رواية لاجلها الفصل التاسع والاربعون 49 بقلم امل نصر


 رواية لاجلها الفصل التاسع والاربعون 

لم تستغرق وقتًا كثيرًا في التفكير أو الاستيعاب؛ فقد اعتادت أن  تتوقع منه أي شيء، لكن أن يُدغدغ مشاعرها بطلب الزواج منه ثم يصدمها برغبته في اخفاء الأمر... لتَعرف مدى رخصها في نظره...
هذا ما حفزها للرد سريعًا، فارتفعت قبضة يدها لتضربه على صدره، فوق موضع قلبه الأحمق.
– هو ده اللي عايزه مني؟ جواز على ورقة، كأني خاطية ولا زانية، وحتة الورقة هي اللي هتفرحني بيها؟ أنت مين أنت عشان أقبل بيك في السر؟ شايف نفسك عليا بسبب فلوسك ولا جمالك؟
إن كان على الأولى، فدي سهلة قوي عندي أنفذها مع واحد زين ومِتْرَيِّش، وإن كان على التانية، فأنت اسم الله عليك، بواب في عمارة عنده شكل وهيئة عنك... آه.
تأوهت في الآخِر بتوجُّع حين تمكَّن من الإمساك بقبضتها، ليلوي ذراعيها، ويجعل ظهرها يصطدم بصدره، فيقلب الوضع لصالحه، ويضغط بقوة على مرفقها، مُفنِّدًا ما تفوَّهت به:
– ولما أنا عفْش وفلوسي مش قد مقام جنابك ولا جمالك، عينك مني ليه؟ بتتمسَّحي فيا وتهربي من عريس الغفلة وتطلبي حمايتي ليه؟ فاكراني غبي ومش فاهم حركات  وألاعيبك؟ هيخَيَّل عليا قول واحدة زيك بتتكلم بالعين والحاجب؟
– أيوه بتكلم بالعين والحاجب، لكن برضه أشرف منك...
صرخت بها وهي تستجمع قوتها لتنزع نفسها عنه بعنف، ثم التفتت لتتقابل معه تُردِف بشراسة:
– أتجَّصع في مشيتي ولا أتْمايَص في كلامي، لكن برضه محدش يلمسني غير في الحلال، وإن كنت حطيت عيني عليك، ولا مِلت ليك، فده لسبب يخصني... زي ما أنت معاك الصورة اللي حاططها جنب قلبك ومِتْبِت فيها زي المرض، أنا كمان كان ليا صورة مِتْعَلَّقة في قلبي، وافتكرت إني لقيتها لما شوفتك، بس كنت غبية، هي من إمتى الصورة تجيب الأصل؟!
تعقَّد حاجباه بعدم فهم:
– أنت بتقولي إيه؟ صورة إيه وكلام فاضي إيه؟
ردَّت تدفعه من أمامها ببغض:
– عَنَّك ما فهمت، أنا ماشية وسَايبَها لك، غور في داهية.
صاح مُردِّدًا خلفها:
– غارة لما تْشِيلِك يا بعيدة، أنت بُوز فقر أساسًا مش وش نعمة!
لم ينتظر سوى لحظات قصيرة، وصدره يغلي بنيران الغضب منها ومن إهانتها له، حتى تفاجأ بها تخرج إليه بقطعة قماش ملفوفة على بعض من ملابسها لملمتها على عجالة، متجهة بخطواتها السريعة نحو الباب الخارجي، الأمر الذي استفزه ليمسك باللَّفة مهددًا:
– على فين العَزْم يا بت؟ أنت هتعملي نفسك حرة وليكي كرامة؟
صرخت به وقد ضجَّت منه ومن تعمده لإهانتها:
– حرة وليا كرامة غصب عنك يا خسيس، وإن كان على لفة الهدوم، خدها واشبع بيها، ربنا ياخدك!
أنهت الأخيرة وهي تدفع بلفَّة الملابس في وجهه، ثم التفتت تذهب سريعًا من أمامه، يطالع أثرها بصدمة وعدم تصديق.
.............................

دلفت هي وابنتها إلى داخل البوابة الكبيرة للمنزل بعد رحلة سير من الوحدة الصحية إلى هنا، تنفيذاً لتوصيات الطبيبة إلى ليلى التي دخلت مراحل الشهور الأخيرة في حملها،. وقد كانت فرصة مناسبة للتخفيف من توتر الأم التي لا زالت حتى الآن لا تستوعب ما حدث، ولم تَرسُ مشاعرها بعد على فرح تام أو خوف مُزمن، ولكنها في كل الأحوال تترقب بشوق كبير رد فعل حبيبها بعد أن يعرف.
مزيونة: مش عارفة هقوله كيف يا ليلى؟ بصراحة مكسوفة.
