رواية حنين الفصل الخامس بقلم امل عبدالرازق
في المستشفى — غرفة الكشف
كانت سارة جالسة على الكرسي، ووشها باهت كأنه اتسحب منه الدم، بتتابع حركة الدكتور بعينيها وهي تحاول تمسك طرف أمل.
الدكتور بصوت هادي لكنه حاسم:
النتائج طلعت يا مدام سارة… للأسف الكلى مش شغالة بالكفاءة الطبيعية. في فشل كلوي واضح، ولازم نبدأ غسيل فورًا.
سارة بصوت متقطع، تحاول تخفي رعشة إيديها: يعني… يعني مافيش أمل يا دكتور؟ مافيش علاج تاني؟ يمكن التحاليل غلط؟
هز الدكتور رأسه بأسف: أتمنى أقدر أقولك كده، بس دي الحقيقة. الغسيل ضروري وإلا الحالة هتسوء بسرعة.
سكت لحظة وهو يضيف بنبرة طيبة:
بس كل حاجة في إيد ربنا، أهم حاجة نبدأ بدري.
لكن كلامه ما وصلش لعقلها، كانت حاسة الدنيا بتسود قدامها، الأصوات حواليها بقت بعيدة كأنها تحت المية.
قامت من مكانها وهي مش شايفة قدامها.
خرجت من الغرفة بخطوات مهزوزة، تسند على الحيطة، وتهمس لنفسها بصوت مبحوح:
– يا رب… يا رب أنا غلطانة، دمرت حياة ابني بإيديا… دا أنا حتى ما سبتلوش فرصة يعيش بسلام.
كان نفسي أطمن عليه بس، أشوفه سعيد، دا كل اللي كنت بطلبه، ودا الدافع اللي كان بيحركني، كان نفسي يبقى عنده عزوة وسند، لكن خلاص أنا عرفت إني غلط بس الوقت اتأخر أوي وبقى تعيس بسببي، ومش عارفه اواجهه، وظلمت مراته وفرقتهم عن بعض، فرصة واحدة أصلح بيها غلطتي.
(تضع يدها على صدرها وهي ترتجف):
أرجوك يا رب… متعاقبنيش في صحتي… خُد أي حاجة إلا دي، خليني بس أطمن عليه قبل ما أمشي.
جلست على مقعد في الممر، ودفنت وشها في كفيها تبكي بهدوء، كأنها بتبكي على عمر كامل من الذنوب والخوف والندم.
_______
خرج أمير من قسم الشرطة تائهًا بين الزحام والأفكار.
كان الهواء ثقيلًا، والشمس تميل إلى الغروب ببطء، كأنها تُودّع يومًا طويلًا من العذاب.
جلس على مقعدٍ عامٍّ أمام القسم، عيناه شاردتان في الفراغ، وصراعه الداخلي يشتعل بين ألف فكرة.
تمتم بصوتٍ خافت، يكاد لا يُسمع:
ـ إزاي وصلت لهنا؟ فين كانت البداية؟ وامتى اركتبت غلطتي الأولى في حق حنين؟ عملتي إيه يا ماما لازم أعرف الحقيقة عشان اعرف اعيش مرتاح.
أسند ظهره إلى المقعد وأغمض عينيه...
فانسحب وعيه شيئًا فشيئًا إلى ذلك اليوم في الإسكندرية.
_____
(فلاش باك)
الإسكندرية — مطعم مطلّ على البحر
بعد مكالمة أحلام، لم يستطع أمير أن يمنع نفسه.
قرر أن يذهب للقائهما دون أن يُخبر والدته.
كانت الأمواج تتلاطم بخفّة على الشاطئ المقابل للمطعم، بينما جلس أمير على الطاولة المنتظَرة بملامح متوترة، يعبث بكوب الماء أمامه وكأنه يحاول الهروب من نظرات النادل الفضولية.
لم تمضِ دقائق حتى دخلت أحلام ورشاد، وبدت الدهشة في عيونهما، فليس من السهل أن يلتقيا بالشاب الذي كسر قلب ابنتهما يومًا.
