![]() |
رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل السادس والعشرون بقلم فاطيما يوسف
كانت تحتضن ابنها النائم وهي تبكي وبجانبها "زينب" وما زالت تشكو لها وتنتحب بشدة :
ـ حرام عليه الكف الشَديد اللي ضـ.ـربه له على وشه دي يا ماما، الولد نايم هيتنفض ومرعوب من اللي حُصل له، ابنك قسي عليه جامد وأهانه وبهدله قدام الخلايق كلاتها .
وتابعت ببكاء وهي تحرك سباتها بحنو شديد على وجنة طفلها المتورمة بعض الشئ ويكسوها الاحمرار:
ـ إزاي طفل صَغير يتحمَل يتصفع على وشه بالطريقة الجامدة داي لدرجة إن عيونه محمرة ووشه مورم ؟!
عملتيها فيه قبل سابق يا ماما الحاجة علشان هو يعملها في ولده ؟!
حاولت "زينب" تهدئتها وهي تربت على ظهرها بيد وبالأخرى تهدهد الصغير النائم:
ـ إن جيتي للحق يابتي "عمران" ولدي كنت هربيه يحب أصحابَه، كنت هربيه راجل ولا يسخر من حد ولا يتمقلت على حد واصل ، و "سَليم" زودها قوي يابتي مع الوِلد اليتيم.
واسترسلت "زينب" بحكمة:
ـ افرضي انتِ حالك مكان الأم داي؛ هل هتقبلي على ولدك حد يبهدله اكده؟!
يابتي انتِ هتدلعي وتدللي ولادك زيادة عن اللزوم، حبساهم في قمقم ومهتخليهمش هيتنفسوا ويخرجوا للدنيا بعيد عن حضنك ،
متُبقيش وياهم كيف الدبة اللي من كتر حبها في صاحبها قتـ.ـلته، سيبي أبوهم يربيهم دول صبية ومحتاجين شدة وحزم من حديد،
اتعاوني ويا جوزك في تربيتهم ميُبقاش هو يَمين وانتِ شمال، لازم تكونو يد واحدة والعتاب ما بينكم على حاجة تخصهم ميخرجش برة سَريركم ومش قدام عيالكم.
مازالت تبكي بشدة وهي تنظر على ابنها النائم وأثر دموعه مازال عالقا في عينيه:
ـ أني عارفة إن ولدي غلط واعر قوي، وعارفة كماني إن الست وابنها عنديهم حق، بس مكانش ينفع يُضرب الولد ويتعصب عليه اكده ويفرق عليه الخلق بالشكل المهين دي،
كنت هفهم ولدي وهخليه يعتَذر لزميله كمان وهعلمه غلطَه بدون ما أجرحه وأقل منه ، وأضربه كماني.
تنفست "زينب" بقلة حيلة على تلك الباكية:
ـ وه يابتي نقول طور تقولوا احلبوه! هو على رأي المثل تفضحوهم في حارة وتصالحوهم في خندق!
"سَليم" كان لازمن يحب على راس زَميلَه ويتأسف له على اللي حُصل قدام اصحابه كلاتهم، صدقيني اللي عيمله جوزك مع ابنه عين العقل وعين الصُح، ومتنسيش إن جوزك حداه السكر يا حبة عيني وهيتعصب من أقل شئ، واللي عيمله "سَليم" مش هين عاد .
حركت رأسها برفض قاطع وهتفت باعتراض:
ـ عمري مهما تقولي وتبرري ما هسامحه، دي الرسول صلى الله عليه وسلم حذر وقال"لاتضرب الكف" والتحذير كان للكَبير فما بالك بطفل صَغير، هنعلمه لسه الصُح من الغلط، ولا هما علشان لساتهم أطفال صغار ما يقدروش يدافعوا عن حالهم قصاد الكبير نموتهم في ايدينا؟!
افرضِ ولدي كانت عينه جرى لها حاجة لا قدر الله من الكف اللي أخده على وشه؟!
أصلك انتِ ما وعيتلهوش كيف نزل بتقل يده على وش ولدي؟!
حاولت التخفيف عنها لتقول بنبرة صبورة:
ـ يابتي الولد ياما هيشوفو، وياما هيجيبوا لك مشاكل وياما هتبقي قاسية معاهم، علشان تعلميهم كيف يبقوا رجالة بصُح، وياما هتعاصري وياهم اللي اكتر من اكده بكَتير، ومش كل مرة هتعترضي وهتتخانقي ويا جوزك علشان هيربي عيالَه، وبعدين هتفترضي البلا قبل وقوعَه ليه؟!
دي ما فيش احن من قلب "عمران" ولدي على ضناه، هيحبهم أكتر ما هيحب حالَه،
ابني كان هيضحي بسعادَتَه وهناه ورجولته وياكِ واتحمَل بَعادك عنيه علشان ولاده، ابني اتحمَل اللي ما حدش يتحمَله واصل، وما كانش هيعترض على اي تصرف منيكي برده علشان خاطر حبه لولادَه،
ما فيش راجل في الدنيا هيصبر صبر الجبال اللي صبره ولدي وهو من قهرته على حالَه وشبابَه وانتِ هتهمليه كتم في نفسه لحد ما جاله السكر، المفروض ما تزعليش جوزك ما لكيش غيرَه، انتِ ما داريناش انتِ رايحة على فين يا بتي، انتِ متعلمَة وبت اصول واني بحاول وياكي بكل هدوء كيف ما أكون امك،
اسمعي كلامي يا "سكون" يا بتي ولما جوزك ياجي اتراضي وياه، ما تطوليش في العتاب ولا الزعل علشان لو حكمتِ اي حد هيقول لك دي ولده لو مـ.ـوته موت من الضـ.ـرب ما لكيش صالح.
عاد من الخارج وهو ما زال يشعر بالضيق والاختناق مما حدث اليوم فلم يكن يتوقع أن يصدر ذاك الفعل الشنيع من ابنه، فقد ارتفع سكره اليوم ويشعر بالدوار الشديد ولكن لم يهتم بحاله بقدر ما كان يفكر كيف يُقوِّم صغيره ويعيد تربيته من جديد، فلن يسمح له أن يضيع، سمعت صوته والدته فهتفت لـ"سكون" وهي تنصحها:
ـ جوزك جه أها هقوم أهديه ونفض الموضوع دي سيرة عاركة واتفضت وخُلصنا منيها معايزينش نكركَب الدنيا ونهدها على راسنا .