ليلى: وه!
(صدرت من ليلى تغرق في موجة من الضحك المتواصل، بينما اغتاظت والدتها منها حين أخبرتها:)
ليلى: مكسوفة مع جوزك يا مزيونة! دي بِتْك أجرأ منك على كدة.
(لكزتها بخفة بمرفقها:)
مزيونة: أنا مش قاصدة على المعنى اللي في بالك يا مضروبة الدم... بقيتي بَجحة زي عم الشيخ اللي متجوزاه...
(قالت الأخيرة بنوع من السخرية، قابلته ليلى تضيف عليه:)
ليلى: معاذ شيخ آه صح... دا انا كنت نسيت والله...
(وأكملت ضاحكة مرة أخرى أمام سخط والدتها، حتى توقفت أخيراً وقد اقتربتا من درج المدخل، لتردف بتفهُّم بعد أن تنهدت:)
ليلى: فاهماكي والله يا مزيونة، بس دي لحظة حلوة ومش محتاجة تفكير وتدبير، إنتي بس قولي: "أنا حامل يا حمزة"، وسيبي الباقي عليه. دا ما هيصدَّق، وهيفضح الدنيا لوحده.
مزيونة: إنتي هتقوليلي؟ يا خوفي من خِفَّته دي، دا جوزي وأنا عارفاه...
(قالتها مزيونة لتغرق ابنتها في نوبة من الضحك مرة ثانية، فتدفعها عنها بحنق، ثم تنادي على الصغير الذي انتبهت عليه يلعب مع بقية الأطفال:)
مزيونة: غُوري يا بِت يا غُوري، وإنتِ بقيتي تَنحَة كدة زي اللي اتجوزتيه... ريان، انت يا واض يا ريان...
ليلى: مالك بيه؟
مزيونة: ملكيش دعوة.
ليلى: الله يسامحك يا ست الكل...
مزيونة: شوفي يا أخويا على الأدب.
(قالتها مزيونة بسخرية وابنتها تدَّعي البراءة والابتسامة الماكرة تزين محياها، وقد أصبحت كالْكتاب المفتوح أمامها، حتى همَّت أن تعضها حتى تُخرسها، ولكن منعها وصول ريان الذي أصبح يأسرها بالكلمة الساحرة:)
ريان: أيوة يا ماما مزيونة.
مزيونة: يا قلب ماما إنت.
(قالتها تطبع عدة قبلات على وجنتيه، قبل أن تسأله:)
مزيونة: قولي يا نور عيني، بابا قاعد فوق ولا بَرَّة في مشوار؟
(رد يشير لها على جهة مختلفة نحو الإسطبل:)
ريان: لا، عند الأحصنة جُوَّا.
مزيونة: آه... طب روح يا حبيبي كمل لعب مع بنات عمك.
(وانصرف ريان لتعود إلى ابنتها بنظرة حائرة، فتدلها الأخرى بحسم:)
ليلى: إنتي لسه هتفكري يا مزيونة؟ روحي استَفْرَضِي بيه جُوَّا في الجو الهدوء مع الأحصنة، وأنا هَقفل على خِشْمِي سِكْتِم بِكْتِم، لحد ما يطلع الخبر منكم.
(وأشارت على فمها بعلامة الإغلاق، لتُومِئ لها والدتها بتفهُّم، لكن سرعان ما استدركت لشيء آخر:)
مزيونة: أيوة صح، إيه حكاية "مزيونة" اللي لسانك خد عليها دي؟ نسيتي إنك أمك يا أختي؟ ولا تكوني مفكراني سِلفتك كمان والروس اتساوت؟
(أجابتها ببساطة:)
ليلى: ما هي دي الحقيقة يا مزيونة، إنتِ جبتي حاجة من عندك؟
مزيونة: وه حقيقة في عينك، غوري يا بت.
.........................
بعدما تمكنت من صرف ابنتها المزعجة، لتتولى مهمة إخباره بالخبر السعيد وحدها، سارت بِخفة نحو ذلك الإسطبل أسفل المنزل. في مساحته الشاسعة، وزَّعت أبصارها في الأنحاء حولها بحثًا عنه، حتى دلها صوت صهيل الفرس الصغير، حيث كان حمزة مندمجًا في تقليم حوافره، والآخر يتململ برفض، محاولًا الفكاك منه:
ـ اهمد عاد! هي دقايق مش مستاهلة...
رغم حرفيته، إلا أن الصوت الغاضب أظهر خشونة تعامله مع الصغير، الأمر الذي ضاعف من قلقها. لتلفت انتباهه منادية باسمه:
ـ حمزة...
