![]() |
رواية ما ذنب الحب الجزء الثاني من رواية ضحايا الماضي الفصل السادس عشر بقلم شهد الشوري
دخل ياسين غرفة أخته صافي بخطواتٍ حذرة، لكن وقع أقدامه كان كأنه يزلزل الأرض تحتها، كانت متكورة على نفسها عند طرف السرير، كتفها يرتجف، ووجهها شاحب كأن الحياة فرت منه، ما إن رفعت عينيها نحوه حتى انكمشت أكثر، كأن حضوره ثقل فوق جراحها !!!
اقترب وجلس إلى جوارها دون أن يلمسها، لكنه ترك مسافة مشتعلة بالغضب والوجع، تنفس بعمق، ومع أول كلمة خرج صوته مليء بالحزن والعتاب :
عملتي كده ليه، كان ناقصك إيه عشان توطي راسنا بالشكل ده، ابوكي وأمك ذنبهم إيه يعيشوا بالعار ده قدام الكل، وراسهم في الأرض بسببك، ابنك اللي هتخلفيه من الحرام ده ذنبه ايه عشان يجي الدنيا في الظروف دي، امك وابوكي عمرهم ما قصروا معاكي في حاجة عشان يكون ده جزائهم !!
كانت كلماته تنهال عليها كالصفعات، كل واحدة تشق قلبها نصفين، لم تحتمل اكثر.......فانفجرت باكية !!
بكاءٌ ليس مجرد دموع، بل صراخ روح محطمة، بكاء يجرح الأذن والروح معًا
نظر إليها ياسين، والغضب يذوب شيئًا فشيئًا أمام انهيارها، ردد بصوتٍ لينًا اكثر من قبل لكنه محمل بقهر لا حدود له :
ردي قولي انك اتغصبتي، واجبرك على كده
قولي إن تربية أبوكي ما راحتش فـ الأرض
قولي إنك مش ممكن تعملي كده برضاكي
قولل أي حاجة، أي كلمة تطفي النار اللي ولعتيها في قلوبنا
رفعت رأسها، وعيناها غارقتان في ألم عميق، خرج صوتها مشقوقًا، مبحوحًا، خائفًا :
والله أنا مش فاكرة يا ياسين، انا لو فـ وعيي، عمري ما كنت هعمل كده، أنا.....أنا صحيت لقيت نفسي جنبه، ومش فاكرة حاجة ولا أعرف حصل إزاي ولا إمتى ولا إيه اللي اتعمل فيا
ارتج جسد ياسين، واعتدل في جلسته فجأة، كأن صدمة كهربائية أصابته قائلاً بصرامة :
احكيلي.....احكيلي كل حاجة حصلت من الأول خالص
أغمضت صافي عينيها وانهمرت دموعها بغزارة، وبدأت تحكي، تروي له تفاصيل اللقاء الأول بـ إياد، النظرات، المصادفات المدبرة، الكلام المعسول، ثم تلك الليلة التي استيقظت فيها على كابوس حي، لا تعرف كيف دخلته ولا كيف خرجت منه، ومع كل حرف تنطقه، كان ياسين يغلي..... يغلي حتى شعر بأن عروقه ستنفجر
الخيوط تتشابك أمامه.....
شقيقته لم تخطئ بل سُلبت، استُدرجت
سُحبت إلى مصيدة صنعها ابن جلال الخولي بدم بارد ليسرق شرفها !!
وقف ياسين فجأة، كان على وشك اقتلاع الباب بيده، لكن خطوته تجمدت
عند باب الغرفة، حيث كان آدم، والدهما، واقفًا بعروق بارزة من شدة الغضب،وما إن التقت عينا صافي بعينيه حتى شهقت، وجرت بسرعة نحو الشرفة، تهرب منه، ومن نظراته التي تحرقها !!!
أما آدم فاقترب من ياسين بوجهٍ يشتعل غضبًا وألمًا في آن واحد، قائلاً بصرامة :
جمع اعمامك في المكتب فورًا
لم تمر دقائق حتى كان المكتب الكبير يموج برجال العائلة، وكل واحد فيهم يحمل غليانًا داخليًا لا يقل عن الآخر
تدخل ريان قائلاً بتعقل :
جلال مستحيل يعمل كده، مستحيل يضحي بالعشرة اللي بينا عشان مشروع، وبعدين لو عمل كده عشان المشروع ده كان زمانه فاز بيه بدل عمران !!
ضرب آدم المكتب بقبضة يده، والشرر يتطاير من عينيه :
ما هو ده اللي مجنني، فيه حاجة غلط في الموضوع انا مش قادر افهمها
تدخل امير قائلاً بحدة :
ما يمكن ابنه هو اللي عمل كده من وراه عشان يطولها ما انت عارف سمعته اللي زي الزفت يا ادم
ردد أوس بغضب :
احنا هندوخ نفسنا ليه، البت صاحبتها اكيد عارفة كل اللي حصل مستحيل كل ده يحصل في بيتها وهي مش عارفة، كمان على حسب كلام صافي انها ماحستش بحاجة، ولا فاكرة اللي حصل من بعد ما شربت العصير منها، البت دي ليها يد في اللي حصل كله
صرخ ثائر ابن امير بغضب متشنجًا :
ما يمكن هزار قذر من الشلة الزفت دي
نظر إليه مالك وقال بتعقل :
لو هزار زي ما بتقول يا ثائر ماكانوش هددوا عشان ننسحب من المشروع، اللي حصل كله من البداية مدبر
صرخ آدم عليهم بنفاذ صبر وغضب مشتعل بصدره :
خلصنا، كل واحد قال اللي عنده خلاص
ساد الصمت بينهم ثقيلًا، خانقًا، حتى رفع آدم رأسه وقال بصرامة وهو يملي عليهم اوامره :
مالك انت وثائر تقلبوا الدنيا ع البت دي وتجيبوها انهارده قبل بكره
ثم التفت إلى ابنه ياسين وقال بحدة :
شغلتك الوحيدة دلوقتي، ابن جلال الخولي تجيبه ولو في آخر الدنيا، حتى لو اضطريت تشيل الحجر وتدور عليه تحتيه، ان كنت بدور الايام اللي فاتت قيراط تدور عليه دلوقتي اربعة وعشرين قيراط فاهم
أومأ ياسين بثقة، وفي عينيه نار تشبه نار أبيه، ثم التفتت ادم لأمير قائلاً :
رجالتنا يفضلوا ورا كل عيلة جلال، عينيهم تكون على
أخوه، وابن أخوه، وبيته كل نفس بيتنفسه يكون عندي، راقبوا كل مكالمات جلال حتى لو هتدفع ملايين مقابل ده، جلال اكيد بيتصل يطمن على ابنه، وساعتها هنعرف هو فين بالظبط
ثم التفت إلى أوس قائلاً بغضب :
عمران كل حاجة تخصه تكون عندي، وخصوصًا الفترة اللي فاتت كان بيشوف مين وبيتكلم مع مين، كل حاجة يا اوس تخصه عاوز اعرفها
ثم أضاف بصوتٍ خافت، لكنه مرعب :
اما جلال، فأنا هتصرف معاه بمعرفتي
هنا تدخل ريان قائلاً بسخرية، مع قليل من المرح :
وأنا ماليش لازمة ولا إيه؟
التفت إليه آدم ببطء، لكن نظرته هذه المرة لم تكن نظرة قائد يأمر، ولا رجل يثور، كانت نظرة أخٍ يستنجد بأخيه
عيناه امتلأتا برجاءٍ خافت، رجاء لا يُقال بالكلام......
