رواية عاشق قهر النساء الفصل السادس والعشرون
عبرت سيارة سوداء بوابة حديدية إلى مزرعة قديمة معزولة عن الحياة البشرية في مكان شبه مهجور...
نظرت شوق من خلال نافذة السيارة إلى المكان حولها، شعرت بالخوف والقلق يتربصان بها منذ البداية، لم تشعر بالاطمئنان لما يحدث، لكن فضولها كان يقودها إلى الهلاك.
التفتت لتنظر إلى سامح الجالس بجوارها، وخرج صوتها مهزوزًا، تلوح في عينيها نظرة قلق وريبة: إنت جايبني فين؟ وإيه المكان ده؟ أول مرة أعرف إن عندك مكان زي ده.
نظر لها سامح وابتسامة ساخرة ترتسم على شفتيه، رفع يده ونزع قبعته. عقدت شوق حاجبيها باستغراب، وضاقت عينيها بشك وهي تنظر إلى شعره الأسود اللامع، الذي لا يبدو لرجل تخطى من العمر خمسين عامًا، وهتفت مستغربة قائلة: إنت من إمتى بتصبغ شعرك؟ طول عمرك وإنت بتقول الشعر الأبيض هيبة ودل على الحكمة.
فلتت منه ضحكة عالية وهو ينظر لها قائلًا: تصدقي إنك أغبى بنت شوفتها في حياتي؟ يعني بالعقل كده، في حد ممكن يرجع من الموت؟
عقدت حاجبيها باستغراب وضاقت عينيها بشك وشعرت أن ما يحدث حولها ليس إلا فخًا، وبغبائها وقعت به للمرة الثانية، تخطئ نفس الخطأ: قصدك إيه؟ مش فاهمة.
أشار سامح نحو مدخل المبنى، حيث تقف كوثر، ضامة ذراعيها إلى صدرها، وابتسامة خبيثة تزين شفتيها، قائلًا بخبث: بصي هناك كده وإنتِ هتفهمي لوحدك… ده لو كان عندك عقل أصلًا.
حدقت به لثوانٍ، والدموع تغلغلت في عينيها من شدة خوفها وقلقها، ثم التفتت حيث أشار، وعندما رأت كوثر تأكدت أن ما يحدث كان فخًا نُصب لها، وبغبائها وقعت فيه دون أن يبذلوا عناء. انهمرت دموعها على خديها وعادت تنظر له قائلة بخوف: إنت مين؟ وعاوز مني اي؟
رفع يده ينزع القناع اللاصق عن وجهه. اتسعت عينيها في دهشة وذهول، وخرج صوتها عاليًا دون وعي منها بسبب تأثير الصدمة عليها: إنت…
تبسم زين بسخرية قائلًا: مفاجأة مش كده؟
---------
في المستشفى... بحث عشق عنها في كل مكان خطر على باله، ولم يجد لها أثرًا. وآخر شيء عاد إلى موظفة الاستقبال، واقفًا يلهث أمام المكتب. صمت لثوانٍ يلتقط أنفاسه قبل أن يخرج صوته مرهقًا قائلًا: لو سمحتي، ما شفتيش البنت اللي كانت داخلة معايا من ساعة تقريبًا؟
ظلت صامتة للحظات تفكر، قبل أن تجيب قائلة: أيوه شوفتها، كانت خارجة مع واحد.
عقد حاجبيه مستغربًا: واحد مين ده؟
أجابت بأسف: للأسف ما أعرفش، بس كان راجل باين عليه كبير في السن شوية.
صمت لثوانٍ يفكر بحيرة، قبل أن يخرج هاتفه ويبحث عن صورة ألي قاسم وحازم، ثبتها على الشاشة وقربها من وجهها قائلًا: أي واحد في دول؟
تأملت الصورة للحظات ثم أضافت مستنكرة: ولا واحد منهم.
زاد حيرته وهو يقول:متأكدة؟
أجابت بثقة: أيوه يا فندم.
