رواية شظايا قلوب محترقة ( وكأنها لي الحياة ) الجزء الثانى الفصل الخامس والعشرون
طرقتُ الباب؟ لا والله، لم تطرقه…
لكن قلبي، المسكين، عرف الطريق إلى قلبكَ دون استئذان.
تقول لا تحبني؟ لا بأس، فحبي يكفينا نحن الاثنين.
يسألونني: كيف؟ ولماذا؟
وأنا لا أملك إلا أن أبتسم، فقلبي يعشقك بلا منطقٍ ولا سبب… أو هكذا يظنون.
عذرًا، بل له سبب.
ألم يرَ أحدهم نظرتك حين التقت بعينيّ؟
تلك النظرة التي فضحت ما حاولتَ إخفاءه، قبل أن يعترف به لسانكَ.
فما من قلبٍ يهرب من صدق الشعور طويلًا…
وأعلم، أعلم أنك تحبني.
لكن لا عليك،
سأجعلك تقولها يومًا، كما أشعرها الآن.
اولا دا فصل لانه عدى 6000
اتمنى الاقي تقديركم وحبكم للرواية ودا اهداء مني لحبيبات قلبي
إهداء....
إلى كل من آمن بيّ، وقرأ ليّ بحب، إلى من انتظر، وساند، وابتسم في كل لحظة نجاح...
شكرًا لأنكم كنتم النور وقت التعب، والسند وقت التردد، والفرحة وقت الإنجاز.
وجودكم مش بس دعم،
ده حكاية كاملة من المودة والامتنان.
من قلبي ليكم... كل الشكر والود 🤍
وبما إننا لوحدنا، وانتي مراتي وأنا جوزك... ليه لا؟ نحقق المراد ونثبت إن الجوازة دي... حقيقية.
ارتدت إلى الخلف كالملسوعة، وجسدها يتأرجح بارتباكٍ ظاهر، وصوتها خرج مبحوحًا بالذهول والحرج:
قصدك ايه.. ابتسم بخبث يتلاعب بفستانها يفتح اول زر منه، هبت من مكانها انزل... يلا انزل من هنا! قال نتمم المراد...
كان يتابع ارتباكها بابتسامةٍ هادئةٍ تحمل أكثر مما تُظهر، عيناه تجولتا على ملامحها كمن يراها للمرة الأولى.
نعم، هي ابنة عمّه، رآها مئات المرات من قبل… لكن هذه المرة مختلفة.
نظراتها، ابتسامتها، حتى تلك اللمسة الخجولة التي لامست وجهه دون قصد، ولا قرب انفاسها الناعمة التي ارهقت رجولته، كلها تحمل طعمًا آخر.
أهو أنها أصبحت زوجته؟
توقف عند الكلمة داخله، زوجته… ملكه!
أغمض عينيه للحظة كأنها صفعةُ وعيٍ أيقظته من حلمٍ قصير.
آهٍ من مستقبلٍ لم يختره، وارتباطٍ فُرض عليه كأن القدر يختبر صبره.
كيف سيتعامل معها؟
هل يكمل هذه الزيجة ويسلّم للأمر، أم يعود لما كان مُخططًا له؟
انتشلته من دوامة أفكاره نظراتها القلقة، فابتسم مجددًا محاولًا إخفاء اضطرابه، ثم أشار إليها بخفة:
_مفيش ثقة يا ضي ولا إيه؟ أنا بهزر معاكي.
قالها وهو يعتدل واقفًا، يعدّل ياقة قميصه وينظر إلى ساعته.
_الساعة بقت أحداشر، جهّزي نفسك علشان منتأخرش، عايز أنام بدري… عندي سفر الصبح.
نظرت إليه بعنادٍ خافت:
_خلاص روح نام، ومش ضروري المشوار دا.
ابتسم وهو يشير إليها بإصبعه محذرًا:
_خمس دقايق وتكوني تحت… ما تختبرنيش ياضي
رفع حاجبه وهو يتأملها من أعلى رأسها حتى أخمص قدميها، وقال ببرودٍ ساخر:
_معرفش مسمينك "ضي" ليه… ما فيكيش أي نوع من الإضاءة أصلًا.
ابتسمت بخفةٍ متماسكة رغم الوخز في كلماته، وردّت بنعومةٍ حاولت أن تُخفي بها انكسارها:
_ممكن أكون بالنسبالك كده، بس عند غيرك… لا.
ضاقت عيناه بضجرٍ واضح وهو يلوّح بيده:
_بت… أنا مبحبش الرغي! اجهزي ياله، "قال غيري" هو في حد شايفك أصلًا، وانتي شبه البورص.
قالها وهبط، وصدى كلماته ظل يرنّ في أذنها… لكنها رغم قسوته، ابتسمت.
شيء ما داخلها يؤكد لها أنه يصارع نفسه أكثر مما يصارعها.
بالأسفل
قبل قليل هبطت غرام ووجها يضج بالغضب، بدخول ارسلان من الخارج، وقعت عيناه على وجهها المتوتر
_مالك حبيبتي!!
اشارت الى الاعلى
_بنتك لابسة فستان اسود ياارسلان
ودا فال وحش، ومصممة تخرج بيه، شوفت اخر دلعك
ابتسم ثم جذبها لتجلس بأحضانه على الأريكة، وقال بصوت خفيض يحمل مزيجًا من المزاح والحنان:
_فرفشي بقى يا غرامي، وسيبي البنت تعمل اللي هي عايزاه، وبعدين هي دلوقتي بقت في عصمة راجل
نظرت إليه بعينين تغليان والقلق:
_أسبها تعمل اللي في دماغها؟ أنت مش شايف جرأتها، لولا عقل إسحاق…
رفع كفّه مقاطعًا بصوتٍ هادئٍ فيه شيء من الندم:
_ممكن أكون غلطت لما سبتها تاخد قراراتها بنفسها من صغرها…
بس ، كنت عايزها تحس إن ليها كيان، متفكرش إننا بنفضّل بلال عليها.
تعرفي.. سمعتها مرة بتقول له وهي صغيرة:
"بابا بيحبك أكتر مني علشان إنت ولد وأنا بنت، ومابيقولكش حاجة لو اتأخرت أو خرجت مع صحابك."
أطرق راسه وخفت صوته:
_وقتها حاولت أفهمها إن البنت حاجة والولد حاجة تانية… بس يمكن ماعرفتش أوصل.
أومأت له غرام، وعيناها تتبدلان بين الحنان والقلق، ثم تمتمت:
_فعلاً البنات اليومين دول بقوا صعبين، وعايزين يتساووا بالولاد في كل حاجة.
بس المهم، سيبك من دا كله… يوسف قالك إيه؟
تنهّد أرسلان وهو يزفر أنفاسًا طويلة، كأنه يتهيّأ لإخبارها بشيءٍ ثقيل:
_هقولك على حاجة بس تهدي وتسمعيني للآخر.
رفعت حاجبيها بترقّبٍ حذر:
_خير يا أرسلان؟
خفض نظره قليلًا، ثم قال بنبرةٍ مترددةٍ لكنها صادقة:
_يوسف بيحاول ياخد الجنسية الألمانية… عايز يهاجر بعد ما يخلص رسالته، ويكمّل هناك، ومايرجعش مصر تاني.
شهقت غرام وهي تضرب على صدرها بصدمةٍ:
_يعني إيه "جنسية ألمانية" عايز يفقد هويته المصرية؟!
قالتها بعصبية، فالتفت إليها أرسلان يحاول تهدئتها:
_ممكن تهدي وتسمعيني بس؟
هبت من مكانها لأول مرة تصرخ في وجهه:
_أهدى.. جاي تقولّي كده بعد كتب الكتاب.. هجرة إيه.. إزاي وافقت على كده يا أرسلان؟
نهض محاولًا السيطرة على انفعالاتها:
_أنا مش بقولك كده علشان تردي بالطريقة دي… عايزك تكلمي البنت، تفهميها هو بيفكر في إيه.
دارت حول نفسها بعصبية، وصوت قلبها يسبق كلماتها:
_طيب افرض فضل مصرّ، وقال هياخدها معاه؟
عجز أرسلان لحظة عن الرد، ثم قال بنبرة ثقيلة:
_ضي مش ضعيفة علشان يقدر يسيطر عليها.
_بس دي مراته يا أرسلان، بقت مراته! وصدقني… هيردّ لكم اللي عملتوه فيه.
ارتجف صوتها وهي تتابع:
_كنت حاسة، ورا هدوء يوسف دا مصيبة… مش النوع اللي يرضى بالأمر الواقع، وها هو اللي خفت منه حصل. أنا متأكدة إنه مش هيسيب جوازه يعدّي بسكوته.
رفعت يدها بتوتر:
_انت عارفه أكتر مني، دا حتى لما دخل طب… اشترط يسافر، يا إمّا مش هيكمل، ومشى كلامه عليكم كلكم، حتى إلياس نفسه ماقدرش ينطق.
خفض أرسلان رأسه قليلًا وقال بهدوء حذر:
_وافق علشان ينسّيه موضوع الطيران يا غرام.