نظرة حملت الكثير، كان ادم يوصيه بصمت على صافي، على ابنته، وجنينها، فهم عليه ريان، فردد بهدوء :
حاضر يا آدم هخلي بالي منها
كانت تلك اللحظة هي الأهدأ في وسط العاصفة
لحظة عبرت فيها الكلمات من عين إلى عين دون صوت
خرج الجميع ينفذون أوامره، وبقي آدم وحده، يضغط على قبضته حتى ابيضت، وصوت ابنته يتردد داخل رأسه وهي تروي لشقيقها ما حدث معها !!!!
..............
بعد وقت قصير.......
كانت صافي جالسة في غرفتها، تضم ركبتيها إلى صدرها، وعيناها لا تكفان عن البكاء، الهاتف بين يديها يرتجف كأنه يحمل نارًا، والفيديو الذي وصلها منذ دقائق يعيد نفسه أمام عينيها بلا رحمة.....
إياد، الرجل الذي وعدها بالستر، ينام في أحضان امرأة غريبة
الطعنة لم تكن خيانة فقط، بل كانت تأكيدًا لأبشع فكرة دارت في عقلها منذ اليوم الذي وعت فيه على نفسها بعد هروبه،
ان ما حدث كان مؤامرة، ولعله كان جزءًا منها !!
انهار جسدها حتى شعرت بأن الهواء يثقل صدرها، فنهضت بقدمين متعبتين ونزلت الدرج بخطوات هلامية، لا تكاد تشعر بالأرض، كانت الفيلا صامتة إلا من همسات الخدم في المطبخ، دفعت الباب ودخلت بينهم دون أن يلحظ أحد وجودها، اتجهت نحو درج صغير وأخرجت منه سكينًا حادًا، ثم أغلقت قبضتها عليه وخرجت كما جاءت، بلا صوت !!
عادت إلى غرفتها، أغلقت الباب، ثم فتحت هاتفها، ودخلت إلى رسائلها مع إياد، عبر احد منصات التواصل الاجتماعي....
كانت قد أرسلت مئات الرسائل، تنتظر منه ردًا واحدًا فقط كلمة، حرف، أي إشارة تُطمئن قلبها المكسور، لكنه لم يفعل ومنذ اللحظة التي أدركت فيها خيانته وهروبه، جفت أنفاسها وانطفأ فيها شيءٌ لا يعود، توقفت عن إرسال المزيد، لكن ما قهرها حقًا، أنه كان يقرأ كل رسائلها ولا يرد، كان يشاهد انكسارها بصمت، وكأنها لم تكن يومًا شيئًا في حياته !!
كانت تقف في غرفتها، تمسك هاتفها بيد مرتعشة، العجز يثقل صدرها والعار يخنق أنفاسها، لم تكن ترى الأرض تحت قدميها، بل ترى نظرات أبيها وأمها، نظرات الناس، نظرات كل من عرف ما حل بها، سقطت من أعين الجميع، وصارت رخيصة في نظر نفسها قبل ان تكون رخيصة في أعينهم
حتى هو......باعها !!
باعها بعد أن اختارت أن تكون إلى جواره، بعد أن تمسكت به رغم كل السوء الذي بحياته،
رغم رفض والدها، رغم كل شيء
ليكون الرد الوحيد الذي قدمه لها.....الخيانة والغدر
لقد خسرت كل شيء، خسرت مستقبلها، كرامتها، وقبل كل ذلك لقد خسرت نفسها، غاب عقلها تمامًا، لم تعد تشعر بجسدها، ولا بما تفعله، لم يكن يرن في أذنيها إلا جملة واحدة انها لا تستحق العيش !!!
فتحت محادثتهما، وضغطت على زر تسجيل الفيديو،
بمجرد أن تخيلته أمامها، انفجرت الدموع من عينيها رغمًا عنها، بدا صوتها مكسورًا، محروقًا، وهي تقول بصوتٍ مرتعش حزين :
انا وثقت فيك، قبلت بيك رغم كل الوحش اللي في حياتك،
اتمسّكت بيك رغم رفض أبويا للعلاقة دي، انا ازاي كنت بالسذاجة والغباء ده كله عشان اصدق ان واحد زيك ممكن يتغير، وثقت فيك وانت خدعتني، لعبت عليا انت وميرا
عشان تاخد اللي أنت عايزه مني
انا اتدمرت حياتي بسببك
أنا مش قادرة أرفع عيني في حد بسببك
أبويا وأمي تعبوا وكانوا هيروحوا فيها برده بسببك
أنا عمري ما هسامحك، ولا عمري هنسى إنك سيبتني وهربت
عمري ما هنسى غدرك، ولا هخليك تنساني
عيش بذنبي يا إياد، عيش بيه طول عمرك
عيش بذنب موتي انا وابني اللي هيموت معايا، ابني اللي مكنش يستاهل ييجي الدنيا كده، مكنش يستاهل يلاقي أب زيك، ولا أم غبية زيي، غلطت لما وثقت في واحد زيك
كانت تحيط بطنها بكلتا يديها، وجسدها يهتز بعنف، كأنها تحتضن آخر ما تبقى لها، وهي تتابع حديثها بصوتٍ مبحوح :
عيش بذنبي لأني عمري ما هسامحك ع اللي عملته فيا، عمري ما هسامحك يا اياد
مدت يدها المرتعشة إلى السكين على الطاولة، نظرت إليها كمن ينظر إلى خلاص بعيد، رفعت السكين أمامها، والدموع تُغرق وجهها، ثم همست بصوتٍ مليء بالألم :
عيلتي متستاهلش الفضيحة، ميستاهلوش اللي بيحصل ده
عشان كده، لازم أخلصهم مني، ومن العار اللي إنت كنت سببه
واللي أنا كمان كنت السبب فيه.....لأني صدقتك
ثم بلا تردد، ولا صرخة، قطعت شريان يدها
سال الدم بغزارة، وبدأت الدنيا تدور حولها، عيناها الواسعتان كانتا تتحركان في كل اتجاه، تبحثان عن شيء لا يُرى بصعوبة شديدة ضغطت زر إرسال الفيديو، ثم سقط الهاتف من يدها......وسقطت هي أيضًا !!
ارتطم جسدها بالأرض، والدم يتجمع حولها كظلّ ثقيل أغمضت عينيها ببطء، آخر ما رأته كان جوان، واقفة عند الباب، تصرخ بهلع، وتركض نحوها، ثم غاب كل شيء !!!!
..............
كان اياد كعادته، كلما لاح له إشعار باسمها، يتردد، يتجمد، ثم يستسلم لضعفه ويفتح الرسالة
هذه المرة كان ممددًا على الفراش، وبجانبه تلك الفتاة، كلاهما في وضعٍ مخزي، وحين فتح الفيديو، وسمع صوت صافي المرتجف وهي تحتضر بكلماتها، ارتفعت أنفاسه بغتة، وكأنه غريق انتُشل من الماء، انتفض من مكانه بقسوة، كأن شيئًا ضرب قلبه، قفز من على الفراش، جذب ملابسه سريعًا، يده ترتعش وهو يحاول الاتصال بها، لكن لا رد !!
خرج يركض في الممرات، ورجال الحراسة خلفه يسألونه بلا فهم، وهو لا يرد، كل ما يفعله هو الضغط المتكرر على زر الاتصال، لعلها تجيب لكن لا اجابة......
تردد قبل أن يتصل بوالدها آدم لكنه حسم امره واتصل به عدة مرات لكنه لا يرد مثل ابنته !!!!!