وقف أمير فورًا، صافح رشاد باحترام، ثم سحب الكرسي لأحلام قائلاً بصوت خافت:
أنا ممتن إنكم وافقتوا تقابلوني، عارف إن حضراتكم كان عندكم كل الحق ترفضوا.
رد رشاد بهدوء:اتكلم يا ابني، إحنا سامعينك.
تنفّس أمير بعمق، كأنه بيستجمع الشجاعة اللي غابت عنه شهور، وقال:
أنا جاي أعتذر… أعتذر عن كل لحظة ظلمت فيها حنين، عن كل كلمة وجعت قلبها، وعن كل ضعف خلاني أختار أسهل طريق وأبعد عنها بدل ما أتمسك بيها.
سكت لحظة، وبص في البحر من ورا الزجاج، ثم أكمل بصوت مبحوح:
- أنا ما نسيتهاش يوم واحد، يمكن اتلخبطت، لكن قلبي عمره ما بدّل مكانها.
أحلام كانت بتتابع كلامه بعيون فيها خليط من حزن وشك، فسألته بهدوء:
- طيب، والنهارده جاي تقول إيه بالظبط؟
ابتسم أمير بخجل: جاي أقول إني بحبها، وعايز أصلّح كل حاجة.
أنا بدأت أجهز شقة جديدة في إسكندرية، بعيد عن أمي وعن أي ضغط… في نفس المنطقة اللي حنين بتحبها، وعايزها هي اللي تفرشها بإيديها، كأننا بنبدأ من الأول.
مش فارق معايا غير إنها تكون بخير وسعيدة، وإنها توافق نرجع لبعض.
تبادلت أحلام ورشاد النظرات، قبل أن تقول أحلام بصوت متماسك: مصدقاك يا أمير، وواثقة فيك، بس احنا على البر دلوقتي… يا تتقي ربنا في بنتي وتكون قد كلامك وتبعدها عن المشاكل، يا إما تسيبها في حالها وتشوف طريقك.
حنين اتكسر فيها حاجات كتير، وأي غلطة منك المرة دي مش هتتصلح.
قال رشاد وهو ينظر إليه بثبات: الصراحة، أنا مكنتش مصدق إنك هترجع بعد اللي حصل، بس لما كلّمتني بنفسك من تاني يوم، وقلت عايز تصلّح كل حاجة، قلت يمكن ربنا هداك ونور بصيرتك.
ربنا يصلح حالكم وتقدر تراضي حنين والأهم تحافظ عليها.
أمير بص ليهم بإصرار وقال: وعد… المرة دي مختلفة، ومش عايز منكم غير طلب واحد بس.
محدش يقول لحنين أي حاجة عن المقابلة دي، كل حاجة هتتصلّح إن شاء الله، بس بطريقتي.
قال بهدوء وهو بيبص ناحية البحر: هي بتحب المكان دا… يمكن لما نرجع هنا تاني تبقى جنبي المرة الجاية.
______
تلاشت الأصوات القديمة من ذاكرته ببطء، وتحول هدير البحر إلى ضجيج الشارع من حوله.
عاد إلى وعيه على أصوات السيارات وأبواقها، وصياح الباعة، وحركة الزحام التي لا تهدأ.
رمش بعينيه كمن يحاول طرد بقايا حلمٍ أثقل قلبه، وألقى نظرة حائرة حوله.
تنفّس بعمق، ومسح جبينه بيده، ثم قال بصوتٍ منخفض، كأنه يخاطب نفسه:
ـ لأ… كفاية هروب. لازم أتكلم مع أمي.
يمكن أول مرة أحس إن الكلام معاها هو اللي ممكن يغير كل حاجة.
_____
عاد أمير إلى البيت متعبًا، ملامحه تائهة بين التفكير والندم.
فتح الباب ببطء، فاستقبله صمت ثقيل يخيّم على المكان.
لمح أمه جالسة على الأريكة، وجهها شاحب كأن الدم قد فارق وجنتيها، وعيناها غائرتان تعبًا وألمًا.
