك أبويا وأنا ابنك، بتسألني أحب أرتاح، طب أرتاح إزاي في وجودك؟ أجاوب إزاي عليك وأنا قهرتي طول عمرها منك أنتَ، أنا مش طايق أبص في وشك حتى، أنا هرجع تاني مصر بس ساعتها هرجع وقدام الناس كلها هقول إنك ميت.
وهُنا الوجه الحقيقي بدأ يرتسم فوق الملامح وتُظهر العين تلك الحقيقة القاسية فكان الرد باديةً قسوته حينما قال بلامبالاةٍ:
_براحتك يا “نـادر” براحتك خالص ومش هلوم عليك، بس بكرة تعرف إني بعمل كدا من غلاوتك ليا، بكرة تشوف بنفسك إني عملت كل دا علشانك أنتَ وعلشان بحبك ويهمني مصلحتك.
وهنا صرخ “نـادر” في وجهه بانهيارٍ كان حقيقيًا:
_مصلحتي؟ كل القسوة دي منك عليا وبتقولي مصلحتي؟ بتدوس عليا وعلى قلبي ومشاعري وتقولي مصلحتك؟ أنتَ أناني وظالم، عيشت عمرك كله بتحرمني من أي حاجة بحبها ونفسي فيها، وأنتَ عايش تعمل كل اللي نفسك فيه وتاخد كل اللي بتعوزه، أنا بكرهك وبكره إني شايل اسمك، بكره إنك أبويا، قال وأنا جاي علشان آخد منك الحقوق اللي نهبتها؟ دا أنا هاين عليا أسلمك ليهم علشان ناري تبرد.
وأمام مجابهة الحرقة والإنهيار أصعب الأسلحةِ يكون في البرود، لذا تسلح والده بهذا السلاح البغيض ثم قال بجمودٍ مقصودٍ:
_كبرت وبقى ليك صوت تتكلم وتعليه؟ يوم ما هتتكلم هتتكلم وتعلي صوتك عليا أنا يا “نـادر” وترفع صوتك؟ عاوزك تهدا شوية كدا علشان نعرف نتكلم وتفهم كل حاجة، وياريت تنسى بقى جو المشاعر والعواطف بتاعتك دي، الحياة هنا للكسبان بس، وأنا عاوز أكسب وأخليك معايا كسبان، فهمت يا “نـادر” ولا لسه هتقاوح معايا؟.
زادت نظرات ابنه له قسوةً وبدأت ملامحه ترتسم بالقهر على ما آل له بنفسه وجلس يُتابع الموقف بذهولٍ متمنيًا لآخر لحظاته أن يكون هذا كابوسًا ويمضي كما تمر اللحظات الصعيبة،
لكن نظرات والده له كانت تخبره أن تلك الحقيقة لطمت وجهه وتركت الأثر الدائم..
هذا الذي مهما حاول أن يهرب من قسوة الليل،
سيجد الأثر ساكنًا أسفل عينيه..
____________________________________
<“وأنا مع العالم أبحث فيه عن عالمي بعينيكِ”>
حتى وأنا غريبٌ ضيعتني الديار وفرقتني المُدن..
كنت أبحث عنكِ، بين الناس وبعيدًا عن الكل كنت أنا،
فلا أعلم هل العيب كان بعيني وهي لا تراكِ بينهم،
أم أن ملامحك نادرة الوجود يصعب رؤيتها مرتين؟
أنا وأنا بين العالم كنت أبحث عن عالمي فيكِ..
كان يجلس بعد غروب الشمس في مكانٍ ما ينتظر مجيء المرأة التي ينتظرها بمللٍ لكنه حاول أن يصمد قبل أن يرحل ويترك المكان، لذا قرر أن يتحدث مع زوجته بدلًا من الجلوس هكذا بصمتٍ ملولًا على نفسه، لذا أخرج الهاتف يطلب رقمها فوجدها تجاوبه بنزقٍ كأنها مُجبرة على الرد:
_أيوة، عامل إيه يا “يـوسف”؟.
عقد حاجبيه مستنكرًا ثم قال بسخريةٍ:
_إيه الطريقة دي؟ هو أنا مش مصالح قبل ما أمشي ومظبط المسائل كلها كمان؟ ليه الطريقة الناشفة دي يا عسولة؟.