وقف للحظة، تائهًا بين الخوف والندم، يشعر أن صدره يُسحق سحقًا، كان يعرف أنه لن يستطيع العودة إلى مصر بسهولة، والحراس يحيطون به، فذكاؤه الأسود لم يخنه هذه المرة
أشار لرجال الحرس على شاب يمر بالجوار انه سرقه، وما ان ركض الحرس خلف الشاب المسكين، كان إياد يركض في الاتجاه الآخر، بكل قوته، هرب منهم جميعًا، واتجه مباشرةً نحو المطار !!!!
المرة الأولى هرب.....
هرب خوفًا وجُبنًا، هروبًا أعمى لا يرى فيه إلا نفسه، ولا يهتم بما يمكن أن يسقط فوق قلبها بسببه، تركها تواجه وحدها ما كان ينبغي أن يواجهه معها، ومضى كأنها لم تكن يومًا جزءًا من حياته، ولا من رجولته
أما الآن فهو يهرب أيضًا، لكنه يهرب إليها، لا منها
يركض ليلحق ما يمكن إنقاذه، ولو أنه يعلم في داخله أن عودته تأتي بعد خرابٍ لا يُرمم، وبعد وجعٍ لا يُغتفر
فبعد أي شيء يعود، وإلى ماذا يعود، وماذا سيجدي حضوره بعدما صار الندم أثقل من أن يُحمل، وأبطأ من أن ينقذ.....؟!
جميع الأعذار التي حاول إقناع نفسه بها انهارت
كل الأكاذيب التي احتمى خلفها اختفت
الآن فقط يرى حقيقته عارية بلا تبرير، يرى كم كان حقيرًا حين هرب، وكم كان ضعيفًا حين تركها تواجه الكل وحدها
عاد هذه المرة وهو يحمل في عينيه احتقارًا لنفسه لا يشبه أي شعور آخر، عاد وهو يعلم أن الذنب والخذلان الذي عاشته بسببه لا يُمحى بعودته !!
.........
على الجانب الآخر، كان ياسين يحمل شقيقته بين ذراعيه جسدها بارد ودمها يلطخ ذراعيه، وكل ملابسه
ركض بها إلى السيارة، والعائلة كلها تركض خلفه في حالة من الرعب والفوضى
كان آدم مصدومًا، لم يكن يقوى على الكلام، ولا يصدق أن ابنته.....ابنته التي رباها بيديه، فعلت هذا بنفسها
شعر أن قلبه يُكسر، يُنزَع من صدره، لكنه ظل متماسكًا لأجل زينة التي كانت تنهار لحظة بعد أخرى
حملوا صافي إلى غرفة العمليات، بينما كان آدم يسير خلف السرير وعيناه على وجهها الشاحب، يدعوا الله بداخله ان ينجي ابنته من كل سوء، وقبل أن تُغلق أبواب العمليات، أمسك آدم بيد أخيه ريان، وقال بصوت مرتعش، مليء بالتوسل :
بنتي يا ريان......بنتي
ربت ريان على كتف شقيقه قائلاً بتعجل :
في عيني يا اخويا، هعمل كل المستحيل عشانها، اطمن
جلس الجميع في الردهة، ونار القلق تنهش قلوبهم بلا رحمة،
مر الوقت ببطيءٍ شديد عليهم حتى خرج ريان اخيرًا !!
نهض آدم وزينة دفعة واحدة، عيونهما معلقة بملامحه، ابتسم ريان ابتسامة صغيرة مطمئنة، وقال وهو يربت على كتف أخيه :
اطمّن يا أخويا صافي كويسة الحمد لله والجنين كمان بخير
شوية وهينقلوها أوضة عادية عشان تشوفوها
انهار آدم على صدر ريان في عناقٍ طويل، مليء بالامتنان، الضعف والإنكسار، شعر ريان بوهن أخيه، ون قدميه لم تعد تحملاه، وأن ثقل السنين كلها قد سقط فوقه بتلك اللحظة
بينما زينة بدورها سقطت على ركبتيها تبكي بحرقة، فاقترب ياسين ورفعها برفق، التفت ادم واحتضنها قائلاً بخفوت يحاول تهدئتها :
هتبقى بخير يا زينة......بنتنا هتبقى بخير ان شاء الله
بعد قليل، فتحت صافي عينيها ببطء، لتجد والديها بجوارها
بمجرد أن تذكرت ما حدث، فاضت دموعها، ورفعت عينيها عنهم بخجل وانكسار
اقترب آدم منها، وصرخ عليها بغضب نابع من خوفه الشديد عليها :
عاوزة تموتي كافرة، مش كفاية اللي عملتيه في حق نفسك يا غبية، رايحة ترتكبي ذنب أكبر، بتعملي فينا كده ليه....؟!
بينما زينة لم تستطع أن تقسو عليها، ولم تستطع أن تنهرها، ضمتها إلى صدرها بحنان، وهي تحمد الله بداخلها انه اعاد إليها فلذة كبدها، وانها سالمة الآن
خرج آدم من الغرفة منهكًا، مهزومًا، ربت أوس على كتفه قائلاً بقليل من المرح :
ايه العضمة كبرت ولا اي يا كبير، مالك اجمد كده ده احنا عيشنا الامر منه زمان
تنهد آدم بعمق، ثم قال بألم وحزن :
لما حياة اتوجعت من ابنها يوسف، من جوايا كنت بلوم ضعفها، هي وبدر، وسكوتهم
دلوقتي بس فهمت يا أوس، فهمت هي كانت حاسة بإيه،
وجع الولد أو البنت بيكسر، بيهد الحيل، خصوصًا لما تكون حاطت كل أملك فيهم، ومش متوقع أبدًا الوجع ده ييجي منهم، بيكسرك من جوه لما تشوف اللي زرعته فيهم وتربيتك ليهم راحت على الأرض وكل تعبك عليهم راح هدر !!
حرك أوس رأسه إليه بحزن، وهو يعلم في أعماقه أن ما يمرون به هذه المرة هو الأسوأ، وما عاشوه في الماضي لم يكن شيئًا مقارنة بما يعيشه الآن، فهذه المرة الألم جاء من أولادهم، وفي أولادهم !!!!!!
............
كانت بسمة جالسة في غرفتها، ترتجف من شدة الرعب، قلبها يدق بعنف كأنه يريد الخروج من صدرها، لم تستطع التحكم بدموعها، فألمها وغضبها وكرهها لضعفها امتزجوا في شعور خانق، كانت تكره ذلك الضعف الذي جعلها عرضة لكل هذا، بينما شقيقها نوح، الذي كان يُفترض أن يكون سندها، غارق في عالمه الخاص، يسعى خلف انتقام أعمى، ناسياً وجودها وناسياً نفسه
نزلت دموعها أكثر قهراً، وفتحت باب غرفتها بحذر لتجد نفسها أمام مشهد صادم من المفترض انها اعتادت عليه، ذلك المدعو وائل، يقف مع سمر في وضع مخزي على درج السلم المقابل لغرفتها، في تلك اللحظة، أدركت بسمة أن أخاها ليس في البيت، وأنهما استغلا غيابهما ليفعلا ذلك !!
قبل أن تتمكن من الفرار، مسكها وائل بقسوة، يداه تتسللان نحو جسدها، وهي تحاول الابتعاد، تصرخ في صمت، حاولت أن تقف على قدميها وتغلق الباب، لكنه دفعها ودخل، وأغلق الباب خلفه، تاركًا سمر تبتسم بخبث، تريد ان تجعل ابناء زوجها أسامة يعيشون العذاب والويل بسبب ما فعله بها والدهما......قبل ان تقتله بيديها منذ سنوات طوال
مر الوقت وكل ثانية تمر أثقلت قلب بسمة بالمزيد من الرعب، خرج وائل، وقد بدا الانتشاء على وجهه، لكنه لم يستطع إتمام ما يريد خوفًا من نوح، إلا أن نواياه القذرة كانت واضحة، وعيناه تتلذذان بالفكرة !!