أنهت كلماتها معها وخرجت إلى "عمران" الذي كان يجلس حزين الوجه ويضع وجهه بين يديه، جلست بجانبه وربتت على ظهره وهي تردد:
ـ حمد لله على سلامتك يا ولدي، أجيب لك العشا انت لساتك متعشتش؟
أجاب برفض:
ـ لاه مرايدش أكل يا حاجة، مليش نَفس .
ثم نظر إلى الأعلى وهو يسألها:
ـ الولاد نامو ولا ايه مسمعلهمش حس؟
نظرت إلى غرفتها وهي تجيبه:
ـ سيبهم هيبيتو معاي الليلة وانت اطلع ريح في فرشتك النهاردة وتبات نار تصبح رماد ودي أسلم حل .
تحدث بحزن شديد وهو يسأل والدته:
ـ هو أني يا أمي كنت طفل عِفش ولا عمري أذيت حد، ولا ظلمت وجيت على حد ؟
ربتت على ظهره وأجابته بابتسامة ونظرة حب وفخر :
ـ عمرك يا ولدي، من وانت صَغير كنت كيف النسمة، والكل هيحبك ويحب قعدتك وجلستك، يعلم الله انك راجل مجابتهوش ولادة وقسما بربي مش علشان ابني؛ لاااه داي الحقيقة يا ضي عيني.
استند على كتف والدته وما كان منها إلا انها حاوطته بحنان وردد بحزن :
ـ آمال ليه الدنيا جاية علي قوي اكده ، تعبت علشان اتجوَز ، واتمرمطت علشان أخلَف، ولما خلَفت لحد دلوك معشتش يوم زين ويا مرتي، وولادي حداهم مشاكل وأني وأمهم ممتفقينش بسببهم، حاسس اني موجوع قوي والدنيا هتديني على راسي بزيادة لحد ما خلاص مبقتش متحمَل، حاسس إني واخد نصيب من الحزن والقهر زيادة علي .
خللت أصابعها بين خصلات شعره ونطقت بذهول:
ـ وه يا ولدي هتعترض على أمر الله عاد وتُبقى من القاطنين يا "عمران" علشان مشكلة تافهة كيف داي ؟
انت محدش زييك في الدنيا وعطايا ربنا كَتيرة اللهم بارك عليك وفضله وكرمه واسع ، متكبِرش المواضيع وتشيل حالك هموم الدنيا إنت صاحب مرض عفش يا ولدي، وعايز رواق بال وعدم عصبية.
وتابعت بعيناي تلمع بالدمع على حال ابنها المقهور:
ـ متزعلنيش عليك يا حبيبي، أني مليش غيرك يا ولدي، انت ضهري وسندي وعزوتي وكل حاجة حلوة ، اني مستغناش عنك وهتقهر على زعلك، بالله يا ولدي فكك من الحزن دي .
هتف هو الآخر بنبرة حزينة:
ـ أني غلطت اني ضربت "سَليم" قدام الخلق كنت أخليه يعتذر ويحب على راس زَميله من غير مد يد مني، ومن وقتها وأني قلبي هيتقطع عليه ومعرفش كيف هبص في عينيه بعد ما ذليتَه قدام أصحابه، هو ممكن يا أمي يتعقد من الحركة داي وميسامحنيش ؟
عند تلك الكلمة خرجت "سكون كالإعصار وهتفت:
ـ أني اللي مش مسامحاك يا " عمران" على قهرة ابني، دلوك هتلوم حالك على قسوتك وياه!
دلوك بعد ما بهدلته قدام الناس وذليتَه جاي تقول انك حزين وغلطان.
وتابعت بقسوة:
ـ انت متنفعش تكون أب من الاساس، انت صدمتني فيك، مش مسامحاك ولا هسامحك على انت عميلته يا "عمران" ، انت أب جاحد.
أنهت كلماتها الثقيلة وانهمرت الدموع في عينيها وهي تجلس بجوار ابنها تضع قطعة الثلج على وجنته المتورمة،
أما "عمران" كان واقفًا أمامها والوجع يزحف في صدره كجمرةٍ تتّقد، والسكر يعلو في دمه حتى أحسّ أن عروقه تضجّ بالنار، نظراته نحو "سكون" كانت خليطًا من غضبٍ ودهشةٍ وكسرةٍ عميقة، كأنه يسمع لأول مرة صوت من يحبّه يتحول إلى سيفٍ يطـ.ــعنه بلا رحمة، لم يصدق أن من وهبها قلبه وعمره وعشقه الوحيد هي ذاتها من تقذفه بتلك الكلمات القاسية، تجمد مكانه، عيناه تشتعلان حدّةً ووجعًا، وشفتاه ترتجف كأنه يحاول أن يمنع صراخًا داخليًّا من الانفـ.ــجار،
ثم استدار عنها دون أن ينطق، تركها وسط صمتٍ خانقٍ وغادر الغرفة بخطواتٍ متعثّرة، صعد إلى حجرته والدوار يلتفّ حوله، و العرق يتصبّب من جبينه، وضربات قلبه تتلاحق كطبولٍ مرعبة، جلس على حافة السرير يضع يده على رأسه، يسمع صدى كلماتها يجلجل في أذنيه كطعنةٍ لا تهدأ، حتى انحنت الدنيا في عينيه، وتهاوى جسده الثقيل على الأرض بلا وعي مغشياً عليه،
دخلت "زينب" بعد لحظاتٍ تبحث عنه لتطمئن عليه بعد كلمات زوجته الثقيلة له، فصـ.ــرخت حين رأته مطروحًا، اقتربت منه وهي ترجوه أن يفيق، تهزّه وتبكي، لكن "عمران" لم يُجِب، فقد اختطفه الإعياء إلى غيبوبةٍ ثقيلة، وحزنٍ أعمق من كلّ وجعٍ عرفه من قبل،
وهي تصيح بأعلى صوتها ويديها تعبث بصدره بهوجاء وجبينه مثلج:
ـ "عمرااااااان"، ولديييييييي ، فوق يا حبيبي، أني مليش غيرك .
