رواية فراشة في سك العقرب ( وما للهوى سلطان ) الجزء الثالث الفصل الثالث 3 بقلم ناهد خالد


 رواية فراشة في سك العقرب ( وما للهوى سلطان ) الجزء الثالث الفصل الثالث 

"بعض الأفعال الغامضة تبقى هكذا لآخر المطاف, فلا تجد تحليل مقنع لها, فقط يظل عقلك مشغول بها" 

"تلك الأشياء التي حذرنا منها عقلنا من البداية ووقعنا فيها برغبتنا, نتمنى بعدها لو نقتل أنفسنا على ما ارتكبناه في حقها" 

ناهد خالد 

مخزن الجبل.. 
في غرفة معتمة, رغم النور بالخارج, لكن لم يصل لها ولو بصيص من النور, دلف إليها بشموخه المعتاد, وجسده المشدود وخلفه رِجاله وبينهم "مرسى" ذراعه الأيمن ورجله المخلص, رمى عقب سيجارته ونفخ دخانها ببرود تام وهو ينظر للمقيد أمامه بتلذذ وقال ساخرًا لمرسي:

-إيه يا مرسي؟ ده كلام بنعامل ضيوفنا كده بردو؟ 

زمجر المقيد من تحت القماشة الموضوعة فوق فمه, فأشار "شاهين" لها يقول باستفزاز له:

-وإيه القماشة دي! هو كلب! كنت حطله لزقة أشيك. 

كان الأخير يتحرك بعنف تحت قيوده والحبال التي تكتفه, وكأنه أسد محبوس في قفص يثور ليتحرر منه, جلب أحد الرِجال كرسي ل "شاهين" فلم يجلس عليهِ بل وضع رجله عليهِ مستندًا بكوعه على ركبته في انحنائه, وأشار لأحدهم بأن يفك قيد فمه, وما إن فعل حتى انطلق الآخر يجهر بصوته ووجهه المحمر من الغضب:

-انتِ فاكر إن اللي بتعمله ده هيعدي؟ هتندم يابن المنشاوي وافتكر إنك انتَ اللي بدأت. 

-يسري الصاوي.. 

رددها بنبرة مستهزئة وأكمل متجاهلاً حديثه:

-كنت فاكر إن بعد اللي عملته هتفلت مني! فكرت إنك هتوه في وسط اعدائي ومش هعرف إنك انتَ اللي عملتها؟ 

هز رأسه برتابة وأكمل:

-في حد كان بيضللني ومش عايزني اوصلك وهعرفه, وفي النهاية اهو.. وصلتلك...

قال كلمته الأخيرة وهو يفتح ذراعيهِ بعنجهية وغرور بعدما استقام في وقفته, وظهرت إمارات الغضب على ملامحه وهو يردف بشر:

-و هحاسبك. 

هدر صوت "يسري" في غضب وعنف يقول:

-ملكش حق تحاسبني, انا اللي ليا حق عندك. 

-عشان البغل اخوك اللي مات.. قصدي اللي قتلته. 

تلونت ملامحه بالشر وهو يقول بغل:

-هتدفع تمن كل نقطة دم نزلت منه. 

ذم شفتيهِ باشمئزاز وقال:

-ميتساهلش.. والله ما يستاهل إني ادفع نص جنية حتى عليه, غِلط وخد جزائه وانتَ اهبل وعاوز تاخد بتاره, حقك.. وحقي لما تحاول اردلك الضربة في صدرك. 

قالها وأكمل وهو يشير للرِجال بعدما دفع الكرسي بقدمه ليسقطه أرضًا:

-فكوه, عاوزه حلو كده وراجل لراجل... رغم إني اشك. 

قام الرِجال بفك قيوده فنهض مواجهًا ل "شاهين" مع فرق البنيه بينهما, خلع "شاهين" سترته والقاها ل "مرسى" وبعدها حرك رقبته يفك تيبسها بعد طريق سفر ويوم مرهق من بدايته, وبعدها بدأ العِراك بينهما, لكمات وضربات وكلاً منهما يكيل للآخر والغلبة كانت ل "شاهين", حتى أبطح الآخر أرضًا بعد حرب ضارية, ووقف على رأسه يلتقط أنفاسه بصعوبة وهو يشعر ببعض النُغز تضرب صدره من جديد, مد كفه ل "مرسي" بإشارة يعلمها الآخر جيدًا وفهم مغزاها فوضع السلاح في كفه, التقطه ووجهه لجاثي أرضًا والتي اتسعت أعينه رعبًا حين قال:

-هصفي حسابي معاك عشان مبقاش شايل منك, وانا احب انام قلبي صافي.