اقترب بعدها من سمر وهمس لها بمكر :
مش آن الآوان بقى فضيحة أدهم تنتشر وسط الناس، وننفذ اللي اتفقنا عليه، لازم نوح يعمل كل اللي مخططين ليه عشان نخلص منه و......
قاطعته سمر قائلة بسخرية :
عشان تستفرد باخته مش كده ؟؟
رد عليها وائل بوقاحة وحقارة :
طبعاً، نوح لو عرف اللي بنعمله في أخته مش هيسمي علينا إحنا الاتنين، كل اللي أنا عايزه وإنتي عايزاه، نوح هيحققه لينا، وهو عايش وهو كمان ميت، عشان كده لازم ناخد حذرنا منه ونسايسه على قد ما نقدر
ضحكت سمر بسخرية وقالت :
للدرجة دي خايف منه
ابتسم وائل بسخرية أكبر، وقال بعيون تتلألأ بالشر :
خايف منه عشان اللي عملناه فيهم مش شوية، ده قليل ان ما دفني حي أنا وانتي في تربة واحدة، نوح شراني، زي أبوه بالضبط، واللي مخبينه عليه وبنعمله من وراه كبير أوي، ده بس كفاية إنه يعرف إنك السبب في حالة أخته اللي مش بتتحسن، وان سنين ضاعت من عمرها بسببك
في تلك اللحظة، تجمد الاثنان على الفور عند صوت التكسير الذي جاء من خلفهما، التفتا على الفور بصدمة، ورعب !!!!!
❤❤❤❤❤❤❤
كانت عشق تجلس إلى جوار جوان في حديقة المستشفى، وأكواب القهوة بين يديهما تبعث رائحة دافئة لا تنسجم أبدًا مع ثقل الصمت الذي يخيم عليهما، قطعت عشق الصمت بنبرة تحمل مغزى واضحًا :
عقبال اللي في بالي، لما يتعظ بقى من اللي بيحصل ده كله
التفتت إليها جوان، وقد علت وجهها ملامح ضيق وهجوم :
قصدك إيه يا عشق؟
ردت عليها عشق بصراحة لا تعرف المراوغة :
قصدي واضح أوي يا جوان، يا ريت تاخدي اللي حصل لصافي عبرة ليكي، وتبطلي تهور، لازم تعرفي إن كلنا عايزين مصلحتك، الشلة دي ما وراهاش غير المشاكل، وزي ما صافي اتأذت، بعد الشر يعني، الدور هيجي عليكي انتي كمان لو فضلتي ماشية وراهم
زفرت جوان، وقالت بغرور، وكأن النصيحة تحمل إهانة لها :
أنا مش زي صافي يا عشق، صافي سذاجتها اللي وصلتها لكده، لكن أنا؟ لا، أنا عارفة بعمل إيه كويس أوي، وحاطة حدود بيني وبين الشلة دي محدش فيهم يجرؤ يتخطاها، وبعدين أنا مغلطتش من الأول عشان أتعظ دلوقتي، واللي عملوه في صافي، عمي ادم مش هيسكت عليه، وهيرد ليهم اللي عملوه أضعاف، وده كفاية اوي عشان يخليهم يفكروا ألف مرة قبل ما يقربوا مني أو من حد يخص عيلتنا
حركت عشق رأسها بضيق، وقالت :
إنتي مستكبرة تسمعي النصيحة يا جوان، ودماغك بس هي اللي ممشياكي، تصرفاتك كلها غلط في غلط، وعلى فكرة إنتي وصافي نسخة من بعض، ولو كنتي مكانها، كنتي هتقعي في نفس الغلط، أنا لما بقولك الكلام ده مش بشمت ولا بعلم عليكي، انتي بنت خالي.....يعني اختي، ومن حقي أنصحك كنت بنصحك زمان تبعدي عن الشلة دي ومكنتيش بترضي تسمعي، ولسه لحد دلوقتي بنصحك، ومش همل إني أقولك تبعدي عنهم، وعن اللي زيهم، انا خايفة عليكي من تهورك يا جوان وعنادك اللي هيخسروكي كتير في يوم من الايام
صمتت جوان، وقد ضاق صدرها رغم أنها تعلم في قرارة نفسها أن كلام عشق صحيح، وأن كبرياءها وحده هو الذي يمنعها أن تعترف بذلك، لكن جزءًا آخر منها كان يفعل كل هذا عنادًا في شخص ما !!!
في تلك اللحظة اتجه مالك نحوهما، فنهضت جوان بصمت مغادرة المكان، جلس بجانب عشق، التي تحاشت النظر إليه وهي ترشف من قهوتها، فسألها بصوت يفيض اهتمامًا :
انتي كويسة يا عشق
أجابته بخجل لطيف :
الحمد لله
تنهد مالك بضيق، ثم قال بنفاذ صبر :
على المشاكل اللي في العيلة دي ما تتحل، شكلي مش هتجوزك غير بعد عشرين سنة، بقى يارب يوم ما الواحد ياخد خطوة المشاكل تنزل ترف عليه من كل ناحية
ضحكت عشق بخفوت وقالت مداعبة :
فقري
ابتسم لها مالك بعينين مليئتين بالهيام وقال :
فقري إزاي وانتي في حياتي، ضحكتك بس قادرة تحلي يومي كله مهما كان المر اللؤ فيه يا عشق
احمرت وجنتاها، فقالت بخجل مصحوب باستغراب :
أنا مستغرباك
رفع حاجبيه بدهشة، وسألها :
ليه؟
ترددت قليلًا، ثم قالت بصراحة :
يعني قبل كده كنت ساكت خالص، ودلوقتي بتتكلم اكتر، بتعبر أكتر.....وبجراءة كمان
صمت للحظة، ثم تنهد بعمق، قائلاً بحزن :
خوفت لاخسرك بسكوتي ده يا عشق، أنا ليا واحد صاحبي كان بيحب واحدة وفضل ساكت ومتردد يكلمها او يفاتحها في حاجة رغم انه بيحبها اوي لكن سكوته ده خلاها تضيع من بين ايديه وتتجوز غيره، يومها قالي كلام عمري ما قدرت انساه، قالي الحب ما ينفعش يتخبى ولا يتسكت عليه، والخطوة اللي تخاف تاخدها دلوقتي غيرك هيجي وياخدها ساعتها محدش هيندم غيرك والكلام اللي خوفت تقوله هيجي عليك يوم وتتمنى تقوله
اقترب منها قليلًا وقال بصوت يفيض صدقًا وحبًا :
انا خوفت اخسرك، خوفت يجي يوم اندم على سكوتي، سكوتي اللي من الأول كان بسبب خجلي،
بس لقيت ان خجلي ده ممكن يضيعك مني يا عشق، فاتكلمت، اتكلمت ومش ناوي اسكت بعد انهاردة،
اتكلمت وناوي أقول مش بس ليكي لا لكل الدنيا اني بحبك اوي، وبعشق بجنون،
انا عمري ما شوفت ولا اتمنيت غيرك تكون ليا،
انا بحس انك بتكمليني يا عشق
نظرت عشق إلى مالك للحظات بصمت، ذلك الصمت الذي كان أبلغ من أي عبارة، وكأن عينيها تحملان كل ما لم تستطع قوله هي الأخرى طوال السنوات، كان مالك......مالك قلبها، وكل دقة في صدرها لم تعرف غير اسمه، لم ترى سواه، ولم تتمنى يومًا غيره
كانت ملامحها ترتجف بشيء يشبه الجرأة الممزوجة بالخجل، ثم نطق لسانها أخيرًا بما ظل حبيس روحها طويلًا، كلمات خرجت صادقة دافئة :
وانا حبيت فيك كل حاجة يا مالك، حبيت خجلك وطيبة قلبك، حبيت شخصيتك، حبيت كل صفة فيك، انا عمري ما اتمنيت غيرك ولا شوفت غيرك ولا عايزة غيرك، وسواء كنت اتكلمت أو سكت، عمري ما كنت هبقى لغيرك، عشان عمري ما تخيلت نفسي غير معاك، ولا شوفت حد يستاهلني زيك يا مالك، انت أماني من بعد أهلي، والوحيد اللي بطمن معاه،
انت الوحيد اللي من كل قلبي حبيتك.....بحبك يا مالك قلبي
لمعت عينا مالك كمن وُهب الحياة من جديد، امتلأ نظره بها حبًا وفرحًا، مد يده يمسك يديها، مقبلاً اياها برقة، وحب فابتسمت عشق، بخجل شديد
من بعيد، كانت عينا حمزة تطلقان شررًا حارقًا وهو يراهم بهذا الانسجام، حبٌ صافٍ يتبادلانه أمامه دون أن يشعر أحد بوجوده، الحقد اشتعل في قلبه كجمرٍ لا ينطفئ، فهو يرى عشق تقبل أخاه، بينما هو.....لا تنظر إليه إلا بالرفض والصد
لطالما كان مالك مقبولًا من الجميع، محبوبًا بلا مجهود، على عكسه تمامًا، انه حمزة المنبوذ، المختلف، الذي لا يختاره أحد مالك دائمًا هو الأفضل، في كل شيء، حتى حين يتعلق الأمر بالقلب، ما زال هو المفضل عند والده، بينما هو.....لا !!
