![]() |
رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل السابع والعشرون بقلم فاطيما يوسف
ومع نسيم الصباح وزقزقة العصافير فتح عينيه المتثاقلتين من أثر النوم على مداعبة الشمس لوجهه، نظر بجانبه وجدها تغط في سبات عميق، فاقترب من أذنها وهمس :
ـ فوقي يا كسولة بزياداكي نوم عاد ورانا يوم طويل .
فتحت عينيها الجميلتين بثقل، وهي تبتسم له بسعادة لتقول بنبرة صوت رقيقة:
ـ صباح الخير يا حبيبي ، الساعة كام دلوك؟
أجابها بغمزة شقية من عينيه :
ـ الساعة دلوك سبعة صباحاً ، ياقلب حبيبك.
ثم اقترب من أذنها مقبلاً جانبهما وهو يهمس بصوت خشن مبحوح وبنبرة عابثة:
ـ احكي لي ليلتك امبارح كانت عاملة كيف؟
يا ريت تكوني انبسطي مع حضرتنا يا "رحمتي" .
داعبت صدره بأناملها الرقيقة ليسحبها فوق صدره على الفور نظراً لدلالها عليه وهي تجيبه بعيناي تلتمع عشقا وشغفا لذاك المتسلط والمهيمن لمشاعرها :
ـ ليلتي كانت ولا ألف ليلة وليلة، انبسطت قوي ، كنت حاسة إني "رحمة" جَديدة، مفاجئتك ليا كانت زينة قوي ، كنت حاسة إني طايرة في السما من شوقي ليك .
قبلها من شعرها الطويل المنسدل على ذراعيه ليهتف بمكر:
ـ تمام ، اني اكده عرفت ظبطتك يا صغنن ، ورد وشموع ودلال وهدية حلوة كانت هتاكل منك حتة، بصراحة اني فخور بنفسي وبذوق "كوكي" علشان هي اللي اختارت الفستان الجاحد دي .
قامت من أحضانه سريعاً وهي تستند بجزعيها على السرير ورددت بذهول:
ـ كوكي! دي انت صباحك مش فايت يابن البنان النهاردة، كيف تخليها تختار قميص نوم ليا داي حاجة خاصة؟
هتف بنفس نبرته الماكرة:
ـ الله هو انتِ مش قلتي لي المؤمنون إخوة يا رحمتي ما تخليكي كد كلامك عاد .
حركت لسانها بين شفتيها وهي تتحدث على المكشوف :
ـ يعني أني مرتك وفي حضنك، وهتتغزَل فيا شوي، وهترجع تكيدني شوي، ما تجيب من الآخر ونتكلم بالمكشوف علشان انت عارف ان اني على علم ان هي أختك، وعارفة كمان ان انت اللي بعت لي الفاكس اللبناني عن طريق صاحبك ان هي تُبقى اختك.
ضحك ضحكة رجولية عالية تليق بوسامته وكبريائه ليسحبها مجدداً وفي لحظة اعتلاها، ونظر إليها بعيناي تتآكلها :
ـ أحبك وانت فاهمني، تعرفي يا رحمتي أحلى حاجة بيناتنا إننا دماغ وتفكير واحد علشان اكده اللعب معاكِ ممتع ولذيذ يا صغنن .
مطت شفتيها بدلال مصطنع وهتفت بمكر:
ـ بس انت طلعت قادر بجد استغليت وجود اختك علشان اغير منها وتحسسني ان أني في معركة، وان هي ما ينفعش تنتصر علي، فعلا دماغ متكلفة يا روحي.
داعب أرنبة أنفها وهو يقترب منها مسندا جبهته بجبهتها مرددا بخبث:
ـ ماهو يا روحي المثل هيقول؛ ما تروحش تبيع الماية في حارة السقايين، وانتِ تربيتي آه بس لساتك في المهد صبية، لازمن تكوني واعية زين وانتِ هتلعبي معاي .
دفعته في صدره وهي تجز على أسنانها بغضب مصطنع:
ـ طب بعد عني عايزة أقوم أخد شاور .
تمسك بقبضة يديها وردد بعبث:
ـ مش قبل لما أصطبح وتروقي لي مزاجي المتعكَر يابت "سلطان" أني واحد عامل دماغ وعايز حاجة تليق بمقامي .
حاولت نزع يدها من قبضته الفولاذية ولكنها لم تستطيع فقالت :
ـ سيب يدي، مهصطبحش عاد، اني مخاصماك يا قادر .
تمسك بخصلات شعرها يلويها بين أصابعه كالمعتاد وهتف :
ـ دي أحلى حاجة اصطباحة الخصام داي ، بتُوبقى مبهرة يا صغنن.
لم تستطيع مقاومته بتا وسحبها إلى عالمهم الخاص بصدر رحب وهما يسـ.ـرقان من الزمن لحظات سعادتهما ،
بعد مرور ما يقرب من ساعة كانا قد استعدا لمشوارهم الشاق والشيق متسائلاً إياها بعملية وهو يعدل ياقة قميصه:
ـ حاجتك كلها معاكِ منستيش حاجة؟
وكمان نسقتي مع قريبتك والقناة ؟
أكدت له وهي تربط حذائها الرياضي:
ـ متقلقش عاد، هي داي أول مهمة مشتركة بيناتنا كله مظبوط على الشعرة .