-هتعمل إيه؟

سأله بنبرة ذعر مرتجفة, لا يتوقع ما هو مقدم عليهِ لكنه وبالتأكيد شيء لن يحمد عقباه, ابتسامة هادئة قلما تظهر عليهِ, ويكمن خلف هدوئها كل ما هو سيء, ونظرة بريئة... وفي مضمونها فهي بعيدة كل البعد عن البراءة, وصوته الهادئ أجابه:
 
-رصاصتك جت في حد يخصني ووجعته, ولولا ستر ربنا كان ممكن يروح فيها, لكني مبحاسبش على الافتراضات, هحاسبك على اللي حصل, إنها وجعته وحطته في خطر...  فأنا هسيبلك ذكرى صغيرة تحذرك كل ما تفكر تقرب مني ولا من حد يخصني. 

أنهى حديثه وتحت محاولة الآخر البائسة في الهرب, وقبل أن يعتدل حتى كان يصرخ بألم وقد اخترقت الرصاصة مكان ما في ساقه, نظر له وهو يتلوى محله من وجع الطلقة وقال في برود تام:

-الطلقة دي هتعملك عجز في رجلك, هتعيش طول عمرك أعرج للأسف. 

انحنى عليهِ ليثبت الآخر وهو ينظر له والوجهان يتقابلان, وقال بفحيح مخيف دب الذعر في قلب "يسري":

-المرادي ضربتك طلقة هتعيشك حتى لو عاجز, المره الجايه هتكون نهايتك.

ابتسم ابتسامة صغيرة حين رأى الذعر يتراقص في مقلتي الآخر, والألم يلون ملامحه, فشعر ببعض الراحة, وأن حقه قد اُسترد, استقام واقفًا يشير لمرسي الذي ركض له يساعده في ارتداء سترته, شدها عليهِ يعدل وضعها وأغلق ذرارها في هدوء تام... 

-خدوه لأقرب مستشفى, احنا ناس عندنا قلب بردو. 

غمز بعينه اليسرى في اقصى مرحلة لاستفزاز المنافس وتحرك بعدما وضع كفه الأيسر في جيب بنطاله يسير في ثقة وخيلاء, مرَ بممرات جبيلة ضيقة, وانحناءات عديدة حتى ظهرت فتحة كبيرة عبرها لتظهر أمامه الرِمال الواسعة وسياراته هو وحرسه ترتص في انتظارهم لشقها. 

------------------------ 
عادت لمكان ظنت أنها لن تراه ثانيًة, عادت لحارتها ومسقط رأسها مرة أخرى, وكل شيء كما تركته, لكنها هي من لم تعد كما السابق, خرجت منها "فُلة" بائعة الفُل الضائعة التي لا تحمل همًا ولا تعرف للوجع والفِكر سبيلاً, وجل ما كان يحزنها هو تذكرها لوالدها رحمه الله, وعادت لها "فيروز" الفتاة الحالمة, التي ذاقت حلاوة الحب للمرة الأولى, وعاشت حياة لم تظن أنها بالفعل موجودة سوى بالتلفاز, تلبست شخصية بعيدة كل البُعد عنها, وخاضت مخاطر ومغامرات للعجب أحبتها! عادت الآن مُحملة بمرارة الحب ومذاقه العلقم, وعقلها لا ينفك عن المقارنة بين حياة وأخرى, وبين رجل انجذبت له وآلفته رغم صعوبته وغموضه, ورجل آخر مجهول سيكن من نصيبها. 

-شكرًا.

رددتها للسائق بعدما ترجلت من السيارة, والآن فقط فهمت لِمَ رفض "شاهين" ذلك الفستان الصيفي الذي ارتدته ناوية السفر بهِ, وأخبرها أن ترتدي شيء آخر أكثر مرونة, وإلا كيف كانت ستدخل منطقتها بذلك الفستان الذي لا يليق ابدًا بفُله المسكينة. 

نظرت للبنطال الأسود الذي ترتديه والذي يعلوه كنزة بنصف أكمام بلون زهري بسيط, وحذاء رياضي مماثل في بساطته, تنهدت وهي تسير دالفه منطقتها وعيناها تجري فوقها يمينًا ويسارًا, هل افتقدتها؟ أم انه استنكار للواقع ولعودتها لها! 