تذكر ذلك الشعور القديم بالظلم، تذكر كل تلك اللحظات التي كان فيها الظل بينما أخوه يقف في الضوء
النار ازدادت في صدره وهو يستعيد كل الذكريات، حتى حسم أمره، قرر أن ينفذ ما قالت له والدته اليوم، ولن ينتظر يومًا آخر حتى !!
استدار ليغادر، لكن خطوته توقفت فجأة حين وجد من تقف خلفه، انها ليان ابنة عدوة والدته الأولى، سارة، وقفت امامه بنفس الهيئة التي طالما سخر منها سرًا......وربما جهرًا
ليان بثيابها الصبيانية الواسعة، شعرها المخفي تمامًا تحت تلك القبعة، والنظارة الطبية الدائرية التي تغطي نصف وجهها تلك الحمقاء كما يسميها تحاول باستمرار أن تستميله، بينما هو يصدها مرارًا لأنها ببساطة ليست النوع الذي يفضله
قالت ليان بتوتر، وبصوتٍ رقيق لا يناسب مظهرها إطلاقًا :
ازيك يا حمزة
رفع حمزة حاجبه بسخرية باردة وهو يرمقها من أعلى لأسفل :
نازلة من فوق لهنا، عشان تقوليلي ازيك يا حمزة
كانت ليان تقف أمامه بتوترٍ واضح، يديها ترتجفان، ونظراتها تهرب منه كلما حاولت جمع شجاعتها، ردت عليه بصوتٍ متقطع، مليء بالحرج والارتباك الذي لم تستطع إخفاءه، مما جعله يسخر منها داخليًا أكثر :
لا مفيش....بس....بس خاله اوس قالي أقولك تطلعه، عشان بيكلمك وفونك مقفول
تحرك حمزة مبتعدًا ببرودٍ اعتادته منه، لكن قبل أن يخطو خطوته الثانية، أوقفته ليان بنبرةٍ واهنة، تحمل حزنًا حاولت طويلًا أن تدفنه ولم تعد قادرة على كتمانه :
انت ليه بتعاملني كده يا حمزة، ليه تكرهني كده وأنا......
قطع حديثها قائلاً بقسوة وبرود :
وانتي بتحبيني مش كده، شوفي يا ليان ببساطة انا بعاملك كده عشان مش بحبك، اجابة بسيطة خالص، باينة، وواضحة زي الشمس، انا لا بحبك ولا هحبك لأن ببساطة كمان انتي مش من النوع البنات اللي افكر ارتبط بيها واحبها، بصي لنفسك في المراية يا ليو يا حبيبتي، مش معقول يعني هتجوز واحد صاحبي، بذمتك يفرقوا هما بينا ازاي !!
اتسعت عيناها بصدمةٍ حادة، كلماته انغرست في قلبها دون رحمة، لطالما صدها حمزة، لكنها لم تتوقع ان يوجه لها كلمات جارحة بهذا العمق ولا إهانةً بهذا الشكل، شعرت بالدموع تتكدس خلف جفنيها، لكنها قاومتها كي لا تهين نفسها أكثر
رفعت رأسها، واستعادت ما تبقّى من قوتها، وردت عليه بقسوة مماثلة لقسوته عليها :
مين قال إني كنت هقول بحبك، والكلام الفارغ ده، شكلك انت اللي بتتمنى تسمعها مني، ع العموم، أنا كنت هقولك اني معملتش حاجة تضايقك عشان تتعامل معايا كده
عدلت نظارتها ببطء، وكأنها تحمي آخر ما تبقى من كرامتها، ثم قالت بسخرية لاذعة :
وبعدين أصلاً مين العاقلة اللي تربط اسمها بواحد زيك، ده انت مفيش فيك حاجة تتحب، مين دي اللي تحب فيك لسانك طويل، وقلة ذوقك، يا اخي ده انت حتى لا بتحترم حد ولا بتراعي مشاعر حد، ومغرور، وشايف نفسك على الكل، وانت في الأساس ولا حاجة، بذمتك واحد بصفاتك دي مين الغبية اللي تقبل بيك، ده احنا في العيلة مستحملينك بالعافية، مابالك بقى اللي هتتجوزك وتعيش معاك
قالت ذلك، ثم نظرت إليه نظرة احتقارٍ أخيرة، ومضت،
مشت وهي تكتم شهقتها، مقهورة من نفسها قبل أن تكون مقهورة منه، لأنها برغم كل عيوبه أحبته، أحبت شخصًا لا يستحق، وقلبها الأحمق انتظر منه نظرة، كلمة.....
أي شيء، حتى لو كان كذبة !!
أما حمزة، فاشتعل غضبًا، كلماتها اطاحت بكبريائه، وزادت من حقده، رغم أنه لم يفهم على من يغضب، عليها، أم على نفسه
في تلك اللحظة، ظهرت والدته مهرة، بابتسامة ماكرة تعلو شفتيها، وصوتها يقطر سمًا ؛
انت إزاي تسمح ليها تقولك كده، وتسكتلها، خد حقك، ماتقفش كده زي خيبتها، عرفها مقامها بنت سارة شكلها نسيت امها اللي عملت عمايل تخليها تعيش موطية راسها طول عمرها، قال اي والغبية مستنية منك تعبرها، قرب منها يا حمزة وبعد ما تديها الريق الحلو وقعها على جدور رقبتها خليها تعرف مقامها كويس اوي، وتحرم ترفع عينها فيك
التفت إليها حمزة، وقال بسخرية مُرة :
قصدك تقوليلي أشفي غليلي من سارة في بنتها يا حمزة، زي ما عاوزة تعملي في عشق بنت حياة، ما تاخديش كرامتي حجة للي في دماغك، وقوليهالي صريحة يا مهرة هانم، قوليها صريحة زي ما قولتيها ساعة عشق
نظرت مهرة إليه بغيظٍ، فتابع حمزة بحدةٍ لم تعتدها منه :
ليان لأ، أنا مش هسمحلك تأذيها
رفعت حاجبها، وسألته بسخرية :
أشمعنى عشق قبلت تأذيها.....وليان لأ
رد عليها بجفاء :
عشان ليان بره الموضوع، وماتستاهلش، كفاية أذى في ناس مالهاش ذنب
سألته مهرة بسخريةٍ حادة، وقد نسيتْ أن توجه السؤال لنفسها قبل أن تُحرضه على إيذاء أخيه مالك، وإيذاء عشق أيضًا :
وهي عشق يعني اللي كانت تستاهل؟!
