رواية غوثهم الفصل المائة والسابع والثمانون 187 بقلم شمس محمد


رواية غوثهم الفصل المائة والسابع والثمانون  بقلم شمس محمد

إلهي:
أفْضَلتَ فعمَّ إفضالُكَ، وأنعمتَ فتمَّ نَوالُكَ،
وستَرْتَ الذُّنوبَ فتكامَل إحسانُكَ،
وغَفَرْتَ العيوب فتواصلَ غفرانُكَ،
إلهي:
لك الحمد على عقلٍ ثَقَّفْتَه،
ولك الحمد على فَهمٍ وفَّقْتَه،
ولك الحمد على توفيقٍ أهدَيْتَه،
ولك الحمد من حائرٍ هدَيْتَه، جلَّ جلالُك فتعالى.
وتمَّ نوالُك فتوالى، وسرى رِفقُكَ فتتالى،
وجرى رزقُك حلالًا،
تعالَيْتَ في دُنوِّكَ، وتَقرَّبْتَ في عُلوِّك،
ولا يُدركك وَهْمٌ، ولا يُحيطُ بكَ فَهْمٌ،
وتنزَّهتَ في أحدِيَّتِكَ عن بدايةٍ،
وتعظَّمْتَ في إلهيَّتِكَ عن نهايةٍ.
_”ابن الجوزي”.
____________________________________
كأنني أحارب بجناح طيرٍ مكسورٍ..
وقلب عصفورٍ رقيقٍ يخشى الحرب حتى لا يكلفه الأمر قلبه، لكن الطرقات بأكملها أدت في نهاية الأمرِ إلى حربٍ مفروضة ليس منها مفرًا، وإنما هي الحرب التي يتوجب على الشجاع أن يخوضها بمضمارها دون أن يهرب منها أو حتى يوليها ظهره، فالحرب قائمة لا محالة، والمحاربة واجبة لا مفرٍ…
فإما أن تخوض حربك بكل شجاعةٍ وإقدامٍ، وإما أن تنسحب من الحرب خاسرًا نفسك وما فيها، وكأن ربح الحرب نفسها في خوضها،.في كونك تجرأت على المُحاربة، لذا الهزيمة ولو كانت بالساحةِ نفسها فهي نصرٌ لكَ، نصرٌ لتلك العزيمة التي تنشقع فيكَ فتخبرك أنك انتصرت على مخاوفك..
فكلما شعرت أن الطريق لن يُسعفك، تذكر أن الفارس لا يُهاب الحرب ولا المحاولة، وكلما راودتك المخاوف، تذكر أن
الخوف قبل التجربةِ عجزٌ، والمفر من الحرب هزيمة..
<“ولو أن الخيل كان جبانًا لما كانوا تركوا له الساحة”>
الخيول لا تَهاب ولكنها في الحرب تُهاب..
فكن خيلًا يخشاك كل عدوٍ وحافظ على أصلك حتى لا يختلط وصفك بوصف الجبان، فنحن دومًا كما الخيول يمنعنا الشموخ من البكاء، ولا حتى يُجارينا موج الجبناء،
“كالخيلِ يمنعُنا الشُمُوخُ شِكايةً
وتئِنُّ من خلفِ الضّلوعِ جروحُ
كم دمعةٍ لمْ تدرِ عنها أعينٌ
ونزِيفها شهِدَت عليهِ الرُّوح…”
وفي وسط معبدٍ من المعابد الأثرية الكُبرى وبين أعمدتها الضخمة كان يسير برأسٍ مرفوعٍ وهو يفكر كيف لتلك الحضارة التي تُسرق وتنهب منذ آلاف السنين أن تبقى هكذا كما هي؟ حضارة عريقة لازالت ممتدة لسنين كثيرة كأنها لم تنتهِ أو لم يحن لها أن تنتهي هكذا، رفع رأسه يُملي عينيه وقد ابتسم بإعجابٍ صريحٍ وقال بصوتٍ مسموعٍ:
_بكرة كل دا يرجع لمكانه الأصلي، وصحاب الحق ياخدوه.
أنهى حديثه ثم التفت كي يرحل لكن عيناه جحظت للخارج ما إن لمح “إيـهاب” يقف أمامه وهو يدخن سيجاره وهو يُدندن بضحكةٍ سمجة ونظرة استفزازٍ قاتلة للعدو بأرضه:
_أديني حب أكتر، أديك الشوق يا سكر،
أديني حب أكتر، أديك الشوق يا سكر..
هرب صوت “ماكسيم” وشُل جسده وقد تيبس وتسمر محله وقد التفت للجهةِ الأخرى كي يهرب من تلك المواجهة حامية الوطيس التي لن ترأف به ولن ترحمه، فقابل في وجهه “سـراج” الذي وقف بعينين اتقدت فيهما النيران أو ربما هاج الموج الغاضب بزرقاوتيهِ وقد فتح المدية الخاصة به ثم قال بشراسةٍ نبعت عن انتقامٍ وثأرٍ أعمى:
_الخيول فاقت ورجعت الساحة، وريني شطارتك بقى.
أدرك وأيقن أنه أصبح حبيسًا في خانة اليكِ، مُحاصرٌ بين نارين كلًا منهما أشد قسوةً من الأخرى، وقف فاقدًا لكل الحواس وهو يرمش بعينيه فوجد الاثنين يقتربا منه في آنٍ واحدٍ ليزداد الحصار ضيقًا؛ وقد رفع “سـراج” سلاحه الأبيض بغتةً واستقر بنصل المديَّة فوق عُنق الآخر وهدر من بين أسنانه المُتلاحمة بغيظٍ:
_لو فاكر إننا ريحنا وهتفلت مني تبقى خواجة بحق وحقيقي، دا أنا مرقدلك على نية سودا وهباب فوق دماغ أهلك، ودي أول هدية مني ليك.
ما إن أنهى الحديث ضربه برأسه في أنفه وفي تلك اللحظة ترنح الآخر للخلف وقبل أن يسقط كان “إيهاب” قبض على تلابيبه وما إن استقام أمامه تلاقت المُقل أخيرًا، نظرة بغضٍ وانتقامٍ وثأرٍ نظير نظرة تجبر وتنجح واستعلاءٍ، نظرات فاضت بالكلامِ وإن لم تفعلها الألسنة وقد قبض “إيـهاب” فوق خصلات الآخر ثم هدر في وجهه بقوله:
_لو ربنا كتبلك النجاة من أيدي يبقى أكيد هكون ميت فيها، صعلشان الحاجة الوحيدة اللي تخليك تخرج حُر من تحت ايدي هي إن الروح تكون فارقتني، إنما غير كدا متحلمش حتى إنك ترفع راسك وتلمح السما.
هكذا أنهى حديثه واختتمه بصفعة قوية سقطت فوق وجه الآخر الذي كان أمامهما تائهًا لا يعلم من أين أتيا له كلاهما كي يقع هو بين أنيابهما وتكتب له النهاية بتلك الطريقة، بينما “إيـهاب” فسحبه من مرفقه كما تُسحب البهائم وقد أتت السيارة له التي يقودها “مـيكي” آنذاك ” وقد أوقفها “إيـهاب” ودفع بها “مـاكسيم” بغلٍ دفينٍ في نيران صدره التي تأججت بمجرد وقوع الفريسة تحت يده…
أما “سـراج” فعيناه كانت تسرد وتقص كل ما يضمره في صدره، فلو كانت النظرات تحرق لكان “ماكسيم” اشتعل موضعه من قوة النظرات الموجهة نحوه، وما إن ولج “إيـهاب” بجوار غريمه قام بغلق عينيه بقطعة قماشية سوداء اللون ثم كمم فاهه بقوةٍ ووضعه في دقائق معدودة من العذاب النفسي مثلما فعل بشقيقه، كان يرغب في تقطيع لحمه بيديه ورميه لكلاب الطُرقات تنهش فيها كما كانت النيران تنهش في قلبه في غياب الحبيب ونصفه الآخر..