ضحكت رغمًا عنها وقالت بيأسٍ من طريقته:
_عاوز إيه يا سيدي؟ بحضر الغدا وأنتَ بتتصل دلوقتي؟ خير يا سيدي أؤمرني، بسرعة علشان عاوزة أخلص بسرعة، قولي صحيح خلصت مشوارك ولا لسه؟ وناوي ترجع إمتى؟.
زفر بقوةٍ وأخرج ضيق نفسه ثم قال بضجرٍ:
_أديني مستني الفرج أهو، بس شكله هيتأخر شوية، أديني أهو متنيل مستني وربنا يكرم، المهم أخباركم إيه؟ كلكم كويسين؟.
_آه بخير الحمدلله متقلقش، المهم أنتَ فين كدا؟.
_قاعد مستني واحدة.
هكذا دار الحوار بينهما وهو يجاوبها حتى صرخت هي باستنكارٍ لجوابهِ وقالت باندفاعٍ في ردها عليه:
_نعم يا أخويا؟ قاعد مستني إيه؟.
أبعد الهاتف عن أذنه سريعًا حينما هدرت فيه بصراخٍ ثم عاد جوابه بطريقةٍ أهدأ من السابق حتى يمتص غضبها البائن:
_والله قاعد مستني واحدة، مستني مرات “أحمد” علشان تيجي ونشوف حل، مش ضامن أخرج من هنا على المطار ألاقي حد من السفارة هناك، علشان لو “أحمد” عقله وزه وراح السفارة بلغ عننا إنا خطفناها كدا مش هتشوفيني تاني، هتشوفيني بس في الحلم، بس بصراحة المكان هنا عاوزك أوي.
ضحكت رغمًا عنها ثم زفرت بقوةٍ وقالت متمنية له التوفيق:
_ربنا يكرمك ويسدد خطاك وتيجي بألف سلامة لينا، بس ياريت تخلي بالك من نفسك علشان أنا قلقانة منك بقالي فترة، بس أوعدك هتيجي ليا تاني وترتاح، أولك وآخرك عندي أنا.
تعجب من تبدلها فاعتدل في المقعد وقال بخبثٍ يمتزج بالوقاحة:
_لو أرجع ألاقي فستان حلو زي المرة اللي فاتت كدا هكون مبسوط أوي بيكِ حقيقي يعني، أصل الواحد مننا بعد المدعكة دي هيعوز إيه يعني غير إنه يرجع يلاقي الحلويات دي مستنياه.
ضحكت هي وضحك هو الآخر معها ثم أغلق معها بعدما لمح “عيشة” تقترب منه ثم استعاد جموده وجلس في الإنتظار حتى اقتربت هي ووضعت الحقيبة وهي تقول بأسفٍ:
_آسفة لو اتأخرت عليك بس للأسف “أحـمد” رجع بدري وخدت وقت لحد ما عرفت أسيبه وأنزل، خير يا “يـوسف” صممت تقابلني ليه، مش المفروض إننا خلصنا؟.
حينها رد هو بسخريةٍ تتوازى مع حديثها معه:
_وهو أنا يعني غاوي القعاد هنا ولا مقابلة مع حد فيكم؟ أنا عاوز أخلص قبل منك كمان، بس هعمل إيه يعني؟ المهم علشان مطولش عليكِ، أنا كل اللي عاوزه منك إنك تساعديني علشان أقدر أساعدك، أنا عاوز منك الورق اللي فيه وصاية المحكمة، وأنا هاخد البت وأمشي وأخليكِ مع جوزك وعيالك.
ضحكت باستهتارٍ على حديثه ثم قالت بسخريةٍ تهكمية:
_دا على أساس إن يعني البيت عمران أوي؟ متعرفش أنتَ الحال عندنا عامل إزاي، ولو متعرفش فأنا مكملة بس علشان خاطر ولادي مش أكتر، لكن غير كدا أنا مبقيتش قادرة تاني خلاص، وهو بيسد عليا كل الطرق وسايبني لوحدي وبيدور على كل حاجة تخليه يعيش اللي فاته، صدقني والله أنا زهقت وتعبت، بس هدفي كله أكون جنب ولادي علشان الغُربة اللي أنا وهما فيها هنا.