اقترب منها بخطواتٍ سريعة وقد ارتجف صوته:
أمير: مالك يا أمي؟ شكلك تعبان أوي!
رفعت سارة عينيها إليه، وفيها بقايا دموع، ثم قالت بصوتٍ مبحوح وهي تحاول التماسك:
سارة: سيبك من شكلي دلوقتي، تعال معايا.
أمسكت بيده وساقته نحو غرفتها بخطواتٍ بطيئة.
جلسا سويًا على طرف السرير، مدت يدها المرتجفة إلى درجٍ قديم، أخرجت منه صورة قديمة له وهو طفل صغير، ونظرت إليها طويلاً قبل أن تبتسم بحزن.
سارة (بصوتٍ مرتعش):
معنديش أغلى منك يا ابني... يمكن حبي ليك هو اللي خلاني أنانية.
ظلمتك إنت ومراتك، وفرّقتكم عن بعض، وأنا كنت فاكرة إني بحميك.
بس الحقيقة... كنت بغلط.
أنا مش وحشة يا أمير، أنا أم... كنت فاكرة إن ابني لازم يبقى عنده ولاد وعزوة، ومش مهم أظلم مين في الطريق.
مكنتش عارفة إن راحتك مع اللي بتحبها أهم من كل ده.
ظل أمير صامتًا، ينظر إليها بعينين دامعتين، وصدره يعلو ويهبط مع كل تنهيدة.
اقترب أكثر، وكأنه يخشى أن تفلت منه لحظة صدقها تلك.
سارة (وهي تبكي):
سامحني يا أمير... وقول لحنين تسامحني. أنا كنت السبب في تعبكم.
نهضت بخطواتٍ واهنة، وفتحت خزانتها القديمة، أخرجت مفتاحًا صغيرًا من تحت وسادتها، وفتحت به درجًا داخليًا مغلقًا بإحكام.
يدها كانت ترتجف وهي تُخرج ورقة مطويّة بعناية، ناولتها له قائلة بصوتٍ متقطع
سارة: دي الورقة الحقيقية اللي حنين سابتها... أنا اللي كتبت غيرها وبدّلتها. خد، اقرأها.
أخذها أمير بلهفةٍ ويده ترتعش، فتحها ببطء، وعيناه تمتلئان بالدموع مع كل كلمة يقرؤها.
ابتسم ابتسامة حزينة وقال بصوتٍ مبحوح:
أمير: كنت حاسس إن في حاجة غلط... أيوه... دا خط حبيبتي، خط حنين.
رفع نظره نحوها، وعيونه تلمع بحرقة
أمير: ليه عملتِ كده يا أمي؟ ليه دايمًا بتعملي اللي يخسّرك الناس اللي بتحبيهم؟ أنا مستاهلش منك كده.
مدّت سارة يدها تمسك كفّه، دموعها بتنزلق على خدّها وهي تتوسل
سارة: سامحني يا ابني، أنا ندمانة..والله ندمانة.
هروح لحنين بنفسي وأقولها كل حاجة، بس متبعدش عني، أرجوك.
توقف لحظة ثم سألها بصوتٍ متهدّج يخالطه الغضب
أمير: إيه علاقتك بكوثر؟
أطرقت رأسها، ثم قالت بعد صمتٍ ثقيل
سارة: عرفت إن حنين جاتلك المستشفى، فكلمت كوثر... قلتلها تعمل اللي عملته يومها، بس هي زوّدت من عندها حاجات أنا ما قولتهاش.
تجمّد أمير في مكانه، الصدمة تشلّ لسانه، وصوته يخرج مخنوقًا
أمير: لييييه؟! ليه كده ؟! حرام عليكي...
انهارت سارة بالبكاء، ثم مدت له بعض الأوراق والتحاليل وهي تلهث من التعب
سارة: أنا في آخر أيامي يا أمير... عندي فشل كلوي، خلاص نهايتي قربت.
سامحني يا ابني... سامح أمك، بلاش تخليني أموت وأنا شايلة ذنبك، أرجوك... سامحني، أنا ندمانة.