زفر بضيق، وغضب متصاعد على ملامحه، تحرك ليغادر ثم توقف فجأة، وعاد إليها قائلًا بهدوء مريب: المستشفى دي فيها كاميرات؟
--------
أما أمام غرفة العمليات، كان نيل يقطع الطرق ذهابًا وإيابًا، والقلق مهيمن على ملامحه. لا يعرف كم من الوقت مر وهو ينتظر أن يخرج أحد يطمئن قلبه على معشوقته العندية. نظر إلى الساعة وفقد التحكم في غضبه ونفد صبره، فصرخ غاضبًا وهو يتوجه لدفع الباب بقدمه واندفع إلى داخل غرفة العمليات: خمس ساعات بتعملوا إيه كل ده يا بهايم؟ مراتي حصل لها إيه؟
وقف أمامه اثنان من التمرجيات يحاولان منعه من دخول غرفة العمليات الأساسية، وأحدهم يقول: لو سمحت اهدى يا أستاذ، هي كويسة والدكتور بيعمل لها اللازم، وشوية وهتخرج، ما تقلقش.
خرج الأطباء من داخل غرفة العمليات على صياح نيل، ورئيسهم يقول بغضب: في إيه يا حمار إنت فاكرها زريبة؟ اتفضل استنى بره.
نظر له نيل بغضب جامح، وتجمد طاقم العمل من الخوف وهم ينتظرون رد فعل نيل، وكيف سيقتل ذلك الأحمق الذي تطاول عليه. تقدم نحوه بخطوات ثابتة وهو يقول بهدوء مريب: إنت بتقولي لمين حمار يا ابن ستين حمار؟
وقبل أن يهجم على الطبيب، أسرع طبيب آخر ووقف حاجزًا بينه وبين الطبيب وهو يقول بخفوت وخوف: حقك عليا أنا يا نيل بيه، الدكتور عزّة لسه راجع من أمريكا، وأكيد لو يعرف حضرتك ما كانش اتعامل بالشكل ده.
أضاف الطبيب عزّة بحنق قائلًا: إنت بتعتذر للحيوان ده ليه؟ ده أنا هطلب له الأمن، وهعرفه مكانة الحيوان ده إزاي يطاول على دكتور، ودخول غرفة العمليات بالشكل ده لوحده جريمة.
نظر نيل له بغضب أكبر، فالتفت الطبيب بخوف إلى عزّة وهو يقول بخفوت مقلق: اهدَى يا دكتور عزّة، الأستاذ نيل الجوكر جوز المدام اللي جوه.
أضاف عزّة بغضب وصوت مرتفع: مين ما كان يكون، مش مسموح له يدخل العمليات بالشكل ده. افرض كان بسبب التصرف الهمجي ده حصل خطأ في العملية، والمريضة حصل لها حاجة، مين كان هيتحمل المسؤولية؟
وهنا نسي نيل غضبه من ذلك الأحمق الذي كان يتلاعب في إعدادات موته، وهتف بقلق شديد قائلًا: نيلي فين؟ وحصل لها إيه؟ عاوز أشوفها.
أجابه الطبيب بهدوء: هي دلوقتي كويسة، ونقلناها العناية، وسبب التأخير إن المدام كانت حامل وحصل لها نزيف داخل الرحم...
قاطعه نيل فجأة وهو يقول بذهول: قول كده تاني، كنت بتقول إيه؟
أجابه الطبيب باستغراب: حصل لها نزيف داخل الرحم.
قاطعه بلهفة: لا، اللي قبله.
— المدام كانت حامل.
ضحك نيل بسعادة غير مصدق أن حبيبته تحمل في داخلها ثمرة حبه. وهو يقول دون أن يستوعب موضع الحديث: نيلي... نيلي حامل بجد!
التفت الأطباء لبعضهم، وتبدلت نظرات شفقة بينهم. لاحظ نيل نظراتهم فتساءل بقلق: مالكُم بتبصوا لبعض كده ليه؟
أجابه عزّة بهدوء وحذر: إحنا عملنا إزالة رحم للمدام.
وقعت الجملة على أذن نيل كالصاعقة، اتسعت عيناه بدهشة، وظل صامتًا لثوانٍ يحاول استيعاب الصدمة، قبل أن يخرج صوته مهزوزًا قائلًا: عملتوا… إزالة رحم؟
------------
كان ليل يقود السيارة على طريقٍ شبه مهجور، متوجهًا إلى مصيرًا لا يزال مجهولًا. وساهر جالس بجانبه، شاردًا في الطريق أمامه، وهو يسند مرفقه على حافة النافذة. تذكّر آخر ما قاله نادر قبل أن يموت، فالتفت إلى ليل قائلًا بهدوء مريب: ليل، هسألك سؤال وأتمنى تجاوبني عليه بصراحة.