طالعها “يـوسف” بعين الغرابةِ ثم قال مقترحًا بهدوء:
_هو دا حل؟ لعلمك بقى البيت اللي بيكمل بس علشان العيال دا بيكون أفشل بيت علشان بيطلع عيال متعقدة وحياتها خربانة وهيكبروا يخرجوا العُقد دي على ناس غيرهم، بس لما تكون الشجاعة موجودة وتاخدوا قرار صح علشانهم دا أفضل مليون مرة، كل اللي هقوله ليكِ تدينا الورق وتخليكِ مع عيالك وجوزك مش عاوز منك حاجة تانية، ووعد محدش هيقرب منه، إحنا بس عاوزين بنتنا ترجع لحضننا من تاني، أكتر من كدا مش عاوزين.
كان يطرق فوق أبواب قلبها المغلق على صغارها فلم تجد مهربًا من مواجهة القرار الصحيح لذا فتحت حقيبتها تمد يدها بالورق المطلوب منها ثم أطلقت نفسًا عميقًا، بينما “يـوسف” مد يده يلتقط الورق منها وما إن تأكد قال بسخريةٍ:
_هو أنا قاعد مع مصباح علاء الدين ولا إيه؟.
ونظراتها كانت تسرد عليه ردها، فأبتسمت بمرارةٍ وقالت:
_لأ، أنتَ قاعد مع واحدة مجروحة ونفسها ترتاح، يمكن هوجعه شوية بس لازم بفوق لنفسه ويعرف إنه بيغلط، الكدب دوا كداب، بيرضي غرور النفس علشان كدا الناس بتحبه وتستحمله، إنما الحقيقة مرة علشان هي الدوا الحقيقي، وأنا قدامي الفرصة الأخيرة أني أحافظ على أي حاجة، أنا مش قادرة أحب “چـودي” ومش هقدر أحبها، دايمًا هيكون فيه حاجز بيني وبينها، ودي الحقيقة في حد ذاتها.
التقط الأوراق ثم استقام في وقفته وترك حساب مشروبه وقال بتأكيدٍ عليها قبل أن يرحل نهائيًا:
_كويس إنك بتفكري كويس، بس نصيحة مني ليكِ يا “عيشة” بلاش ترخصي نفسك مع حد فاكر نفسه مشتريكِ وبيعاملك كأنك حق مكتسب وهو بيدي لنفسه كل الحقوق إنه يعيش، خدي إجازة من “أحـمد” وسيبيه لنفسه، خليه يجرب بُعدك عنه وإنه مهما عاشر وشاف مش هيلاقيكِ في أي واحدة تانية، ونصيحتي التانية ليكِ، متكمليش في البيت دا علشان العيال، كملي علشان نفسك وبس، سلام.
استعد لكي يتركها ويرحل فأوقفته هي بسؤالٍ جمده محله:
_هو أنتَ يا “يـوسف” لما سيبت البنت اللي كنت بتحبها الأول واتجوزت واحدة تانية غيرها، قدرت تحب التانية زي ما كنت بتحب الأولى؟.
لم يتوقع أن يعود هذا السؤال من جديد يطرق الأبواب المُغلقة لذا تسمر لوهلةٍ ثم التفت يطالعها بعجبٍ وسكت هُنيهة ثم قال بصدقٍ أكدته نظراته لها وهو يعلم أن قصته كانت على مرأى ومسمع لكل أهالي المدينة:
_لو قصدك على “شـهد” الله يرحمها بقى فدي كانت حكاية عيل أهبل صدق حاجة عبيطة زيه، ولو قصدك على مراتي دلوقتي فدي أي حاجة قبلها مكانش ليها أي لازمة أصلًا وملهاش مسمى حتى الحب، علشان كدا حالف إن العمى على عيني أهون عليا من إني أشوف واحدة تانية غير “عـهد” حرمت على قلبي كل حاجة متخصهاش.
والجواب رغم مصداقيته ألمها، لمس وترًا قاسيًا بها لكنها ابتسمت بسمة باهتة وهي تدعو له بدوام الحب بينهما، فتحرك هو مبتسمًا بمجاملةٍ وتركها خلفه العبرات تلمع في عينيها على قصتها القاسية التي عانت هي بمقدار معاناة الطرفين معًا..
____________________________________
<“منذ البداية كانت معلومة الحكاية، عيناكِ تُجيد الصيد”>
بعض الحكايا تبدأ بنهايةٍ معلومة..
فلن تجدنا ساعيين خلف المصير الذي نجهله، وإنما ستجدنا متأكدين من تلك النهاية التي كل ما نفعله هو فقط أن لها، لذا النهاية مهما كانت بعيدة نعلم أننا سوف نصل لها..