الآن أتى اليوم المعهود كي تُرد فيه المظالم،
فيا هناه الظالم بعودة حقه،
ويا ويله الظالم، فلو كل بني آدم علموا
عظمة إثم ظلم النفس للنفس
لما كنا رأينا بعيننا بين البشر الظالم.
____________________________________
<“كيف تلوم أهل الوطن وهم خارج حدود الوطن؟”>
إن أشد الابتلاءات على النفس هي فقد الأُنس؛
وكأنك وحيدٌ تسري بين الناس وحدك بغير رفقة ولا أنسٍ ولا أناس يكونون معك أينما كنت وأينما حلت خطاك، تمامًا كما لو أنكَ مستوحشٌ بين الناس والكون لا يسعك،
أما في أُنسِكَ حتى لو كنت تسكن بزقاقٍ فالعالم لن يكفي فرحتك..
ليلٌ صافٍ، سماء رائقة، نجوم تشهد لحظات الأنس وتُسدل لمعتها على المُقلِ المُحبة، نظرات تمر بين المُحبين خلسةً ثم تليها بسمة صافية من القلب للقلب، كل شيءٍ كان خاطفًا للأنفاسِ خاصةً مع التجربة الأولى في تلك اللحظة، فعلى ضفاف نهر النيل جلس “بـاسم” وبجوارهِ “نـورهان” التي تطايرت خصلاتها من حول وجهها المستدير والهواء يمر بكل إنشٍ في وجهها، فتارة تبتسم وتارة تعود لشرودها وهي تنظر لكل المُحبين حولها، الجميع حولها نظراتهم تشع حُبًا ومن يجاورها يصمت كأنه مجبورٌ عليها، لذا تأوهت عبر أنفاسها وهي تحاول أن تتنفس..
لاحظ هو توترها فسألها بعينيه أولًا ثم فمه ثانيًا:
_أنتِ كويسة؟ شكلك متضايقة !!.
عادت بعينيها تستقر بطريق عينيه ثم قالت كاذبةً:
_أنا بخير، مستغربة بس المكان مش أكتر.
ابتسم هو بزاوية فمه ثم قال بقلة حيلة بعدما أخطأ الظن فيها:
_معلش بقى على قد ظروفي، بحاول أمسك أيدي اليومين دول علشان أعرف أجهز الشقة، مش عاجبك ولا إيه؟ تلاقيكي واخدة على العز أنتِ مش حمل أماكن الشحاتين دي.
عاتبته أولًا بنظراتها ثم أشارت على نفسها باستنكارٍ وهي تقول:
_أنا !! هو دا تفكيرك وظنك فيا؟ أنا مستغربة علشان دي أول مرة أقعد هنا، مستغربة إزاي كلهم راضيين هنا ومبسوطين وباين على وشهم الضحك، مع إني كتير قعدت في أماكن ممكن مشروب فيها بس يقوم المكان دا كله، بس الرضا في عيونهم حلو أوي وجميل، علشان كدا كنت مستغربة مش أكتر.
دار بعينيه في المكان ثم عاد لها وسألها بتعجبٍ:
_مالهم الناس مش فاهم؟ دول حالتهم كرب كلهم.
زفرت حينها هي بقوةٍ كأنها تستثقل الجواب عليه ثم قالت بصوتٍ واهنٍ بعدما أثقلها الجواب عليه وهي تُفسر مقصد حديثها:
_يعني باين عليهم كلهم إنهم حابين بعض، صحيح باين عليهم إن ظروفهم صعبة بس عينهم لبعض مهونة كتير، طلعت مش بالأماكن فعلًا، طلعت بالقلوب والناس اللي معاهم حتى لو على الرصيف، علشان كدا مستغربة مش أكتر إن مفيش حد فيهم باين إنه مجبور على التاني.
طالعها بحيرةٍ وما إن فهم إلى ما ترمي بحديثها رمى سيجاره ثم سألها بعدما فرد جسده واشتد عوده كأنه يتأهب لجوابها عليه:
_وهو أنتِ شايفة حد هنا مجبور عليكِ؟ إيه ماسكة عليا شيكات ووخداني تخليص حق ولا إيه مش فاهم؟ ما تفسري كلامك معايا.
اعتدلت هي بعنفٍ تواجهه وهي تقول بصراحةٍ أبهرته:
_آه، حاسة إنك مجبور ومش طايقني، بص كلهم بيضحكوا إزاي وبيتكلموا إزاي وأنتَ ساكت من ساعة ما جينا، دا معناه إيه غير إني مفروضة عليك؟ بعدين أنتَ دلوقتي جوزي المفروض ومبقاش ليا حد غيرك خلاص، هكلم مين يعني دلوقتي؟.
جاهد كي يكتم بسمته أمامها لكنه فشل في ذلك، وجد نفسه يضحك رغمًا عنه فأدار وجهه عنها ثم عاد لها وهو يقول بنبرة صوتٍ دافئة تغلغلت في قلبها تمسح فوق الثلج به:
_يعني عاوزاني أتكلم معاكِ وتتكلمي معايا عادي؟ ومترجعيش تقولي إني بستغلك؟ علشان لو لمحت في عينك القبول صدقيني مش هرحم دماغك.
ضحكت له وقالت بخجلٍ بدأ يغزو ملامح وجهها:
_قول أي حاجة، نفسي أسمعك.
ضحك هو لها بملامح صافية ثم قال بصدقٍ:
_وأنا هكون مبسوط لو أنتِ بس اللي تسمعيني.
أنهى الحديث ثم التصق بجوارها ورفع ذراعه يضم كفها بحركةٍ بدت في غاية التملك بينما هي ابتسمت بسعادةٍ لتجده يُطالع مياه النيل أمامه بحركاتها المتعرجة ثم قال بصدقٍ:
_ساعات كتير بخاف منك أوي، بخاف أتعلق بيكِ وأتوه زي ما توهت قبلك كتير، بخاف كل مرة أتعشم فيكِ بالحلم ويتحول كابوس، ماهو أنا معذور علشان مفيش فرحة بتكملي، خايف المرة دي فرحتي بيكِ تغدر بيا، ساعتها مش هتقوملي قومة، اللي زيي حُر وصعب يقبل حاجة تحبسه، بس راضي بالحبسة علشان معاكِ، راضي أعيد كل اللي فات بوجعه طالما معاكِ أنتِ.
ضحكت هي بعينيها ثم تلاقت المُقل من جديد وقالت هي بصدقٍ:
_عمري ما تخيلت في يوم من الأيام إني أرتبط بحد زيك، دايمًا كنت بخاف أكون مع حد سطحي ودماغه ضايعة زيي وزي اللي شبهي، بس أنتَ غير، غير أي حد حتى اللي كنت فاكرة نفسي بحبه، أنا بقيت مبسوطة علشان سلمتك قلبي ونفسي وواثقة إنك هتحافظ عليا، اللي يضحي علشان أهله وبلده مستحيل يخون قلب اللي بتحبه.