قهقهت بمرارة وهي تهز رأسها:
_انت بتضحك على نفسك يا أرسلان… ناسي إن دا يوسف ابن إلياس؟!
_غرام… انتي متعرفيش حاجة.
_اللي أعرفه بس إن بنتي مستحيل تهاجر، على جثتي يا أرسلان، سمعتني؟!
صرخت بها، في تلك اللحظة، فُتح الباب، ودخل يوسف بخطوات هادئة.
توقف عند العتبة، نظر إليهما بهدوء قائلاً:
_آسف لو قطعتكم… ناديت كتير ومحدش رد. بس قولت أدخل أقولكم إن عربياتكم ممكن تتسرق من بره وإنتو بتتخانقوا.
التفتت إليه غرام تحاول كتم ضحكتها الغاضبة، بينما اقترب منها يوسف بعينين ثاقبتين وقال مازحًا:
_مزعل حماتي ليه يا حمايا؟ أنا مش هسكت على اللي يزعل حماتي.
تدخلت غرام بسرعة وهي تتظاهر بالتماسك:
_يوسف، أنا مايرضنيش إنك تتجوز غصب عنك… علشان كده، بقولك طلق البنت يا حبيبي.
التفت إليها، وعينيه تتعمقان في عينيها، وقال بصوت هادئ لكنه كالسيف:
_مين قال إني اتجوزتها غصب ياطنط غرام، وبعدين احنا لسة كاتبين كتابنا من ساعتين بس، ازاي بتطلبي مني طلب زي دا
اقتربت تتعمق بعيناه
_يوسف انت ناوي على إيه ياحبيبي
_اجب لك احفاد ياطنط غرام.. قالها بنبرة باردة
توسعت عيناها تنظر الى ارسلان بخجل.. ضحك ارسلان محاولا يخفف من حدة الموقف، بعدما تأكد انه استمع الى حديثهم
_شوفتي اللي بيفهم، فكري في اسم البيبي ياغرام، مش تقولي نطلقهم.. حبيبي مرات عمك زعلانة عليك، خايفة نكون بنغصبك
كان يستمع اليه بهدوء، ينظر اليها بصمت، بينما هي تأرجحت عيناها بالتردد
_ يوسف أنا معنديش غير بنت وحيدة، وانت اكيد عارف هي بالنسبالي ايه، عمك بيقول
قاطعها ارسلان مقتربا وهو يربت على كتفه
_يوسف عمره مايزعلها، ومتأكد انه بيحبها، أنا اديتله قطعة من روحي وهو عمره مايفرط في روح عمه.. قالها أرسلان وعيناه تخترق أعين يوسف
_عمو انا مش بعتبرك عمي، انت مربيني واكيد متاكد ان ابنك مستحيل يضر اخته، انا مش بعتبر ضي بنت عمي بس، لحد قبل كتب كتابنا صدقني كانت بغلاوة شمس، عمري مافرقت بينهم.. ابتسم وتابع
_لكن الوضع دلوقتي اختلف، ومش معنى إن بابا شايف ضي مناسبة يبقى انا معترض عليها، وانا لسة قايلها فوق
_لو فكرت في الجواز قبل كدا مكنتش هلاقي احسن منها.
ابتسم ارسلان بهدوء يطالعه بحنان
_وأنا واثق من كدا ياحبيبي، متزعلش من مرات عمك، هي أم وخايفة تكون مجبور على الجوازة
التفت يوسف الى غرام وقال
_انا بعيدها تاني قدام حضرتك، لو كنت فكرت في الجواز قبل مابابا يقول، صدقيني كانت هتكون ضي، ريحي عقلك شوية، ووقت مااحس اني مش قادر اكمل هقولها على طول
تنهدت تنهيدة واسعة، تطالعه بغير اقتناع ثم قالت:
_انت ناوي على ايه يايوسف
_ناوي اروح اشتري الدبل، واعشي مراتي.. مراتي يامرات عمي
_يالا سلام متقلقوش لو بتنا برة، يمكن نرجع لكم بيوسف الصغير
قالها وتحرك مع نظرات ارسلان
_ماتلم نفسك يامتخلف، ايه يوسف الصغير دي
توقف واستدار اليه غامزًا:
_متزعلش يبقى بنتك ضلمة الصغيرة، اهي تكون شبه امها
افلتت غرام ضحكة تهز رأسها:
_ربنا يسعدكم حبيبي
رفع كفيه للسما وتمتم
_يارب يارب
زفر ارسلان براحة ثم، اقترب من غرام بعد خروجه
_ينفع كدا، انا غلطت اني قولت لك اصلًا
_غلطت، كمان مكنتش عايز تعرفني
جلس، واختنق صوته وهو يمسح على وجهه بكفٍ مرتجف
_كلم الياس يضغط عليه ياارسلان، ازاي ساكت على الهجرة اصلًا
طالعها بعينان يغشهما الدموع
_إلياس مرعوب من الفكرة نفسها… العلاقة بينهم بقالها فترة متوترة.
عرف إن يوسف بيخبي عنه حاجة، دور وراه… ووقع في إيده نوتس مكتوب فيها حاجات توجع القلب.
أنا قلبي وجعني لما قرأت بعضها يا غرام… تعرفي إن يوسف كان بيتعالج نفسيًا من ورانا كلنا؟
شهقت غرام بخفوت، وانهمرت دموعها وهي تهز رأسها بأسى:
_قولت لكم من زمان محدش صدقني، كنت حاسة بيخبي وجعه…
كان بيضحك علينا كلنا، بس عيونه كانت فيها لمعة حزن، اه منكرش رجوع ميرال قواه، بس فضل زي ماهو
سحب رأسها إلى صدره يحتضنها كمن يحتمي هو الآخر من الألم:
_الواد كان بيعاني بصمت… كاره كل حاجة حواليه، فاقد الثقة في كل شيء.
كاتب كلام صعب، مؤلم، كأنه بيصرخ على الورق بدل ما يصرخ في وشنا.
وبدل مانساعده حضرتك بتضغطي عليا اوقف لالياس علشان يضغط عليه اكتر واكتر
تنهدت غرام وسط بكائها، وقالت بصوت مبحوح:
_انا كدا فهمت ليه، وافقت على كتب الكتاب، بدل الخطوبة؟
أومأ أرسلان برأسه ببطء، وقال بنبرة رجاءٍ أكثر منها قرار:
_علشان كده لازم أمنعه من فكرة الهجرة،
تخيّلي.. عايز يفقد هويته المصرية، عايز يقطع كل خيط يربطه بينا.
نظرت إليه بدموعٍ تملأ عينيها وقالت:
_طيب لو اقنع ضي تسافر معاه
رفع رأسه بحدةٍ خفيفةٍ وقال بصوتًا حاسم:
_لا… مش هتوافق
_بس بتحبه يا أرسلان…
_حتى لو، هيرجع علشانها غصب عنه…
لما تضغط عليه ضي، مش هيعرف يعيش بعيد عنها.
ثم أضاف بنبرةٍ يائسةٍ مملوءة بالإدراك:
_إنما يهاجر وهو فاضي كده، ومش مربوط بحاجة، ساعتها مش هيبص وراه أبدًا.
والياس حاول يوقف تأشيرته، ويمنع موضوع الجنسية،
بس ماقدرش… الواد طلع أذكى مننا كلنا.
اختار الشخص اللي محدش يقدر يمنعه
قاطعهم وصول ضي التي ، هبطت للأسفل بخطواتها الناعمة
توقفت والدتها عند أول الدرج، غاضبة وهي تشير نحوها ثم نحو أرسلان:
_شايف بنتك بتعاندي؟ قولت مفيش خروج بالفستان دا، وبرضو نزلت بيه!
التفت إليها أرسلان بهدوءٍ أبويٍّ وهو يتفحص ابنته:
_ماله الفستان يا غرام؟ حلو ورقيق، وواسع كمان… أحسن من التانيين اللي بتلبسهم قبل كدا
رمقته غرام بنظرة متوترة وقالت بانزعاج:
_يووه بقوله ايه وبيقول ايه، انا مش لسة بقولك لونه اسود وفاله وحش
ضحك بخفة وهو يسحبها إلى حضنه، وقال بصوت دافئ ومرح:
_فأل إيه بس يا غرامي، دا لون هيبة.
وأشار إلى ضي قائلاً بحنان:
_اطلعي يا حبيبتي، خطيبك مستنيكي برة.
غمزت له ضي وهي تمرّ أمامهما، هامسة بخفة:
_البيت هيخلى يا أرسو… صالحها بقى، روقلها الجو.
ضحك أرسلان وهو يلتفت إلى زوجته:
_ماشي يا ضي
عند يوسف
خرجت لتجده يقف خارج السيارة، ممسكًا بهاتفه يتحدث مع بلال:
_طيب، لو فيه وقت هنعدّي عليكوا… تمام يا صاحبي.
أنهى المكالمة والتفت إليها مبتسمًا وهو يفتح باب السيارة مازحًا:
_اتفضلي يا مراتي… لازم أول مرة تركبي معايا بعد جوازنا أكون جنتل.
