رواية عاشق قهر النساء الفصل العشرون
وقفت كوثر وجهًا لوجه أمام قاسم، تنظر له بذهول وكأنها تراه لأول مرة. خرج صوتها مهزوزًا بالكاد يُسمع، وتغلغلت الدموع على جفونها وهي تهتف قائلة:
يعني إيه الكلام ده يا قاسم؟ عشق ابن مين؟
نظر قاسم لها تارة، ولعشق الواقف دموعه تتغلغل في عينيه وهو يراقب في هدوء مريب… هدوء ما قبل العاصفة تارة أخري. وشعر بثقل لسانه، وكأنه عاجز عن النطق للحظات.
لم تتحمل أعصاب كوثر، فهجمت عليه تمسكه من ياقة قميصه بغضب وهي تهزه، صارخة دون أن تستوعب أن الذي أمامها هو قاسم… شقيقها الأكبر.
رد عليّا! حرام عليكم… أعصابي اتدمّرت بسببكم! 30 سنة وأنا عايشة في جحيم… بنام وأقوم وأنا بحلم بيه!
حرام عليكم يا قاسم… أنا عملت فيكم إيه علشان تعيشوني 30 سنة في العذاب ده؟! كل ده علشان حبيب حبيت من قلبي… ويوم ما شوفت الفرحة خطفتوها مني زي اللي الموت خطف منه روحه فجأة! أنا لو كرهتكم… هكرهكم بسبب اللي عملتوه فيّا! أبوس إيدك… رد عليّا… قولي عشق ابن مين؟
صرخ قاسم فجأة في وجهها وهو يدفعها ليبعدها عنه قائلًا: عشق ابنِك يا كوثر! أيوه… هو ابنك اللي عايشة طول السنين دي مفكّراه ميت! هو ابنك اللي اتربّى قدّام عينِك… ولا حسّيتي ولا حنّيتي له! وطول عمرك بتحاربيه وعاوزة تخلّصي منه! وجايّة دلوقتي تلوميني؟! لومي نفسك يا كوثر… أنتِ اللي الحقد عماكي وما قدرتيش تشوفي ابنك وهو قدّام عينِك!
شعرت كوثر بقدميها لا تقويان على حملها، وارتخى جسدها ولم تعد تقوى على الوقوف. انهارت فوق الأرض، تنظر إلى عشق بذهول، والدموع كالشلال تتساقط على خديها. وكل ما كان يشغلها وأشعل نيران الندم داخلها كيف لم تشعر به طول تلك السنوات؟ كيف في كل مرة حاولت قتله لم يحن قلبها له؟ حتي وصل بها الحال محاولة قتله بيديها عدة مرات. ولم يشعر قلبها بأي ألم لما تفعله هل الحقد والغضب عمي قلبها لهذا الحد.. بينما كان عشق ينظر لها بذهول… وهدوء مريب… وكره شديد لتلك الحقيقة التي كان يبحث عنها. ولم يُبالِ بأمّ كهذه، ولا يشرفه أن تكون أمه بهذه الحقارة. فهو أكثر من يعرفها ويعرف أفعالها، سواء في ماضيها أو حاضرها.
رفع بصره إلى قاسم قائلًا بهدوء يسبق عاصفة تهدد بالانفجار: أظن كلامي واضح… أنا مش يهمني مين أمي. لأني ما عنديش غير أم واحدة… وهي اللي ربّتني. أنا عاوز أعرف… أنا ابن مين؟ مين أبويا؟
نظر له قاسم بحزن شديد، قائلًا بصوت مكسور: بلاش تحرق نفسك بالنار يا عشق…
وقبل أن يكمل كان هاجم عليه عشق، وقبض على عنقه بقوة، وقد نسي أنه من ربّاه. خرج غضبه المكبوت كله في صرخة واحدة: أنا اتحرقت مرة… ومش فارق معايا الحرق اللي بعدها! وبالمناسبة… أنا وصلت لكل حاجة… بس حابب أسمعها منك!
كان قاسم يختنق، واحتقن وجهه بشدة… وغضب عشق أعماه وقتل كل الحب والاحترام الذي كان يكنه لعائلته… أو العائلة التي ظنها كذلك. نظرت شوق إلى والدها الذي أصبح الموت قريبًا منه، ولا يقوى على الدفاع عن نفسه. ودون تفكير… ركضت بكل قوتها ودَفعت عشق لتُبعده عن قاسم، ثم صفعته على وجهه بقوة، وخرجت منها صرخة عالية تفرغ شاحنة غاضبة وهي تتحدث ولم تفكر في العواقب لاحقًا: حقيقي انت واحد مجرم… وقليل ذوق! وأكيد مجرم زيّك مش بيحل مشكلة غير بالموت والقتل! حقيقي أنا كنت غبية لما افتكرتك إنسان… وعندك قلب زي باقي البشر!