ابتسم حمزة بسخرية مريرة، فهو لا يريد عشقًا لشيءٍ فيها، بل ليشعر فقط بأنه انتصر على مالك في أمرٍ ما، وليثبت له وللجميع أن فتاة مثل عشق قد تقبل به بسهولة، بل وتفضله على أخيه الخلوق كما يقول عنه الجميع أيضًا، حتى لو كان ذلك عبر لعبةٍ رخيصة لا قيمة لها
ليته يدرك أن الأخلاق والمبادئ لا تُجزأ، وأن عشق، كليان وغيرها، لا تستحق ما جرى لها ولا ما حُيك لها
ثم ترك والدته وغادر، تاركًا إياها تغلي بنار حقدها وغيظها، ذلك الحقد الذي يلتهمها يومًا بعد يوم، كلما رأت سعادة الجميع، بل وكلما رأت احدًا افضل منها هي وعائلتها، تريد ان تكون هي محور كل شيء......وأي شيء !!!!!
.................
في المساء.....
كانت سيدرا تقف بسيارتها على جانب الطريق، تتلفت حولها في ارتباك واضح، لم يسبق لها أن دخلت منطقة شعبية من قبل، وكانت كثافة الناس وضوضاء الأزقة تزيدان من توترها، أمسكت بالهاتف على أذنها، قائلة بنفاذ صبر، وهي تمشي بخطوات متعجلة بين البيوت المتلاصقة :
حضرتك أنا دخلت المنطقة اللي قولتلي عليها، بس مش عارفة أوصل للبيت بالظبط، قوليلي أقف فين استناك، وقابلني باللاب بتاعي
كانت منشغلة بالمكالمة إلى الحد الذي لم تنتبه فيه لسيارة والدها التي توقفت بعيدًا، فقد رآها والدها بالصدفة وهو على الطريق فاتسعت عيناه في صدمة
ماذا تفعل ابنته في هذا المكان وحدها، حاول الاتصال بها، لكن هاتفها كان مشغولًا، تقدم بخطوات سريعة، الخوف يعصف بقلبه من أن يضايقها أحد الشباب الموجودين بتلك المناطق، لكن قبل أن ينادي عليها فوجئ بامرأة تتقدم نحوه كالإعصار !!
كانت المرأة ترتدي عباءة سوداء من الستان تتحرك مع خطواتها كأنها إعلان حرب، وحجابًا ملقى على شعرها بإهمال، الغضب مرسوم بوضوح على وجهها، حتى بدا أن الهواء نفسه يتراجع أمام غضبها
قبل دقائق فقط، كانت دينا الصغيرة تركض نحو شقيقتها حبيبة بأنفاس متقطعة، عيناها الواسعتان مليئتان بالرعب :
الحقيني يا حبيبة الراجل ده كان عايز يخطفني، بيقولي تعالي أجيبلك آيس كريم، وكان هيشدني بالعافية، انا عضيته في ايديه وجريت علطول
التفتت حبيبة بسرعة نحو الاتجاه الذي أشارت إليه شقيقتها، فرأت رجلًا يقف بجانب أحد المحلات، لم تفكر، اندفعت إليه بخطوات غاضبة، شرسة، ولم يكن الرجل سوى.....الياس الذي صرخت عليه بصوت هادر سمعه كل من في الشارع :
مش عيب عليك يا راجل يا شايب يا عايب، تخطف بت قد حفيدتك، طب احترم الشعرتين البيض اللي عندك دول، وراعي سنك، والغريبة ان شكلك ابن ناس
تجمد وجه الياس للحظة، ثم قطب جبينه وصرخ عليها بصوت غاضب :
انتي اتجننتي، إزاي تتكلمي معايا كده، إنتي مش عارفة بتكلمي مين ولا اي يا بت انتي
لم تنتظر حبيبة لتعرف، فقد انحنت سريعًا والتقطت نعلها من قدمها، ورفعته عليه بتهديد :
وهو إنت لسه هتبرر وتشرح، ده أنا هفرج عليك أمة لا إله إلا الله، وهنسل الشبشب على دماغك، مبقاش حبيبة بنت الشيخ ياسر اما مسحت بيك الأرض
لكن قبل أن تهوي عليه بالنعل، كان الياس الأسرع، أمسك يدها بقوة، وجذبها إليه بعنف حتى اختل توازنها، وارتفع صوته إلى نبرة جعلت الدم يتجمّد في عروقها :
لولا إنك ست كنت دفعتك تمن الحركة دي غالي اوي
شهقت حبيبة بخوف، بينما دفعها الياس للخلف دفعة حادة،
هنا جاءت دينا الصغيرة، تشد عباءة أختها بخجل وارتباك :
مش ده يا حبيبة.....مش ده
تجمدت حبيبة مكانها، وابتلعت ريقها بصعوبة، ثم رفعت رأسها ببطء لتنظر إليه، وياليتها ما فعلت، فالنار المشتعلة في عيني الياس كانت قادرة على إحراقها في لحظة !!!!!!
...........
بعد منتصف الليل.....
جلست غنوة فوق العشب، تتأمل السماء المرصعة بالنجوم، لم يزرها النومُ رغم محاولاتها، فخرجت تبحث عن بعض السكينة، وعن لحظة تُنسيها اضطراب قلبها، حدقت طويلًا في الفضاء الواسع، وكل ذكرى تخص مروان كانت تتردد داخلها كوميض لا يخبو، ابتسامة رقيقة انسابت على شفتيها وهي تتذكر نظراته التي تُشعرها بأنها مميزة.....مهمة !!
قطع شرودها صوتٌ باتت تتمنى سماعه كل لحظة، صوتٌ يحمل شيئًا من الأمان، ومن الخطر أيضًا انه مروان الذي قال بمزيج من المرح والغزل :
يا بخت القمر
انتفضت غنوة واقفة، قلبها يخفق بعنف وهي تعدل من ثوبها الزهري الواسع، ظل مروان يتأملها بعينين يكشف سكونهما كل ما يخفيه لسانه، اقترب أكثر، ثم جلس على الأرض أمامها ونظر إليها بابتسامة تجذبها رغمًا عنها :
اقعدي يا غنوة، وقفتي ليه.....؟!
جلست بتردد، تخشى الاقتراب وتكره الابتعاد، فسألها بهدوء :
إيه اللي مصحيكي لحد دلوقتي؟
ردت عليه بتوتر :
معرفتش أنام، فطلعت أقعد هنا شوية
صمت الاثنان، وصمت الليل صار شاهدًا على شيء ينمو بينهما دون وعي، قطع مروان الصمت قائلاً بصوتٍ يحمل دفئًا ناعمًا :
مرتاحة معانا هنا يا غنوة....؟!