سمعت "سكون" صريخها بالأسفل فارتعبت بشدة وصعدت الأدراج وهي تتعثر بها من شدة هلعها حتى وصلت إليهم ورأت "عمرانها" مغشياً عليه فوضعت يدها على فمها تكتم شهقاتها من أثر صدمتها، واقتربت منه على الفور وهي تقيس نبضه وتحاول إفاقته، ولكن لا جدوى، فجلبت جهاز السكري وقامت بقياسه وجدته عاليا بل في ذروته وهي تردد بشهقات عالية محاولة إفاقته بشتى الطرق:
ـ فوق يا "عمران" ، فوق يا حبيبي، حقك علي والله ما أقصد أزعلك ولا أقهرك، فووق يا "عمران" يا رب أنا اللي أموت ولا أشوفك مرمي اكده ، آاااه، لاااا، مقدراش أتحمَل يا "عمران" .
هدرت بها "زينب" هي الأخرى وهي تشهق بشدة:
ـ مش وقته نواح دلوك ، اتصلي على الدكتور "محمد" ياجي ننقله المستشفي حالا، ولو ولدي جرى له حاجة مهيكفنيش فيكِ عمرك كلاته يا بت "ماجدة" وحسابي معاكِ بعدين .
هرعت إلى هاتفها المرتجف بين يديها، بالكاد تستطيع تركيب الأرقام وهي تبكي بحـ.ــرقةٍ تكاد تخنق صوتها، واتصلت بـ "محمد" صديق "عمران" الأقرب، وما إن سمع صوتها المبحوح المرتجف حتى أدرك أن مكروهًا قد وقع، لم تمر دقائق حتى كان أمام البيت، يهرول بخطواتٍ مذعورة، وما إن صعد إلى الغرفة حتى رأى "عمران" ممددًا على الأرض وجهه شاحبٌ كالثّلج، وعروقه نافرة، وعرقه غزير، فحمله سريعًا بمعاونة الغفير ونقله إلى السيارة، بينما كانت "سكون" خلفه تبكي كأنّ روحها تفيض من بين دموعها، و"زينب" تمسك طرف عباءتها وتلحق بهما وهي تنادي بصوتٍ متقطّع يملؤه الخوف والرجاء:
ـ يا رب نجِّيه يا رب ما تحرمنيش منه يا رب، مليش غيرَه يارب .
وصلوا المستشفى، هرول "محمد" إلى الداخل وطلب تختا متحركاً ينقله نحو قسم الطوارئ، وصـ.ــرخ في الأطباء أن يسرعوا، فاندفع الطاقم الطبيّ ليتلقّاه، وضعوه على السرير الأبيض وبدأوا في تركيب المحاليل بسرعة، وأخذ الطبيب يقيس الضغط والسكر ويطلب تحاليل عاجلة، وبعد دقائق من الفحص الدقيق خرج الطبيب إليهم والجدّية تملأ ملامحه، كانت "زينب" تنتفض من القلق، و"سكون" ممسكة بطرف جلبابه تكاد لا تتنفس وهي تقول بصوتٍ متقطّع :
ـ طمَني يا دكتور هو بخير؟ طمَني عليه بالله عليك مقدراش اصبر.
نظر الطبيب إليهم بهدوءٍ حاول أن يخفي به قلقه وقال:
ـ بصراحة الحالة كانت خطيرة جدًا أول ما وصل، السكر عنديه كان مرتفع فوق الـ ٤٥٠، وضغطَه كمان وصل لمستويات عالية جدًا، فدي عِمل له غيبوبة سكر من النوع الكيتوني، ودي نوع بيحصُل لما الجسم ميُبقاش قادر يستخدم الجلوكوز كمصدر طاقة فيبدأ يحرق الدهون، فيطلع مواد اسمها الكيتونات في الدم، ودي اللي سبب له الغيبوبة .
"محمد" بصوتٍ مبحوح من الصدمة سال الطبيب:
ـ يعني إيه يا دكتور؟ يعني هيطوّل في الحالة داي؟
رد الطبيب مطمئنًا لكن بحذر وهو ينظر إلى والدته الباكية:
ـ لااه، إن شاء الله مش هيطوّل، احنا بدأنا نعالجه بالمحاليل والأنسولين، وهننزّل السكر تدريجي، والضغط بدأ يثبت بس هو محتاج يتحجز في العناية المركزة كام يوم للمتابعة الدقيقة، لأن العصبية والزعل اللي حصلوله هما السبب الرئيسي في الانهيار المفاجئ في جسمه .
جلست "زينب"على الكرسي تبكي وتردد:
ـ يا ضنايا يا " عمران" ، كنت هتتوجع في صدري وأني مدريناش، يا وجعي عليك يا بني، يا فطرة قلبي عليك يا نور عيني.
أما "سكون" فكانت منهارة تمامًا، عيناها لا تفارقان الباب المغلق خلف الطبيب، وجسدها يرتجف ندمًا ووجعًا، تهمس لنفسها بصوتٍ بالكاد يُسمع:
ـ يا ريتني ما فتحت بقي ولا قلت كلمة، يا ريتني كنت سكت، دي كلاته حُصل بسببي أني، يارب اني اللي أكون مكانك يا "عمران" ، آاااه ممصدقاش اللي حُصل، مني لله .
اقترب "محمد" منها قائلًا وهو يحاول تهدئتها:
ـ متعمليش اكده في نفسك يا أم "سَليم" ، ربنا كبير وهو هيقوم بالسلامة، بس لازم تتعلموا إن الكلام وقت الغضب ممكن يهدّ جبل مش إنسان، خلاص خديها درس وادعي له.
هزّت رأسها بصمتٍ والدموع تغسل وجهها، وهي تنظر من خلف الزجاج إلى سرير العناية حيث يرقد "عمران" موصولًا بالأجهزة، وصدرها يعلو وينخفض كأنها تحاول أن تبعث إليه أنفاسها ليعيش من جديد.
******
كانت الأنوار البيضاء في مدخل المستشفى تُلقي على الأرض ظلالًا باردة، بينما يقطع "أشرف" الممر وهو ممسك بيد "فاطمة"، كأنها أثمن ما يملك في الدنيا، كانت أنفاسها تتلاحق من شدة الألم، تحاول أن تخفي وجعها بابتسامة واهنة، لكنه كان يقرأ في عينيها كل شيء، اقترب من موظفة الاستقبال وهو يقول بصوت عالٍ متوتر فيه نغمة الدعابة المعتادة كي يجعلها تهدأ من توترها:
ـ يا جماعة بسرعة، مراتّي قررت تفاجئني وتولد النهاردة! دي ما استنتش حتى نهاية المسلسل اللي كنا بنتفرجه.