بس لأ… انت حيوان… ومش أي حيوان… انت خنزير بري يا عشق! لا بتفهم… ولا بتحس! وحتى لو مش والدك الحقيقي… على الأقل احترم سِنّه! احترم إنه هو اللي ربّاك! ومين ما كان أبوك… متأكدة هيكون خنزير زيك… لأن دمه بيجري في دمك!
كان عشق ينظر لها بغضب جامح، يضغط على أسنانه، وقبضت يداه حتى برزت عروقه في جسده بالكامل.
احمرت عيناه، والعرق يتساقط من جبينه كدليل على غليان دمه. ودون مقدمة… لكم الطاولة بجانبه لتتحطم وتتبعثر قطعها حولهم.
رفعت شوق يديها تحمي وجهها بخوف، بينما صرخت ياري بفزع وهي تركض لأحضان أسيل التي اهتز جسدها هي الأخرى. أما قاسم، فكان يمسك عنقه محاولًا التقاط أنفاسه. ولما رأى عشق في تلك الحالة، لم يهتم إلا بحماية ابنته من غضب الوحش الكاسر أمامه.
وقف حاجزًا بينهما. فخرج صوت عشق من بين أنين غضبه، بصوت هادئ مريب أرعبهم أكثر من صراخه: أبويا كان سيف الصوفي… اللي خلّيتوني أقتله بيدَيّ الاتنين دول… صح؟
أجابه قاسم بنبرة حزينة وهو يفكر في كل حرفًا قبل ان ينطقه: لو تفتكر يا عشق… حاولت كتير أمنعك… بس ما سمعتش مني. وكان أمر جدّك بالنسبالك زي السيف… وأنا كنت متقيّد… مش قادر أعمل حاجة غير إني قلتلك بلاش يا عشق.
نظر عشق بعينين جاحظتين إلى الدماء المتسرّبة من كفيه آثار الصفعة. ثم استدار وغادر دون إضافة حرف واحد. توجّه زين الذي كان يقف يراقب بصمت.ورغم علمه بأنه يخاطر بحياته… إلا أنه ركض خلفه ولم يتركه وحده في تلك الحالة مهما حدث.
بينما كانت شوق تقف مذهولة، غير مصدقة ما سمعته.
شعرت بالشفقة عليه… والندم على ما قالته… ولعنت تهورها قبل أن تفهم. التفتت إلى قاسم، تنظر له بلوم وعتاب، وقالت بصوت مكسور يمتلئ بالحزن: معقولة؟! سبته يقتل أبوه الحقيقي… وانت عارف كل حاجة؟
انهالت دموع قاسم بحزن وندم شديد وهو يقول: مش كان بإيدي حاجة أعملها… حاولت أمنعه… بس ما سمعش ليّا.
نظرت له كوثر بغضب شديد، ورفعت كفّيها تمسح دموعها بحركة عنيفة وكأنها تعزم بداخلها على الانتقام؛ فابنها الغالي بلا شك يكرهها، ومهما تفعل لن تعوّضه ثلاثين عامًا لم تفعل فيهم شيئًا سوى محاولة قتله والتخلّص منه. نهضت وعيونها كالسِّهام على قاسم وابنته شوق، وهتفت بكره ونبرة شماتة قائلة: صدق المثل اللي قال كما تدين تُدان. انت حرمتني من ابني وهو لسه حتّة لحمة، ما لحقتش حتى أشوفه… والقدر لعب معاك نفس اللعبة وحرمك من بنتك خمس وعشرين سنة. وأنا هحرّمك منها باقي العمر… ده وعد مني يا قاسم.
شعر قاسم بالخوف فضمّ شوق إليه بقوة، وهو أكثر من يعرف أن شقيقته مات قلبها منذ أكثر من ثلاثين عامًا عندما حُرمت من حبّها الأول وعشق قلبها، وثمرة ذلك العشق. هو أبنها عشق الذي لم يتركوا لها لتقرّ عينيها به، بل بكل برود أوهموها بموته ودفنه حيًّا، مما جعلها تصبح كأنثى العنكبوت… لا ترحم من يقع بين يديها.