-ازيك يا فُلة عاش من شافك. 

-حمد الله على السلامة يا بت يا فُلة, والله وحشتينا. 

-الله هل هلالك يا فُلة إيه الغيبة دي كلها! 

والكثير من الجُمل المشابهة, التي تذكرها بواقعها المريرة وبانتهاء عهد "فيروز" والخروج من الشخصية التي بقت فيها لأيام طويلة. 

شهقة قوية خرجت من "مديحة" حين فتحت الباب وأبصرتها أمامها, لتجذبها إليها في عناق قوي, وهي تحمد الله على سلامتها وعودتها لها مجددًا, وقبلاتها تغرق وجهها ورأسها. 

-مكنتش اعرف إنك بتحبيني اوي كده.

قالتها "فيروز" بمشاغبة باهتة, لتجيبها والدتها معاتبة:

-وانا ليا مين غيرك يا حمارة انتِ, انا كان قلبي مخلوع عليكي, ودلوقتي بس رجع مكانه. 

--------------- 
في طريق عودته للفيلا تحدث "مرسي" وهو يدير رأسه لينظر له من مقعده الأمامي في السيارة:

-باشا السواق وصل الهانم, بيسأل حضرتك يستناها؟ 

كان ينظر للطريق من نافذة سيارته, وعيناه ثابتة تمامًا كملامحه, لم يرمش له جفن, وكأن شيء عظيم سيفوته على الطريق لن يراه أن رمش! 

-باشا! 

رددها "مرسي" حين لاحظ شروده وعدم انتباه له, لكنه كان مخطئ, فلقد سمعه جيدًا, حتى وإن بدى شاردًا فهو يشعر بهمسة النملة من حوله, خرج صوته فارغًا من أي مشاعر ولم يوليهِ انظاره:

-خليه يمشي.

كلمتان كفيلتان بإقامة حرب تنازعيه بين عقله وقلبه.. 
وجمله الواضحة لها تتردد في أذنه حين أخبرها بأنه لا يأخذ حقه من ضعيف, وأنه إن أخذ حقه منها سينتظر تعافيها, وحين قرر إعطائها فرصة العمر بأن يغفر بشرط ألا تظهر أمامه مرة أخرى لم يكن يمزح أو يقول ما هو قابل للتفاوض فيهِ فيما بعد, بل كان قرار.. قرار لا عودة فيه تحت أي ظرف كان. 

-مرسي اعرفلي مين كان بيبعدنا عن يسري, عشان حسابي لسه مخلصش. 

قالها بنبرة سوداء توشي أن الفاعل لربما سيكن عقابه أسوء من يسري نفسه, فلقد قصد أن يضله كي لا يعرف من مرتكب تلك الجريمة في حقه, وتعامل معه على أنه تلميذ بليد سيخضع للتضليل, كان له يد رئيسية في الجريمة ولن يفلت من العقاب أيًا من كان. 

---------------- 
انتفض "نصر" واقفًا يضرب المكتب بقبضته في غضب هزَ الواقف أمامه:

-يعني إيه؟ عرف ازاي إن يسري اللي عملها؟

رد "رأفت" بتوتر:

-والله ما عرف, يا باشا شاهين بيه مش سهل بردو, واحنا عملنا كل احتياطتنا عشان مايوصلش ليسري بس وصل.

هدر "نصر" بصرامة:

-انا عاوز اعرف حالاً يسري جراله إيه, وأي حاجه حصلتله متوصلش للكبار إن شاهين له يد فيها, فهمت يا رأفت, هتعرف تعملها ولا هتجلي منك دي كمان؟ 

اومأ "رأفت" مؤكدًا:

-حاضر.. عنيا يا باشا, محدش هيعرف باللي حصل. 

وخرج تاركًا "نصر" وراءه ناقمًا على من أوصل "شاهين" للحقيقة, جلس على الكرسي خلفه يردد بعدم رضا:

-واخد في وشك زي القطر يا شاهين وده هيأذيك. 

------------------------ 
نظرت لابنتها باستغراب, منذُ بدأ الطعام وهي شاردة تأكل قليلاً وتعبث بالطعام كثيرًا. 

-مالك يا فُلة؟ فيكِ إيه؟ 

انتبهت لها فأجابتها في هدوء مصطنع:

-مفيش كويسة اهو.