ضحكت الممرضة بخفة وهي تشير لهم إلى الداخل، بينما هو يلتفت إليها قائلًا بصوت خافت:
ـ استحملي يا حبيبتي، ده آخر تعب، خلاص هنسمع صوت البيبي اللي مجننّي بقاله تسع شهور ومامته بتدلع عليا، وورتني أيام طين .
كانت "فاطمة" تتنفس بصعوبة، تمسك بيده بقوة كأنها تستمد منه شجاعة العالم كله،
قالت بصوت متقطع:
ـ "أشرف" أني خايفة ، وكنت عايزه استنى لما امي تاجي من البلد وتكون جاري.
ردّ بسرعة وهو يقرّب وجهه منها:
ـ خايفة ليه بس يا بطبط! انا عارف انك قدها وقدود، وكمان مش عايزين نقلق والدتك ونخليها تيجي طول الطريق على ملى وشها، انا كلمتهم وقلت لهم انك هتولدي على بالليل وعلى ما يوصلوا بالسلامة يكون ربنا قومك بالسلامة يا حبيبي.
ثم اقترب من أذنها وهتف بدعابة مائلة للعبث:
ـ وبعدين لو كنتِ خلتيني أقوم بدوري كويس الأيام اللي فاتت كان زمانك ولدتي طبيعي.
ضحكت رغم وجعها، وقالت بخجل:
ـ وه يا سافل انت مليكش حل واصل،هتكسفني عاد، والله اخاف ولدي يطلع زييك اكده.
ردّ وهو يحاول يخفف عنها:
ـ من الناحيه دي اطمني خالص ،ما هو البيبي هيطلع واخد دبلومة في القلش يا "بطبط" باين عليه هيطلع لأبوه في الحركات وملك القفشات.
وبينما الأطباء يجهزون السرير لنقلها لغرفة الولادة، كان "أشرف" يمشي بجوارها، يهمس لها بين كل تنهيدة وأخرى:
ـ انتي بطلتي، ما شاء الله عليكي، دي لحظة العمر يا "فاطمة" ، بعد شوية هنشوف ابننا، هنشوف وشّه لأول مرة...
وحين اقتربوا من باب العمليات، تمسكت بيده أكثر، كأنها لا تريد أن تتركها أبدًا.
ـ "أشرف" ما تفوتنيش لحالي خش معاي، أني مش قادرة ومرعوبة وخايفة.
تجمد للحظة، ثم ابتسم وهو يمسح دموعها بإبهامه قائلاً بدعابته المعتادة:
ـ هسيبك إزاي يا روحي؟ ده أنا لو ينفع أخش أولد مكانك كنت عملتها ! بطبط اجمدي ده كلها شكت ابره يا ماما امال لو هتولدي ولاده زمان تقعدي تتوجعي من الطلق يومين بحالهم.،بس متخافيش، لو سمحولي هدخل، هابقى مساعد الدكتور، أدي له المقص وأقوله: قص هنا يا كبير.
ثم اقترب منها أكثر، طبع قبلة على جبينها وهمس كما لو كان يهدهد طفل صغير:
ـ كل حاجة هتبقى تمام، والبيبي هيطلع زيه زي القمر، والليلة دي هنفضل نحكي عنها العمر كله، بس يا بابا ، اهدي يا روحي .
دُفعت "فاطمة" برفق إلى داخل غرفة العمليات، ودخل معها متمسكا بيديها، يطمئنها حتى غابت عن الوعي ، ووقف هو عند الباب، لكن عينيه ما فارقت وجهها حتى غاب خلف الأبواب البيضاء، دقائق تمرّ كأنها دهر، يسمع فيها صوت الأجهزة وصدى خطوات الممرضات، وقلبه يخفق بخوف لم يعرفه من قبل، وبعد مرور ما يقرب من عشرون دقيقة خرج الطبيب المساعد مبتسمًا:
ـ خلاص يا أستاذ "أشرف" ، تقدر تدخل تشوف البيبي قبل ما ننقله للحضانة.
انفرج وجهه كطفل صغير، دخل وهو يكاد لا يصدق عينيه،
رآها مستلقية على السرير، وجهها شاحب من التعب، اقترب منها بخفة، نظر إلى الطبيب وهو يناوله الطفل الصغير الملفوف في بطانية بيضاء، ودموعه تسابق ابتسامته،
رفع ابنه بين يديه وهو يقول بصوت مبحوح:
ـ الله أكبر... الله أكبر....
ثم قرّب فمه من أذنه، وكبّر في ودنه اليمنى بهدوء، صوته يختنق من فرط التأثر:
ـ الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله...
وضع جبينه على جبين الطفل الصغير، ثم التفت إلى "فاطمة" التي كانت تنظر إليه بعينين يغمرهما التعب والدموع في آنٍ واحد بعد أن فاقت،
اقترب منها، أمسك يدها بحنان شديد وقال بصوت خافت:
ـ قمتي بالسلامة يا حبيبتي، جبت لي أحلى هدية في الدنيا.
همست وهي تبتسم بصعوبة:
ـ هو ،كويس؟
ابتسم وهو يقرب الطفل منها:
ـ ـ أهوه يا ست الكل ،بصي على النسخة المصغّرة مني، بس وشه أحلى مني بشوية اللهم بارك.
ضحكت رغم الألم وقالت بصوت واهن:
ـ طمني عليه .
ردّ وهو يمدّ لها الطفل ليقربه من خدها:
ـ ـ شكراً يا فاطمة، على تعبك، وعلى إنك خليتيني أب، وعلى كل لحظة خوف عدت عليا وإنتِ جوة، مش ناسيها أبدًا.
مرر الطفل أصابعه الصغيرة على خدّها بعشوائية كأنه يشعر بها، فاغرورقت عيناها بالدموع، وابتسم "أشرف" وهو يقول بخفة:
ـ أهو أول لمسة حب في حياته، بيطبطب عليكي، بيقولك شكراً يا ماما.
مدّت يدها ببطء ولمست كفه قائلة:
ـ الحمد لله على عطاياه .
اقترب منها، وضع جبهته على جبهتها وقال بهدوء وهو يغازلها:
ـ ربنا يخليكم ليا يا حبايبي وتنوروا دنيتي ما تتصوريش كل يوم حبك في قلبي بيزيد اكتر من اليوم اللي قبله.