رفعت عينيها إليه، وقالت بصدق خالٍ من التكلف :
اكيد كفاية معاملتكم ليا، والله بحس اني في وسط أهلي
ابتسم مروان، ومد يده إلى جيبه، وأخرج قلادة فضية رقيقة، يتوسطها قلب زهري صغير لامع تحت ضوء القمر !!!
فردها على كف يده وقال بتلقائية وبدون تفكير :
وأنا مسافر أول ما شوفتها محستهاش غير عليكي
تأملتها غنوة بخجلٍ ربك ملامحها، لا تعرف أترفض أم تقبل، القلادة بسيطة لكنها خطفت قلبها بورقتها، غير ذلك يكفي انها منه لتحبها، لاحظ مروان ترددها، فاقترب ببطء، مد يده إلى خلف رقبتها، أبعد جديلتها الطويلة بلطفٍ شديد قبل أن يلبسها القلادة برقة جعلت أنفاسها تتسارع، كان قلبها يُنذرها يعاتبها، لكنه في الوقت نفسه يلتهم اللحظة دون مقاومة مستمتعًا بكل لحظة !!!
ابتعد مروان قليلًا، لينظر إليها بنظرة لم تستطع احتمالها، قائلاً بحب :
دلوقتي بس أقدر أقول......إنه بقى أجمل لما لبستيه
ارتبكت أكثر، وازداد خجلها حين رفع يده من جديد، يلمس جديلتها ليفكها ببطء، ورقة شديدة، حتى انساب شعرها على كتفيها وظهرها كستارة حريرية، ليردد بافتتان :
كده أحلى بكتير
كانت مأخوذة، عاجزة عن الحركة، لا تستطيع الهرب ولا البقاء، حضور مروان كان أكبر من قدرتها على المقاومة، وأعمق من قدرتها على الفهم، التقت نظراتهما في لحظة طويلة، هادئة، لكنها مليئة بما لا يمكن نطقه
اخذ الهواء يحرك خصلات شعرها، فمد يده برقة ليبعدها عن وجهها، قبل أن تتجرأ أنامله وتلامس وجنتها الناعمة برقة، انحنى ببطء شديد، كان على وشك أن يقترب أكثر مما يجب........
لكنها نهضت فجأة، وصوتها خرج مرتعشًا بخجلٍ شديد :
الوقت اتأخر، تصبح على خير
كان مروان يدرك تمامًا حماقته في تلك اللحظة، يدرك تهور الخطوة التي كاد فيها ان يقترب منها، ومع ذلك لم يستطع إنكار ذلك الاضطراب اللذيذ الذي سرى في صدره
كان داخله صراعٌ صامت، عقلٌ يذكره بالحدود التي يجب ألا يتجاوزها، وقلبٌ يجره نحوها كلما حاول الهرب
مهما حاول أن يتماسك، كان يشعر بأن شيئًا فيه ينكسر كلما ابتعد، وأن شيئًا آخر يولد كلما اقترب، وهكذا، بين نداءٍ عاقلٍ يُطالبه بالتماس الصواب، ونداءٍ آخر لا يسمعه سواه
ما بين رغبة القلب التي لا تهدأ، وعقلٍ يرفع حاجزًا بعد آخر يظل القلب هو المنتصر، رغم كل شيء !!!!
..............
في عُمق الليل، كان ذلك الرجلُ الملثم يشق طريقه بخطواتٍ بطيئة وحذرة، يلتفت مع كل خطوة يتأكد أن لا أحد يتبعه كان الليل ساكنًا إلى درجة أن أنفاسه تكاد تُسمع !!
انه يوسف الذي كان قلبه يخفق بعنف حين وصل إلى الغرفة التي يعرفها جيدًا، أخرج من جيبه البصمة التي حصل عليها بعد جهدٍ شاق، ومررها على جهاز الفتح، لحظاتٌ ثقيلة مضت قبل أن يُفتح الباب أخيرًا.......
دخل بخطواتٍ سريعة محسوبة، وكأن الأرض تحت قدميه قد تُحدث جلبة في أي لحظة، اتجه مباشرة نحو المكتب، حيث ذلك الحاسوب تحديدًا جلس، وبدأ بنقل الملفات واحدًا تلو الآخر، لكن مع كل ملف يفتحه، كانت عيناه تتسعان بدهشة وصدمـة، أسماء لرجال كبار بالدولة، شخصيات لم يتخيل قط أن لهم يدًا في هذا العمل القذر
لكن الصدمة الحقيقية ضربته حين ظهرت صورة وجهٌ لم يتوقع رؤيته بينهم أبدًا، بدأ الآن يجمع الخيوط ببعضها ليستوعب الأمر الآن !!!
أعاد كل شيء كما كان، وحين هم بالخروج، تفاجأ بوجود شاب من الحرس يقف أمامه، كان على وشك التعامل معه، لكنه توقف حين سمعه يهمس بصوتٍ خفيض :
متخافش، انا من مصر......من طرف شريف ابن خالك
جذبه الرجل سريعًا، وغادرا المكان في صمتٍ مطبق، وما إن أصبحا وحدهما، حتى سأله يوسف بحذر :
شريف مقالش ليا إنك شغال معاه هنا
رد عليه الشاب ويدعى طاهر بجدية :
شريف باشا شاف إن كده أحسن، وأنا كنت متابعك من بعيد، عيني عليهم، وعليك في كل لحظة، خد بالك، لإنهم ناويين يصفوك بعد ما تظبط لهم الصفقة، يعني قبل التسليم هيغدروا بيك يا يوسف باشا
توجس يوسف أكثر، وعيناه تبحثان عن أي علامة للخداع بوجه الاخر، فسأله مرة أخرى بشك :
طب إيه اللي يضمنلي إنك مش منهم، وإن دي مش لعبة
نظر له طاهر بضيق وقال بصرامة :
مفيش ضمان، لكن تقدر اول ما تتواصل مع شريف باشا ابن خالك، وتسأله عني، المهم دلوقتي الملفات اللي نقلتها لازم توصل مصر النهارده قبل بكره، هما لسه شاكين فيك رجعوك بينهم تاني عشان محتاجينك تعمل لهم شغل هما مش هيعرفوا يعملوه، وبعد ما تخلص كل حاجة، ويتفضل بس خطوة التسليم، هيتخلصوا منك
ابتلع يوسف ريقه بصعوبة قبل أن يسأل :
عرفت الكلام ده كله منين؟
أجابه طاهر وهو يلتفت حوله بحذر :
أنا معاهم أغلب الوقت، غير كده انا هنا من قبل ما ترجع ليهم بشهر وشوية، وشريف باشا رجعك ليهم لإنك لو فضلت في مصر كانوا هيقتلوك، لكن وجودك هنا وكإنك بتساعدهم ده بيدينا وقت، وكمان يوقعهم أسرع، الموضوع يطول شرحه، ده غير ان فيه حاجات كتير انت متعرفهاش، هشرحلك كل حاجة بعدين، مفيش وقت دلوقتي، أهم حاجة تبعت الملفات كلها على مصر بأسرع وقت، وقبل ما تتحرك معاهم في أي حتة حتى لو دقيقة واحدة، تعرفني
غادر يوسف كما جاء مُثقل الخطى، منهك الجسد والروح يشعر وكأن الليل يضغط على صدره، وكأن الهواء صار أثقل من أن يتنفس، تمنى، وهو يسير في الممرات المعتمة، لو أن كل هذا ينتهي بسرعة، لو أن هذا الغموض المُخيف يتبدد، لو أنه يغمض عينيه ويفيق ليجد أن كل شيء قد انتهى، وكل خطر اختفى......