نفت "مديحة" بإصرار:

-لا مش كويسة خالص, ده انتِ من وقت ما بدأنا أكل مخلصتيش ربع الطبق, وملاحظة ان عينك حزينة, فيكِ حاجة مش طبيعية, ومتكدبنيش, بنتي وانا عرفاها قولي في إيه؟ 

تركت الملعقة وسندت ضهرها للحائط تقول بهم:

-متلغبطة, حاسة إني غبت 4 سنين مش 4 شهور, حاسه إني في مكان غريب, وكأني اتعودت على ايامي اللي فاتت, اتعودت على الدلع والعيشة الحلوة, لدرجة إني مش عارفة هنزل ابيع فُل تاني واقف في الإشارات ازاي؟ هرجع أقول فُل يا هانم... فُل يا بيه؟ وخدلها عقد الفُل دول بيقولوا الفُل محبة.. وخدلك فُل يسعد نهارك... 

كانت تقول جملها بتأدية مسرحية لطريقتها حينها, وما إن انتهت حتى تنهدت تنهيدة عميقة وقالت بعدها:

-هرجع اعمل كل ده ازاي؟ والف على رجلي بالست ساعات عشان ابيع كام عقد ميكملوش 300 جنية! 

-اتبطري يا بنت بطني. 

قالتها والدتها خارجة عن صمتها, وكان يبدو على ملامحها التجهم وعدم الرضا لكل ما سمعته, واكملت ساخرة ومتهكمة:

-عجبتك عيشة البهوات وحبتيها, وشوفتي نفسك منهم, فمش عارفه ترجعي فُلة بياعة الفُل اللي عايشة في اوضتين فوق سطوح عمارة قربت تقع في حارة معفنة, دلوقتي شوفتي ان ال300 جنية مش فلوس! ده انتِ كنتِ بتحسي نفسك غنية لو عملتيهم! وتيجي تقوليلي يا ماما نحمد ربنا غيرنا مش لاقي ال100 جنية في يومه.. 

احنت "فيروز" رأسها خجلاً من حديث والدتها, والتي أكملت بصرامة ملقية اللوم عليها:

-واضح  إنك لما كنتِ عايشة معاهم مكنتيش بتفكري نفسك إنها مدة وراجعة تاني لاصلك, سبتي خيالك يشطح بيكي, وعيشتي زيهم من غير ما تفتكري إنها لعبة طالت ولا قصرت هتنتهي. 

رفعت "فيروز" رأسها لتظهر عيناها الدامعة وهي تقول بوجع:

-مش من حقي أعيش! مش من حقنا نكون زي الناس دول؟ عملوا إيه هم احسن منا عشان احنا يطلع عين ابونا على الجنية وهم في وجبة يصرفوا الوفات وعادي! 

لملمت "مديحة" الأطباق بعصبية وهي تقول:

-لو كان ربك خلقنا كلنا معانا فلوس وشبعانين, مكنتيش هتلاقي الخباز ولا الجزار ولا بياع الخضار... كانوا كل دول هيشتغلوا ليه مادام معاهم فلوس؟ مكانتش الدنيا هتمشي وربك له حكمة, والغبي اللي يعترض. 

انهت حديثها ونهضت تضع الأطباق في الحوض وهي تغمغم بنزق:

-رجعالي بعد الشهور دي مش عاجبك عيشتك ومتبطرة عليها, بدل ما تشوفي حالنا المايل وتحاولي تعدليه, لو مش عاجبك ياختي بيع الفُل دوري على شغل تاني واشتغليه مادام مبقاش من مقامك.... 

التفت لها تقول بقسوة قليلاً ما تظهرها:

-او كنتِ خليكي هناك, كملي لعبتك ووقعي الباشا في شباكك عشان يعيشك العيشة اللي بتحلمي بيها, بس النهاية كانت هتبقى سودا وعلى ايده.. زي ما الناس دي حلوه وعيشتها متعة لكنهم غدارين وملهموش عزيز. 

نظرت لوالدتها بوجه محتقن من الحزن والألم, وجملتها الأخيرة تحديدًا ضغطت على جرحها الأساسي, جميعهم غدارين, وليس لهم عزيز, فلقد تخيلت أنه سيبقيها بعد تقاربهما لحد ما في رحلتهما للبحيرة, لكنه صدمها بما لم تتوقعه.. لفظها من حياته دون أن ينظر وراءه حتى, وقلبها الغبي يتألم! 

-مسألة وقت... بكره اتعود وانساه.