رمقته بنظرة جانبية وهي تسند كفها على الباب:
_جواز إيه.. انت صدقت نفسك ولا إيه؟
ضحك بخفة وقال:
_عندِك حق… الحاجة الوحيدة اللي لازم أنساها فعلاً.
توقفت عند الباب، ونظراتها أصبحت أكثر جدية وهي تقول بصوتٍ خافتٍ:
_يوسف…انا بقولك للمرة التانية، لو حاسس إن الموضوع ضاغط عليك، أنا هتصرف.
وملكش دعوة بعمي ولا بابا، المهم تبقى مرتاح.
اقترب منها خطوة، وابتسامة هادئة لكن عينيه تلمعان بشيءٍ متردد:
_تصدقي… أقنعتيني إنك بتحبيني.
رفعت حاجبها بسخريةٍ خفيفة:
_وأنا هكرهك ليه يعني، عادي، ابن عمي… ولازم أحبك.
_لا… مش دا اللي أقصده يا ضلمة.
مال برأسه نحوها، وصوته انخفض قرب أذنها:
_قصدي لما قولتي المهم تكون مرتاح… دي جملة بتتقال من اللي بيحب، مش من اللي بيجامِل.. وفوق قولتي حبيبي يايوسف
رفعت عينيها نحوه، وطالعته بثبات رغم قصر المسافة بينهما:
_يمكن بحاول أقنع نفسي، زي ما انت بتحاول تقنع نفسك بالجوازة.
تجمد للحظة، وانعقد حاجباه وهو يسأل بحدةٍ خافتة:
_يعني إيه؟
ركبت السيارة ببطءٍ متعمّد، ثم أشارت له بابتسامةٍ صغيرة:
_يعني نفس إحساسك يا ابن عمي…
طول ما انت بتحاول، أنا كمان بحاول.
معادلة متوازية بخطوط متساوية… يا دكتور.
ابتسم بخبثٍ وهو يدور المحرك:
_لا ياختي، أنا مدرستش رياضة ولا أعرف المعادلات المايصة بتاعتك،
بس لو حابة أتعلم تاني… معنديش مانع أراجع معاكي.
ضحكت بخفة وهي تلتفت للنافذة:
_تمام… هنشوف الموضوع دا بعدين.
ضرب بكفيه على المقود وقال بمزاحٍ صاخب:
_يابت من دقايق كنتي في حضني، ولولا إني ابن حلال كنت زمانك يعني…
لكزته بقوة وهي تبتسم نصف ابتسامة:
_اتلم وسوق وانت ساكت، وبعدين عادي زي بلال واتخنقت وحبيت حد ياخدني في حضنه، هروح للغريب يعني!
_ياخدك ربنا
_وانت معايا ياحبيبي
ضحك وهو يستدير بالسيارة قائلًا:
_اهي علشان حبيبي دي هعديها، قلبي ضعيف و انتي مجنونة رسمي، بس عادي، أنا بحب المجانين.
التفتت إليه مشيرة بإصبعها كمن تضع اتفاق زواج مكتوبًا على الهواء:
_شوف بقى، علشان نبقى زوجين محترمين… أولًا: مبحبش حد يقولي "يابت"، وثانيًا: مبحبش اللي يتريق عليّا، وثالثًا: لازم قدام الكل تبين إنك بتخاف عليّا، وتقنعهم بكدا… مبحبش حد يجيب سيرتي وتفهمهم انك بتحبني، واصلا لازم تحبني بعد اللي حصل بينا .. انت دلوقتي مش ابن عمي بس
قالتها وصمتت تنتظر رده، لكن صمته طال.
_انت مابتردش ليه؟
_مستني رابعا… ولا كدا خلصتي؟
أفلتت ضحكة رغماً عنها، وابتعدت بعينيها نحو الطريق، بينما قال:
_بالنسبة لأولا، مش هقولك غير "يابت"، ولو مش عاجبك اشربي من البحر يا يابت…
أما تانيًا، فتعودي تتقبلي إن التريقة عندي موهبة فنية.
أما تالتًا، يا روحي وقلبي وأمعائي الدقيقة، متخافيش… هخلي الناس تكتب علينا دواوين عشق... وخاصة الياس وارسلان، دول بالذات لازم اجلطهم بحبك ياروحي.. صمت وغمز اليها
وخدي رابعًا من عندي…ماهو خلاص مضينا عقد الهوى
_نفسك دا محسوب عليّا، عارفة لو غلطتي…
صمت، فاستدارت إليه برفعة حاجبٍ مستفزة:
_أيوة لو غلطت، هتعمل إيه ياحبيبي؟ هتطلقني؟ يبقى أحسن!
قالتها وهي ترفع كفوفها للاعلى
طالعها بنظراتٍ جامدة، تخفي وراءها ألف فكرة وألمٍ مكتوم:
_هو حل برضو…خلي ارسلان والياس يطخونا عيارين.. بس الحل دا الأخير. عندي حلول تانية، هتعرفيها وقتها.
_زي إيه بقى؟
_مابلاش… إحنا في طريق عام، وأبويا مشهور بالفضايح، وأبوك صورته في صفحة الحوادث… اتلمي، خليني في عقلي وقلبي الطيب.
ارتفعت ضحكاتها ، سحبت نظارته وارتدتها بدلال، تراقب الطريق بعينين طفوليتين، بينما هو كان ينظر إليها بصمتٍ، يحدّث نفسه:
_وبعدها لك يا ضي…
زفر أنفاسه بحرارةٍ، فالتفتت إليه تقول بخفة:
_دي كلها تنهيدة؟
لم يرد، ظلّ يرمق الطريق بعينٍ متحفظة، حتى وقعت نظراته على سيارة الحراسة خلفهم.
ابتسم في مرارة، ما زال والده حتى الآن لا يثق في حريته.
نظرت هي إلى الخلف، ثم عادت بعينيها إليه:
_بابا اللي بعتهم… خايف عليّا منك.
ضحك بصوتٍ رجوليٍّ عميق، فابتسمت رغمًا عنها وسألته:
_انت زعلان من عمو يايوسف؟
تحولت ملامحه فجأة، وصوته فقد دفء المزاح:
_فيه حاجة مهمة لازم تعرفيها… علاقتي ببابا، بلاش تدخلي فيها… ولا ماما كمان.
_انت بتقول إيه دا عمي!
_ضي، أنا بتكلم جد. ممكن نتكلم في كل حاجة، بما إننا مخطوبين، بس دي لأ…
علاقتي ببابا… إيّاكِ تسألي عنها.
تجمّدت الكلمات في حلقها، وانسحب الدم من وجهها كأنها تلقت صفعة خفية، لم تكن نبرته حادّة… لكنها حملت ثِقلاً لم تعهده منه من قبل.
انكمشت ضحكتها، وتراجعت روحها خطوة إلى الوراء.
حلّ بينهما صمتٌ كثيف، صمتٌ من نوعٍ موجع أكثر من أي خلاف، كأن بينهما جدارًا من الأسرار لم يُهدم بعد…
حتى شعر بثقل أنفاسها بجواره، فالتفت إليها وقد هدأ صوته:
_آسف… متزعليش مني، المفروض تكوني فهماني يا ضي، احنا اتربينا سوا، وعارفة إيه اللي بيضايقني.
لم ترد، فقط أسندت رأسها إلى زجاج النافذة، تراقب الخارج بعينين شاردتين.
زفر بضيق، ثم قال يحاول تلطيف الجو:
_ضي، أنا بحب خصوصياتي تفضل بيني وبين نفسي، خصوصًا من الناس القريبة… يعني المفروض اللي بينا يفضل سرّنا، مايخرجش لحد، حتى أقرب الناس.
سكنت ملامحها وهي تردّ بصوتٍ خافت:
_تمام.
مضت دقائق ثقيلة، توقفت بعدها السيارة أمام محل المجوهرات.
ترجّلت بخطواتٍ مترددة وقالت:
_ادخل إنت، شوف اللي محتاجه، وأنا هستنى هنا.
لك، أمسك بكفّها برفق، وسحبها لتدخل معه دون أن يمنحها فرصة للاعتراض.
دلفا إلى الداخل، فبادرهما صاحب المحل بابتسامةٍ ودودة:
_أهلاً دكتور يوسف، الياس باشا لسه قافل معايا.
أومأ يوسف دون تعليق، ثم مال نحوها هامسًا بمكرٍ :
_عايزك تفلسي أبويا، اختاري أغلى حاجة تشوفيها، ومن كل نوع خدي اتنين.
ضحكت بخفة وهي تهمس له:
_اتلم يا مجنون!
ثم توجهت إلى صاحب المحل قائلة بثقةٍ هادئة:
_عايزة أشوف الدبل اللي هنا.
رفع الرجل حاجبيه مستغربًا:
_دبل بس؟ عندنا تشكيلات فخمة من الأساور والعقود، تحفة والله.
ابتسمت وقالت بثبات:
_لا، عايزة دبلة بس.
اقترب يوسف، وقال بصوت مزيج بين المزاح والعِتاب:
_دبلة بس، بقى جايين المشوار دا كله علشان دبلة؟
رفعت رأسها إليه، تهزها بإصرارٍ لا يقبل النقاش:
_أيوه، مش هشتري غيرها.