تنهد بعمق، تنهيدة تشبه الانهيار أكثر من الراحة، وبمجرد أن خطرت ليلى في باله، ضحك بسخرية مريرة، منذ متى وهو نساها ليتذكرها، هي لم تغب لحظة عن باله، كانت حاضرة دائمًا في عقله، في قلبه، في كل زاوية يحاول الهرب منها
بدأ شريط الذكريات يعود بقسوة، كل ما عاشه معها، وكل الأذى الذي سببه لها، لأول مرة اعترف داخله، بلا تهرب ولا كبرياء، أنه أحبها بصدق، وأنه حتى الآن عاجز عن فهم غبائه عن تفسير لماذا جرحها، ولماذا ضيع امرأة مثلها من بين يديه
كانت تَعجبه منذ البداية.....قبل أروى حتى
لكنه بغروره الأعمى ظنها مملة، ظن أن جنون أروى سيمنحه حياة مختلفة، ولم يدرك أن السكون الذي في ليلى كان حياة، وأن ملامحها الهادئة كانت أغلى من كل صخب عرفه لاحقًا
غمره حزنٌ كبير، حزن يطبق على صدره ويخنقه
أخرج دفتر مذكراتها، الدفتر الذي سلمه له شقيقها مالك قبل سفره، ومازال عاجزًا عن فتحه......
عاجزًا عن مواجهة ما كتبته ليلى عنه
ترددت في ذهنه كلمات مالك، تلك الكلمات القصيرة لكنها جارحة بما يكفي لتمزيق قلبه :
دي مذكراتها، هي متعرفش إني شوفتها ولا قريتها، بس لو فتحتها هتلاقيها كلها عنك انت وبس يا يوسف، انت كنت محور الكون بالنسبة ليها، وياريتك قدرت ده، أنا مش بسلمه ليك دلوقتي عشان تفكر فيها ولا عشان تحبها.....لأ، أنا جبتهولك عشان تندم أكتر، عشان ضميرك يوجعك أكتر، عشان تعيش بالحسرة إنك خسرت حب زي حب ليلى ليك، وعشان تعرف إنك ضيعت من إيدك حاجة عمرها ما هتتعوض، أنا مش هتخانق معاك ولا هعاتبك، أنا هسيبك للندم ولعذاب الضمير، والحسرة اللي هتعيش بيها، وده كمان ولا حاجة قصاد اللي أختي عاشته
ظل يوسف واقفًا، ممسكًا بالدفتر، وصدره يعلو ويهبط بحدة،
كانت الكلمات تلتف حول قلبه كحبال تشده بقوة، علم في تلك اللحظة تحديدًا أن الندم الذي تحدث عنه مالك، قد بدأ بالفعل ينهش روحه بلا رحمة
دخل لمنزله وارتمى على الفراش، ممسكًا بذلك الدفتر الصغير الذي يحمل بين صفحاته عبق ذكرياتهما القديمة، كان غلافه مزينًا باسمها بطريقة تخطف الأنفاس، فقد أهداه لها يوم بلغت السابعة عشرة من عمرها، راح يقلب صفحاته ببطء، وكل صفحةٍ كانت تطعن قلبه بنصلٍ من الحنين !!!
حتى توقفت عيناه عند صفحة مؤرخة بتاريخٍ لن يُمحى من ذاكرته، يوم ذكرى زواج والديها، واليوم ذاته الذي أعلن فيه أمام الجميع رغبته في الزواج من أروى
يتذكر جيدًا كيف تدخلت عائلته آنذاك ليثنوه عن تلك الزيجة، وكيف صرخ في وجههم غاضبًا، مؤكدًا أنهم لا يفعلون ذلك إلا ليُجبروه على الزواج من ليلى !!!
في تلك اللحظة، حين سمعت ليلى كلماته، ركضت نحو غرفتها، وقد انكسرت في داخلها كل قوةٍ تظاهرَت بها، وبكت بحرقةٍ صامتة، كأنها تودع حلمًا كان يسكن قلبها منذ أول نظرة، قرأ كلماتها المدونة التي كتبتها بكل الألم الذي يسكن قلبها :
أُحبك بصمتٍ يُنهكني، وأنتَ لا تشعر
أغرق في تفاصيلك، بينما تمضي كأنني هواء
أي ظلمٍ أشد من أن أُهدي قلبي لمن لا يراه.....؟!
إنه جرحٌ خفي، لا دماء له، لكنه ينزف العمرَ خيبةً بعد خيبة
أتعلم؟ أصعبُ أنواع الظلم أن يُصبح الحُب من طرفٍ واحد،
فأكون أنا المشتعلة......وأنتَ لا ترى سوى رماد !!
انهمرت دموعه بصمت، دموعُ قهرٍ وندمٍ لم يستطع منعها، ولم يحاول حتى أدرك أخيرًا أن الألم الذي يسكن صدره أكبر من أن يُخفى، وأن الندم الذي يخنقه لن يعيد إليه ما فقده
مسح وجنته بكفٍ مرتجف، لكن الدموع انسابت من جديد
كان واعيًا بوضوحٍ موجع أنّده مهما ندم ألف مرة، ومهما تمزق قلبه حسرةً وأسى.....فلن تتبدّدل الحقيقة
ليلى لن تعود، وهو لن يسمح لنفسه بأن تكون له امرأةٌ مثلها
ليس بعد ما اقترفه في حقها، ولا بعد الطريق الذي اختاره بيده، طريقٌ كله خطأ، كله ألم، وكل ما فيه من نتائج عليه أن يتحملها وحده
شهق شهقةً مكتومة، وانكسر صوته وهو يهمس لنفسه انه من ضيع نفسه، وهو من سيدفع الثمن
كان يعلم أن مهما حدث لن تُمحى ليلى من ذاكرته
وأن الوجع الذي يشعر به في غيابها الآن
سيظل ندبةً محفورةً في أعماقه تذكره في كل لحظةٍ أن هناك حب لا يُعوض، ولا يُكرر، ولا يُنسى !!
...............
كان مالك يقود سيارته عائدًا من المستشفى، يطبق شفتيه بضيق بينما يضغط على المقود بيد متعبة، كان الليل ثقيلاً، وأضواء الشارع تتداخل مع صداعه المزعج، لم يكن ينقصه سوى أن تظهر تلك اللجنة الأمنية أمامه فجأة، مصطفة عبر الطريق كجدارٍ لا يمكن تجاوزه
توقف، تنفس بعمق محاولاً كبح انزعاجه، ثم راح يراقب السيارات التي تتقدم ببطء شديد، دقائق تمر كالساعات، حتى حل دوره أخيرًا، اقترب الضابط من نافذته، قائلاً بنبرة رسمية جادة :
انزل من العربية لو سمحت
قطب مالك جبينه، بضيق لكنه لم يجادل، ونزل مضطرًا، ووقف جانبًا بينما بدأ العساكر يفتشون السيارة بدقة كأنهم يبحثون عن شيءٍ ما، حاول أن يتظاهر بالهدوء، لكن نفذ صبره، وقبل ان يتحدث، خرج فجأة أحد العساكر من خلف السيارة وبيده حقيبة بلاستيكية سوداء، تقدم الضابط، وفتح الحقيبة فظهر بداخلها أكياس شفافة تحتوي مادة بيضاء معروف ماهيتها !!!
اتّسعت عينا مالك بذهول، وتجمدت ملامحه في صدمة، أغلق الضابط الحقيبة، ثم أشار بيده للعساكر ليقيدوا مالك الذي شعر بأن الأرض تميد تحت قدميه !!!!!!!
............