سمعها فالتفت نحوها تاركًا الصغير، والذي ما إن التقط حريته حتى ركض بعفوية من أجل الهروب، فاصطدم بها من تلك المسافة الصغيرة فوقعت للخلف على الأرض صارخة:
ـ آاااه!
ـ يخرب مطنك...
صرخ بها حمزة نحو المهر الصغير لينهض مهرولًا إليها كي يرفعها عن الأرض ويطمئن عليها:
ـ أذاكِ في حاجة الله يخرب بيته ده؟
استجابت بمساعدته تنهض بجذعها متأوهة بألم:
ـ رجلي بس حاساها اتلوت، وضهري يعني بيوجعني خفيف.
ـ خفيف ولا تقيل! حاولي طيب تقومي كده.
سمعت له لتستعين بذراعه كي تستند عليها وتنهض، ولكن ما إن استقامت بجسدها حتى ارتخت قدمها بعدم مقدرة على الوقوف:
ـ لأ لأ يا حمزة، اصبر هبابة على ما الرجل تريح، عشان أقدر أقف وأمشي عليها.
عبَّر حمزة عن تخوفه:
ـ وِه! لأ كده الأمر مش هينفع، تعالي أطلع بيكي فوق ونشوف ونفحصها.
ـ لا استنى يا حمزة، أنت هتشيلني ولا إيه؟
رمقها بضيق وهو يرفعها بين ذراعيه بالفعل:
ـ أمال هسيبك هنا جنب الحصان؟ ولا أسندك على الرجل اللي مش قادرة تقفي عليها؟ الله يخليكِ مش ناقص فقع مرارة.
صمتت أمام تجهمه، وقد شغلها الألم عن الشيء الذي أتت من أجله، لتتركه يخرج بها من الإسطبل، ثم يصعد بها الدرج إلى داخل المنزل. فوجد الثلاثة في انتظاره: الحاجة حسنية وولدها معاذ وزوجته ليلى، التي صاحت بهلع فور أن وقعت عيناها على والدتها محمولة على ذراعي حمزة ونصف ملابسها غير نظيفة:
ـ مالها أمي؟ ليه شايلها يا عم حمزة؟ وليه التبن مبهدل جلابيتها؟
رد حمزة بتقليل من شأن الإصابة كي يطمئنها، وهو يريح زوجته على أقرب أريكة وجدها أمامه، وقد نهض الثلاثة نحوهما لاستكشاف الأمر أيضًا:
ـ خير يا ليلى، هو بس المهر الصغير قدحها (صدمها) وهو بيجري ووقعها على ضهرها.
ضربت ليلى على صدرها بجزع لتسارع والدتها في طمأنتها:
ـ مافيش حاجة يا بت ما تقلقيش.
صرخت بها تفاجئ الجميع ضاربة باتفاقها معها عرض الحائط:
ـ ما أقلقش كيف؟ دا إحنا حالا راجعين من عند الدكتورة! يا مْرِي ، ليكون العيل اللي في بطنك اتأذى؟
صفنت والدتها بإجفال، ليردد معاذ أمام صمت شقيقه الذي أصابه نوع من عدم الاستيعاب:
ـ عيل مين يا مخبلة  أنتِ؟ هي بطنك أنتِ ولا بطنها هي؟
لتتدخل حسنية أيضًا وتجلس جوار زوجة ابنها الأكبر:
ـ وِه يا ليلى، الخلعة (الخوف) على امك بقلبك الرهيف ده تخليكي تخترفي ؟!
صاحت توزع أبصارها نحو الثلاثة:
ـ والله ما بخرف، الدكتورة أكدت إن الحمل إيجابي من التحاليل، أمي حامل يا معاذ، أمي حامل يا عم حمزة!
سمع الأخير منها، ليصرخ بها:
ـ يعني مرتي أنا اللي حامل؟... أنتِ حامل يا مزيونة؟
أومأت له بابتسامة ودمعة انسابت بنعومة على وجنتها وصوت بالكاد يخرج:
ـ هتخاوي يا ريان، يا أبو ريان.
صدحت زغرودة عالية من حسنية تعبر بها عن فرحها تجفل ذلك المصدوم، والذي جثا على ركبتيه أمام زوجته، وقد بدأ يستوعب ويتلاشى عنه الذهول قليلًا، قائلًا بصوت بَحَّ من فرط ما يجتاحه من مشاعر صاخبة:
ـ الأهم إنه جاي منك، أنا هبقى أب لعيل منك.
لم تجد صوتها، وقد فاض بعينيها الشوق لتحقيق أمنيته، تطالعه بصمت أبلغ من ألف حديث. وكأن العالم قد خلا عليها وعليه، لا يشعران بالصخب الدائر حولهما وعبارات التهنئة والجدال مع ليلى التي أخفت ولم تتحدث بالخبر السعيد إلا الآن.