اقتربت خطوة منه وقالت بثقةٍ حادة:
_إيه اللي بيربط الزوجين غير الدبلة يا دكتور، الباقي كله شكليات ملهاش لازمة.
نظرت مباشرة في عينيه وهي تتابع بنبرةٍ أكثر هدوءًا ولكنها تحمل معنى خفيًا:
_الباقي بيكون هدية من العريس لعروسته، بيفاجأها بيها… لو عايز يراضيها.
أما الدبلة، فهي إثبات ملكية، إنك مرتبط، ودا اللي يهمني.
ظلّ يحدق فيها بانبهارٍ مدهوش، وكأنّه يرى فيها مزيجًا غريبًا من البساطة والعند الأنثوي.
استدار فجأة على صوت صاحب المحل:
_دي تشكيلة الدبل اللي لسه واصلة حالًا يا دكتور.
أخذت تتفحّصها بعينين شاردتين، تشعر بالاختناق… تمنّت في داخلها لو اقترب منها، لمس يدها، أو شاركها القرار، لكنه لم يفعل... بل تركها وخرج خارج المحل
بعد ترددٍ قصير أشارت إلى واحدةٍ على الطرف البعيد، وقالت بخفوت:
_دي كويسة.
رفعها الرجل أمامها مندهشًا:
_ دي دهب، اختاري من اللي قدامك،
_انا بحب الدهب اكتر،
اوما بنفاذ صبر قائلًا
_ذوقك ممتاز يا آنسة.
التفتت تبحث عنه بعينيها… فوجدته بالخارج، يقف ويدخن سيجارة.
تجمدت للحظة، الدهشة تُعصر صدرها يوسف بيدخن، وهي لا تعلم!
استدار هو نحوها، التقت عيناه بعينيها خلف الزجاج، فقرأ فيهما ما يكفي ليطفئ السيجارة على عجل ويتجه إليها.
همست للرجل بصوتٍ مختنق:
_جهزلي دي.
ثم استدارت تبتعد بخطواتٍ متعثرة وجلست على المقعد القريب.
اقترب منها يوسف، عينيه تبحثان في وجهها:
_اخترتي حاجة؟
ابتلعت ريقها، وشعرت بالمرارة وهي تومئ دون أن تردّ.
أخذ الدبلة من يد البائع يقلبها بين أنامله، ثم رفع نظره نحوها:
_دي اللي عجبتك من دول؟
قالت بفتورٍ وهي مازالت تنظر بعيدًا:
_أي حاجة… مش فارقة.
ظلّ يتأملها، ثم مد يده يشير إلى خاتمٍ آخر مرفق مع إحدى الدبل، وقال بحسمٍ رجوليٍ معتاد:
_هناخد دا… بلاش دي، مش عجباني.
واكتب عليها الأسماء بتاعتنا…
"ضي ويوسف".
هزّ الرجل رأسه بإعجاب وقال:
_اختيار موفق يا دكتور، حاجة شيك جدًا..
_هاتلي دبلة كمان..
ابتسم بخفة وقال ممازحًا:
_بس خليها حاجة تقيلة يا عم جورج… عايزها أحسن من بتاعة بابا كمان.
ضحك الرجل وهو يردّ:
_عيوني لدكتورنا الغالي.
جلس بجوارها بعدما انتهى الحديث، تطلع إليها وهي تتظاهر بالانشغال في الهاتف، فابتسم بمكرٍ خافت:
_رايحة تختاري دبلة دهب يا ضي، للدرجة دي الموضوع مش فارقلك؟
رفعت رأسها نحوه بعنادٍ طفوليّ وقالت:
_زي ما هو مش فارقلك. وماله الدهب؟ أي حاجة تثبت إني مخطوبة وخلاص، حتى لو فضة… الحاجات دي متهمنيش، فيه حاجات أهم يا دكتور.
وقبل أن يُعلّق، تابعت بحدّةٍ مفاجئة:
_روح كمل سجايرك اللي مخبيها علينا برة.
بتشرب سجاير يا يوسف؟ لدرجة دي أنا مغشوشة فيك!
ضحك ساخرًا وهز رأسه:
_مالك يا بت، اللي يسمعك يقول مسكاني بشرب مخدرات
ثم اقترب منها بخفة، وقال بصوت انخفض حتى صار همسًا دافئًا لامس أذنها:
_يبقى سوحي يا ضلمة… علشان أخليها كُحل عليكي.
ارتجفت، فابتعدت قليلاً وقد اختلط الغضب بالارتباك في ملامحها.
وقعت عيناه على حجابها وقد انزاح قليلًا، فمد يده برفقٍ وأعاد ضبطه وهو يتمتم بجديةٍ مخلوطة بالدلال:
_العنق المرمري باين يا ضلمة… وده ملكية خاصة، مش مسموح لحد يشوفه.
ارتجف جسدها رغم أنها تعلم أنه يمزح… لكن القلب خانها وارتجف معه.
في تلك اللحظة، وصل صاحب المحل، يمد يده بالعلبة قائلاً بابتسامةٍ عريضة:
_اتفضل يا دكتور… ألف مبروك مقدمًا.
باليوم التالي
استيقظت على رنين هاتفها الذي مزّق سكون الغرفة، مدت يدها تتلمّس الهاتف بعينين نصف مغلقتين، وردّت بصوتها المبحوح بالنوم:
_ أيوه؟
على الطرف الآخر، كان يقف أمام المرآة، يهمّ بإغلاق أزرار قميصه، رفع ساعته ليضعها في معصمه، لكنه توقّف حين سمع نبرتها النائمة، ارتسمت ابتسامة صغيرة على فمه، قبل أن تهزّه تلك الدغدغات الخفية التي تسلّلت إلى معدته بمجرد تخيّله لها بهذا الصوت، فهزّ رأسه سريعًا يطرد ما خطر له، وقال بنبرة متعمّدة الهدوء:
_ نايمة؟ وأنا اللي مفكّرك مانمتيش علشان توصليني المطار.
اعتدلت في جلستها وقد اخترق صوته أذنها، لتخفق نبضاتها بلا إذن، لكنها تداركت نفسها، وردّت بمراوغة نصف ناعسة:
_ وأوصلك ليه؟ كل مرة بلال أو السواق بيودّوك، إشمعنا المرة دي أنا اللي هوصلك؟
تصلّب فكه، وغضب خفيف سرى في صوته وهو يقول دون وعي:
_ علشان دلوقتي انتي مراتي.
تسلّلت إلى شفتيها ابتسامة ماكرة، وردّت بخفّة أنثى تعرف تمامًا كيف تمسك الخيط بين الدلال والاستفزاز:
_ مراتك لما أكون في بيتك يا حبيبي… دلوقتي أنا في بيت بابا، ويلا سلام، عايزة أكمل نومي، قلقت منامي.
قالتهاوأغلقت الخط بسرعة، قبل أن تلين اليه بقلبها الضعيف
سقط الهاتف من يدها على الوسادة، وتنهّدت عاشقةً وهي تتذكّر كلماته:
_ "لو كنت فكّرت بالجواز، انتي أول واحدة."
مدّت يدها نحو الدبلة، نظرت إليها طويلاً، ثم قبّلتها كأنها تُقبّله هو…
نظر للهاتف للحظات، وشعر بالغضب، تنهد واكمل مايفعله
_تمام ياست ضلمة
مضى أسبوع
هدوءٌ يخيم على الجميع، بآل الشافعي، ولكن الوضع مختلف عند اسحاق، فكانت الخلافات المتكررة بين حمزة ووالده، بسبب إصراره العنيد على شمس.
في غرفة حمزة، كان يغطّ في نومٍ عميق، يغرق في أحلامٍ لا يملك منها فرارًا.
رأى نفسه برفقة والده، يتجهان نحو منزل إلياس، الشوق يسبق خطواته، والحنين يعصف بقلبه بعد أيامٍ من مراقبتها عن بُعد، كأن رؤيتها صارت له هواءً لا يُستغنى عنه.
دلف إلى مكتب إلياس بعد أن أُبلغ الأخير بقدومهما. دقائق معدودة مضت في أحاديثٍ عابرة، إلى ان اردف والده بصوته الحازم:
_ إلياس، مش هلف وادور… حمزة معجب بشمس وعايز يتقدملها، لكن أنا مش موافق.
التفت إلياس نحوه، وصمته أثقل من الكلمات، تأمّله للحظة، ثم قال بهدوءٍ قاطع:
_ ولا أنا.
ثم وجّه نظره نحو حمزة وأضاف بنبرةٍ حاسمة:
_ أي بنت ممكن تستاهلك… بس مش شمس.
كأن السهم اخترق صدره؛ شهق يستيقظ من نومه فزعًا كمن خرج من معركةٍ خاسرة، أنفاسه متلاحقة، وعيناه تجولان في الغرفة
مسح عرقه براحة كفّه، تراجع قليلًا على الفراش يحاول استعادة أنفاسه، ثم نهض ببطءٍ، كأن الأرض تُثقل خطواته.