ذكرته بخصاله الكريمة التي كاد أن ينساها، ذكرته كما كان محاربًا لأجل موطنه وكم كان شُجاعًا وهو ينصر المظلوم، لذا ابتسم بعينيه أولًا ثم قربها منه يلثم جبينها بحبٍ وتركها هكذا بجوار قلبه ثم مسح فوق خصلاتها وهي بجواره تنعم بقربه كقرب الأسير بشوارع الوطن، كانت معه تعيش من كُربتها حُرية الفرج كأنه نورٌ يُداهم الظلام، كانت صورة أخرى من خير البلاد المحتلة _وإن كان عقلها تحت تأثير ثقافة الاحتلال_ وهو في أشد الاحتياج لزيارة الخير في أيامه..
كان يخشى القادم بسبب علاجها من أثر المخدرات التي تتناولها وهو يحاول معها ولأجلها على حد السواء، لذا كان يضمها بأمانٍ والخوف، كل الخوف في قلبه عليها ولأجلها، كما يضم خير بلاده وهو يحاول الحفاظ على ما بقى منها، لذا في الخلف ارتفع صوت الكلمات التي لامست قلبه الحزين:
_أهو دا اللي صار وأدي اللي كان..
مالكش حق، مالكش حق تلوم عليا،
أهو دا اللي صار وأدي اللي كان مالكش حق،
مالكش حق تلوم عليا، تلوم عليا إزاي يا سيدنا،
وخير بلادنا ماهوش بإيدنا..؟
قولي عن أشياء تفيدنا، وبعدها أبقى لوم عليا..
وتلك هي الحكاية وهذا ما صار وانتهى به الأمر،
الحق مسلوب والخير لم يكن في يد أهله والغريب يلوم صاحب الحق على تركه لحقه هكذا يُسلب، لكن في حقيقة الأمر لازال البحث مستمرًا عن حقوقٍ لازالت منهوبة من أوطانٍ بلا أملٍ، وبلا خيرٍ، وبلا ضوءٍ، وبكل أسفٍ بلا شبابٍ،
إلا والقلب بها شاب..!!
____________________________________
<“وأنا الذي كان يتباهى بك أمام العالم اليوم أندم لمعرفتك”>
يُقال أن بعد كل التباهي تأتي الخيبات..
وكأن الخيبات أمواجٌ هاجت في طوفانٍ ليصبح كل يومٍ يمر على المرء بخيبةٍ جديدة لا يتوقعها، خيبة تأتيه في منتصف صدره ليعلم أن تباهيه لم يكن بخرابٍ إلا على قلبه الذي صدق وسار خلف من كان يتباهى بهم وهو يُعلنهم أمام الجميع جيشه، أما اليوم فالجيش خان القائد، وتحالفت ضده الأعداء..
في مصر، تحديدًا بأحد الأحياء الراقية بها..
كان “نـادر” يجلس حبيسًا في هذا البيت وهو يحاول فك حصار نفسه لكنه لم يفلح في ذلك، والده كان معه يفرض عليه سيطرته وهو يتأهب كي يرحل من هُنا ويعود لكنف أمه، عكف عن والده وزهد التحدث معه وابتعد عن طُرقاته ثم جلس منكبًا على أحزانه وحده، الذكريات تأتي وتغلبه، والوحدة أقوى منه فتقهره، وهو وحده من يعيش حاملًا الألم بين جنبات صدره..
_”تهبي يا رياح الحياة دايمًا بلا ما اشتهيه،
واللي السنين مقدماه غير اللي قولت نفسي فيه،
يلاقي قلبي فين دواه، واللي أذاه أقرب ما ليه،
دا جرح بيعلم،
وصعب تسكن الآلام وأخرج من اللي فات سليم،
وصعب لما أروح أنام مفضلش أراجع القديم،
طلع مكلف العلام وخدت درس في الصميم،
ولسه بتعلم..”.
كان يجلس وهو يتذكر تلك الكلمات وهو هنا يجلس أسيرًا في سجنٍ فرضه عليه والده، سجنٌ يُضيق الحصار على الابن والسجان هو الأب بذاته، لذا كلما أراد أن يبكي كان يعود قلبه ويسأله على من يود أن يبكي؟ زفر بقوةٍ وهو يعتدل فوق الأريكة متخذًا وضع الجلوس، جلس وعيناه تُطلق سهام حادة حينما لمح والده يظهر له ويجلس أمامه وهو يقول بسعادةٍ حماسية:
_مش قولتلك خليك معايا تكسب؟ “ماكسيم” فتح المقبرة اللي لقوها في الأقصر، مقبرة فيها بداية الطريق لمعبد الوادي اللي موجود عند مشارف الوادي، عارف دا معناه إيه؟ دا معناه إنه نجح في اللي هو عاوزه واللي قاله حقيقي، هو عارف التاريخ صح، ودا معناه إنه هينجح ويكسب كل حاجة.
ابتسم “نـادر” بسخريةٍ له ثم قال يستهزيء به:
_والله ساعات بشك إنك اتجننت، كل مرة أشوفك أفضل أفكر وأقول يا ترى هو اتجنن ولا دي دماغه بجد، بس تقريبًا دي تربية العوالم، فرحان؟ فرحان وهو بيسرق أصلك وياخده يحطه في مكان تاني علشان يعظم اسمه وبلاده وييجي بعد كدا يقولك إنك مالكش أصل؟ فرحان وهو مسخر جيش كامل تحت طوعه من بلدك بيفرطوا في حق الناس والغلابة؟ فرحان وهو بياخد تاريخك ويحطه في بلده وبكرة ييجوا يهجروك من أرضك إنك مالكش مكان فيها والدليل إن أصلك هناك عندهم؟ أنتَ إزاي كدا؟.
والنظرة المجروحة نظير النظرة اللامبالية وقد جاوبه أبوه بلامبالاةٍ كأنه لا يكترث به أو بحديثه الحقيقي:
_براحتك، خليك أنتَ في الشعارات دي وأعملي فيها وطني، أنا مع الكسبان واللي بيكسب دلوقتي اللي يعرف يشفط الحق من وسط أهله، الدنيا مبتديش حد علشان قلبه طيب ولا حتى ضميره، الدنيا بتدي الناجح اللي بيحاول علطول، واللي “ماكسيم” بيعمله هو دا النجاح بذاته وعينه، الحاجات دي بقالها ألوفات السنين، هل حد فكر مرة يديها قيمة؟ حد فكر حتى يردلها مكانتها؟ لكن الغريب لما بييجي عند الحاجة بيقدر قيمتها صح، بيحطها في عينه علشان مش عنده زيها، إنما اللي عندك منه كتير دا مستحيل يتقدر ولا حتى تعرف قيمته، وأنا أهو بقولك أنا عارف قيمتي وقيمة الحاجة اللي عندي كويس، علشان كدا هكون مع الكفة الكسبانة.
طالعه ابنه بدهشةٍ أفرغت فاههِ، وقف أمامه بتعجبٍ كأنه يراه للمرةِ الأولى في حياته، كانت نظرات الاستحقار تنبثق من عينيه نحو وجه والده الذي كان يبتسم بشرٍ ثم اقترب منه يهمس بفحيحٍ أصاب قلب ابنه بالتوتر:
_لو فاكر إنك هتخليني أرجع عن اللي ناويه تبقى غلطان، أنا راجع وناوي أكون طوفان هبلع الكل في وشي، “أيـوب” و “يـوسف” واللي يتشددلهم كمان، ولو فكرت تقف في طريقي صدقني يا “نـادر” هبلعك معاهم أنتَ كمان، مش هفكر مرتين قبل ما آخد اللي أنا عاوزه كله.