تبسّمت بسخرية لرؤية الخوف والذعر في عينَي شقيقها. نظرت إلى شوق، تلك التي كانت كالأحمق بينهم، لا تفهم شيئًا مما يحدث، وأقعت بنفسها في حُجرة الذئب وجحيم غضب عشق الذي سيحرقها بنيران غضبه ولن يغفر لها. فهُدؤه ليس غفرانًا… بل استعداد لجحيمٍ قادم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
علي الطريق، كان نيل وصل إلى مرحلة الجنون عندما رأى ساهر يسحب نيلي من يديها إجبارًا ليذهب بها إلى سيارته. لحق به ودون مقدمة لكمه بقوة ليفقد ساهر توازنه ويسقط أرضًا، تاركًا يد نيلي التي كان متشبثًا بها. ليحل مكانه نيل الذي سحبها خلف ظهره كدافع للحماية، ونظر بغضب إلى ذلك الجالس على الأرض وهو يصرخ في وجهه: نيلي دي بتاعتي… بتاعتي أنا وبس! وصدقني مستعد أدفنك مكانك لو فكرت بس تقرب منها مرة تانية. أنت فاهم؟ واعتبر ده آخر تحذير ليك يا ساهر، ولا هنسى إنك ابن عمي نادر… وهيكون ليا تصرّف تاني مش هيعجبك.
نظرت له نيلي وعيناها تتغلغل فيهما الدموع، وابتسامة باهتة ترتسم على وجهها. لا تفهم ما يعني ذلك الشعور الذي احتل قلبها فجأة، لكن بلا شك ذلك الشعور تمهيد لعذاب قادم، وقصة سوف تنتهي قبل أن تبدأ. بينما رفع ساهر يديه ليمسح قطرات الدم المتسربة من شفتَيه، ثم نظر بغضب جامح وصدره يهبط ويعلو مع كل نفس يخرج. وفي لمح البصر وقف أمام نيل وردّ له اللكمة بأخرى. وقبل أن يرد نيل الصفعة، نظر له بذهول عندما سمعه يقول: وأنا مش هيكفّيني موتك لو شوفتك قريب من أختي تاني يا حيوان! حرمتوني منها مرة… ومش هسمح لكم تاخدوها تاني مني. أنت فاهم؟
عقد نيل حاجبيه متعجبًا وهو يقول بدهشة: أختك؟
أجابه ساهر صارخًا في غضب: أيوه! أختي… وأنا ما أسمحش لواحد زيّك يقرب منها!
وهنا خرجت نيلي من صمتها لتنظر إلى ساهر بغضب قائلة: وأنت مين عشان تسمح ولا ما تسمحش؟! وانت عبيط؟ ولا مفكرني هبلة هصدّق أي هبل ويلا سلام… أنا لا أختك ولا أعرفك.
ارتخت ملامح ساهر لتتحول من غضب لحزن دفين في عينيه وهو يقول بهدوء: أنا عارف إنك مش هتصدّقي بالساهل… بس لو انتي واحدة من الاتنين دول، فانتي أختي… وتوأمِك كمان أختي.
كان يتحدث وهو يخرج تلك القلادة الذهبية من جيبه ليفتحها على الصورة التي بداخلها، لتتغلغل الدموع في عينيه قائلًا بابتسامة باهتة: البنتين دول خواتي… والسلسلة دي كانت مع لين. لو أنتم الاتنين نفس اللي في الصورة… أنتم خواتي يا نيلي.
نظر لها في ترقّب ينتظر منها الإجابة، بينما هي تقدمت منه خطوة، أخذت القلادة من يده لتخرج واحدة أخرى هي ترتديها، وهتفت بذهول قائلة: أيوه… دي فعلًا سلسلة لين! فين لين؟! أنت تعرف اي عنها… لو سمحت؟
أضاف ساهر بفرحة وهو ينظر لها بشوق ولهفة ليأخذها إلى حضنه ليعوض ما حُرم منه طوال تلك السنوات: يعني أنتم نفس الاتنين دول… صح؟
رفعت نيلي بصرها له، ظلت صامتة وعقلها يسترجع ما قاله منذ قليل. قلبها يتمنى أن يكون صادقًا وتلتقي بعائلتها الحقيقية، لكن كان عقلها يخلق لها صورة أخرى. وبعد صمت طال للحظات أجابت بهدوء حادقائلة:أيوه… احنا هما. بس أوعى تفكرني عبيطة وهصدّق إنك أخويا فعلًا! وحتى لو كنت صادق… كنت فين من 25 سنة؟ كنت فين لما كنت في ملجأ؟! واحد غريب اللي ربّاني! كنت فين لما علشان أعيش… روّحت واشتغلت في كباريه؟! وتحولت من دكتورة… لراقصة؟! ها!! كنت فين لما كنت بوقف كل ليلة علشان أعرف مين صاحب الحظ اللي هياخدني أقضي معاه الليلة.. كنت فين كل ده؟!