بعد قليل
هبط إلى المائدة، ألقى تحية الصباح:
_ صباح الخير على الجميع.
رفع عمران رأسه مبتسمًا:
_ أهلًا يا حمّوزي، أخيرًا شفناك يا راجل!
جلس في مكانه، نظر إلى والده الذي كان يتناول إفطاره بصمتٍ، وعيناه على الجريدة، ثم التفت إلى والدته بنبرةٍ مترددة:
_ ماما… عملتوا إيه في موضوعي؟
طوى إسحاق الجريدة ببطء، ونهض من مقعده قائلًا بصوتٍ لا يخلو من التحذير:
_ أبوها مسافر، ولما يرجع هنشوف الموضوع ده… بس قبل أي خطوة يا حمزة، انسَى الوظيفة دي.
ثم أردف وهو ينظر إليه نظرة طويلة:
_ وأكيد عمّك ومامتك فهّموك السبب.
ظل حمزة يحدّق في الفراغ، يتذكر الكلمات التي سبب الرفض ترنّ في أذنه كأنها صفعة
_ولو يابابا، سيب كل حاجة زي ماهي
انحنى اسحاق مستندًا على الطاولة
_هتتخلى عن حلمك
_بحبها.. هكذا نطقها بصوت مبحوح خافت
صمت اسحاق يزفر بحزن على حالة نجله، ثم تراجع للخلف وغادر المنزل دون رد
بعد ساعاتٍ طويلة،
وقف أمام المقهى الذي اعتادت أن تأتي إليه برفقة صديقاتها. ظلّ يراقبها من بعيد، يتتبع ضحكاتها، نظراتها، وبراءتها التي تسلب اللبّ دون استئذان.
أسند ظهره إلى سيارته للحظات، ثم قرر الدخول. دلف إلى الداخل بخطواتٍ واثقة وتوجّه إلى طاولتها، جلس على مقعدٍ مقابلٍ لها متعمّدًا تجاهل وجودها وكأنه لم يرها.
كانت تتحدث بعفويةٍ مع إحدى صديقاتها، تلوّح بيديها وتضحك، وعيناها تجولان في المكان حتى اصطدمتا به.
ضيّقت عينيها هامسة لنفسها:
_أيوه هو… متأكدة.
التفتت صديقتها تتبع نظراتها ثم شهقت مازحة:
_أوووه! يخربيتك يا شمس، هتاكلي القمر ده بعينيك الحلوة!
رمقتها شمس بنظرة سريعة، وهزت رأسها نافية:
_لأ، أنا أعرفه… أو يمكن شبهه، بس حاسة إنه هو.
_تعرفيه؟ طيب مين القمر ده؟
قالتها صديقتها الأخرى وهي تبتسم بمكرٍ واضح.
زفرت شمس قائلة:
_ده ابن صاحب بابا.
قهقهت إحداهنّ:
آه، يعني من العيلة الكبيرة اللي عندهم شركات وكده!
لكن الأخرى قاطعتها بحماس:
_بس بقى، الواد قمر أوي وشكله جامد فعلًا، وشمس مش عارفة تسيطر على نفسها.
حدّجتهن بنظرة حادة وهي تلتقط حقيبتها:
_خلاص أنا غلطانة، يمكن مش هو أصلًا. يلا نمشي، اتأخرنا، ومامي ممكن تقلق.
تأفّفت إحداهن:
كالعادة الأستاذة شمس لازم تنكد علينا، وجو "مامي وبابي"!
التفتت شمس إليهن بجديةٍ هادئة:
أنا قلتها قبل كده، مبحبش أروح مكان من غير ما ماما تبقى عارفة. ممكن تشوفوها طفولة، بس أنا بشوفها احترام لقلقهم عليّا. مادام خلصنا اللي جينا عشانه، يبقى نمشي.
كان يستمع إلى حديثها، وكل كلمة منها كانت تتسلّل إلى قلبه برقةٍ موجعة، تُحرّك فيه نبضه بعنف، يود ان يتوقف ويسحقها داخل احضانه
رفع عينيه مصادفًا التفاتها نحو الباب، فتقابلت النظرات… نظرة واحدة كانت كفيلة بإيقاظ كل ما اعضائه
نهض من مكانه بخطواتٍ وئيدة واقترب منهن، وصوته يخرج كهمسةٍ مبحوحة:
_شمس...
توقفت صديقاتها في ذهول، تتبادل نظرات الدهشة وهي تتابع اقترابه الواثق نحوهنّ.
ابتسمت بخفوتٍ مرتبك قائلة:
_أهلًا أستاذ حمزة، كنت بشبّه عليك… بس الصراحة مكنتش متأكدة.
ارتسم الألم في عينيه دون أن ينطق، فحديثها البريء كان كطعنةٍ مغلفةٍ بالود.
_كيف تنكرينني يا طفلتي.. والقلب يتمزق من اجلكِ فقط، فانتي من كانت نوره واحتراقه في آن؟
ورغم وجعه، رسم على شفتيه ابتسامة هادئة، ومدّ يده نحوها قائلًا بنبرةٍ خفيفة:
_بلاش "أستاذ" دي… حمزة، أو يا ستي كابتن حمزة زي ضي
نظرت إلى كفه الممدود بترددٍ، ثم صافحته.
وما إن لامست أناملها أنامله، حتى شعر بأن روحه تذوب بين أصابعها… لحظة واحدة كافية أن تقطع انفاسه
لكنها سرعان ما سحبت يدها بخجلٍ واضح، متراجعة خطوة إلى الوراء.
بعد إذنك… لازم أمشي.
ناداها قبل أن تبتعد، بنبرةٍ تحمل دفئًا:
_لو عايزة، أوصلك.
توقفت لثانية، ثم التفتت بنصف جسدها وعيناها تتجنب عينيه:
السواق برّه… شكرًا لحضرتك.
قالتها ومضت سريعًا، وغادرت بخطواتٍ سريعة، بينما تركت خلفها رجلًا واقفًا بين الناس بجسدٍ ثابت…وقلبًا ينتفض بروحٍ تنزف بصمتٍ موجع
بمنزل يزن
جلست أمام والدها، تتقلب نظراتها بين وجهه الجاد وفنجان القهوة أمامه، تحاول أن تخفي ارتباكها خلف صمته المتوتر.. رفع رأسه وقال بصوتٍ حاسمٍ لا يحتمل نقاشًا:
السواق هيوصلك ويجيبك، ومفيش خروج لأي مكان بعد كليتك. سنة وتخلص… مش عايز أزعلك يارولا
رفعت عينيها إليه بانفعالٍ مكبوت:
_يعني إيه السواق يوصلني يا بابا؟ هو أنا لسه صغيرة، أنا في بكالوريوس على فكرة، مش في إعدادي!
لم يتحرك في ملامحه سوى صرامةٍ جليدية، أزاح نظره عنها قائلًا بحدةٍ قاطعة:
مش هكرر كلامي، ويلا بدون نقاش... السواق هيوصلك.
بس اسمعني يا بابا...
قطع صوتها بإشارةٍ غاضبة من كفه، وصاح وهو يلتفت نحو الباب:
أسر! وصل أختك للعربية، وخلي أحمد معاها لحد ما تخلص... فهمت؟
قالها ونهض من مكانه، يخفي خلف صلابته خوفًا لم يعرف كيف يعبر عنه…
بينما جلست هي مكانها، تحدّق في الأرض، تحاول أن تبتلع غصتها، رفعت نظرها الى اخيها
_شوفت ماما عملت ايه، يعني بعد اسبوع خصام ومنعي من الكلية
_رولا ماتتماديش، ماما متعرفش حاجة، وسألت مليون مرة ايه اللي حصل، يعني لو هي مكنتش سالت، حتى ولو هي دي ماما ازاي تقولي عليها
_ماما مابتحبنيش يااسر..
قالتها ونزعت حقيبتها وتحركت للخارج، وقعت عيناها على خروج بلال متجها الى سيارته
_بلال..
التفت اليها فاقتربت منه
_توصلني معاك الكلية
التفت الى اسر وتسائل:
_وعربيتك
اقتربت منه مردفة:
_السواق اخدها، بابا عايزه يوصلني
صمت باقتراب اسر
_رولا ياله عندي مقابلة شغل
التفتت اليه وقالت:
_هروح الجامعة مع بلال وارجع معاه
تفاجأ بلال بحديثها، ورغم ذلك اومأ لاسر
_خلاص هاخدها معايا، ربنا يوفقك في مقابلة الشغل، متقلقش عليها
اتجه بنظره الى اخته التي ترجته بعيناها، ثم اومأ، فتحت باب سيارة بلال تتنهد بهدوء
_اخيرًا.. مكنش ناقصني الا السواق كمان
استقل بلال السيارة بجوارها، ثم التفت اليها:
_ايه موضوع السواق دا، ليه عمو يزن قرر فجأة
_اتأخرت على المحاضرة، سوق واحكي لك في الطريق
صمت للحظة ثم قال:
_بس كدا عمو يزن ممكن يزعل، لازم اعرف الاول
_بلال.. هتمشي ولا انزل اخد تاكسي
تحرك بالسيارة دون حديث
مرّ أسبوعٌ آخر، إلى أن عاد إلياس ويوسف من الخارج، ترافقهما فريدة ومصطفى... الذي باغت الجميع بخبر مرضه، سرطان بالكبد.