نظر إليها أمير طويلاً، وجهه غارق في الحزن، وصدره يضيق كلما رأى ضعفها.
اقترب منها بخطواتٍ بطيئة وقال بصوتٍ مبحوح
أمير: ربنا يسامحك يا أمي.
ثم استدار وخرج من الغرفة، لكن قلبه كان يصرخ بداخله.
توقف عند الباب، التفت ليعود...
دخل الغرفة من جديد، فوجدها واقعة على الأرض، وجهها شاحب، ونفسها انقطع.
تجمّد مكانه، صرخ بصوتٍ مبحوح
أمير: أميييي!!
وانهار بجوارها، يحتضنها والدموع تنهمر على يديه المرتجفتين.
_______
نُقلت سارة إلى المستشفى على وجه السرعة، وجوه الأطباء والممرضين متوترة، وصوت الأجهزة يملأ أروقة الطوارئ.
وقف أمير خارج غرفة الإنعاش، عيونه معلّقة بالباب، ويداه متشابكتان بقوة كأنه يتمسك بالحياة من أجلها.
خرج الطبيب بعد دقائق ثقيلة، وقال بنبرةٍ جادة فيها بعض الاطمئنان:
الطبيب: الحمد لله قدرنا نرجّع قلبها للحياة، بس حالتها لسه حرجة شوية... النهارده لازم تبدأ أول جلسة غسيل كلى.
أومأ أمير برأسه دون أن ينطق، والدموع محبوسة في عينيه.
دخل الغرفة بخطواتٍ مترددة، يده ترتجف وهو يمسك مقبض الباب.
كانت سارة على السرير، وجهها شاحب كالقمر المنطفئ، أنفاسها متقطعة، وعيونها مغمضة، تحيط بها الأجهزة والأنابيب.
اقترب منها ببطء، جلس إلى جوارها، أمسك يدها بين يديه بحنان، وانحنى رأسه عليها وهمس بصوتٍ مرتجف:
أمير: يا رب... دي أمي.
مهما عملت، دي أمي يا رب... ساعدني أقدر أسامحها.
يا رب، خُد منها الوجع، وادّيها فرصة تتوب وترتاح.
اشفيها يا رب، أنا مش قادر أشوفها كده.
انهمرت دموعه على يدها الباردة، فارتعشت أصابعها ببطء.
رفع رأسه في ذهول، ثم رأى سارة تفتح عينيها بهدوءٍ شديد، تنظر إليه بنظرةٍ مفعمة بالحزن والرجاء.
مدّت يدها الأخرى، نزعت عنها جهاز الأكسجين بصعوبة، وقالت بصوتٍ متهدّج:
سارة: روح... روح لمراتك يا ابني.
أمسك يدها بقوة وهو يهز رأسه نفيًا:
أمير: هروح... بس لما أطمن عليكي الأول.
ابتسمت ابتسامة باهتة، والدمعة تلمع في عينيها، وقالت بصوتٍ واهن
سارة: أرجوك... روح دلوقتي.
قولها تسامحني... ورجّعها بيتها.
تساقطت دموع أمير وهو ينظر إليها، يلمس وجهها برفق كأنه يخشى أن تتلاشى بين يديه.
اقترب منها وهمس:
أمير: حاضر يا أمي... بس قومي الأول.
________
بعد أن اطمأن أمير على استقرار حالة أمه، خرج من المستشفى وقلبه مثقل بالعواطف.
الطريق إلى الإسكندرية كان طويلًا، لكنه لم يشعر بالمسافة؛ كانت أنفاسه تتسارع مع كل دقيقة، كأن البحر يناديه إليها من بعيد.
كل ما في داخله كان يتوق لرؤية حنين، لصوتها، لنظرتها الأولى بعد الغياب الطويل.
وصل مع غروب الشمس، والهواء المالح يملأ صدره بشجنٍ دافئ.
وقف أمام بيتها، تردّد قليلًا ثم طرق الباب بخفةٍ وقلق.