في بيت “عبدالقادر” بشقة “أيـوب” تحديدًا كان المكان منقلبًا رأسًا على عقبٍ، كل شيءٍ يوشي بدمارٍ ضرب المكان وترك أثره، ولم يكن السبب إلا نشاط “قـمر” التي قررت تنظيف شقتها بعد غيابها عن المكان طيلة المدة السابقة، وقد ولج “أيـوب” الشقة بعد عودته من عمله الأول وحاول أن يخطو وسط الزحام الذي أحدثته زوجته الغائبة عن عينيه..
ولج بحذرٍ وهو يبحث عنها بلهفةٍ فوجدها تقف فوق الدرج الخشبي الصغير ترفع الستائر من موضعها ففكر بحيرةٍ ما إن لمحها بتلك الهيئة وهي تُجاهد للوصول للجزء الأخير من الستار لذا همس بخفوتٍ:
_هو العيد بكرة ولا إيه؟.
حمحم بصوتٍ حتى لا يُفزعها فانتبهت له وقبل أن يختل توازنها قال بسخريةٍ منها وعليها:
_أصلبي طولك علشان مش هقدر أشيلك لو وقعتي، أنا جاي خلصان يا ست الله يباركلك.
توسعت عيناها أمامه وقررت أن تُسقط نفسها عليه فوجدته بالفعل يتلقفها بين ذراعيه وضحك مُرغمًا عليها بينما هي طالعته بثقةٍ وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة:
_مبصدقش كلامك اللي بتقوله من ورا قلبك، بعدين جرى إيه يا أسطى “أيـوب” هتتخلى عني كدا وإحنا لسه بنمشي الطريق مع بعض؟ مش بعض على الحلوة والمرة إحنا ولا إيه؟.
رفع حاجبيه بسخريةٍ ثم أنزلها تقف أمامه وقال ساخرًا:
_أنا قولت معاكِ على المرة؟ أنا والله عامل حسابي أكون موجود في الحلوة بس، المُرة دي مش فاكر إني قولت أنا فيها، يمكن وطيت صوتي ساعتها ولا حاجة، مش عارف بصراحة.
ورده جاء مُشابهًا لردها ذات مرةٍ عليه حينما تخلت عن مشاركته في الضراء وحينها ضحكت هي ثم قالت بالحاحٍ تزايد تدريجيًا:
_طب بما إنك بتتخلى عني وبتردهالي، إيه رأيك تساعدني في الليلة دي علشان طلعت أكبر مني وأنا والله بعد كدا هغرس مكانك في الوحل لو تحب، بص؟ همسحلك مركز الصيانة كله كمان.
كان عرضها مُغريًا لو كان هو ساذجًا..
لكنه تسلح بقناع عدم الإكتراث ولم يُبالِ بما تقول، فوجدها ترسم البراءة فوق ملامحها التي بالفعل كان لها أثرًا بالغًا عليه، لذا ضحك بصوتٍ ثم مسح وجهه بكلا كفيه وقال بهدوءٍ:
_خلاص، هساعدك هنا في الشقة بس هاخد المقابل، في يوم هروح مركز الصيانة وهقعد اليوم كله هناك، هتيجي معايا وتقضي اليوم هناك كله هناك ولو زهقتي أنا مش مسئول، زي ما أنتِ دلوقتي بتدبسيني وبتستغلي قلبي الطيب.
ضيقت جفونها وهي ترمقه بشكٍ ثم قالت بتقريرٍ:
_أنتَ يعني بتردهالي؟.
_بصراحة آه، أكدب يعني؟.
هكذا أتاها الجواب فضحكت هي ثم أومأت موافقةً وهي تشير على عينيها كل عينٍ منهما بالتوالي، بينما هو تحرك يبدل ثيابه ثم خرج يعمل معها ويعاونها مُبتسمًا بوجهٍ بشوشٍ جعلها تتعجب من ملامحه وهي تسأل بعينيها ونظراتها، فقال هو بلمحة شوقٍ للماضي:
_”رُقـية” كانت بتفرح أوي لما اساعدها في شغل البيت، علشان كدا بحب أعمل كدا أوي وغير كدا بجدد نوايا وأنا اللي بكسب دنيا وآخرة، باخد أجر على مساعدتي ليكِ وبكسب رضاكِ وأريح دماغي من جرعة النكد.