كان ليل شاردًا يفكر في معشوقته لين، وكيف ستكون المواجهة بينهم بعد ما طعنها بالخذلان وتركها في أكثر وقت كانت بحاجة إليه. استيقظ من دوّامته المظلمة على صوت ساهر، فالتفت إليه وعقد حاجبيه مستغربًا وهو يقول: أكيد لو عارف الإجابة مش هكذب عليك.
وأضاف بثقة: متأكد إنك الوحيد اللي هتعرف.
زاد استغرابه فهتف بلهفة وشك: سؤال إيه ده؟
صمت لثوانٍ يتأمل ملامحه بنظرة غامضة قبل أن يقول:إيه السر اللي أبوك كان مخبيه عني؟
توترت ملامح ليل وحاول التهرب من الإجابة قائلًا:
سر إيه يا ساهر؟ مش فاهم، عاوز توصل لإيه بالظبط؟
— متأكد إنك فاهم وعارف أنا عاوز إيه. إنت كنت أقرب واحد فينا لبابا، ومتأكد إنك عارف كل أسراره. عاوز أعرف هو كان مخبي عني إيه؟
تنهد ليل بهدوء وهو يوقف السيارة، ثم نظر إلى ساهر قائلًا:ساهر، لو سمحت بلاش تفتح في الماضي، وإحنا لسه لقينا شِري وشرهان. خلّينا نجتمع ونعوض بعض وننسى كل اللي فات.
أمسك ساهر كف ليل برجاء متوسل وهو يقول بحزن:ليل، أنا بجد مش هرتاح غير لما أعرف كل حاجة. أنا دلوقتي ماليش غيرك يا ليل. أسأله رجاءً، احكيلي كان مخبي عني إيه؟ إيه اللي يخليه يضحي بعياله علشان يحافظ عليّ؟ لو سمحت يا ليل ريّحني علشان خاطري.
تحولت نظرات ليل إلى حزن وشفقة، وأجاب بهدوء قائلًا: كان بيحافظ عليك إنت يا ساهر. إنت ما تعرفش بابا كان بيحبك قد إيه، رغم إنك مش ابنه، بس ضحّى كتير علشان يحافظ عليك.
اتسعت عينا ساهر بدهشة وذهول قائلًا، وهو يُرخي قبضته عن كف ليل دون إرادة: رغم إني مش ابنه؟ إزاي؟ مش فاهم.
أجابه بحزن وهو يربت على كتفه برفق:زي ما أنا وزين مش عيال نادر، إنت كمان مش ابنه يا ساهر. نادر ما كانش عنده عيال غير شِري وشرهان من طنط حبيبة. أنا ما كنتش أعرف الموضوع ده غير قبل موته بيومين، وعرفت بالصدفة من كتاب مذكراته.
نظر ليل إلى ساهر، الذي انهمرت دموعه على خديه وهو يقول بخفوت: أمال أنا ابن مين؟
-----------
في المزرعة..جالسة شوق مُقيَّدة على كرسي خشبي صغير، دموعها تنهمر وجسدها يرتجف من الخوف، وهي تحدق برعب في زين وكوثر الواقفين أمامها. خرج صوتها مهزوزًا قائلة: إنتوا جايبني هنا ليه وعاوزين مني إيه؟ وفين لين أختي؟ عاوزه أشوفها.
أخرستها كوثر بصفعة قوية على خدها جعلت شفتيها تنزف، ثم أمسكتها من شعرها وهي تسحبها منه بعنف قائلة بشر، بينما كانت شوق تبكي متألمة من قبضتها العنيفة: كله بسببك يا غبية، لو ما كنتيش ظهرتي ما كانش كل ده حصل.
أضافت شوق ببكاء وصوت متألم قائلة: أنا مش فاهمة إنتي عاوزه مني إيه، ولا أنا وخواتي عملنا لك إيه؟
ضحكت كوثر بسخرية، ثم زادت قبضتها عنفًا ليزيد ألم شوق معها وهي تقول: خواتك؟ إنتِ لسه مش فاهمة إنك مش بنت سامح، وما عندكيش خوات.
أجابتها بهدوء موجوع وصوت باكٍ: العِلاقات عمرها ما كانت بالدم، واللي زيك مستحيل يفهموا كده. أنا ونيلي ولين هنفضل خوات مهما حصل.