فتحت والدتها الباب، تفاجأت برؤيته، ثم أطرقت رأسها وقالت بنبرةٍ دافئة يشوبها بعض الحرج
أحلام: معلش يا ابني... مقدرتش أكتم السر عنها.
عرفتها إننا اتقابلنا... وقلتلها على كل اللي حصل.
ابتسم أمير ابتسامة متعبة وقال بصوتٍ ملهوف
أمير: مش مهم يا طنط... هي فين دلوقتي؟ أنا عايز أشوفها... وحشتني أوي.
نظرت إليه الأم بعينين تملؤهما الشفقة وقالت: لسه مرجعتش، بتطلع من الشغل في الوقت ده، وتروح تقعد شوية قدام البحر.
انت عارف مكانها المفضل... هناك عند الكورنيش.
زمان عمك رشاد رايح عندها دلوقتي.
رفع أمير نظره نحو الأفق، كأن قلبه عرف الطريق دون تفكير.
قال وهو يتحرك بسرعة
أمير: عارف... عارف هي فين. بعد إذنك يا طنط، هروح أقابلها.
خرج مسرعًا، خطواته تسبق أنفاسه، والهواء الساحلي يصفع وجهه كأنه يوقظه من الحلم.
كل خلية في جسده كانت تردد اسمها...
حنين.
______
كانت حنين تجلس أمام البحر، وحدها، تحدّق في الموج الممتدّ كأنها تبحث فيه عن ملامح وجهٍ غاب عنها.
الهواء البارد يعبث بخصلات شعرها، وهدير الموج يمتزج بخفقان قلبها الحائر.
أخرجت هاتفها بتنهيدة طويلة، وما إن فتحته حتى انهالت عليها رسائل أمير، واحدة تلو الأخرى.
بدأت تقرأها والدموع تنهمر على خديها دون أن تشعر، تهمس بصوتٍ مكسور:
"يا رب... قلبي لسه بيحبه... أعمل إيه؟"
وفجأة، جاءها صوت خلفها، بصوتٍ مألوفٍ يحمل دفءَ الذكريات:
"الليل وسماه... ونجومه وقمره... وإنت وأنا يا حبيبي أنا..."
ابتسمت بمرارة وهمست:
"حتى صوتك بقى بيطاردني في خيالي..."
لكنها شعرت بلمسةٍ دافئة حين وضع أحدهم معطفه على كتفيها.
تجمّدت لحظة، ثم التفتت ببطء، لتجده واقفًا خلفها، يفتح ذراعيه وعينيه تفيض بالشوق.
قال بصوتٍ عالٍ:
"بحبك يا حنين... ومقدرش أعيش من غيرك.
الأيام اللي فاتت شوفت فيها المرّ كله، كنت ميت، روحي كانت بعيد عني.
سامحيني وارجعي لحياتي... أوعدك، مش هيكون في وجع تاني،
مش هيزورنا غير الفرح...
إنتِ عندي بالدنيا كلها، وحشتيني، وكلي حنين ليكِ... يا حنيني."
تجمّدت الكلمات على شفتيها، وارتجف قلبها بين خوفٍ ولهفة، بين عقلٍ يذكّرها بالوجع وقلبٍ لا يعرف سوى اسمه.
نظرت إليه طويلًا، كأنها تحاول التأكد أنه حقيقة لا خيال.
قالت بصوتٍ مرتجف:
"ليه رجعت دلوقتي يا أمير؟ بعد كل اللي حصل؟ بعد ما حاولت أنسى وأبدأ من جديد؟"
اقترب منها خطوة بخطوة، وعيناه لا تفارق وجهها، كأنهما تستجديان الغفران قبل الكلام.
"رجعت لأنك إنتِ البداية والنهاية... لأن عمري واقف عندك من يوم ما مشيتي."
سكت لحظة ثم أضاف بنبرة صادقة:
"كل حاجة فيا كانت ناقصاكِ... حتى نفسي كنت ناسيها. صدقيني، ما بقيتش عايز حاجة من الدنيا غير إنك تسمحيلي أكون جنبك تاني."
انخفضت نظراتها نحو الرمال، دموعها تسقط في صمت.