وقد كان معها في عالم اخر، لم يخرجه منه سوى صوت صرختها حين نزلت يده على قدمها بدون قصد منه:
ـ آه رجلي يا حمزة، أنت ناسي إنها اتلوت مني؟
برقت عيناه بهلع يتذكر وقعتها وبداية حديث ليلى، ليأتي دوره صارخًا بفزع:
ـ الوقعة صحيح! ورجلك وضهرك... بسرعة يا معاذ، حضَّر العربية على ما أنزلك بيها، بسرعة خلينا نلحق الدكتور!
......................
داخل منزل منى، التي وقفت تراقب من خلف حائط الطرقة المؤدية إلى المطبخ، بعد أن تحججت بصنع مشروب لكنها لم تفعل، وذلك لانشغالها التام بسماع الحديث المشوق بين شقيقها وزوجته المستقبلية كما ترى أمامها الآن، وابتسامة بلهاء ارتسمت على ثغرها، وكأنها تشاهد فيلماً رومانسياً على الشاشة.

اللي فهمته ده صح يا اعتماد؟ معنى كده إنك وافقتي، أخيراً، وافقتي على جوازي منك يا اعتماد؟

سألها، يريد التأكد من رغبتها، يريد سماع المزيد والمزيد منها. وهي لم تبخل، أو تخجل، أو تتردد هذه المرة، وقد حسمت أمرها:
ـ أنت وضحتها كذا مرة يا خليفة، إنها بقت أمر واقع، وأنا كنت بانكر، وبادفن الرغبة جوة مني لإني باشوف إنها مش من حقي، لكن بعد اللي حصل... حسيت إنها ممكن تكون حكمة من ربنا، إنه ينجيني من الموت عشان أعيش اللي باقي معاك... حتى لو هربي البنات، فهما هيبقوا في عيني من جوة؛ لإنهم جزء منك، رغم إني يعني...

حثها بإصرار كي تكمل:
— رغم إيه يا اعتماد؟ كملي وماتخليش حاجة جوة منك.
تنهدت بأسى، تجيبه بعد لحظات من التفكير:
ـ موضوع حبس والدتهم مِنغِّص فرحتي، مش لإني مَلاك ونسيت عمايلها معايا، ولا لأني بانسى الإساءة بسرعة، لأ... أنا شايلة هم بناتها، مش عايزة يجي عليهم اليوم ويبصوا لي على إني كنت السبب في حبس أمهم...

هو أيضاً يخاف من تلك الفكرة، ولكن ماذا بيده؟
ـ طيب، أعمل إيه؟ قولي لي! أنا كمان زيك شاغلاني الفكرة، لكني استعنت بالله، وهو يحلها من عنده.

ـ فعلا ونعم بالله.... وممكن تطلع بريئة.
قالتها، فقطّب محدقاً بها بشك:
ـ — بريئة! يعني إنتِ تظني إن هالة تكون بريئة؟
​ردت بثقة:
— الله أعلم، واحنا ما شفناش بعينينا برضه، كلها مجرد دلائل، ممكن تكون صحيحة؟ وممكن لأ، لكن في كل الأحوال أنا مسامحاها، ربنا يفك كربها...

شتان بين امرأة تنشر السكينة في قلبك بمجرد الحديث معها، والأخرى لا تجد راحتها إلا في أذية الخلق واشتعال الأجواء حولها.
بدون تفكير أو تدبير، امتدت يده لتمسك بأناملها، ويرفع كفها إلى فمه مقَبِّلاً ظهرها:
ـ ربنا يخليكِ لي يا حظي الحلو اللي اتْدَّخَرَ لي من الدنيا.
​— "جوووول، وجول، وجول!"

تلك الكلمات التي صارت ترددها منى داخل المطبخ بابتهاج، بعد متابعتها للمشهد الأخير وقبلة الكف، حتى ودَّت العودة قبل أن يتطور الأمر، ولكن منعها دوي الهاتف على الرخام المجاور لها، وقد أضاءت الشاشة برقم شقيقها الأصغر، لتجيبه على الفور:
ـ أيوه يا واد يا معاذ، عايز إيه؟... مين؟... مالها مزيونة
....................
​في غرفتها وقد استقرت في الآخير لتتسطح على سريرها في جناح زوجها، في الطابق الثاني من المنزل الكبير، تنفيذاً لتعليمات الطبيبة لها بالراحة حتى تشفى قدمها التي التوت نتيجة وقوعها في الإسطبل، وقد خلفت كدمات أيضاً في ظهرها، تستلزم الرعاية.