سقط قلب “نـادر” من موضعه وزاغ بصره لما خلف والده، كان يقف في لحظة جلدٍ للذات ومن ثم أخذ قراره، في طرفة عينٍ ضرب والده برأسه في وجهه حتى سقط والده فوق الأريكة يتأوه بوجعٍ وهو يصرخ بعنفٍ وحينها سحب منه المفاتيح بعدما وأد صوت قلبه وقتل ضميره كي ينجو بنفسه من طوفان أبيه، كانت حركاته هوجاء غير مُرتبة لكن مسعاه كان النجاة من قبضة والده، لذا تحرك بخطواتٍ واسعة يقصد الهرب وقد خرج من البيت وحينما قابله رجلٌ من طاقم الحراسة؛ قام “نـادر” بضربه في وجهه حتى ترنح الآخر وسقط للخلف فوق الأرض وحينها لاذ “نـادر” بالفرار حينما خرج من البوابة بعدما فتحها…
خرج من البيت بمقدار خطوتين لكنه عاد من جديد يُغلق البوابة الكُبرى ثم أخذ المفاتيح معه ورحل من المكان بل غادره بأكمله غير آبهٍ لصوت قلبه حينما ناداه أن يعود لوالده، لذا كان من الأفلح له أن يرحل من المكان ناجيًا بنفسه، خرج راكضًا على الطريق وقد جُرِحَ كفه_ ولا يعلم متى تحديدًا_ لكنه أوقف أول سيارة أجرة قابلته ثم قال بلهفةٍ وهو يفتح الباب:
_وديني حارة العطار اللي في **** بتاعة الرخام وأنا هديك اللي تعوزه كله.
أومأ له الرجل موافقًا بينما هو ركب السيارة ثم تنهد بقوةٍ ووضع رأسه فوق الزجاج يستقر أخيرًا من بعد الشتات وغُربة النفس والضياع الذي لاحق طريقه، لذا ما إن جلس شعر أن عظام جسده بأكملها تؤلمه كأنه خرج لتوهِ من سباق العدو، مر الوقت عليه ولا يعلم كم مر حتى توقفت السيارة أمام وكالة “عبدالقادر” فترجل هو منها لاهثًا ثم اقترب من خاله يقول بلهفةٍ:
_خالو، أنا جيت.
انتبه له “عبدالقادر” و “أيـهم” وقد لمحا شحوب وجهه وصوت أنفاسه المُضطربة وصل لسمعهما، انتفض كلاهما بينما جلس هو على المقعد بتعبٍ فضغط الرجل على بوق السيارة لتصدر صوتًا وحينها انتبه له “أيـهم” فتحرك يناوله حسابه ثم سأله بوجهٍ بشوشٍ:
_مرضي يا ريس؟.
_ربنا يزيدك يا باشا، تسلم وربنا يجعلهم فكة في إيدك.
هكذا كان الرد من الرجل حينما وجد المال كافيًا حق رحلته وما يا يزيد عن ذلك؛ وبالفعل تحرك من المكان بسيارته فعاد “أيـهم” ليقف بجوار ابن عمته وقد سأله بلهفةٍ وهو يرى والده يناوله كوب الماء يرتشفها مرةً واحدة:
_أنتَ جاي إزاي وفين حاجتك؟ وبعدين ليه شكلك مبهدل كدا كأنك لسه خارج من خناقة؟ أنتَ كويس يا “نـادر” ولا حصلك إيه؟.
حرك رأسه موافقًا ثم قال بصوتٍ متقطعٍ:
_لأ مش كويس، أنا كنت مخطوف، “سـامي” كان خاطفني في إيطاليا بعدها جابني هنا وفضل حابسني، وعلشان ألحق نفسي ضربته وجيت على هنا، جيت مهزوم زي كل مرة، بس المرة دي وجعي كبير أوي.
تهدج صوته وهو يتحدث وقد ضمه “عبدالقادر” لعناقه ومسح فوق رأسه وهو يحاول أن يطمئنه ويحاوطه وقد تشبث به الآخر يرتجف بخوفٍ كأنه وجد طوق النجاة أخيرًا من بعد الغرق المميت، لذا ترك لنفسه حُرية التعبير عن مخاوفه في عناق خاله..
أما “حمدي” شقيق “حنين” فقد لمح هذا الموقف وحينها ركض للبيت بخطواتٍ مُسرعة وولج بنفس السرعة وما إن وصل غرفتها قال بلهفةٍ:
_”نـادر” رجع يا “حـنين” والله، رجع وسايبه مع الحج.
انتفضت من موضعها وضربات قلبها تخفق بسرعةٍ كُبرى ما إن تمركزت حروف اسمه في سمعها وقد سألته بلهفةٍ:
_طب هو عامل إيه؟ كويس؟ سأل عليا طيب؟ هيرجع تاني ولا خلاص هيفضل هنا؟ رد عليا يا أخي بقى بطل تفضل مستفز كدا وأنا أعصابي بايظة، جه بجد ولا دا حوار منك علشان تروح تلعب؟ دا بقاله شهر غايب عني ومعرفش حاجة عنه، تفتكر رجع في كلامه معايا؟.
تنهد شقيقها بقوةٍ ثم مسح فوق كتفها وهو يقول بصوتٍ يغلبه الحزن:
_بصي هو راجع تعبان، بس أحسنلك أبقي روحي شوفيه وأنا هاجي معاكِ، أنا بس جيت أطمنك إنه بقى بخير خلاص الحمدلله وجه هنا من تاني، بعدين إيه يرجع في كلامه دي؟ هو يطول أصلًا إنه يكون معاكِ؟ دا أنتِ مكسب ليه هو وعيلته كلها كمان، أقعدي بس وبكرة نروح نشوفه.
عادت تجلس من جديد فوق طرف الفراش ورفرفت بأهدابها وهي تحاول صرف التفكير فيه عنها، حتى وهو يغيب عن عينيها كان يسكن في قلبها وهي لا تفكر في غيره، وحده من كان يحتل يومها حتى ولو لم يكن حاضرًا بين الحشود، لكن وحده من كانت عيناها تبحث عنه وسط الجميع، اليوم ربما يكون الفاصل بينهما مجرد شوارع صغيرة لكنها تشعر أنه أصبح بعيدًا بمقدار بُعد المُدن عن بعضها..
____________________________________
<“لكني أحاول حتى ولو لم يقبل العالم تلك المحاولات”>
إن الشيء الوحيد الذي يتوجب على المرء أن يقبله هو؛
“أن الإنسان ضحية نفسه؛ والآخرون مُجرد حُجة”
لذا قد نسعى للمحاولةِ ونفشل والسبب الوحيد وراء ذلك هو أنفسنا وفقط، فإذا كنت جانيًا في نظر العالم عليك أن تيقن أنك كنت جانيًا على نفسك أولًا، واليوم نحن نحاول وبقدر المحاولة نبذل جلَّ طاقتنا حتى لو يعترف العالم بتلك المحاولة..