كانت تريد أن تكرهه، أن تصده، لكن صوته كان يذيب كل جليدٍ داخلها.
همست وهي تبكي: إنت وجعتني يا أمير... وجعتني لدرجة ما كنتش قادرة أتنفس من غير دموع.
اقترب أكثر، رفع يده بخفّة ليمسح دموعها، وقال بلطفٍ مرتعش:
خليها آخر دمعة، أرجوكِ... أنا هنا، ومش هسيبك تاني.
رفعت عينيها إليه، ونظرة طويلة امتدت بينهما، كأنها تختصر كل الفصول التي مرّت بين الفراق واللقاء.
ترددت لحظة، ثم تركت رأسها تستند إلى صدره بصمتٍ يشبه الاعتراف.
حينها فقط، ابتسم البحر.
______
كانت شمس الإسكندرية تميل نحو الغروب، تصبغ البحر بلونٍ ذهبيٍّ يشبه الحنين.
جلس أمير بجوار حنين في شقتها الصغيرة المطلة على الموج، يراقبها بابتسامة.
منذ عامٍ كامل تغيّر كل شيء؛ أما والدته، فقد استقرت حالتها و جلب لها أمير مُساعدةً لتُعينها في شؤون البيت وتعتني بها في غيابه، وكان يحرص على زيارتها كل أسبوعٍ بنفسه، يجلس معها، يطمئن عليها، ويملأ بيتها بالضحكات التي غابت طويلًا.
وهو صار يعمل في أحد المستشفيات هناك بالإسكندرية، بينما ترك الماضي خلفه يحرسه الصمت.
ولم يخبر حنين بما اكتشفه عن والدته، لا يريد أن يحمّل قلبها ما لا يحتمل.
نظر إليها بقلق وقال:
— حنين، بلاش تعاندي تاني، وشك مصفّر جدًا من الصبح.
ابتسمت بخفوت وهي تمسك بيده: دي بس دوخة بسيطة يا أمير، يمكن من الزحمة.
هز رأسه بإصرار: زحمة إيه بس؟! ده أنا هاخدك على المستشفى دلوقتي وبالعافية، ومش هسمع ولا كلمه.
ضحكت بخفّة رغم تعبها: بالعافية؟ طب ماشي يا سيدي، بالعافية.
في المستشفى، جلس بجوارها متوترًا بينما الطبيبة تفحصها بابتسامة مطمئنة.
سألها بقلقٍ ظاهر:
في إيه يا دكتورة؟ هي كويسة؟
ابتسمت الطبيبة وقالت بنبرة دافئة: كويسة جدًا يا أستاذ أمير... بس السبب في الدوخة مش تعب.
رفع حاجبيه متعجبًا: يعني إيه؟
ضحكت الطبيبة وهي تنظر إلى حنين:
مبروك يا جماعة… حضرتك حامل في الشهر التاني.
تجمّد الكلام على لسان حنين، بينما عينها امتلأت بالدموع من غير ما تنطق.
أما أمير فظل ينظر إليها مذهولًا لحظة، ثم ضحك وهو يمسك بيدها بقوة:
— بجد يا دكتورة؟ يعني أنا هبقى أب؟
أومأت برأسها مبتسمة.
التفت إليها وهو يهمس بصوت مرتجف بين الفرحة والدموع:
شايفة يا حنين؟ ربنا عوّضنا بعد كل اللي فات…
أخفضت رأسها والدموع تنساب على خدّها، ثم همست بصوتٍ خافتٍ متقطع:
— الحمد لله يا أمير… الحمد لله.
ضمّها إلى صدره برفق كأنه يخشى أن يؤلمها، وصوت البحر بالخارج كان كأنه يصفّق لهما،
يبارك بداية حياةٍ جديدة وهادئة بعد أعوامٍ طويلة من الألم.
انتهت احداث الرواية نتمني أن تكون نالت اعجابكم وبانتظار آراءكم في التعليقات شكرا لزيارتكم عالم روايات سكير هوم
شكرا لزيارتكم عالم روايات سكيرهوم