 عيناها على الشرفة، تسمع الضجيج الذي يحدثه في الأسفل، وتشعر بحرج شديد من أفعاله؛ وابل من الطلقات النارية يطلقه في الهواء ليزعج الجميع من أفراد البلدة بهذا الخبر السعيد، وكأن لا أحد سينجب غيره.
— يا مَرارك يا مزيونة على الفضايح، أهو ده اللي كنت خايفة منه!
تمتمت بحديث لنفسها قبل أن تجفل بصوت زغروطة عالية من مدخل باب الغرفة، من منى التي صارت تصفق بكفيها بعد ذلك:
— يا حلاوة يا حلاوة على الحريم الحِبلَى، غِرتي مني يا مرة؟ غِرتي مني يا مزيونة؟
رفعت الأخيرة كفيها أمامها بقلة حيلة منها هي الأخرى:
— بوووه عليّا منك إنتي كمان! مش كفاية أخوكي والفضايح اللي عاملها تحت، بيضرب نار في الهوا من دِلوقت؟ أمال لما ينزل ويمسكه بين إيديه هيعمل إيه؟
ضحكت منى لتقترب وتجلس بجوارها ثم تعانقها بفرح شديد وابتهاج، لتستطرد بعد ذلك بتفاخر:
— أخويا ويعمل اللي يعمله. الفرح فرحنا ومحدش له دعوة بينا. إياكِ تِعكَّري فرحته ولا تلومي عليه يا بت! خليه يسوِّي ما بداله.
— يا أختي وهو مديني فرصة أصلاً أكلمه؟
قالتها مزيونة تتذكر أفعاله معها أمام الطبيبة ولهفته في حملها، أو أسئلته الجريئة إليها عن علاقتهما دون خجل، لتردف بغيظ:
— بس عارفة؟ عليّا النعمة لو ما احترم نفسه لأكون مِسوّدة عيشته! احنا مش عيال صغيرين ولا أول خِلفة لينا!
ردت منى بتحدي:
— والله ولو عملتي قرد حتى ما هيسمع منك! ده أخويا وأنا عارفاه، ميقدرش يخبي الفرحة ولا يِكتمها، ودي مش فرحة عاد! دي أمنية عزيزة وربنا نَوّلها له. اسأليني أنا، أكتر واحدة من إخواتي فاهماه وعارفاه.
مَصمَصَت مزيونة بشفتيها، تُظهر عبوساً لتعلق الأخرى بتهديد صريح، رافعة قبضتها:
— مش عاجباكي يا ولا إيه؟
تبسمت مزيونة تدعي تلافي يدها، قبل أن تنتبها الاثنتان على حَمْحَمَة خشنة وحفيف الجلباب مع اقتراب المذكور من الغرفة، ليدلف إليهما قائلاً بزهو، وهو يتوجه بالسلاح الخاص به الـمُرَخَّص، ليضعه في مكانه داخل خزانة الملابس:
— السلام عليكم، عاملة إيه دلوقت يا أم الغايب؟
التوى ثغرها تُلقي بنظرة نحو منى التي أصبحت تتنقل بالنظر بينهما، لتجيبه بحنق:
— زينة يا حمزة، زينة والحمد لله، متشغلش بالك إنت.
التف إليها بعد أن أغلق باب الخزانة:
— مشغّلش نفسي كيف؟ أم الغايب لازم نطمن عليها كل لحظة ونشوف إن كانت عايزة حاجة و...
قَطَعَ يتوجه بالحديث نحو شقيقته، وقد انحنى بجسده إليها:
— وإنتِ قاعدة هنا ليه يا خيّة؟ مش تنزلي تحت تستقبلي مع أمك الحريم اللي جايّة تبارك ولا تشوفي ليكون جوزك عايزك...
علقت مزيونة بصدمة:
— تستقبل حريم! هو إنت لدرجادي وسعتها يا حمزة؟
تبسم يضيف عليها:
— واستقبال رجال كمان في المندرة تحت. بس معاذ قايم بالواجب، وخِليفة برضو جيبته من على مَلا وشه من عِنديها.
وأشار في الأخيرة على منى التي ضحكت لمشهد مزيونة والذهول الذي ارتسم جلياً على ملامحها، لتتولى مهمة الرد بتسلية:
— ما تخف شوية على البنية! توري وشها إزاي دلوقت من الحريمات اللي جايّة تبارك على حِبلها؟ هي كانت أول مرة تحمل هي يعني ولا إيه؟
بغيظ شديد قرصها من وجنتها يؤكد على موقفه:
— أول ولا سابع مرة، ما لكِيش دعوة إنتي! دا غير أن مفيش مرة هتطلع هنا أصلاً. آخرهم يباركوا لأمي، أو أي حد تاني من أهل البيت. ويلا قومي إنتي على جوزك وعيالك، قومي!