ثم التفت ناحية الطبيب وقال بصوته المرح المعتاد:
ـ يا دكتور بالله عليك تأكد إن الولد خد وسام الشجاعة قبل ما يخرج من العمليات، ده تعبنا جامد النهارده!
ضحك الطبيب والممرضات، فيما ظلت "فاطمة" تبتسم وهي تراقبهم، بين الألم والامتنان ،جلس بجوارها على طرف السرير، وهو لا يكفّ عن النظر إلى الطفل كأنه كنز نزل من السماء ، وسعادته به تكفي العالم أجمع:
ـ شوفي بقى، أول ما يفتح عينه هيشوف وش أبوه الحلو، خلاص كده اتحكمت، هيطلع دمه خفيف زيي.
قالت وهي تبتسم برقة:
ـ يا رب ما يطلعش زيك في القفش بس.
ردّ ضاحكًا:
ـ لا لا، دي أهم ميزة وراثية يا "بطبط" ما ينفعش نضحي بيها أبداً.
تبادلا نظرات طويلة، فيها ألف كلمة من الحب والطمأنينة، قبل أن تهمس هي:
ـ شكراً إنك كنت معايا ومسبتنيش، وجودك جاري هيطمني .
أجابها وهو يضع يده على شعرها بلطف:
ـ وأنا عمري كله هيكون معاكي... ما تقلقيش، كل حاجة بعد كده تخص الصغنن هنعملها مع بعض طول ما أنتي جمبي وهو بخير أنا أسعد واحد في الدنيا .
ثم رفع الطفل مرة أخرى، نظر إلى وجهه الصغير وقال بمرح:
ـ بصي، ده شكله بيبتسم أهو باين عليه عارف إن أبوه لذيذ من أول لحظة.
ضحكت "فاطمة" رغم تعبها، وابتسمت وهي تهمس:
ـ ربنا يخليه لينا يا رب.
ردّ وهو ينظر إليها بعينين يملؤهما الحب:
ـ آمين يا حبيبتي، وربنا يخليكيم ليا انتم الاتنين.
وبين ضحكاتهما الهادئة وأنفاسها المرهقة، غمرتهما سكينة لا توصف، كأن كل تعب الدنيا انتهى في تلك اللحظة،
كان الممر خارج الغرفة يعجّ بأصوات الأطباء والممرضات، لكن في قلب "أشرف" لم يكن هناك إلا صوت واحد صوت أنفاس "فاطمة" وابنه، ينبضان بالحياة والرضا.
******
ـ يالا يا "رحمة" هنتأخر الطريق لساته طويل .
نطقها "ماهر" على عجالة وهو يقف في حديقة منزلهم ينادي عليها وهو ينظر في ساعته، أتت هي الأخرى سريعاً بدَتْ في طِلّتها كأنّها لوحةٌ من دفءِ الخريف، تعتمرُ قبّعةً سوداء تُعانقُ خُصلات شعرها البُنيّ المتموّج برقة، في عينيها بريقٌ هادئٌ يجمعُ بين الذكاء والأنوثة، كأنّها تُحدّثُ الصمتَ بنظرةٍ محسوبة، وتُكملُ أناقتها بحُلّةٍ داكنةٍ تُضفي على ملامحها مسحةَ وقارٍ وسحرٍ لا يُنسى،
أما هو كانَ يقفُ في وقارٍ أنيق، يُسندُ كتفه إلى العمود كأنّه يستندُ إلى ثقةٍ لا تزول، قميصه الورديّ الفاتح ينسابُ على جسده بانسجامٍ يبرز ملامح الرجولة الرصينة، وأزراره المفتوحة تُضفي على حضوره لمحةَ تحرّرٍ مدروسة، بنطاله العاجيّ يكمّلُ توازُن الألوان في مظهرٍ يجمعُ بين الرقة والفخامة، يحملُ سترته على ذراعه بيدٍ هادئةٍ تُعلن عن ذوقٍ رفيعٍ لا يتكلّف، وفي معصمه ساعةٌ فاخرة تلمعُ بخفوتٍ كأنّها تُنذرُ الوقتَ أن يتأنّى أمام أناقته،
وحين التقتْ عيونهما، اشتعل بينهما صمتٌ يضجُّ بالغيرة المكتومة لهيئة كليهما، كانت نظراته تحرسها كما يحرسُ الحارس كنزَه، فيها حذرٌ وامتلاكٌ وشوقٌ لا يهدأ، أمّا هي، فكانت عيناها تردُّ بنعومةٍ متوجسة، تخفي في عمقها خوفَ الفقد ودفءَ الحبّ، كأنّ نظراتهما ساحةُ معركةٍ خفيّة، لا سلاحَ فيها إلّا الشوق والغيرة والاعتراف الصامت،
أفاق هو أولا من هيام نظراته بأناقتها واقترب منها وهمس بجانب أذنها وهو يجذب خصلات شعرها الهابطة على عينيها يلويها بعـ.ـنف بين يديه :
ـ هما دول هيعملوا ايه برة حجابك، اظبطي أدائك يا بابا بدل ما أظبطك أني، مش كفاية الهدوم اللي هتلبسيها ومبينة تفاصيل جسمك مع إني محذرك تلبسي محتشم .
تأوهت من جذبه العـ.ـنيف لخصلاتها وهي تقترب من أصابعه بفمها وغرزته بأسنانها:
ـ اتكلَم بلسانك يا بابا من غير شد شعر، وبعدين هما اللي نزلوا من الحجاب لحالهم مقصداش اني .
وتابعت بعيناي تلمع بالمكر وهي تضع يدها في خصرها تمدح بأناقتها:
ـ وه هو انت كل لما تشوفني لابسة حلو وشيك وطالعة جميلة وكيف القمر هتخترع لي أي اختراعات.
ثم اقتربت منه وهي تشد على صدره بقوة جعلته أغلق عينيه دون تأوه من ثِقل يدها لتقول وهي تجز على أسنانها:
ـ وانت بقى فاتح لي أزرار قميصك ومبين لي عضلات صدرك ولابس ومتشيك ولا كأن الليلة دخلتك يا عريس.