غمغمت بها لنفسها, تقنع ذاتها بها, وربما تملك حقًا فيها, فكل شيء بالوقت يهون ويمر, وكل وجع يندثر تحت رماد الأيام, رُبما... ولكن أحيانًا تخرج أمور القلب من الحسبة, حتمًا إن كانت صادقة! 

--------------------------- 
بعد يومين... 
تشعر نفسها كطفلة تائهة بين طرقات لم تعرفها قبلاً, تحمل عقود الفُل وتتلفت حولها في ضياع, تقدم خطوة وتأخر عشرات, ذكرها هذا بأول يوم لها في العمل, منذُ سنوات عِدة, وحينها كانت مجرد فتاة مازالت تفهم للدنيا معنى, كانت صغيرة, خائفة, تائهة, متوترة, وكل هذا تشعر بهِ الآن. 

-فُل؟ تاخد فُل يا باشا؟ 

قالتها وهي تنحني على زجاج أول سيارة منذُ أشهر, وحروفها لم تكن بمرحها وثقتها المعتادة, بل كانت مذبذبة, متوترة, وزاد الأمر حين أشار لها الرجل بكفه بأنه لا يهتم, فابتعدت تقف في منتصف السيارات تنظر لهم بحيرة وضياع, حتى انتبهت لنفسها وما تفعله فإن بقت هكذا لن تجني جنيهًا واحدًا على آخر اليوم, زفرت نفس قوي وانطلقت تمر بين السيارات كالفراشة تستحضر شخصيتها القديمة ومرحها, وقد كان... فبعد ساعة كانت قد عادت "فُلة" الفتاة القديمة, فظهرت ابتسامتها واضحة وهي تنحنى على نافذة سيارة بها شاب وفتاة تقول للشاب:

-عقد الفل يجلب المحبة, خدلها عُقد وإن بِطل شغله رجعهولي. 

ضحك الشاب يدرك خديعتها:

-وانا هشوفك فين تاني عشان ارجعهولك؟ 

أشارت للمكان حولها في شقاوة:

-كل يوم مكاني هنا, عنواني معروف ميتوهش, وفُلي كمان يصيب ميخيبش. 

-بس أنا اصلاً بحبه. 

قالتها الفتاة بابتسامة واسعة, فأخبرتها "فُلة" بمراوغة:

-وماله, يجبلك فُل يصالحك بيه عن اغلاطه. 

-بس انا مش غلطان فيها عشان اصالحها. 
رفعت حاجبيها بعبث تنظر لها:

-يعني عمره ما زعلك؟ افتكري زعلة كده زعلة كده.

رأى الشاب أن الفتاة تفكر, فاسرع يقول لها:

-هاتي عقد واتكلي مش ناقصين قلبة بوز, دي بتفكر! 

اسرعت تعطيه عقد من بين العقود المتعلقة في ذراعها, وابتسمت بغمزة للفتاة:

-قلبها كبير وهتسامحك. 

وقضت نصف يومها من هنا لهناك, ووقتها فقط أدركت واقعها, وأن "فُلة" قد عادت.

------------- 
نظر له نظرة غامضة بعدما انهى الاخر حديثه, وظل على صمته دون كلمة أو حركة تؤكد له أنه سمع ما قاله, حتى سأله "معاذ":

-بتبصلي كده ليه؟ 

نكر فوق المكتب بقلمه عدة مرات والصمت يسود, حتى رفع نظره له يسأله باستخفاف:

-يعني نويت تتوب؟ ويا ترى هتعمل عمرة بالمرة؟ 

أخذ "معاذ" نفس عميق كي يتحكم في أعصابه وقال بعدها:

-الموضوع مش محتاج تريقة, ده قرار وخدته.

-ويا ترى إيه السبب؟ 

-افضل احتفظ بالسبب لنفسي.

جملة قالها "معاذ" في هدوء تام, وأظهرت سخرية واضحة على وجه "شاهين" الذي قال بمغزى:

-الله يرحم اللي كان متحمس لكل حاجة بنعملها وكل همه نكبر واسمنا يسمع.

-اسمك يسمع, وتكبر.

قالها "معاذ" بتصحيح, واكمل بعدها تحت نظرات "شاهين" المترصدة لانفعالاته:

-انا طول عمري في الدرى, محدش يعرف عني ومعظم اللي شغالين معاهم ميعرفوش إني موجود اصلاً, انتَ اللي كنت دايمًا في الوش, وكل التعامل معاك انتَ. 