تأوَّهت برفض حين وجدته يُنهضها ليصرفها من الغرفة:
— آآه يا حمزة بلاش عمايلك دي! عيب إحنا كبار مش صغيرين.
— بس يا بنت بلا كلام فاضي! حاشرة في أوضة نوم أخوكي مع مراته عشان تناكفيه وفي الآخر عايزة تعملي نفسك العاقلة! دا إنتِ ما عندكيش دم!
— أنا برضه يا اللي عامل نفسي الكبير!
— لا، صغير وإن كان عاجبك.
قال الأخيرة وهو يخرجها من باب الغرفة، قبل أن يصفقه بوجهها، غير آبه بسخطها من الخارج، حتى التفت نحو زوجته التي تحدقه بغيظ ليلقي بجسده جوارها، يسألها ببساطة:
— الجميل قالب وشه ليه؟
كادت أن تصيح غاضبة به، ولكن أسرتها ابتسامته، وذلك الإشراق الذي حل بملامحه السمراء، ليزيدها وسامة، وقد أنسَتْه الفرحة الهم والحزن على سجن ابنة عمه.
فتحدثت برقة بعد أن ذهب عنها الغضب من أفعاله لمجرد النظر إليه عن قرب:
— لدرجادي فرحان يا حمزة؟
طقطق من فمه صوت اعتراض يقول:
— السؤال دا ما يتسألش، عشان لو اللي جوا قلب جوزك، يفوت الكلمة بمراحل. أنا ربنا سعدني بيكي، ودلوقت هيمُن عليا إن شاء الله بنعمة العيل اللي كنت بأتمناه يربطنا ببعض لآخر العمر، يبقى هاعوز إيه تاني؟ ولا كلمة الفرح تيجي إيه جَمب اللي أنا حاسه؟
تبسمت بسعادة انتقلت إليها من حديثه، لتعقّب:
— أهو كلامك ده هو اللي هدى الدنيا معايا شوية، بعد ما كان دمي محروق منك....
صاح بها يعتدل قليلاً بجذعه:
— دمك محروق مني أنا ليه يا ست أم الغايب؟
ردت سريعا وبانفعال:
— كلامك مع الدكتورة يا حبيبي إنت نسيت؟ عمال تاخد وتدي معاها وتهزر، كل دا عشان لقيتيها بتضحكلك صح؟ عجبك الوضع؟
سمع منها لتصدح ضحكته مجلجلة في قلب الغرفة، ليردد:
— وإيه يا قلب حمزة؟، عشت وشفت اليوم دا اللي تغيري عليا فيه.
رفعت سبابتها أمامه نافية بتصميم:
— مش غيييرة يا حمزة لو سمحت، أنا قصدي على الـقِيمة، دي وِليَّة غريبة عنك حتى لو كانت دكتورة برضه كلامك يبقى بحدود معاها.
— حاضر.
صدرت منه سريعاً ليضيف بانتشاء أنتشر داخله:
— البرنسيسة مرتي تآمر وأنا أنفذ، يا سلام هو أنا عندي مين غير أم الغايب عشان أسمع منها وأنفذ الأوامر.
تبسمت بزهو بعدما أرضى ذلك الجانب الأنثوي منها، لترد بإحساس الملكة المتوجة على قلب رجلها:
— أيوه كدة، ناس ما تجيش غير بالعين الحمرا.
— وه يا شرس.
— واهين يا حبيبي.
قالتها بتحدي رداً له، تبهره بقوتها في فرض سيطرتها عليه، وهذا أحب ما على قلبه.
— والكلام ده يسري على الدكتور بس ولا كل الحريم؟
— على الكُل يا حمزة، فاهم، على الكُل.
— إنتِ تؤمري يا أم الغايب...... وأنا أنفذ.
................................
أنهت حمامها بصعوبة في هذا الشيء الذي يُدعى مرحاض، لتعود إلى تلك الغرفة الكئيبة، المليئة بعدد من النساء الغريبات، كل واحدة منهن أتت بجريمة مختلفة وقد احتُسبت الآن هي من ضمنهن.
استقبلتها تلك المرأة المزعجة بسخريتها وقد كانت متكئة على جانبها في رقدتها على المصطبة الأسمنتية، تشمَلُها بنظراتها:
— يا أهلاً باللي استحموا ونضَّفوا، من ليلة واحدة في السجن ما استحملوهاش، أمال هتعملي إيه في بقية الليالي؟ هتدفعي للصول زكية فلوس منين؟ عشان تدفعيلها يومي؟ ولا هتتصرفي؟
قالت الأخيرة بمَغزى جعل هالة تحدجها بازدراء بعد أن كانت مقررة تجاهلها، لتلتفت نحو تلك المرأة التي أنقذتها في عدة مواقف قبل ذلك:
— اسمعي يا ريّسة، لمِّي الكائن دا عني أنا ما فيَّاش مرارة للخناق معاها ولا لتعكير مزاجي.