ضحكت له ثم تحركت تحتضنه بذراعيها ثم ابتعدت عنه تقصد عينيه بعينيها وهي تقول بحنوٍ كان يعتاده دومًا في صغره:
_مش هي برضه كانت علطول بتحضنك كدا؟.
أومأ لها مبتسمًا ثم لثم جبينها وعاد لما يفعل راضيًا ومسترضيًا بها وبقربها، كان يحب الهوى إن كان أصله عينيها، ويحب الخروج من ذهنه إن كانت هي مقصد الخروج، يتمنى السهر إن كانت هي قمر الليالي، لذا كان سعيدًا وهي معه..
في الخارج بأحد معارض الأثاث المنزلي بحارة “العطار”..
كان “عُـدي” يقف برفقة “رهـف” وهما ينتقيان الأثاث لبيتهما سويًا بعدما خرجا من النفق المُظلم أخيرًا وبدأ كلاهما يلمح الشمس بآشعتها عن قُربٍ، لذا كان يبتسم كلما شاكسها بالحديث وهربت هي من مشاكسته بخجلٍ..
وقف بجوار غرفة الأطفال وهي تنتقي من بين الغُرف غرفة تليق بالصغار، فتواقح هو بالقول وقال بهمسٍ خافتٍ:
_طب ما تخلينا نشوف أوضة الكبار الأول بعدين نرجع نشوف أوضة الأطفال، يعني أأمن مستقبل عيال لسه في علم الغيب؟.
التفتت ترمقه شزرًا ثم همست له بحنقٍ من إلحاحه:
_ما كفاية سفالة وقلة أدب بقى، متبوظش اللحظة عليا لو سمحت، بس أوضة الأطفال رقيقة وحلوة إزاي؟ اختار معايا لو سمحت من غير ما كل شوية تقطع لحظتي المميزة كدا.
رفع أحد حاجبيه ثم ابتسم وهو يقول بشقاوةٍ متلذذًا بنظرتها:
_لأ خليكِ أنتِ في الحاجات وخليني أنا أنقي الحاجات المهمة، كدا خالصين ومتفقين؟ يلا بقى الراجل مستنينا نختار حاجة وأنا وأنتِ مقضيينها كلام فارغ لا بنختار ولا بنكمل كلامنا حتى.
ضربته بمرفقها في بطنه بعدما فرغ صبرها منه بينما هو ضحك ثم عاد للخلف فوصله من خلفه صوتٌ يسأل بضجرٍ:
_يا “مارينا” روز إيه اللي عاوزاه؟ يعني هنجيب الإنتريه كشمير وعديناها، هنجيب الأوضة كمان روز؟ ما كنا خلينا الفرح في الربيع بالمرة.
ضحك “عُـدي” ثم رفع صوتهِ يسأله بنبرةٍ ضاحكة:
_إيه يا دكتور أنتَ قربت ولا إيه؟.
انتبه له “يـوساب” ونظر في وجه زوجته ثم قال بيأسٍ ضاحك:
_أهو دعواتك بقى يا “عُـدي” أنتَ صحيح نقيت ولا لسه؟.
_آه أهو لسه بنقول يا هادي، بس قولي نقيت الأوض خلاص؟.
ضحكت في تلك اللحظة “مارينا” حينما تذكرت إصرارها فانتبه لها يحدجها بطرف عينه ثم عاد وقال بقلة حيلة أمام رغبتها:
_آه الحمدلله، عقبالك بقى علشان دي لحظة مهمة خد بالك.
وفي تلك اللحظة رفع “عُـدي” كفيه يقول خلفه:
_يا رب أرزق كل مشتاق زيي.
ضحك الشابان مع بعضهما بينما “مارينا” تحركت تجاور “رهـف” وهي تهمس لها بنبرةٍ ضاحكة حينما صادف اللقاء وأتى بهما لهذا المُلتقى:
_خليكِ مُصممة على رأيك في الحاجة اللي هتعوزيها، هو كدا كدا هينزل الشغل وأنتِ اللي هتقعدي في البيت، يبقى تختاري حاجات تخلي نفسك مفتوحة وأنتِ بتنضفيها، متبقاش صعبة عليكِ من كله يعني.