ذهلت كوثر لثوانٍ من ردها، وتغلغلت الدموع في عينيها، وارتخت يداها عنها، وكأن كلمات شوق الصادقة أحيت بداخلها جرحًا قديمًا كانت تحاول مداواته منذ زمن طويل... لاحظ زين نظرات كوثر ومتوترها فاقترب ليبعدها عن شوق وهو يقول بخبث: اهدي يا كوثر هانم، إحنا محتاجين الطُعم يفضل حي لحد ما نصطاد السمكة.
نظرت له كوثر نظرة متوترة، ثم نظرت إلى شوق بغموض قائلة: إنت إيه اللي مخليك متأكد إن عشق ممكن يخاطر بحياته علشانها؟
التفت زين إلى شوق بابتسامة خبيثة وهو يقول: قلبه.
نظر كلا من شوق وكوثر إليه باستغراب ودهشة، وهتفت كوثر مستغربة: مش فاهمة، عاوز تقول إيه؟
أجاب زين بغموض: مع الوقت هتفهمي، وأنا متأكد زي ما انا شايفك إن عشق مستعد يعمل أي حاجة علشانها.
نظرت له شوق بفضول واستغراب قائلة بخفوت: وهيعمل أي حاجة علشاني أنا ليه؟ مش فاهمة.
تبسم زين بسخرية قائلًا وهو ينحني عليها يتأمل ملامحها المرتبكة، بينما شعرت هي بالاشمئزاز منه فتراجعت تحاول الابتعاد عنه قدر الإمكان. تجمدت ملامحها فجأة عندما سمعته يقول: علشان إنتِ بقيتي بالنسبة له الوتر اللي من غيره مستحيل يعيش، وأنا متأكد إنه دلوقتي قالّب الدنيا عليكي وهيعمل المستحيل علشان يوصلك.
نظرت كوثر إلى زين بقلق شديد قائلة بخفوت: إنت واعدني مش هتأذيه.
نظر لها بابتسامة ساخرة قبل أن يبتعد عن شوق قائلًا بخبث: واعدك… لو هو أبنك. أنا طبعًا مش معقولة أقتل أخويا يعني.
شعرت كوثر بالريبة منه رغم أنه ابنها لا إنها تشعر بالخوف ليس منه هو بلا مما هو ناوي اليه. تأملته للحظات قبل أن تقول بهدوء مريب: أعرف إزاي أي واحد فيهم ابني؟
----------
في أحد المستشفيات البسيطة… وقف جورج أمام غرفة العمليات، ينظر بحنق إلى ياري الجالسة أمامه تحتضن طفل مرام إلى صدرها، ودموعها تنهمر على خديها بلا توقف. تقدّم نحوها بخطوات ثابتة وهو يقول بغضب: إنتِ عارفة يا غبية لو ما كنتش وصلت في الوقت المناسب كان إيه اللي حصل؟
نظرت له بخوف وخجل وهي تقول ببكاء: ما كانش قصدي الأمور توصل لحد هنا، ما طلبتش يأذيها، صدقني يا جورج.
ضغط جورج على أسنانه بغيظ وهو يقول: وإنتِ ليه سلّطتي عليها من الأساس؟ الست أذتك في إيه علشان تعملي فيها كده؟
أخفضت رأسها بخجل قائلة: كنت عاوزاني أفضل أتفرج عليها وهي بتاخد عشق مني.
تأملها للحظات، ثم تنهد بحزن وهو يجلس بجانبها قائلًا بهدوء ويأس: وإنتِ كده يعني عشق هيحبك؟ ولا هيفكر فيكِ؟ ده لو عرف إن اللي حصل ده بسببك مش بعيد يدفنك حيّة.
شهقت بالبكاء كطفلة تخشى عقاب أمها وهي تقول: اللي حصل ده ما كانش قصدي ولا كان ذنبي، صدقني يا جورج. ساعدني بالله عليك، أنا ماليش صديق ولا حد هيفهمني غيرك.
تأملها بحزن، ورفع يده دون وعي ليضمها إلى صدره، وفي آخر لحظة تذكّر مكانته وأنه لا يحق له لمسها أو الاقتراب منها من الأساس، فنهض مبتعدًا عنها.