— كائن!
تمتمت بها نوسة تعتدل عن نومها لتجلس، وقد شعرت بشيء من الإهانة في نعتها بذلك اللفظ الذي لا تعرف معناه من تلك المتعجرفة المتعالية.
— يعني إيه كائن دا كمان؟ تكونيش بتشتِميني يا بت؟
— لمِّي نفسك يا نوسة عنها لأَلمِّك أنا، مش كل شوية الخناق هو.
صاحت بها المرأة التي لجأت لها هالة، لتحذرها بغضب شديد، قابلته نوسة بالطاعة على غير إرادتها، تغمغم بالسباب نحو هالة، ثم صمتت فجأة بنوع من الترقب، حين رأتها تجلس مكانها في ذلك المكان الذي جعلته فراشاً لها، تجفف شعرها بالفوطة الصغيرة الخاصة بها، ثم تُبعدها لتبدأ في مراحل تصفيفه بالفرشاة، تلفت أبصار باقي السجينات نحوها، بعضهن مبهور بالجمال الفطري، وأخريات يطالعنها بحسد.
كانت مندمجة فيما تفعل غير آبهة بنظراتهن، حتى شعرت بشيء ما غير مفهوم داخل الفراش الذي كانت جالسة عليه، شيء... يقرصها... آه!
صدرت منها تقفز عن الفراش الذي كانت جالسة عليه، لتفاجأ بكمّ من فتات الطعام وعليه انتشر عدد من... النمل! لتشهق بجزع، وعيناها تنظران على ملابسها لتفاجأ بنملة وأخرى على الجلباب الذي ترتديه، فصارت تصرخ وتنفضه عنها بجنون جعل عدداً من السجينات يضحكن على مشهدها وأولهم نوسة التي صارت تقهقه وضحكاتها تصل إلى خارج الغرفة المحتجزات داخلها.
................................
— أنا مش كل شوية هفصَل ما بينكم، خلاص ما بقاليش شغلانة غير حضراتكم.
​صرخ الرائد كمال موجهاً حديثه نحو الاثنتين المتشاجرتين، بعد فض النزاع بالقوة بينهما، بعد أن أثارتا الضجة في القسم ، ليأتي حسابهما الآن أمامه، فصاحت نوسة بمظلومية كعادتها:
​— البنت دي هي السبب يا كمال باشا، هي اللي بترمي بلاها عليا، مرَّة اتهمتني بسرقة حاجتها، والمرة دي بتجر شكلي من غير ما أكلمها.
​— كدّابة!
​صرخت هالة، التي تابعت بنبرة باكية تتخلى عن القوة أمامه، فما تعرضت له من إهانة ولحظات مرعبة يجعلها حتى لا تتمالك ذاتها:
​— أولاً في حكاية السرقة، ساهلة قوي، واحدة حرامية زيك تقدر تخفي الحاجة اللي خدتها، وأنا استعوضت ربنا وما اتكلمتش تاني، لكن توصلي إنك تدسِّي فتافيت الأكل جُوَّة بطانيتي قصد، عشان النمل يوصَلِّي وتضحكي عليا إنتي وباقي الوَغْش اللي معاكي، دي اللي لا يمكن أسيب حقي فيها.
​صدرت الأخيرة منها بحرقة شعر بها ذلك المراقب بصمت، ليتوجه إلى السيدة الحارسة:
​— صحيح اللي بتقوله دا يا زكية؟
​ردت المرأة بعملية:
​— فعلاً يا فندم، المسجونات شهدوا إن نوسة أكلت مكانها.
​دافعت الأخيرة:
​— أكلت بس يا كمال باشا، هو الأكل كمان حرام؟
​— وما نضّفتيش مكانك ليه يا روح أمك؟
​صاح بها ليتابع بغضبه:
​— ولا إنتي أصلاً تاكلي ليه مكانها وإنتوا بينكم مشاكل؟ ما هو أنا مش مُدَرِّس وهدادي فيكم أنتوا التلاميذ!
​— بس يا باشا والله ما قصدي...
​قاطعها قبل أن تكمل القَسَم بمسكنتها كالعادة، ليتوجه بالأمر نحو الحارسة:
​— خدي البنت دي وبيِّتيها انفرادي.
​اعترضت تحاول تخليص ذراعها من الحارسة التي أطبقت عليه لتخرج بها وتنفذ الأمر:
​— انفرادي مرة واحدة! دي مجرد خناقة بين اتنين نسوان، يعني مش مستاهلة، السماح المرة دي، ولا تعدل ما بينا وإحنا الاتنين نبيت انفرادي؟
​— لا أنا مش هاخد أوامر منك يا أختي، خدي البنت دي من وشي يا زكية، قبل ما أحكم بأسبوع بدل ليلة.