احتضن وجنتيها المتوهجتين بالاحمرار بين كفاي يديه مرددا بعبث هو الآخر:
ـ لساتك هتغيري علي يا "رحمتي" ؟ و عيونك هتطلع دخان دلوك وانتِ هتطلعي لي وهاين عليكِ دلوك تمسكي المقص وتفشي غيرتك في البدلة صوح عاد يا بت "سلطان"
تمسكت بياقة قميصه وهي تفرك بها بغيرة تتآكل صدرها:
ـ مالها البدلة السمرا عاد كانت هتقصر وياك في ايه يا مغرور يا قادر .
حرك سبابته على وجنتها ليهتف بغرور:
ـ وماله يحق لي الغرور، أني الخط اللي هيزلزل القلوب قبل القاعات، وبصراحة معاي فرسة جامحة، قوية، عنيدة، شرسة معيزاش راجل عادي، لاااه؛ رايدة خيال وفارس يعرِف كيف يراوضها.
ابتسمت بغرور هي الأخرى لغزله المبطن بها وكادت أن تنطق إلا أنه وضع سبابته على شفاها هامساً بخشونة:
ـ لاااه، مش وقته كلام ودلع دلوك يابت الناس ورانا هم تَقيل ومواعيد ناس في مصر علشان نخلصو من موال قريبتك وجوزها، يالا يا بابا .
تحركت معه للسفر إلى مصر وهي على جهل بما حدث لأخيها فلم تخبرها والدتها إلى الآن، وظلا كلاهما يتناول أطراف الحديث مع الآخر حتى نظر إليها وهو يرفع حاجبه بمكر متسائلاً إياها باستمتاع:
ـ إلا فيكِ حاجة متغيرة اكده؛ مبقتيش مركزة مع "كوكي" قصدي أستاذة "كاريمان" معلش ذلة لسان يا روحي، حسك كبرتي وبقيتي عاقلة شوي.
نظرت إليه بأعين ونصف وهي تجز على أسنانها:
ـ وه وهو اني كنت مجنونة اياك! حاسب على كلامك يا "ماهر" يا بتاع "كوكي" إنت، وآه آني واحدة عندي ثقة في نفسي ومش "كوكي" ولا غيرها تهز شعرة من راسي .
صفق بأسنانه باستمتاع من جوابها ليقول بإعجاب:
ـ يسلم العاقل الواثق من حالَه، شوفي بقى أني حاجز تلت ليالي في فندق هنروح الاول نستريح شوي من تعب السفر وبعدين نرتب هنعمل ايه زي ما احنا متفقين.
ابتسمت بغرور وهي تتثاقل عليه بمشاعرها وهو معجب بطريقتها تلك للغاية بل وتسعده كثيراً، وعند آخر استراحة طلبت منه :
ـ اني جوعت وصدعت انزل هات لي وكل وقهوة .
ركن السيارة على جنب ونزل كي يجلب لها ما تريد، أما هي بعد نزوله هتفت بقلب يدق بعـ.ـنف داخل صدرها :
ـ يخربيت غرورك حتى في مشيتك ولا الرئيس السيسي في زمانه، وعلشان اكده هعشقك ولو طولت أديك روحي أعملها يا مجنني .
ضربت على رأسها فجأة وهي تتذكر كيس المسلى التي تعشقه وهي تراه يلمع من بعيد في الاستاند الخاص به، فنادت عليه ولكنه لم يسمعها فاضطرت إلى النزول وأغلقت باب السيارة وجرت مسرعة كطفلة صغيرة،
حينما رآه ورائها اندهش بشدة فسألها :
ـ وه! سيبتي العربية وجيتي ليه ؟
أجابته ببسمة طفولية زينت ثغرها:
ـ عايزة شيتوس وشيكولاته كابري وكانز شويبس ومارشيملللو.
اتسعت مقلتاي عينيه وهو يردد بسخرية:
ـ ايه يا ماما الحاجات داي هو أني جايب "فيروز" ولا ايه ومواخدش بالي عاد، اكبري يا ماما شوي، شيتوس ايه دي اللي هتاكليه عاد والخرابيط داي .
دبت في الأرض بقدميها معترضة:
ـ مليكش صالح، أني طفلة وهحب الحاجات داي، هتبخل علي بيها اياك ؟
ضـ.ـرب كفا بكف لينطق بنفاذ صبر:
ـ حاضر يا نونو ياللي هتقفي في قاعة المحكمة تهزي شنباات يا أم شيتوس ومارشيملللو انتِ.
ابتسمت بسعادة غامرة وجلب لها الأشياء ثم ذهب إليها وهو يمد يده وعلى وجهه ابتسامة رجولية:
ـ اتفضلي يا صغنن يا متدلع، يحق لك الدلال ياست "رحمة" ، هاتي يالا المفاتيح علشان نمشي الشمس حارقة .
شهقت برعب :
ـ وه أني مشلتهوش من العربية وقفلتها ونسيته جواها والشبابيك مقفولة.
اتسعت حدقتاه ليردد بذهول:
ـ نهارك مش فايت يابت "سلطان"، هتتكلَمي صُح عاد ؟
ارتعبت بشدة من هيئته ونبرته الغاضبة وابتلع الكلام على لسانها ليقول بغضب وهو يخلل أصابعه بين خصلات شعره الفحمي:
ـ علشان لما أقول إني متجوَز عيلة تُبقى تصدقي يا هانم، خرجتِ من العربية وجريتي منها كيف العيال ،وهي جواها المفتاح والشبابيك مقفولة واحنا في صحرا! وعلشان نطلب اوبر هيقعد كَتير على ما ياجي لنا، ولسه فاضل 10 دقايق بالعربية على الفندق، يعني مشي مش اقل من 25 دَقيقة، علشان تعرِفي انك شايله دماغك وحاطة مكانها صرمة قديمة، من يوم ما عرفتك وانتِ اكده، هوائية ومتسرعة،
ثم هدر بها وهو يجز على أسنانه:
ـ انطقي هنعمل ايه دلوك يا ام شيتوس ومارشميللو، أهي داي لعنة ربنا لما هقول لك الشيتوس دي مقاطعة، اهو كان وشه فقر علينا، ما هو ايه اللي هياجي من الغرب يسر القلب!
أدمعت عينيها من عصبيته وصياحه بها وهي تتناول حبات المارشيملو، وتقول من بين شفاها التي تتحرك بمضغه:
ـ الله نسيت هو النسيان كمان ليه عقاب حداك وانت هتزعِق لي .