خرجت "ضي" من عملها تتثاقل خُطاها من الإرهاق، ليقطع رنين الهاتف صمتها:
_أيوه يا ماما؟
جاءها صوت والدتها مفعمًا بالحنين:
_حبيبتي، ما تتأخريش النهارده، خطيبك رجع… وعمو كمان.
توقّفت مكانها، وتعثرت أنفاسها، قالت بعد لحظة صمتٍ دامية:
_رجع...
سحبت نفسًا مرتجفًا وأغلقته بزفرةٍ ثقيلة، قبل أن تقاطعها غرام بصوتٍ متوتر:
_ضي... أبوكي بيقول إن يوسف استلم الجنسية.
ارتجف جسدها، كأن صاعقة مرّت بعروقها، تزلزلت دمعة على وجنتها وهي تهمس بصوتٍ مخنوق:
_هو... في البيت؟
_في بيت جده، كلهم رجعوا.
لم تُجب، فقط أغلقت الهاتف ببطء، حدّقت في الفراغ لبرهةٍ طويلة، ..تشعر وكأنه عاد شخص جديد لا يضمّها.. اسبوعان لم يهاتفها متعللا برسائله بانشغاله
بعد دقائق وصلت الى فيلا السيوفي، قابلتها ملك على الباب الرئيسي
_اهلا ضي، الف مبروك ياروحي
_الله يبارك فيكي ياطنط ملك، هو يوسف فين
تلفتت ملك واشارت إلى الحديقة الخلفية:
_على مااظن كان هنا، وتليفونه رن، ممكن يكون عند البسين شوفيه كدا
متشكرة لحضرتك
قالتها وانسحبت سريعًا بدقات عنيفة إليه، وجدته يتحدث بهاتفه..
_حاضر، يومين ارتب اموري، إن شاءلله الاسبوع الجاي، هانت خلاص
صمت يتابع حديث الاخر
_شكرا لحضرتك على كل حاجة، لولا حضرتك معرفش كنت عملت ايه، وخصوصًا شروطهم في القبول
انتهت المكالمة، اغلق الهاتف ووضعه بجيبه ونظر للامام بشرود، يفكر بخطواته القادمة، وكيف سيتقبلها الجميع خاصة والدته..
ظلت واقفة خلفه بهدوء، تحاول ان تنظم أنفاسها المرتجفة داخل صدرها، تتذكر كلمات ميرال، عمك حاطط فيكي أمل انك تمنعيه من الهجرة، انا مش عارفة اقولك اعملي ايه، بس عندي يقين انه بيحبك ومش عايز يعترف، او ممكن يحبك، معرفش يابنتي المهم انا بتكلم معاكي كأم، حاولي تضغطي عليه، انتي ذكية وهتعرفي تفكري اكتر مني، انا كل اللي يهمني مايبعدش، حتى لو عايز يروح أي مكان في مصر، أنا موافقة المهم مايبعدش عن مصر، خايفة لو اخد الجنسية يمسحنا كلنا..خرجت من واقع كلمات ميرال ثم مدت ذراعيها تحتضنه من الخلف، تتمسح بظهره.. وهمست بصوت خافت متشبع بالشوق:
_وحشتني أوي...قالتها وهي تعلم بأنها جرأة منها
أغمض عينيه، يحاول كبح ارتعاشةٍ سرت في أوصاله، فلأول مرة تقترب منه بتلك الجرأة. لحظاتٌ فقط، وكانت ذراعاها تحاوط خصره، فيما ظل هو واقفًا كتمثالٍ من الدهشة.
استدار إليها ببطء، يتأمل ملامحها التي أرهقته شوقًا طوال الايام الماضية.
_وانتي كمان وحشتيني.
رفعت عينيها نحوه بعتابٍ يقطر دفئًا:
نفسي أعرف دماغك دي فيها إيه؟
ابتسم وهو يرد بهدوءٍ فيه غموض:
_من الأحسن تعرفي قلبي فيه إيه... مش دماغي.
_تؤه... قلبك أنا عارفاه، بس عقلك ده اللي محدش عارف له طريق.
ابتسم رغماً عنه، ورفع ذقنها بأنامله، يمرر إبهامه فوق وجنتيها بلُطفٍ :
طيب احكيلي بقى... قلبي فيه إيه يا ذكية؟
_أنا طبعًا.
ضحك بصوتٍ خرج منه رغمًا عنه، ضحكة صافية بعثرت المسافة بينهما.
رفعت حاجبها باستفزازٍ محبّب:
_متحاولش تشككني في نفسي... أنا متأكدة إني مؤثرة جدًا.
_يا ولاااا... على المؤثرة! قالها وهو يجذبها نحوه بقوة حتى التصقت بأنفاسه.
ارتجف قلبها، ورغم ذلك رفعت عينيها إليه بعنادٍ جميل:
الحضن دا... يحسّسك بالأمان، كأن عندك سند بيحميك.
قهقه بخفةٍ رغم انزعاجه من طريقتها، لكنها استطاعت أن تنزع ارهاقه
_بتعملي كدا علشان أحبك يعني؟
_وعلى أساس إنك مش بتحبني، مش قولت لو فكرت في الجواز هيكون انا، يبقى حبي مدفون من زمان؟
_يمكن.
هو فيه راجل محترم يتجوز واحدة مبيحبهاش؟
_بس دا مش جواز، وانتي عارفة
رغم قهرها الا انها قالت:
_وليكن، هنقول كتب كتاب... هو فيه راجل يرضى يلبس دبلة مكتوب عليها اسم واحدة مش حبيبته، لبست دبلتي باسمي ليه
نظر إلى دبلته، ثم إليها.
_ومين قالك إن اسمك اللي عليها؟
اقتربت منه بخطوةٍ واثقة، وحاوطت عنقه بأنامل مرتعشة وهمست بجوار أذنه:
_متأكدة... نسيت كنا مع بعض واحنا بنشتريها، ودا يأكدلي، مش بس الدبلة، دا قلبك كمان بيصرخ باسمي هنا.
مررت أصابعها فوق موضع قلبه، فشعر بأنفاسها تذيب ما تبقّى من صموده.
نظر إليها بعينين يغمرهما الوله والاشتياق الذي يحاول ان يمنع نفسه من الاقتراب اليها فقال بارتجاف وعيناه تحتضن عيناها:
_حلوة الثقة... وبحبها جدًا.
ابتسمت وهمست قرب شفتيه:
وأنا بحبك أكتر من ثقتي بنفسي...
شُفت بقى مكانتك فين؟
اعتراف مباشر من شفتيها وعيناها اكثر من اي كلمات تُقال
لحظاتٌ صامتة لا يُسمع فيها سوى دقاتٍ متسارعة... ثم تلاشت المسافات بين شفتيهما، فكانت القبلة الأولى، الخجولة، الصادقة، المشتعلة بكل ما كبتهما من شوق.
احتواها بذراعيه حين تهاوى جسدها بين أنامله، يهمس لها وهو يبتلع أنفاسه بصعوبة:
طعمها مش حلو... متبقيش واثقة قوي كدا.
كانت نظرة وحدها كفيلة بقتله، من أنثى هدرت كرامتها، انحنت تلتقط حقيبتها، وتراجعت بخطواتٍ مضطربة نحو سيارتها، والدموع تنهمر على وجنتيها كصراخٍ مكتوم يمزّق صدرها.
راقبها بعينين متألمتين، يودّ لو يلحقها، يسحقها بين ذراعيه، ويعتذر عنها وعن نفسه، لكن كيف؟
كيف وهو يعلم أنها حطّمت بخطوتها تلك كل ما خطّط له، وكل ما حاول بناءه؟
الآن لا يقوى على البعد، أسبوعان فقط، وشعر أنه تحطّم في غيابها.
دار بعينيه حوله كمن يبحث عن هواءٍ يتنفسه، ولم يجد سوى صدى قلبٍ ينهار بداخله... ولمست شفتيها الناعمة تحطم حصونه بالكامل
همس لنفسه وهو يتنهّد بحرقةٍ سوداء:
_وبعدين يا يوسف.. أبوك فعلاً نجح… ضغط عليك من الحتة الضعيفة فيك.
حبتها؟ ولا هي اللي أشعلت فيك نيران كنت فاكرها مش موجودة
مرّر كفه على وجهه المرهق، مع اقتراب إسلام منه التفت ببطء.
_بتعمل إيه يا جو لوحدك، وفين ضي؟ كنت شايفها جاية لك.
_مشيت... بابا فوق ولا مشي؟
_لا، فوق.
_تمام... أنا هرجع البيت.
_عرفه اني رجعت، عندي شوية حاجات عايز اعملها، يلا، سلام.
أومأ له إسلام وهو يتابعه بعينٍ قلقة، بينما ظل يوسف يسير بخطواتٍ أثقل من قلبه نفسه.