كان حقًا استنزف كل جهده وطاقته في تلك المحاولة، فعل كل ما بوسعه وهو يغرق في طوفان الذكريات، اليوم كانت جلسته أكثر قسوةً من سابقيها، اليوم كان “يـوسف” مُجبرًا على مواجهة أصعب الليالي في حياته وهي تلك الليلة التي استيقظ فيها على خبر وفاة أسرته، كان مجبورًا على سرد الشعور، التيه، الخوف، القلق، الوحدة وسط العالم، فقد الألفة والأنس حتى عن نفسه، كل شيءٍ كان يفرض عليه سطوة الوجع وهو يترك التراكمات تخرج من روحه وبركانه ينفجر ثم يعود ويهدأ…
كان اليوم شاقًا عليه للغاية وهو يتسطح فراشه بهزيمةٍ ساحقة، لا ينكر أن مقدور الألم يتناسب طرديًا مع حكاياه المخبوءة، فكلما أخرج من جوفه الحديث كلما شعر أن تلك الفوضى التي تسكنه قلت عن السابق، كانت تراكماته تملأ كل شبرٍ به؛ لذا كلما أفصح وأخرج ما فيه؛ كلما كانت راحته أقرب إليه، هدأ قليلًا عن السابق من بعد الجلسة بعدما انفجر وصرخ وعبر عن كل المخاوف _التي بالفعل عاشها جميعًا_ ثم عاد لثباته من جديد…
ولج له “جـواد” بهدوءٍ ثم جلس على المقعد بجوار الفراش، وحينها اعتدل له “يـوسف” يواجهه بعينيه فتنهد الأول وقال بصوتٍ دافيء يخلو من طباع الطبيب إلى حدٍ ما:
_أنا لأول مرة هتخلى عن مبادئي كطبيب وجاي أتطمن عليك بصفة أخوية شوية، صدقني أنا مش عدو ليك بس أنا عاوزك تكون بخير، عاوزك تخرج التراكمات اللس بتتحكم فيك دي، أي حاجة جواك بتمر الأول على تراكمات كتيرة وينتج منها فعلك، حاليًا بنحاول نخرج كل دا منك، صحيح التفكير والتجسيد ومواجهة الماضي صعب، بس دا لازم يحصل، لازم تفضي مكان لنفسك الحقيقية، أنا بساعدك مش عدوك.
ابتسم له “يـوسف” ثم مسح وجهه بكلا كفيه وقال بصدقٍ:
_الحاجة الوحيدة اللي بتخليني مش عاوز أكرهك ومش قادر أشوفك بتظلمني هي إنك مخلي “أيـوب” معايا هنا وقت ما بحتاجه، متعرفش وجوده مهم إزاي ومطمني، عارف؟ أنا خوفت أقول لكل الناس الحاجة دي بس جيت عنده هو ولقيت نفسي بقوله وبحكيله، خوفت من عيون الكل بس ماخُفتش من عيونه هو، أنا كل العالم هزمني حتى نفسي ومنصرنيش غير “أيـوب”.
ابتسم له “جـواد” ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_هو كمان بيحبك أوي، عنده استعداد علشانك يعمل أي حاجة، تعرف لما كلمته إننا محتاجينه علشانك قال إنه معندهوش مانع يقعد هنا كمان لو دا هيخليك أحسن، ساعتها شوفت في خوفه عليك شيء عظيم أوي ميظهرش غير من قلب أب يخاف على عياله، صدقني هو بيحبك بجد، عارف؟ أنا كمان كان عندي صاحب زيه كدا، أو يمكن في فترة ما كان زيه.
طالعه “يـوسف” بتعجبٍ من الحديث فوجده يشرد أمامه وهو يقول بصوتٍ غلبه الحزن من مرور الذكرى الأليمة أمام عينيه:
_كان صاحب عمري وكان شريكي في كل حاجة، كنت بعتبر نفسي صالب عودي بيه في الدنيا، بس لما الظروف جت عليا شوية وحياتي اتقلبت وقت قضية أبويا كان بعد عني وعمل زي الغُرب، ساعتها كنت بكدب نفسي إنه أكيد معملش كدا، بس وجعني لما لقيته شايفني بعيون الناس، لما جت الضيقة ومالقتهوش، يمكن كل ظروفي دي كانت في كوم ووجعي من صاحبي كان كوم تاني، عارف؟..
بدا الحزن جليًا في نبرته وهو يقول بغير تصديقٍ:
_كان بيحميني من غدر العالم،
بعدها بقى ماشي يحمي العالم مني ومن غدري.
طالعه “يـوسف” بشفقةٍ وتأثر لأجله فاعتدل “جـواد” وقال بصوتٍ مضطربٍ كأنه مجبورٌ على الحديث:
_تعرف؟ علاقتك بيه أثرت عليا أوي لدرجة إني افتكرت حاجات كتير حصلت، حاجات كتير لسه جوايا مقدرتش أخرجها علشان غلاوة الذكريات مش أكتر، الحمدلله إنك لقيت “أيـوب” غيرك عاش عمره كله ضاع منه اللي كان فاكره ضله وصاحبه.
تحرك “يـوسف” يجاور “جـواد” ثم مد كفه يربت فوق كتفه وهو يبتسم له بوجعٍ ثم قال بصوتٍ شاردٍ:
_يمكن لقيته في طريقي أو هو لقاني بس أنا ماليش غيره، مش معنى كدا إني ماليش حد، لأ عندي الحمدلله بس فيه حد بتكون محتاج تكلمه وأنتَ تايه وملغبط وحالك مش مترتب، بتكون محتاج تروحله وأنتَ تايه خطواتك كلها ضايعة، حد قدامه تكون قاعد مع نفسك كدا مش خايف من نظرته وحكمه عليك، مفيش حد في الدنيا دي ممكن يتحمل حد بييجي عليه، بس اللي بيحب بجد بيتحمل ويعدي علشان اللي بيحبه، وهو بيحبني ومتحملني، طب عارف؟ أنا أهو معاك ومتأكد إن “أيـوب” هييجي ليا النهاردة رغم إنك قولتله ميجيش تاني غير بعد أسبوع.
طالعه “جـواد” باستهتارٍ ثم حرك رأسه نفيًا وأضاف بثقةٍ:
_مستحيل، أنا قولتله يسيبك الأسبوع دا كمان هنا علشان مصلحتك وهو موافق ومرحب جدًا بأي حاجة فيها مصلحتك والخير ليك، مش هييجي علشان متعشمش نفسك بس.
حرك “يـوسف” كتفيه بحيرةٍ لكن نظرته كانت تخبره بكل ثقةٍ أن حديثه سوف يصير رغمًا عن تفكيره، وبالفعل مرت دقائق قليلة وصل خلالها “أيـوب” وفتح الغرفة وما إن ولج ضحك “يـوسف” بسعادةٍ بينما “جـواد” عاتبه بمزاحٍ يقول:
_الله يسامحك، كسفتني قدامه، ألف شكر يا “أيـوب”.
ضحك “أيـوب” مُحرجًا وحك فروة رأسه ثم حمحم وقال بقلة حيلة كأنه أُجبر على هذا الفعل:
_بصراحة مقدرتش أفوت المرة دي، خصوصًا إني جايبله ورق عنب من عمايل إيد أخته وقولت لازم يدوقه، بحبحها علينا يا دكتور متبقاش أنتَ والناس كلها علينا، دا يدوب طبق ورق عنب وورك فرخة وكوباية عصير وماشي تاني علطول.