ابتسم رغماً عنه على بكائها مع مضغها الحلوى ليسحبها ناحية صدره مقبلاً رأسها:
ـ والله العظيم متجوَز عيلة وهتجننيني معاكِ، يابت "سلطان" ، يالا كويس ان شنطتك وياكِ، واني كمان موبايلي وحاجتي الشخصية معاي، وهبقى ابعت حد ياخد العربية ويجيبها لي على الفندق، هنضطر ان احنا نمشي التلت ساعة دول، يالا يا حظي المزعج.
صفقت بكلتا يديها وهي تبتلع حبات الحلوى مرة واحدة لتنتفخ وجنتيها كالأطفال:
ـ صوح هنمشي ويا بعض وانت هتحط يدك في يدي زي اي حبيب وحبيبته يا "ماهر"؟
ابتسم على هيئتها وردد بقلة حيلة وهو يمد يده العريضة وسكنت كف يدها الصغير باحتواء:
ـ ياغلبك يا "ماهر" وقعت في واحدة هبلة مجنونة وبميت حالة.
دفعته بصدره لتقول وهي تخرج لسانها كما الأطفال:
ـ هو اني اكده ، هحيرك، وأغيرك، وأخليك تتجنن مني، بس اعترف انك مبسوط وياي.
ـ أني مش مبسوط بس؛ أني من شدة الانبساط هطق، يالا يا ماما صدعيني في الحبة اللي همشيهم جارك .
ظلا لك الطريق يتحدثان كعاشقان أعطاهم الزمن فرصة لتلك الخطوات التي لم تحدث منذ أن تعرفها على بعضهم،
كان المساء قد هبط على المدينة بملمسٍ من حريرٍ هادئٍ، والأنوار تنثر دفئها في طرقات الفندق كأنها خيوط حبٍّ تُنسَجُ حول قلبيهما، سار "ماهر" بجوارها في الممر الطويل، يمسك بيدها في هدوءٍ مهيب، كأنّه يخشى أن يبدّد سكون اللحظة بكلمةٍ أو نفسٍ زائد، كانت تسير بجانبه، لا تعلم ما يخبّئه لها، لكنّ في عينيه بريقًا غريبًا يوحي بأنّ شيئًا مختلفًا ينتظرها خلف الباب الذي يقتربان منه،
وحين فتح الباب، تراجع النور ببطءٍ ليكشف عن مشهدٍ لم ترَ مثله من قبل، كانت الغرفة تفيض دفئًا وأناقة؛ الستائر الحمراء تتدلّى كوشاحٍ مخمليٍّ على الجدران، والمصابيح تُرسل أضواءها الناعمة كأنها تهمس للمكان بأن يصمت احترامًا للحب، تناثرت القلوب والورود الحمراء على الفراش والوسائد، كأنّ أحدهم بعثر أنفاسه في كلّ زاويةٍ ليصنع عالمًا من العشق والدهشة، وعلى الطاولة الصغيرة، تمايلت شموعٌ بيضاء داخل كؤوسٍ من الزجاج، تعكس نورها على جدرانٍ مزيّنةٍ بورودٍ حريريةٍ تتشابك بلونٍ كالأحلام،
تقدّمت "رحمة" بخطواتٍ متردّدة، تتأمل المكان بعينين متّسعتين كأنها تخشى أن تضيّع لحظةً من هذا الجمال، لم تتوقّع أن يكون ما تراه حقيقة، كانت المفاجأة أكبر من قدرتها على الاستيعاب، كلّ شيء في الغرفة يحدّثها عن رعايةٍ لم تعرفها من قبل، عن رجلٍ أراد أن يصوغ لها لحظةً تليق بأنوثتها المشتعلة وعمق قلبها،
وعلى السرير الوثير، وُضعت علبةٌ صغيرةٌ مغلّفةٌ بشريطٍ أحمر، بدت كسرٍّ ينتظر أن يُكشف بلمسةٍ من يديها، ابتسم لها بعيناي تفيض عشقاً وهو يترك يدها وربع ساعديه أمام صدره واستند على الجدار وهو يرسل لها نظرات عاشقة أن تقترب من الصندوق الملقى على التخت وترى هديته،
اقتربت من الهدية وقد سكنها الارتجاف، ومدّت يدها لتفكّ الشريط بخفة، فانفرط منه العطر الذي خالط أجواء الغرفة، كأنّ الهواء نفسه قرّر أن يحتفل، فتحت الغطاء ببطءٍ، وحين رأت ما بداخل العلبة، تجمّد الزمن في عينيها لحظةً، ثم ابتسمت ابتسامةً خافتةً ترتجف فيها الدهشة والامتنان معًا، كان الفستان القرمزيُّ يختبئ في ثنايا الورق الناعم كقصيدةٍ لم تُتْلَ بعد، يلمع كقطعةٍ من ليلٍ صيفيٍّ أضاءته نجمةُ حبٍّ وحيدة،
رفعت الفستان بين يديها، فتدلّى ناعماً، يعانق الضوء ويلعب به، كأنه يعرف أنّه خُلق ليكون عليها وحدها، شعرت للحظةٍ أنّ قلبها يدقُّ على إيقاعٍ جديد، ليس كأيّ إيقاعٍ عرفته من قبل، وكأنّ هذا الثوب لم يُخَطَّ ليُلبَس، بل ليُحتفى به على ملامحها بالذات، احتضنت الهدية بين صدرها وهي تقربه من أنفها تشم رائحة العطر المفضل لها، اقترب منها ونزع حجابها عنها، وفك رباط شعرها فانسدل على ظهرها،
دفن يديه بين رقبتها فتململت بوجهها بين يديه بنعومة، فقبلها من عينيها المغمضتين ليقول بهمس أجش خشن بجانب أذنها:
ـ عايز أشوفه عليكِ دلوك يا وحش، آه وكل سنة وانتِ طيبة بمناسبة عيد الحب، حبيت الاحتفال بيه يكون مميز ومختلف .