وصل بعد قليل.. اتجه الى منزل عمه، يسأل عنها، ولكنها امتنعت بحجة نومها، ثلاث أيام يحاول الوصول إليها ولكنها رافضة رفضًا قاطع، وحديثها مع والدها بعدم اكمال الخطبة
ذهب الياس اليها بعد شكوى ارسلان من منعها الذهاب لعملها، والحديث مع احدًا، رغم محاولات بلال إلا انها ظلت كما هي.. في خلوتها الوحيدة ورفضها القاطع لمقابلته، لابد أن تستعيد كرامتها التي اهدرها دون رحمة
جلس إلياس معها بعض الوقت، وكل حديثها
_ماليش نفس اتكلم مع حد، وعايزة افكر كويس، لو سمحت ياعمو مش عايزة ضغط من اي حد فيكم وارجوك متزعلش مني، بحاول اضغط على نفسي، بس تعبت
طالعها بأنين يصرخ بداخله، اتجه بنظره الى ارسلان وربت على كتفيها
_ولا يهمك حبيبة عمو، كله قسمة ونصيب
قاطعهم رنين هاتف إلياس..نهض معتذرًا وهو ينظر إلى أرسلان:
_ بعد إذنكم..قالها وغادر يردُّ على هاتفه..
_أيوة ياماما.
_إلياس..إنتَ فين؟
توقَّف بعدما استمع إلى صوت بكائها:
_في البيت، فيه إيه؟
_تعال، أبوك عايز يشوفك ضروري.
_بابا..همس بها بخفوت وتحرَّك وهو يتحدَّث بهاتفه:
_مسافة السكَّة حبيبتي.
بعد فترةٍ قليلة...
وصل إلى فيلَّا السيوفي، وصوت محرِّك سيارته يخترق المكان..لمح الطبيب يخرج من الداخل، فتوقَّف بعنف حتى صرخت الإطارات على الأرض، وترجَّل كطفلٍ يركض نحو أملٍ يوشك أن يُسلب منه.
اقترب منه بأنفاسٍ متلاحقة وأردف بصوتٍ متوتر:
_إيه يادكتور...طمِّني؟
توقَّف الطبيب أمامه، ونظراته انخفضت بثقل، قبل أن يهزَّ رأسه بأسى:
_الوضع زي ماهوَّ للأسف..المرض تمكَّن منُّه بنسبة كبيرة، اللي بنعمله دلوقتي مجرَّد مهدِّئات مش أكتر.
ارتجف لسان إلياس، وارتعشت أنامله وهو يتمسَّك بذراعه كمن يخشى أن ينهار..وقال بصوتٍ خرج مبحوحًا، يخنقه الذهول:
_حتى لو تدخُّل جراحي؟
أجابه بصوت خافتٍ كسكِّينٍ يقطع ماتبقى من أمل:
_للأسف ياإلياس..مبقاش ينفع.. بس هنحاول، كان الافضل يفضل في ألمانيا
_هو اللي طلب يرجع هنا..
_ربنا يقدم اللي فيه الخير، هنشوف العملية..
ظلَّ صامتًا يختنق بصمته، كأنَّ الحديث أشواكًا تجرحه، رحل الطبيب بينما هو لم يتحرَّك..دار حول نفسه
وعينيه تجولان في المكان كمن يبحث عن دفءٍ ضاع.
هنا كان أمانه، هنا ضحكته الأولى وصرخته الأولى، هنا من ربَّاه وجعل منه رجلًا تهابه الرجال.
ارتعشت أنفاسهِ لدقائق، ثم رفع هاتفه بصعوبة كأنَّ الجهاز صار أثقل ممَّا استمع إليه، وضغط على الرقم:
_تعال على بيت جدَّك حالًا.
_حاضر..
قالها يوسف بصوتٍ خافتٍ وأغلق الخط، بينما توقَّف إلياس ودموعه قد خذلته أخيرًا، لتتساقط بصمتٍ على وجنتيه قبل أن يمسحها بيده كمن يخجل من ضعفه..ظلَّ واقفًا لا يسمع سوى أنين قلبه الذي كان يومًا صلبًا كالصخر، وها هو الآن ينهار بصمتٍ كجدارٍ شاخت عليه الذكريات.
عند يوسف تحرَّك الى سيارته، قاطعه رنين هاتفه برقم بلال، أجاب بنبرةٍ جافَّة:
_أيوه يابلال.
_إنتَ فين يايوسف؟
سحب يوسف نفسًا وأدار السيارة:
_رايح لجدُّو..في إيه؟
_لازم نتكلِّم بعد ماتخلَّص، كلِّمني.
_بخصوص إيه؟ لو الموضوع مش مهم أجِّله، ماليش مزاج أتكلِّم مع حد.
_ضي مالها يايوسف
توقَّف يوسف بسيارته فجأة، وأجابه بصوتٍ مختنق، ماذا يجيبه،هل يعترف بأنه حطم غرورها، دام صمتًا ثقيلًا الى أن قال:
_ هشوف جدو واعدي عليها، بقالي كام يوم مشفتهاش، قولها تجهزلي عشا لما ارجع.. حاول ان تكون نبرته متوازنة ولكن شعر بلال بثقل انفاسه، علم انه ليس بخيرًا
بغرفتها دلف اليها ارسلان، ينظر الى عيناها التي ذبلت، اقترب مقهورًا منها
_حبيبتي قومي جهِّزي نفسك..هنروح فيلَّا السيوفي
رفعت رأسها بذهول:
_فيلَّا السيوفي؟!
جاء صوت غرام من خلفها حائرًا:
_فيه إيه؟
أجاب أرسلان وهو يحاول تمالك نفسه:
_عمُّو مصطفى تعبان جدًّا، وإلياس وكلُّهم نقلوا هناك..وأنا مش هسيب ماما في الظروف دي.
اتَّجه بخطواتٍ نحو الباب، ثم أضاف بنبرة هادئة:
_جهِّزوا نفسكم، هنقعد هناك كام يوم لحدِّ ماحالته تتحسِّن.
عند إلياس
وصل إلياس إلى غرفة مصطفى، سحب نفسًا طويلًا، وطرده ببطء كمن يلفظ وجعه قبل الدخول. طرق الباب طرقات خافتة، ثم دلف إلى الداخل.
كانت فريدة جالسة بجانب السرير، تضم كفّيه إلى صدرها كأنها تحمي آخر ما تبقى من دفء عمرها معه. التفتت نحوه حين فُتح الباب، واهتزت دموعها في عينيها حين رأته يخطو بخطوات ثقيلة، عيناه لا تفارقان ملامح والده الشاحبة.
اقترب منه، انحنى برفق، وطبع قبلة على جبينه البارد.
_بابا...
همس بها كمن يستدعيه من غيبوبة ففتح مصطفى عينيه الذابلتين بصعوبة.
_الي... اس...
نطقها متقطعًا
قبّل إلياس كفّيه قبلة طويلة، تختصر ما عجز عن قوله في سنوات.
_ألف سلامة عليك يا بابا... كده هونت عليك متعرفنيش مرضك بنفسك.
حرّك مصطفى رأسه بصعوبة نحو فريدة.
_فريدة... فين إسلام؟
مسدت على رأسه بحنانٍ مبلول بالدموع:
_لسه ماشي من خمس دقايق، ابنه تعبان، هيكشف عليه ويرجع لك على طول
أزاح مصطفى جهاز التنفس محاولًا الحديث، لكن إلياس أسرع يمسك بيده:
_بابا،... ما تتكلمش دلوقتي.
أشار له مصطفى أن يجلس قربه، فجلس إلياس صامتًا، يحدّق بوجهه المتعب، وقلبه يئن من الوجع. أمسك كفّيه من جديد، رسم على شفتيه ابتسامة شاحبة وقال بصوتٍ مختنق:
_عايز تعرف إنك غالي ولا إيه يا مصطفى باشا؟
ابتسم مصطفى ابتسامة واهنة، تلمع دمعة على طرف عينه، تهتز بين السقوط والبقاء.
_عارف يا ابن مصطفى... إني غالي.
قالها بصوتٍ متقطع، كأن كل حرف يخرج من أعماق عمرٍ أنهكه الوجع.
اقترب منه إلياس أكثر، انحنى حتى لامس جبينه كتف والده، ونزع عنه ما تبقّى من قناع القوة الذي اعتاد ارتداءه أمام الجميع، إلا أمام هذا الرجل.
همس بصوتٍ مبحوحٍ يشبه نحيبًا مكتومًا:
_والله... أغلى من روحي يا بابا.
ظل صوته عالقًا بين أنفاس مصطفى، كأن الهمس وعدٌ أبدي
رفع مصطفى كفّيه المرتجفتين، وضعهما على وجه إلياس الذي تهاوت كل صلابته وهو يسند رأسه على كتف والده.
_عمري في يوم ما شكّيت إنك ابني... حتى بعد ما غيّرت اسمك، وبعد هروب ميرال بسببي...
توقف للحظة، كأن الذكرى تختنق في صدره، ثم تابع بصوتٍ مبحوح:
_آه يا إلياس... كنت بشوف الحزن في عينيك، بس عمرك ما آذيت أبوك بنظرة... ولا كسرتني بكلمة.