توترت ملامحها عندما أمسكت كفه برجاء قائلة: هتساعدني… مش كده؟
أغلق عينيه محاولًا الحفاظ على هدوئه، قبل أن يلتفت إليها قائلًا بهدوء: إنتِ عارفة لو ما رحتش بنفسي لعشق وحكيت له اللي حصل ده ممكن يعمل فيّ إيه؟
نظرت له برجاء، وعيناها تبرقان بالدموع قائلة: أكيد مش هيعمل كده… صح؟
أغلق عينيه في حيرة، وظل صامتًا لثوانٍ يحاول التحكم في عواطفه، ثم نظر إليها بابتسامة باهتة محاولًا طمأنتها، وعاد ليجلس بجانبها قائلًا: طيب يا ستي، أنا بوعدك مش هجيب له سيرة… بس هي مش ممكن تسكت وهتقول له، أكيد… هتعملي إيه؟
ابتلعت ريقها بخوف وهي تنظر إلى الطفل الصغير النائم على ذراعيها.
-----------
في القصر… عاد كلٌ من قاسم وحازم إلى القصر بعد دفن والدهم، وسؤال واحد يتردد في رأس قاسم لا يجد له جوابًا: ماذا أخذ جلال من كل تلك الثروة التي جمعها؟ ظلّ طوال حياته يقتل وينهب حقوق الضعفاء، وماذا أخذ؟ حتى في آخر لحظاته على ظهر الأرض، لم يجد أحدًا بجانبه، لا أحفاده الذين كان يصارع من أجل بناء مستقبلهم، ولا من كان يتأمر معهم وحتي أبناؤه؛ كلٌّ منهم عاد يفكر كيف سيصرف نصيبه من الميراث، وماذا سيفعل به. وماذا أخذ هو؟ لا شيء… سوى سوء عمله استيقظ قاسم من شروده على صوت حازم قائلًا وهو يقف على باب مكتب جلال فاتحًا الباب وينظر إليه:
لو سمحت يا قاسم، محتاج أتكلم معاك شوية على انفراد.
نظر له قاسم وقد عرف عن ماذا سيدور الحديث حتى قبل أن يسمعه، تنهد بعمق، وتوجّه لدخول المكتب خلف شقيقه. جلس كلاهما على الكرسيين كما كانا يجلسان في وجود والدهم. نظر قاسم بحزن إلى كرسي جلال الذي أصبح فارغًا، ولا يعرف حتى الآن من سيرثه.
التفت على صوت حازم يقول: عاوز أعرف يا قاسم إيه الكلام اللي قولته في المقابر ده؟
تنهد قاسم بحزن، وألم ضميره يخنقه، وخرج صوته مهزوزًا قائلًا: الحقيقة يا حازم… واري كل ثروة جريمة، فبالك بثروة الجوكر؟
عقد حازم حاجبيه مستغربًا وهو يقول: عاوز تقول إيه؟ مش فاهم.
أجاب قاسم بنفس الحزن: عاوز أقول جه الوقت الحق يرجع لأصحابه يا حازم. أبوك مات، وما خدش حاجة معاه، وإحنا كمان هنموت ومش هناخد حاجة. وأظن عملنا فلوس تعيش عيالنا لعشر أجيال قدّام. كفاية كده يا حازم… أنا بجد تعبت، وفكرة الموت بيقرب مني بقتلتني في للحظة مليون. خايف أموت مديون وأنا عايش طول عمري مليونير. عيال سيف لازم حقهم يرجع لهم وكفاية لحد هنا بقا.
قطع حديثهم دخول كوثر فجأة. وقفت أمام قاسم بجمود، وضعت على سطح المكتب أمامه صورتين وهي تقول بكره شديد: أي واحد فيهم ابني يا قاسم؟
عقد حازم حاجبيه مستغربًا وهو ينظر إلى الصور، بينما أجاب قاسم بهدوء، ولم ينظر حتى لما وضعت: وإيه الجديد يعني يا كوثر هانم؟ الاتنين كانوا قدامك طول الوقت وما عرفتيش مين فيهم ابنك. اتخلصي من الكراهية والحقد اللي جواكِ يا كوثر، وصدقيني هتعرفي لوحدك مين هو ابنك.
نظرت له كوثر بصمت مريب، وانهمرت دموعها على خديها لأول مرة… دموع ندم. ودون سابق إنذار، تحولت نظراتها إلى كره شديد، وأخرجت من حقيبتها مسدسًا رفعته في وجه قاسم قائلة، ودموعها تسبق كلماتها: وإنت متخيل بعد ده كله إني ممكن أتخلص من كراهيتي اللي إنتوا كنتوا سببها؟