ضحك “جـواد” لهما ثم انسحب وتركهما وحدهما بينما “يـوسف” فكان يبتسم بسعادةٍ كون صديقه الوحيد نصره أمام الآخرين حتى نفسه، فكانت ضحكته واسعة ونظراته صافية وما إن جلس أمامه “أيـوب” عانقه هو بقوةٍ كأنه يشكره بصمتٍ على فعله ومناصفته له أمام العالم، بينما “أيـوب” فكعادته ربت فوق ظهره ثم قال بصوتٍ خافتٍ وهو يمسح عند نهاية خصلاته:
_بسم الله على قلبك حتى يهدأ،
بسم الله على روحك حتى تطمئن، اللهم أني استودعتك نفسي وأخي وصديق روحي، فاللهم إني أسألك اللطف به والرحمة بقلبه، وأن تخرجه من جوف الظُلمات بكرمك يا واسع يا عليم، اللهم أنه لي أغلى من روحي، فاسألك بعظيم كرمك أن ترحمه من نفسه وألا تكله لنفسه فتعذبه، بل تولاه أنتَ برحمتك لتغدقه.
استكان “يوسف” بين ذراعي رفيقه وترك نفسه للحظة الأمان هذه لعلها تداوي جراح اليوم، كان يأمل أن تبرأ جراحه ويهدأ باله المضطرب وهو يمسك بكف رفيقه الذي أصبح أمنًا له مؤخرًا، لذا ترك روحه تعبر عن كمِ العواطف الذي يحمله تجاه صاحبه ونام أخيرًا بعد ليلتين هجره فيهما النوم..
____________________________________
<“ياليتني ما اندفعت وهذا الفعل ما فعلت”>
في حقيقةٍ ما مخبوءة خلف العينين..
سوف تُدرك أنك الخاسر الوحيد في منتصف الطريق، سوف تعلم أنك اندفعت ففعلت فياليتك ما تحركت، لذا قبل خوض أي طريقٍ عليك التفكير في أمريْن؛ النصر مرةً، ثم الهزيمة آلاف المرات، والذي تراه أقرب لك، خُض لأجله الطريق..
وصل أخيرًا لبيته، وصل بعد رحلة شاقة عليه خاضها بتعبٍ وألمٍ لكنه ها هو يدخل بيته ويرتمي على عناق أمه كطفلٍ صغيرٍ تاه في الدرب وعاد أخيرًا لحضنها يأمن فيه من قسوة التيه، بينما هي التي صرخت لأجلهِ ثم تحملته في موضعها وهي تضمه بمجرد أن ارتمى عليها بتلك الطريقة، ظلت تضمه وهي تقول بصوتٍ باكٍ:
_يا حبيب قلبي مالك، مالك بس فيك إيه؟ ربنا يحفظك يا حبيبي، “نـادر” !! رد عليا يا حبيب ماما وقولي مالك، أنتَ كويس؟.
أبتعد عنها وعاد للخلف يوميء ثم قال بصوتٍ متعبٍ:
_أنا كويس أوي، كويس علشان جيتلك تاني وشوفتك، بس ينفع أدخل أرتاح وأنام شوية؟ وينفع تيجي أنتِ تنيميني؟ أنا محتاجلك أوي يا ماما، محتاج أكون في حضنك، أنا خايف.
لاحظت ارتجاف صوته ونبرته فضمته لعناقها بقوةٍ وهي تبكي لأجله، أما هو فالتزم بالصمت وظل يحمد ربه بامتنانٍ وشكرٍ لكونه عاد لها وارتمى بين ذراعيها من جديد بعدما كاد أن يفقد الأمل في العودة لموطنه ودياره، وبعد مرور دقائق كان تسطح فوق فراشه وأمه بجواره تضمه في حضنها حتى تأكدت أنه ينام نومًا هادئًا، لكن ارتجاف جسده وتمسكه بها كان يخبرها أنه عاصر الكثير والكثير، لكن كل شيءٍ لديها هان فقط بمجرد أن عاد لها سالمًا من حربه…
في الغرفة المجاورة كانت “مـادلين” مستيقظة في منتصف الليل تفكر في عرض الطبيب عليها، هذا العرض الذي أتاها بغرابةٍ وهي لم تحسب له حسابًا قط، كلما حاولت الفرار من القرار وجدت نفسها تعود من جديد تتذكره وتتذكر الطبيب ومحاولاته لأجلها، لذا أمسكت هاتفها وقررت أخيرًا أن تجاوبه، فأخرجت رقمه وكتبت له بإيجازٍ وهي تُصرح له:
_أنا موافقة على الجواز، وأتمنى تكون عوض ربنا ليا.
هكذا أرسلت له قبل أن تغلق الهاتف تم تركته ووضعت رأسها فوق وسادتها تنعم بنومةٍ هادئةٍ والبسمة الصافية لم تُفارق عينيها كما كانت نظراتها حالمة وهي تأمل أن تلك القصة التي حُرمت منها أن تكتب لها من جديد وتعيش حتى ولو ذرة واحدة مما حلمت هي، كانت تحلم وتتمنى أن تُحقق ما حلمت به، وقلبها الذي لازال يحتفظ بروحٍ من الصبا كان يخبرها أنها ولأول مرةٍ تنصفه في حياتها..
أما الطبيب فوصلته رسالتها في منتصف الليل فضحك بسعادةٍ ثم تنهد بقوةٍ وترك هاتفه بعدها بجوار صورة ابنته ثم التقطها وهو يقول بحبٍ بالغٍ لها:
_واثق إنك هتحبيها، عارف ومتأكد إن مفيش حد ممكن ياخد مكان مامتك عندك بس أنا متأكد إنك هتحبيها وتعوضيها عن كل حاجة، وهي كمان هتعوضك عن أي حاجة علشان أكيد هي محتاجة ليكِ، أنا بقى محتاج ليكم أنتوا الاتنين والله، نفسي نكون مع بعض وتفضلي في حضني، ونفسي يكون ليا حد ياخد بأيدي في الدنيا دي وأعيش زي الناس، ويا رب أقدر أحافظ عليكم.
لثم صورة الصغيرة صاحبة الثمانِ سنوات ثم تركها بجوار الهاتف وظل يطالع السقف بحالميةٍ وهو يشرد في حاله القادم معها، لازال يتذكر طلتها بأول مرةٍ حينما مرت أمام عينيه وانتفض لأجلها قلبه يطالب بأخذ حقه في مجاورتها، كانت العوائق بينهما كبيرة ومانعة لكنه تخطاها جميعًا لأجلها ولأجل أن يكون معها هي.
____________________________________
<“خيلٌ أنا وكنت اقتنص حق الغريب من فاه الأسود”>
لا حقٌ يضيع لطالما كان خلفه يركض الساعي..
وهذا الساعي الذي يقطع آلاف الأميال لم يتوانَ عن استرداد حق الغرباء ما بالك بحقه هو؟ بالطبع سوف يسترده لو كان في فم الأسد بوسط الغابة، لذا تعلم أم تتقن فن استرداد الحق قبل أن تتعلم القوة في استرداد الحق..
في منتصف اليوم التالي..
تحديدًا بعد غروب الشمس وبداية سدول ستائر الليل بأولى درجاتها، كان “إسماعيل” بجوار الخيل الخاص به يتحرك به في الساحة الفارغة وفي الخارج وقفت “ضُـحى” تلتقط له الصور والمقاطع التصويرية وهي تضحك له، بينما هو كان يطالعها بين الحين والآخر ويضحك لها فيجدها تُرسل له قبلة هوائية فيعود هو بضحكةٍ واسعة ويكمل ركضه بالخيل حتى خرج من المحيط الدائري قفزًا ثم انحنى بالخيل أمامها فضحكت هي بسعادةٍ حينما وجدته يمد كفه لها…
تعانقت الكفوف ببعضها وقد جلست هي أمامه فوجدته يشدد مسكته لخصرها ثم همس لها بصوتٍ خافتٍ حينما شرع في التحرك بخيله:
_أنا عمري ما خليته ينحني لحد قبل كدا، بس علشانك أنا وهو نرمي نفسنا في النار كمان، بالمناسبة أنا وهو بنحبك أوي، عارفة كمان؟ أنا حبيتك مرتين، مرة وأنا عارفك وفاكرك ومرة تانية وأنا ناسي نفسي وناسي الدنيا كلها، حبك مفيش مفر منه.