شدّ إلياس على كفّيه المرتجفتين، وارتجف صوته وهو يهمس برجاءٍ مختنق:
_لو سمحت... علشان خاطري، متتكلمش دلوقتي يا بابا.
لكن الألم تسلّل جسد مصطفى بلا رحمة.
ابتعدت فريدة إلى النافذة، تمنع شهقاتها ..
(هل سيبكيها القدر مرة أخرى؟)
سؤالٌ واحد تردّد في ذهنها وهي تراه يحتضن أباه كمن يحميه من الموت نفسه.
احتوى إلياس جسده المنهك، ضمّه إلى صدره، وأعاد جهاز التنفس إلى مكانه بحذر، وهو يهمس له بحنانٍ مبحوح:
_خلاص يا بابا... خد نفسك، أنا هنا، ماتخافش.
ضغط مصطفى على كفّه، حاول أن يبتسم رغم أنفاسه المتقطعة:
_أنا كويس...
قالها بصوتٍ مرتفع الأنفاس، كأنه يقنع نفسه قبل أن يطمئن ابنه.
سحبه إلياس إلى أحضانه أكثر، يحيطه بذراعه ك طفلًا بين يديه، يهمس مبتسمًا رغم الدموع التي تتلألأ على وجنتيه:
_عارف إنك كويس... وإن شاء الله هتبقى كويس...
أومال مين هيجوّز يوسف وشمس؟
ارتسمت على ملامح مصطفى ابتسامة باهتة، قبل أن يغفو بسلامٍ تحت تأثير المهدئات.
ظل إلياس يحتضنه، كأن ذراعيه صارتا وطنًا يمنع الفقد من الاقتراب، حتى وهو يعلم أن فقدانه اصبح قريبًا
دقائق ودلف يوسف، نظر لجلوس والده بتلك الطريقة، يحتضن مصطفى ويضع رأسه فوق رأس مصطفى يسبح ببحور من الدموع بلا توقف
دنا منه يوسف وشعر بأن قلبه يحترق، لأول مرة يرى والده بتلك الطريقة
_بابا... همس بها يوسف وهو يضع كفيه على كتف والده
ازال دموعه، ووضع والده بهدوء مكسور على الفراش، وعيناه تحتضنه، تمنى لو اخفاه داخل صدره، تمنى لو ازال الامه.. تمنى وتمنى ولكن قدر الله
خليك جنب جدك..
قالها واتجه إلى الشرفة التي تجلس بها فريدة.. جلست على المقعد تنظر بشرود كأنها تودع الحياة للمرة التي لا تعلم عدد
جلس بجوارها بصمت، وسحبها الى أحضانها، هنا انفجر صوتها بالبكاء، بكت وبكت حتى شعرت بانقطاع احبالها الصوتية..
ضمها بقوة، كيف يواسيها وهو يريد من يواسيه، دقائق صمت قاتلة كأن الحروف اصبحت اشواكًا تجرحه،
_ماما... تمتم بها بلسان ثقيل
خرجت من احضانه تنظر اليه بعيونها الدامعة
_ابوك هيموت ياالياس صح، الدكتور قالك كدا
قاطعهم دخول غادة
_ماله بابا، بابا ماله، انتوا مش كنتوا بتحجوا، بابا حبيبي انا جيت
قالتها غادة وهي تجثو أمام فراشها
ربت يوسف على كتفها واردف:
_عمتو جدو كويس، هو نايم بس، لو سمحت بلاش تزعجيه
دلف الياس بعدما استمع صوتها، رفعت عيناها اليه
_بابا ماله ياالياس، ومن امتى تعبان
انحنى يرفعها من الأرض
_غادة بابا كويس، انتي مش صغيرة علشان كدا
فين ماما ياالياس
تسائلت بها غادة..اشار الى الشرفة..ثم تقدم من يوسف الذي توقف يتابع مؤشرات مصطفى، رفع نظره الى والده
_المستشفى افضل من البيت يابابا
ربت على كتفه وقال:
_هو رافض المستشفى، المهم كلم الدكتور بتاعك يستعجل الدكتور الخاص بالعمليات دي
_حاضر..هكلمه حالًا، توقف عندما تذكر شيئا فقال
_حاضر
خرج من غرفة مصطفى بخطوات مرهقة، فقابله أرسلان على الدرج.
_باباك فين؟
هز كتفه بجهل:
_معرفش.. كان مع تيتا فوق، يمكن نزل معاها، أنا خلاص مش شايف قدامي من التعب. خليك عند جدو، لما بابا يرجع
ربت أرسلان على كتفه:
_ماشي يا حبيبي، اطلع ارتاح.
_أنا هنام حتى لو على السلم، بجد مش قادر.
اتجه الى غرفة والدته، يطرق باباها، حتى يجلب ثيابه، دلف بعدما لم يستمع ردًا
اتجه إلى الخزانة، ولكنه توقف بعدما استمع الى خطوات.. ظن والدته فقال دون أن يلتفت:
_ماما أنا هنا، جيت اخد ترنج، دولابي فاضي ليه.. استدار بعدما لم يستمع ردًا
كانت قد خرجت من الحمام تلف البورنس حول جسدها، بخار الماء ينساب خلفها،حتى شعر يخرج من جسدها، طافت عيناه على شعرها المبلول يلتصق بعنقها، ونظرتها المذهولة تتجمّد عند رؤيته.
_يوسف!.. إنت بتعمل ايه هنا
لم يجب.
ظلت عيناه تراقب مظهرها، و اشتعلت في عينيه، خليط من لهفة وغضب واشتياق كاد يخنقه.. ورغم ذلك تقدّم خطوة...
_يوسف.. همست بها ولكنها
تجمدت وهي تراه يقترب،
اقترب حتى صارت المسافة بينهما أنفاسًا مرتجفة، مدّ يده إلى وجهها، ومسح قطرات الماء عن خدّها برعشة حارّة، كالمغيب وانخفض صوته كاعتراف:
_انتي مين، معقول ضي
ارتجفت تبتعد عنه، تقول
_طنط ميرال مش هنا
اقترب يحاوط جسدها بذراعيه:
_تعرفي المفروض اعمل فيكي ايه، مبترديش على اتصالاتي ليه
رفعت عيناها التي امتزجت بخليط من الألم والحزن
_انا طلبت من عمو ننفصل، انت غالي عندي ومش حابة انك تضغط على نفسك، وصدقني مش زعلانة منك، حق كل واحد مننا الاختيار
رغم احتراق الحروف على شفتيه، الا ان عيناه كانت تنفجر بما لم تنطقه شفتيها، لم يفكر كثيرًا، حاول التماسك لحظات وانفاسها تحرق كل من يقترب منه، هنا شعرت بأنها اشعلت نيران جحيمية لديه، فقال وهو يدفعها بقوة صارخة للخلف:
_اضغط على نفسي، زي مابضغط على نفسي بقالي يومين علشان مكسرش دماغك..تمام بمناسبة الضغط على نفسي، فانتي دلوقتي مراتي وانا مش موافق على الانفصال، انا مش دمية في ايدكوا كلكم..حتى انتي طلعتي زيهم قالها صارخًا وكأنه فقد عقله ليسحب فجأة حزام روبها
لتشهق بخفوت، وتهتز نظراتها بين الذهول والالم، لحظة غاب بها العقل ولم يكن سوى دقات القلوب التي اشعلت الصدور
_ يوسف ابعد ماتبقاش مجنون
سحبها بقوة لتصبح بين ذراعيه، تتلقى عاصفة لم يعد فيها مجال للعقل ولا الكلام...يهمس بخفوت مدمر لكلاهما
_حبيتك.. قالها بهمس قاتل امام شفتيها التي احتضنها بنبضه الصارخ بصدره، لحظات لم يشعر سوى بأنه بجنة نعيمها.. تراجع لبعض اللحظات
رفعت عيناها تسبح بعيناه التي للأول مرة تعترف اعترافًا صريحًًا.. تغيب عقلها وهو يبتسم اليها كأن ابتسامته عهد بعشقها، رفعت اناملها تلمس وجهه، ليقبل اناملها، وتنفجر شعلة العشق ولم يجد من يسيطر عليها
دقائق لم يشعر كلا منهما بعقله، لقد غاب العقل واصبح القلب المسيطر الاول والاخير
دقائق دلفت ميرال للداخل، تغلق الباب خلفها بارهاق، تجر قدميها بصعوبة، توقفت تشهق.. وتراجعت سريعًا تحاول ان تلتقط انفاسها، فتحت باب الغرفة
قابلها الياس..ينزع جاكيت بدلته، ولكن عرقلت دخوله:
_في ايه واقفة كدا ليه
ابتلعت ريقها تشير للداخل
_اصل.. اصل، ماهو
_مالك ياميرال.. فيه ايه جوا
_ابنك..
_ماله ابني، وبيعمل ايه جوا
_مع ضي..
_يعني ايه مع ضي
ارتجف جسدها وحاولت التحكم في ارتعاشته، شعر بخطورة ما ستنطقه، فدفع الباب سريعًا