رفع حاجبه بحدة سائلاً:

-ومين عمل كده من الأول؟ مين قالي خليني من بعيد؟ 

-انا, ومقولتش غير كده, انا كنت اجبن من ان اسمي يتعرف وسط المنظمة وتبقى العين عليا, فقررت العب في المستخبي, مين قالك إني بلومك!؟ بالعكس ده كان طلبي, وعشان كده دلوقتي بطلب منك انتَ إني اختفي من الحكاية دي خالص, ومحدش هيهتم بيا لأن قليل اللي يعرف عني. 

دام الصمت لثواني طويلة والنظرات لم تنقطع بينهما, حتى خرج صوت "شاهين" أخيرًا يقول:

-براحتك.. وزي ما مجبرتكش زمان تكون معايا, مش هجبرك دلوقتي تكمل.

تنهد "معاذ" براحة شديدة, ونظر له بامتنان مرددًا:

-شكرًا يا شاهين.

دقات فوق الباب قطعت حديثهما وبعدها صوت السكرتارية الخاصة تخبره أن "مازن" يريد مقابلته, نهض "معاذ" فورًا ينسحب في هدوء:

-هروح مكتبي.

قابل "مازن" على الباب فاكتفيا بإلقاء تحية باردة, ودلف "مازن" للداخل جالسًا فوق كرسي مقابل لمكتب "شاهين" الذي بادر بالحديث بنبرة باردة:

-خير؟ 

كانت ملامح "مازن" هادئة, متقبلة أي رد فعل أو طريقة منه, فقال بتريث:

-عامل إيه؟ 

-تمام. 

رددها باقتضاب دفع الآخر للبوح بالسؤال الذي أتى من أجله:

-متوقعتش تمشي فيروز! دايمًا بتصدمني بافعالك. 

ضحكة ساخرة خرجت منه وبعدها قال:

-مش اللعبة خِلصت؟ والخطة الخايبة بتاعتك انتهت! هخليها اعمل بيها إيه؟ 

-لما مأذتهاش قولت إنها بقت حاجة تهمك.

ضحكة أخرى أشد سخرية وتهكم قبل أن يقول بنبرة قاسية:

-تهمني! انا سيبتها عشان بت خايبة وغلبانة, وعارف إنك مارست سلطتك عليها, لكن في النهاية هي بردو خاينة وكانت ناوية تلعب مع العقرب, فتبقى غبي لو تخيلت إني اعمل معاها اكتر من اللي عملته, تحمد ربها إنها طلعت من بيتي على رجليها. 

نظر له "مازن" بتفحص قبل أن يسأله مباشرًة:

-لو كنت حبيتها كنت هتعمل معاها كده بردو؟ ولا كنت هتسامحها وتكمل معاها؟ 

اقترب ساندًا بذراعيهِ على المكتب أمامه وقال بقوة تليق بهِ:

-كنت هدوس على قلبي بجزمتي وامشيها بردو, عشان انا ماحطش صابعي تحت ضرس حد, ولا اخلي حد يفلت من غير عقاب, عقابي ماشي على الكل حتى لو كان ابويا الله يرحمه. 

عاد يستند على ظهر كرسيه بغرور وكِبر وهو يقول:

-ومتفكرش إني عديتهالك عشان سواد عيونك, انا لولا نورهان كنت حاسبتك على لعبتك الخيبة دي حساب يطلع بعينك, بس حظك.

ولم يذكر مع "نورهان" ترحمه عليها كما فعل حين ذكر والده, وكأن عقله لم يقر بالحقيقة الكاملة والواقع المرير بعد! 

-اللي عدى قفلنا عليه يا شاهين وكفاية اللي خسرناه.

انهى بها "مازن" حديثه قبل أن يخرج من المكتب تاركًا "شاهين" خلفه يغرق في أفكار لا يعلمها أحد غيره.

------------------------ 
بعد مضي شهور لم يكن الناقص شيء.. 
بل كان كل شيء... 
"مقتبس"
ثمانية أشهر مرت... 
مائتان وأربعون يومًا.. 
هل تعي طولهما؟
كم شمس أتت؟ 
وكم قمر رحل؟ 
ثمانية أشهر مرت على الجميع.. 
بمشاعر وأحداث تتضارب كموج البحر.. 
موجة عالية تطيح بكَ بعيدًا.. 
وموجة هادئة تحملك على مهِل وتمتعك.. 
تُرى ماذا تغير في حياة أبطالنا في الأشهر الثمانية؟ 

تعليقات