رفعت يديها تمسح دموعها بظهر كفيها وهي تنظر له بجمود، بينما كان ساهر شبه عاجز عن النطق بعد سماع ما قالته. لا يصدق أنها عانت إلى هذا الحد. شعر بالحزن عليها وزاد كرهه لوالده وزوجته. رغم موت والده، لا يزال في نظره هو الملام… وهو السبب الرئيسي في كل معاناتها ومعاناة أخواتها. ولن يغفر له مهما حدث: يوم ما تجوابني… وترجع ليا اللي خسرته… وقتها بس تعالَ وقولّي إنك أخويا.
تركته وتوجهت لتعود إلى سيارة نيل الذي كان يراقب في صمت وذهول ولا يصدق ما سمع. لكن كانت دموع ساهر ونظرات الشوق واللهفة في عينيه كافية لتثبت صدق كل ما قاله الآن. لم يجد ما يقوله ولا يعرف كيف يواسيه، لكن هتف متسائلًا بهدوء: هي بجد أختك؟
وقبل أن يجيب ساهر، التفت الاثنان على صوت محرك السيارة فجأة. صرخ نيل بغضب عندما رأى سيارته تبعد دون إذن منه: والله لاقتلك يا نيلي… يا كلب!
ثم نظر إلى ساهر بغضب وهو يصيح به: إنت السبب! أعمل فيك إيه؟!
ساهر ينظر له بحنق ويتوجه لسيارته دون أن يقول شيئًا. فتح باب السيارة وجلس بداخلها وأدار المحرك وغادر… تاركًا نيل خلفه يمرر يده في شعره بغضب شديد ولا يصدق ما يحدث معه… كل تلك الحوادث في يوم واحد! والسبب الأول والأخير هي تلك اللعينة "نيلي"… التي أصبحت لعنة وأصابته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بينما في القصر… عادت كوثر إلى جناحها، خطواتها ثقيلة، جسدها هزيل، ملامحها شاحبة وكأن الروح خرجت منها ولم تعد… لا شيء سوى دمية تتحرك دون روح. دموعها تنهمر على خديها في صمت مريب، وعقلها يسترجع كل ما كانت تفعله ومحاولاتها الفاشلة لقتل ابنها، قرة عينها، ثمرة عشقها التي كانت تسعى طوال تلك السنوات للانتقام له.
انتبَهت على صوت رنين الهاتف الذي كان على الفراش… جلست فوق الأرض تبكي دون صوت، ورنين الهاتف يتصاعد تارة ويصمت تارة. وفجأة اتسعت عينا كوثر بدهشة ورعب وكأنها تذكرت شيئًا كانت قد نسيته. نهضت بسرعة، حملت الهاتف بيدين مرتجفتين، وعادت لتتصل على نفس الرقم وهي ترتجف في خوف، وتمرر يديها على شعرها بعنف. ودون مقدمة، أتى صوت المتصل قائلًا عبر سماعة الهاتف:
"أين أنتِ مدام؟ لقد نفذنا ما طلبتي… والسيارة بعد نصف ساعة ستنفجر."
سقط الهاتف من يديها، وأهتز جسدها وهي تتراجع وتنظر إليه بصدمة وذهول وكأنه وحش سيلتهمها…وفجأة صرخت بذعر وجنون وهي تهرول لتغادر دون تفكير في شيء غير الذي يشغلها، حتى الهاتف تركته كما هو:
"لااااا!! عشق!! هقتلّكم يا كلاب لو ابني حصل له حاجة!!"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حيث توجد لين… كانت تغرق في سباتها ولم تشعر بحالة الفوضى المحيطة بها. والفريق الطبي الذي كان يرعاها يُقتل واحدًا تلو الآخر على يد رجال غامضين لا يظهر منهم سوى عينين حادتين تقتلان بدمٍ بارد، وكأن الأمر وقتل الأرواح وتناثر الدماء شيء عادي بالنسبة لهم.
وسط تلك الفوضى دلف شخص غامض يرتدي بالطو أسود وقناعًا يخفي وجهه، يتخطّى الجثث ببرود قاتل.
توجّه نحو لين، نظر لها لثوانٍ، ملمسًا بيده بشرتها الشاحبة وهو يقول بصوت هادئ لكن يحمل في طيّاته غموضًا لا يُفسَّر:
"وأخيرًا… رجعت أنعم بالمسك ولمس جسمِك. اللي من يوم ما لمسته وأنا زي المدمن… خمس شهور وأنا مستنّي اللحظة دي. ومش هسمح تضيعي مني تاني، مهما حصل… انتي ملكي، ملكي أنا وبس."