دارت “رهـف” بزرقاوتيها في المكان ثم عادت لها تقول بطيبةٍ حقيقية وتلقائية يمتاز بها طبعها:
_طب ما أنا كمان هنزل شغل زيه، هتفرق؟.
تلاشت بسمة “مـارينا” ثم رفعت إبهامها لها بسخريةٍ فضحكت “رهف” لها ثم أخذت بمشورتها في اختيار أثاث بيتها الجديد وفي تلك اللحظة ساعدتها الأخرى وقررت أن تعاونها فيما تفعل فتنهد “عُـدي” حينما وجد خطيبته بدأت تعتاد الأمر وتسعى مثله كي تُكمل حلمه الصغير الذي بدأ يكبر معه كلما مرت الأيام بقربها..
بينما “يـوساب” فكان يقف مبتسمًا ثم جلس فوق المقعد الذي اختارته هي لبيتهما معًا وعيناه لم تبرح موضع وقوفها وقلبه لازال مشغولًا بها متمنيًا لحظة الوصل الأكيدة معها، ولسان حال كليهما يتم التعبير عنه بقولٍ مُقتبسٍ:
“طبْعُ المُحِبَّ إذا تَبَسَّمَ خِلُّهُ
يَنْسَى العتابَ ويقبلُ التأويلا!
ويراهُ عَذْبًا في الخِصامِ وفي الرِّضا
ويراهُ في كُلِّ الظُّروفِ جميلًا”
____________________________________
<“إن أتتك الحاجة فلا تبخل على من يحتاجها”>
لو كان فاقد الشيء أحكم قبضته عليه بعد أن ناله،
لما كان العالم أدرك معنى وقيمة العطاء، لذا قبل أن تنظر لشيءٍ في قبضة غيرك عليك أن تعلم أنه ترك نظيره المزيد..
كان “مُـنذر” يجلس فوق الأريكة وفوق صدره وضعت رأس “چـودي” بعد أن نامت أخيرًا بعدما أجبرته أن يسرد لها قصة لطيفة، لكن كيف لقاتلٍ مثله أن يسرد حكايا لطيفة؟ لذا سرد عليها قصة دموية عن أحد المقتولين على يده، لذا نامت بسرعةٍ وكبرى فأمسك هو الهاتف يطمئن على زوجته ويراسلها ويتابع حالة “إسماعيل” عن طريق شقيقه..
في تلك اللحظة ولج له “يـوسف” ثم ألقى الورق فوق الطاولة وجلس بتعبٍ وإرهاقٍ بينما الآخر سحب الورق سريعًا يقرأه وما إن وجد مراده به ضحك بسعادةٍ ثم قال معبرًا عن فرحته بحماسٍ:
_ننزل مصر بكرة؟ خلاص بقى كدا بقينا ضامنين إن مفيش حاجة هتحصل أهو، الورق معانا وكدا لو راح السفارة مش هيكون معاه دليل يقدر يحركه.
حرك “يـوسف” رأسه نفيًا ثم قال بهدوءٍ:
_يومين وهنتحرك، فيه حاجة مهمة هنا هخلصها للحج “عبدالقادر” وعياله، ودا لو طلب مني روحي مش هبخل بيها عليه، ممكن تمشي أنتَ وخليني أنا هنا ولما أخلص أحصلك.
وقبل أن يرد عليه “مُـنذر” ويرفض الحديث أو يستعلم السبب، صدح صوت هاتفه برقمٍ غريبٍ جعله يعتدل في جلسته وملامحه المتأهبة جعلت “يـوسف” ينتبه له ويضم جبينه، بينما “مُـنذر” قال بعجبٍ في الأمر:
_دا “مارسيلينو” واحد من رجالتي في إيطاليا.
توسعت عينا “يـوسف” واعتدل في جلسته، بينما الآخر جاوب على المتصل بثباتٍ وانتظر الرد منه، فجاء الحديث الصادم بقوله الذي جعله ينتفض من موضعه وينتصب في وقفته حتى وقف نظيره “يـوسف” بخوفٍ ثم انتظره حتى تلاقت الأعين ببعضها، فقال هو بصوتٍ مهتز الوتيرة:
_”ماكسيم” خطف “نـادر” وسلمه لـ “سـامي” في إيطاليا..
والكلمات لم تكن دومًا حنونة كما أجنحة الفراشات..
ففي بعض الأحيان تكون قاسية وباترة كما أجنحة الصقر..

تعليقات