ابتلعت أنفاسها بصعوبة وقد تبعثرت مشاعرها وتفكك جسدها من همسه الخشن، ثم اختفت داخل الغرفة الجانبية، وخرجت بعد دقائق قليلة،
كانت تلك الدقائق كعمرٍ طويلٍ بالنسبة إليه، وقف أمام الشرفة يراقب انعكاس المدينة على الزجاج، يسرح في فكرةٍ واحدةٍ لا تفارقه؛ كيف يمكن للحب أن يعيد ترتيب الفوضى في داخله بهذه السهولة؟
وحين عادت، كانت الغرفة كلّها كأنّها توقفت عن التنفّس، لم يعد هناك شيءٌ يتحرك، حتى ألسنة الشموع تراجعت عن اهتزازها، كأنها خضعت للدهشة، ظهرت "رحمة" بثوبها القرمزيّ، والفستان يحتضنها بأنوثة أنيقة، لا يجرؤ على المبالغة في شيء، بل يكتفي بأن يهمس بأنّ الجمال قد اتّخذ شكلاً بشريًّا الليلة، كان اللون يضيء بشفافيته على بشرتها كأنه صُنع ليتحدّ مع ضوء عينيها، وكانت أنوثتها تتجلّى في كلّ سكونها لا في حركتها، في نظرتها التي تجمع بين الخجل والفرح، وفي بسمةٍ هادئةٍ تشبه وعدًا بالصفاء،
ظلّ واقفًا للحظةٍ طويلة، لا يجد في الكلمات ما يليق بالمشهد، فالعين وحدها كانت قادرةً على النطق، بدا له أنّها أجمل من كلّ ما تصوّره أو تمنّاه، وأنّ المفاجأة التي أعدّها لها انقلبت عليه هو؛ إذ صار هو المبهور، وهو المأسور، وهو الذي شعر أنّ قلبه يتهدّج من شدّة الانبهار،
تقدّمت نحوه بخطوةٍ خفيفةٍ، وانعكس ضوء الشموع على وجهها كأنّه تاجٌ من دفءٍ ونعومة، كانت تلك اللحظة تُشبه ما بين الحلم واليقظة، وما بين الكلام والصمت، لا شيء يمكن أن يُقال، لأنّ اللغة خذلت كليهما أمام هذا النقاء الهادئ،
وقفا متقابلين، والهواء بينهما مليءٌ بعطرٍ جديدٍ، عطرٍ يحمل مزيجاً من المسك والورود ومن دقات القلب أيضًا، كانت "رحمة" تدرك أن هذه المفاجأة لم تكن مجرد احتفالٍ عابرٍ بعيدٍ للحب، بل كانت تصالحاً خفيًّا بين قلبين أنهكتهما المسافات والصمت، وبدايةً لصفحةٍ أخرى، كتبتها أضواء الشموع فوق جدران الغرفة بلونٍ من الحنين الهادئ ثم قال :
ـ بطل، قسماً بالله بطل يابت "سلطان" ، أخدتي الجمال كلاته لحالك ومسيبتيش حاجة لبقية بنات حواء، من الاخر دوبتيني.
عضـ.ـت على شفتيها السفلي بخجل من نظراته وهمساته لتحتضن رقبته بيديها ورفعت قدميها بكل جهدها لكي تصل إلى وجهه وقبلته بنعومة من وجنته لتهمس بنعومة ورقة ودلال وبنبرة حالمة هادئة لأول مرة يسمعها منها :
ـ ميرسي لذوقك ولهَديتك والمفاجأة القمر دي ، اني دقات قلب مهتبطلش جوة صدري هتكسر ضلوعي ، إنت فاجئتني وفرحتني وكل حاجة هتطلبها مني النهاردة هقول لك سمعا وطاعة.
داعب وجنتيها بأنامله وسألها بمكر:
ـ كل حاجة كل حاجة؟
حركت رأسها ببسمة رقيقة وتابع هامسا بم بعثر كيانها:
ـ النهاردة بالذات عايزك ناعمة ، معايزش شراسة، عايز اجرب إحساس جَديد وياكِ، إحساس الاحتياج لكل تفصيلة بيني وبينك .
تنفست بصعوبة من فرط احساسها بهمساته ولمساته وهتفت بدلال:
ـ من العين داي قبل داي، اني هسقيك الهنا الليلة دي لحد ما تقول؛ بزياداكي عاد يابت "سلطان" اني اكتفيت .
جذبها إلى صدرها بعـ.ـنف حتى ارتطمت بعظام صدره وقال بنفي واثق وهو يغمز لها بشقاوة:
ـ اني مهكتفيش واصل بس انتِ أبهريني.
ثم نظر إليها بعينين تملؤهما المكر وقال مبتسمًا:
ـ في حاجة مجربتهاش وياكِ من يوم مااتجوَزنا ، رايدك ترقصي لي .
التمعت عينيها بخجل لأول مرة بنظرة أربكته وجعلت عينيه تلتمع هو الآخر بلهفة لتردد بطاعة فقد شغفها حباً تلك الليلة:
ـ بس اكده، طب امسك قلبك بقى واني هبهرك.
أشعلت الموسيقى على غنوة "الليل وسماه ونجومه وسهره" وقامت بخطواتٍ خفيفةٍ، كأنّ الأرض تهمس تحت قدميها، تتحرّك برقّةٍ تشبه نسمة المساء حين تُداعب أوراق الورد، يتمايل ظلّها على الجدار كقصيدةٍ حيّةٍ تُنشد للحبّ والجمال، وفي عيني "ماهر" كانت كلّ حركةٍ منها وعدًا بالحياة، قرب منها بعدما أذاقته الصبابة في عشقها وحركاتها ،
واعترف بصوت خشن كأنه سرّ وهو يحتضن وجنتها بكف يده:
ـ بحبك يا رحمتي، والليلة دي مش عايز أقول فيها غير اكده.
ابتسمت بخجل وقالت بعينين لامعتين :
ـ وأني كمان معايزاش أسمع غيرها.
ثم اقترب منها بخطواتٍ واثقةٍ بطيئةٍ تحمل ما بين السكون والعزم معنى الرغبة في الاقتراب، ثم مدّ يده برفقٍ حتى التقت أصابعه بأطراف يدها المرتجفة، كأنّه يختارها من بين العالم، شدّها نحوه في صمتٍ عميقٍ لا يُسمع فيه إلا أنفاسهما المتلاحقة، وعيناه لا تفارق ملامحها التي ذابت خجلًا، همس باسمها وهو يذوب بها، ثم سار بها إلى عالَمهما الخاص، حيث يذوب الكلام وتبقى النظرات وحدها تروي ما عجزت عنه الحروف.