​— يا مري، أسبوع كمان!
​تمتمت نوسة بتذمُّر، تستجيب لسحبها من الحارسة على غير إرادتها، والتي تحركت تغادر بها بعنف:
​— انجرِّي معايا يا أختي، ناقصنا كمان دلع النِسوان في أم المخروب ده، جاتك الهم.
​تابعتها هالة ببعض الارتياح، فسوف تنام الليلة دون خوف أو إزعاج من تلك المرأة المجنونة، والتفتت تهُمُّ بالذهاب ولكنه أوقفها بصيحته:
​— استني عندك....
تسمّرت محلها برهة قبل أن تعود إليه قائلة على مضض:
— نعم يا سعادة الباشا، في حاجة تانية؟
عاد بكرسيه الذي كان جالساً عليه بأريحية، ثم أطلق السؤال بصوت كالقصف موجهاً إليها:
— ما قولتيش ليه إن جوزك مطلَّقك من قبل ما نقبض عليكي ونجيبك هنا؟
— وإنت مالك؟
صدرت منها هي الأخرى كطلقة نحوه، تُجفّله بها، فاحمرّت عيناه كالجمر ينهرها بحزم:
— اتعدلي في كلامك معايا وافتكري إنت واقفة قصاد مين؟....... ولا تكوني مفكرة إن عشان حبست نوسة يبقى فضلتك عليها......... لاااا، أنا في الحق ما عنديش خيار ولا فاقوس.... بس عندي رحمة.... يعني تقدري تقولي كدة، المرة دي عاملتك شفقة بمبدأ "عزيز قوم ذل".
— متشكرين، كتر خيرك.
ردت بقوة تُحسَد عليها، تخفي تأثرها بقسوة الكلمات التي زَلَّ بها في لحظة غضب منها ومن تعجرفها عليه حتى جعلته يشعر بالندم، ليسب غرورها داخله، قبل أن يعود إليها قائلاً:
— عندك قدرة غريبة إنك تخرجي شيطاني، بجد مش قادر أفهمك، جايبة القوة والبجاحة دي منين وإنتِ واقفة قدامي متهمة في جريمة شروع في قتل، يعني جناية....
— أمال عايزني أبيّن ضعفي عشان تذَلُّل فيا براحتك؟ ما أنا عارفة من الأول إن دا غرضك من البداية، إنك تنتقم مني؟
حقاً تبهره بتفسيرها، حتى أربكته فِي البحث عن إجابة سريعة، فجاء رده بضحكة مضطربة، حتى إذا توقف رد بجدية يُنكر:
— لا إنتِ مجنونة فعلاً، لو مفكرة إني لسة فاكر الموضوع القديم ولا حاطه في بالي، دا شي راح وانتهى.... يعني بلاش تعيشي في الوهم وتخلقي قصة، أنا راجل بأدّي عملي بصورة عملية بحتة دلوقتي، وإنتِ القضية لابساكي، عايزاني أتعامل معاكي إزاي؟ لومي نفسك اللي أخطأت وأجرمت، قبل ما تلومي على الظابط اللي بيأدي عمله.
— شُفتني بعينك ولا اتأكدت بنفسك عشان تحكم إني مجرمة؟
للمرة الثانية تُفاجئه بردودها:
— قصدك إنك بريئة يعني، طب ما تثبتي.
سمعت منه تُشيح بوجهها للناحية الأخرى تزيد من حيرته:
— أنا عايزة أروح الزنزانة، حاسة نفسي تعبانة وعايزة أريَّح.
انتظر لحظات وهو يتمعَّن النظر بها، وعقله تشتَّت في كل الأنحاء، ما بين كره وغضب هناك شيء ما تسلل إليه، شيء لا يريحه على الإطلاق.
— إنت يا عسكري، انْدَه للصول زكية تجي تاخدها.
بعد ذهاب رجل الأمن ينفذ الأمر، وجد نفسه يعود إليها بنبرة جدية ملطَّفة بعض الشيء:
— لو عندك أي حاجة تخص الموضوع حتى لو تافهة قوليها، يمكن يطلع منها دليل براءتك، دا لو إنتِ واثقة من موقفك.
زمت فمها تومئ له بابتسامة صفراء تستفزه بها قائلة بفتور:
— لو افتكرت هقول إن شاء الله.
لتأتي الحارسة بعد ذلك وتخرج بها وتتركه في تخبطه، يدفع القلم الذي كان يمسك به من طول ذراعه، شاعراً بضيق يجثم على صدره.

تعليقات