التفتت له تطالعه بعينين يتحدث فيهما الحب عن نفسه، كانت نظراتها صادقة وهي تخبره بتلك النظرات أنه نصرها الوحيد على العالم بعد أن لاحقتها الهزائم في كل خطوةٍ خطت إليها، بينما هو فلم وجنتها ثم شدد سرعة الخيل كي ينافس ذرات الهواء في سرعتها، أما هي فكانت تضحك بسعادةٍ وتشعر بالحرية لأول مرةٍ بعد العديد من الوقت الذي مر عليها وهي مُقيدة بأغلالٍ من الحزن..
في الخارج كان “نَـعيم” يجلس بساحة بيته مع “سمارة” التي كانت تحمل ابنتها فوق ذراعها والتذمر كان باديًا فوق وجهها بعدما شكت حالها مع زوجها لـ “نَـعيم” الذي قال بحكمةٍ وهدوءٍ:
_ماهو لازم تعذريه في غيابه يا بنتي، هتفضلي موقفة عقلك على قلبك كدا هتخسري كتير، الغايب حجته معاه، بعدين هو يعني بيخونك؟ قالك إنه مسافر شغل ومصلحة حلوة، كفاية دماغك الصغيرة دي بقى.
توسعت عيناها ورددت خلفه باستنكارٍ:
_دماغي الصغيرة !! بقى دي آخرتها؟ بس تصدق معاك حق البيه غايب بقاله ٣ أيام برة البيت مكلمناش غير مرتين بس والباقي معبرناش فيهم، وسايبني هموت من قلقي عليه وأنا كل شوية أفكر حصله إيه، كمان مش عاوزني أعاتبه؟ دا حتى العتاب من المحبة.
ضحك هو رغمًا عنه ثم قال يقدم لها نصيحة من ذهبٍ:
_يا عبيطة، كتر العتاب بيقلل المحبة، اللي تعرفي تعديه عديه وأنتِ الكسبانة بقى، مفيش حد بيقف لحد على الواحدة ويكرهه في عيشته ويستغرب هو تعب ومل ليه، الإنسان بطبعه بيحب اللي يفهمه، وأنتِ جوزك مش وحش معاكِ، بالعكس الواد طيب وبيحبك وحاطك في عينه ومضلل عليكِ بقلبه، دا من يوم ما ربنا كرمه ببنته منك وهو بيقول ربنا رزقه ببنته التانية، ريحي دماغك وأدعيله ربنا يكرمه ويرده ليكِ من تاني.
تنهدت هي بقوةٍ وقد نزلت “آيـات” تسير ببطءٍ بسبب حملها ثم جلست بجوار حماها ومدت يديها تضع صحن الكعكة الاسنفنجية التي صنعتها هي ثم قالت بوجهٍ بشوشٍ:
_دوقوا بقى الكيكة دي أول مرة أعملها سادة كدا بس فقدت شغفي في نصها فمكملتهاش، بس والله هتعجبكم، دوقها يا بابا كدا.
وصل في تلك اللحظة “تَـيام” وما إن لمحته طالعته بضجرٍ ثم أخفت عينيها عنه وقد لاحظ ذلك والده فسأله بتعجبٍ:
_هو أنتوا متخاصمين ولا إيه؟.
حرك “تَـيام” رأسه نحوه ثم قال كاذبًا:
_هو أنا أقدر أخاصمها؟ هي اللي بقت بتزعل كتير مني وكل شوية تاخد جنب لوحدها، عمومًا مفيش حاجة يا بابا متقلقش أنتَ، هي بس عاوزة تروح البيت عند باباها تقعد هناك كام يوم بس أنا مش موافق بصراحة دلوقتي، قولتلها تتحسن شوية وأتطمن عليها وأروح أقعد في الحارة معاها وأشوف أمي بالمرة، بس هي فكراني بتهرب منها.
رفعت كلا حاجبيها له بغير تصديقٍ ثم ابتسمت بسخريةٍ بينما “نَـعيم” قبل أن يتحدث وجد سيارتين في ساحة البيت والأولى ترجل منها “إيـهاب” برجاله، أما الثانية فنزل منها “سـراج” وخلفه نزل الرجال ساحبين في أيديهم “ماكسيم” الذي نزل على رُكبتيه، وقد تثبتت الأنظار نحوهم، بينما “إيـهاب” قال بصرامةٍ:
_حق الغريب لو في بوق الأسد بجيبه، ما بالكم بقى بحقي أنا؟.
وقفت “سـمارة” أمامه بخوفٍ من القادم، نظراته دون حتى أن تلاقيها عيناها كانت تتحدث عن البركان القادم، النيران التي حملها بصدره طوال الأشهر الماضية آن لها، لذا توسلته بعينيها أولًا ألا يفعل شيئًا يندم عليه فيما بعد، بينما هو تجاهل نظراتها ثم هدر بصوتٍ عالٍ:
_”مــيكي”…حضرلي القمشة والأوضة.
في تلك اللحظة أرتعد الجميع من صوته بينما “إسماعيل” قد عاد بالفعل ومعه “ضُـحى” التي توسعت عيناها ما إن لمحت “ماكسيم” أمامها وفي تلك اللحظة وقف “إسماعيل” بخوفٍ وهو يرى سبب دماره نصب عينيه، كان يقف مشدوهًا ومصدومًا وهو يرى “ماكسيم” يطالعه بعينيه كأنه يخبره أنه انتصر عليه بالفعل، بينما “ضُـحى” فتحركت تقف أمام “إيـهاب” وهي تقول بصوتٍ باكٍ:
_أنتَ وعدتني إن حقه وحقي هيرجع صح؟ أنتَ كدا بتوفي بوعدك معايا؟.
أومأ لها بأهدابه ثم قال بثباتٍ يؤكد صدق الحديث:
_اتطمني، حقه مش هيضيع غير بطلوع روحي من جسمي.
ضحكت “ضُـحى” رغمًا عنها وهي تبكي ثم وقفت تُطالع “ماكسيم” باستعلاءٍ، وما إن تذكرت فرحتها المسلوبة منها وكيف قُهرت على عزيز عينها، وكيف تحولت فرحتها لقهرٍ امتد لداخل قلبها شعرت أن النيران تأكل فيها، لذا نزلت تسحب نعلها من قدمها ثم نزلت به على وجه “ماكسيم” أمام الجميع وتلك فقط كانت البداية..
أما “إسماعيل” فركض لها يحملها بعيدًا عنه وهي تصرخ وتحاول أن تهجم على غريمها الذي تلقى رد فعلها بصمتٍ ونظراته تطلق شررًا من عينيه يرصدها ويقصدها هي به، أما “إيـهاب” فابتسم رغمًا عنه ثم أمر رجاله بسحب “ماكسيم” نحو الغرفة الأخيرة بأقصى البيت وما أن انتهوا وشددوا الحراسة عليه، عاد يحمل ابنته من يد زوجته وهرب من أمام الجميع نحو الأعلى..
والآن فقط يستطع أن يرفع رأسه..
الآن بكل فخرٍ يصف نفسه أنه رجلٌ تربى وسط الخيول ونال من خصالهم العديد حتى يحمل اسمه صفاتهم، اليوم لن يخجل أن يسرد ما فعل، بل سيقص فعله على العالمين من أقصى الشمال حتى آخر الجنوب، فاخبروا الخيول أن من تربى بينهم،
اليوم يخبر العالم كيف يسترد الخيول حقوقهم..
____________________________________
<“اليوم أبكي على ما فاتني أسفًا، لكن أي بكاءٍ أُبكيه؟”>
“جئتُ، لا أعلم من أينَ، ولكنّي أتيتُ،
ولقد أبصرتُ قدامي طريقاً فمشيتُ،
وسأبقى سائراً إن شئتُ هذا أم أبيتُ،
كيفَ جئتُ؟ كيفَ أبصرتُ طريقي؟ لستُ أدري!”
_”إيليا أبو ماضي”
في حارة العطار تحديدًا ببيت “غالية” كانت “عـهد” تجلس معها في انتظار “قـمر” التي غابت عنهم، فكانت تجلس وبعضها يشتاق لكلها الغائب عنها وبجوارها “غـالية” التي كانت تضم رأسها لصدرها وهي تربت فوق رأسها كأنها تحتضن “يـوسف” أو جزءًا من قلبه تركه لها في صورة زوجته، وقد طُرق الباب بطرقاتٍ عالية حماسية جعلت جسديهما يرتعدا من مكانهما وقد تحركت “عـهد” تفتح الباب فوجدت “أسماء” ومعها “رهـف” تضحك بخجلٍ فقالت بلهفةٍ حماسية:
_”رهـف” حجزت فستان الفرح وكلها أيام يخلص وأفرح بيهم، والله الفرحة مش سيعاني وحاسة إني هموت من فرحتي بيهم.
باركت لها “عـهد” وضمت كلتيهما وهي تُبارك بسعادةٍ وفرحٍ وأول ما بدر لذهنها كان ركضها لـ “يـوسف” تشاركه الفرحة لكنها عادت من جديد للداخل كي تخبر “قـمر” وما إن مرت من الرواق وجدت “قـمر” تخرج من المرحاض بعينين دامعتين وما إن سألتها عن السبب بعينيها، قالت “قـمر” بصوتٍ باكٍ وعينين دامعتين بقهرٍ:
_أنتِ عرفتي إن “يـوسف” في المصحة عند “جـواد” بيتعالج؟.
فرغ فاه “عـهد” وبدا ذلك واضحًا فوق ملامحها وهي تفتح فمها وتسأل بعينيها كأنها تتأكد مما وصل لسمعها بينما “قـمر” ارتمت عليها تبكي بقوةٍ وهي تتشبث بها، أما الأخرى فلازالت تائهة ولا تعلم أي الكوابيس تُعاصر هي في لحظتها تلك..!!
في مقر عمل “مادلين” بشركة الراوي..
كانت تقف وسط طاقم العمل وهي تضحك مع الفتيات وتمازحهن بملامح ضحوكة ووجهٍ بشوشٍ وكأنها عادت لأيام صباها من جديد، لذا وقفت بينهن تشعر كأنها فراشة في حقل زهورٍ زاره الربيع وقد راقبت انسحاب الجميع بعد انتهاء مواعيد العمل ووقفت تُجمع حاجتها كي تذهب للحاجة برفقة “عُـدي” الذي وقف ينتظرها بالخارج، أما “عـاصم” فكان يراقبها عن بُعدٍ بعينين شغوفتين ويود أم يتأكد من خبر ارتباطها بغيره..
ظل واقفًا وهي تتحرك حتى أنهت جمع متعلقاتها والتفتت كي ترحل فوجدته يقف أمامها، يقف وحده تائهًا وحزينًا وعيناه تستقر عليها وقد وقفت هي تُطالعه بلامبالاةٍ وعدم اكتراثٍ ورسمية بالغت بها:
_خير يا “عـاصم” بيه حضرتك محتاج حاجة؟.
وتلك الطريقة بالتحديد منها أججت نيرانه لذا خطى نحوها بعنفٍ ثم أمسك مرفقها يهزها بعنفٍ وهو يقول من بين أسنانه:
_بطلي تتعاملي كأني غريب عنك !! أنتِ فعلًا هتتجوزي؟ بعد كل دا عاوزة تروحي لحد غيري؟ طب وأنا؟ واللي كان بينا كله؟.
رفعت حاجبيها له بانكارٍ ثم دفعت كفه بعيدًا عنها وهي ترد:
_والله؟ وكان فين كلامك دا وأنتَ بتمد إيدك عليا وبتضربني في نص الليل وترميني في الشارع؟ عاوزني أشيل خاطرك تاني بعدما كسرت خاطري أنتَ؟ أنتَ أناني ومش عارف تحب حد غير نفسك بس، وأنا للأسف بطلت أحبك ومبقيتش طايقاك، خلاص انساني، وعلى فكرة أنا بحب اللي هتجوزه دا، وكل مرة كنت بتردد فيها في موضوعنا كنت برجع أفكر نفسي بعيشتي المقرفة معاك وأنتَ فاكرني جارية عندك، لازم أروح لحد يقدر قيمتي، وأنا قيمتي كانت كبيرة عليك أوي، علشان كدا بقولك أهو، نهايتك معايا جابت آخرها وكدا بابك أتقفل معايا.
أنهت الحديث ثم رفعت حقيبتها تعلقها في ذراعها وقبل أن ترحل عادت له تقول بقوةٍ وثقةٍ في حديثها:
_على فكرة !! أنتَ اللي حكمت على نفسك بكدا، ماتجيش تزعل وتلوم على الناس والدنيا، دور الضحية مش هيفيدك بحاجة يا “عـاصم” علشان أنتَ ظالم ومفتري، وأنا اللي اتظلمت واتسابت، وبرضه مصمم تشوف نفسك ضحية عليا، يبقى بقى أنا ظالمة ومعنديش مانع أكون القاسية والمفترية في حكايتك، وأقولك؟ أنا حتى مش هبرر ليك أي حاجة، بس هسيبك للدنيا والأيام تخلص حقي منك تالت ومتلت.
اختفت من أمامه بمجرد أن أنهت الحديث بينما هو وقف يُطالع أثرها بصمتٍ وهو يشعر أن الأرض تميد به، بدأ المكان يضيق عليه رغم أنه يقف في البهو وحده، كانت نظراته تشرد في نقطة رحيلها وقلبه يؤلمه والجميع حوله انسحبوا وفرغ عليه المكان تمامًا، بدأ الألم يستقر في صدره والاختناق يسكن في حلقه وهو يحاول أن يُخلص نفسه مما هو فيه؛ وكل المحاولات كانت فاشلة حتى سقط فوق الأرض ووجهه تحول للون القُرمزي من شدة الاختناق وحاول أن يستغث بأحدهم لكنه لم يفلح أبدًا..
ظل هكذا وحده حتى فقد أنفاسه وهو وحده،
اليوم ينام فوق الأرض يتمنى لو يلمحه أحدهم ولو بمحض الصدفة ونظراته مُثبتة على الأرض وكفه يحاول أن يرتفع عن الأرض، لكن يبدو أنه استسلم وسلم للأمر ورفع الراية..!!.

تعليقات