مد ذراعه كي تتأبطه وقام بإدلاء تعاليمه عليها :
ـ عايزك واثقة، وقوية ، وتتعاملي ببجاحة مع الصنف دي ، عايزك نظرتك قدامها نظرة صقر مجرد ما تبص في عيونك تموت في جلدها ودي أهم عوامل نجاح المهمة الخاصة بيكِ.
أطاعت أوامره وطمئنته:
ـ متقلقش يا بوص التلميذة النجيبة هتبهرك .
ـ توكلنا على الله .
*******
انت مين يا بني آدم إنت؟
وقاعد حاطط رجل على رجل ولا كأنك في ملك اللي خلفوك ؟
برزت عروق رقبته ولكنه استدعى الهدوء بأعجوبة لينطق بثقة شديدة تليق به وهو يجيبه بثبات:
ـ أني واللي خلَفوني اللي هنخليك ما تعرِفش الليل من النهار،
هخليك تصحى تلاقي العالم كله شايفك من غير الفيلتر اللي حاطه لنفسك ،يعني هوريهم عفاشتك،
أني اللي هعيشك ندم يومياً لما تفتكر إن مجدك كان مسرحية واحنا دلوك جينا نسحب الستار.
ضحك هو الآخر لثقته في حاله لينطق بغرور واثق من حاله:
ـ علشان ايه يا بتاع إنت! وتطلع انت مين في طبق اليوم مسمعتش عنك قبل كده يعني ؟
نظر إليه الآخر بعينين متسعتين تقدحان قوة وثقة وشرار وهو يُعرفه كينونته المرعبة:
ـ أني الخط يا روح أمك، وأكيد إنت متعرِفش مين الخط علشان أني عارفك زين غشيم.
وتابع بنبرة ساخرة متعالية للغاية وهو يشير إليه بسبابته:
ـ طب هسهلها لك يا سيفو، اسأل البرنامح الأهبل اللي اسمه شات جيبت مين هو "ماهر البنان" بس بصوت عالي علشان هحب أسمع تعريفه ليا بصوت الجحش.
قام الآخر من مكانه وقفز من على مكتبه ووقف أمامه وكاد أن يمسك بياقة قميصه كي يلكمه إلا أن "ماهر" سبقه بلكمة ارتدا على آثارها مرمياً على الكرسي وهو يضع يده على فمه يمسح الدم المنهمر من فمه وهو يجز على أسنانه بغضب، وينظر له نظرات يفوح منها الشر، وما كان من "ماهر" إلا أنه هبط لمستواه واحتجزه بين ذراعيه والكرسي قائلاً بفحيح:
ـ هتجز لي على سنانك يا روح أمك! بس هطول بالي عليك علشان انت غشيم، بس معلش اللي مربهوش أمه وأبوه تربيه الأيام والليالي ، أني بقي الايام والليالي يا فرفور.
اصتكت أسنانه بخوف وردد بنبرة مرتعبة وهو يضع يده على وجهه حامياً إياه من لكمات ذاك الماهر الغليظة:
ـ إنت مين، وعايز مني ايه؟ وأنا عملت لك إيه علشان تتهجم عليا كدة، أظن متقبلناش قبل كدة؟
ابتسم "ماهر" ابتسامة ماكرة وهو يأتي بهاتف ذاك الأرعن أمامه ومن العجب الذي جعل عيناي ذاك السيف تتسعان بذهول أنه فتح الباسورد الخاص به مما جعل مات في جلده وهو يسأله بدهشة شديدة:
ـ إيه ده انت عرفت تفتح موبايلي ازاي يا بني آدم إنت ؟
مط "ماهر" شفتيه للأمام وحرك حاجبه ساخراً وهو يجيبه بما صدمه أكثر:
ـ أني أعرِف تاريخك من يوم ما كنت عجل في بطن أمك يالا.
ثم اقترب من أذنه وهمس بما جعله مات في جلده:
ـ تحب أقول لك لون الطقم الداخلي اللي انت لابسه ايه ياض؟
توالت الصدمات والذهول على ذاك الأرعن ليهتف بتعجب:
ـ إيه ده انت هكر ؟!
ضحك "ماهر" وهو يعدل جاكيت حلته و وضع الهاتف في يده وأجبره:
ـ هكر! دي أخرك عن الخط ؟
طب افتح البرنامج الأهبل اللي إنت هتفتحه ليل ونهار بتسأله عن شغلك وصفقاتك المشبوهة، وهتاخد برأيَه كمان، اسأله بقى عن مين الخط؟
ابتل وجهه عرقا شديداً من شدة رعبه وابتلع أنفاسه بصعوبة بالغة وهو ينظر إليه كما الفأر المبلول وسأل البرنامح عن "ماهر البنان" وأرسل له الإجابة سريعاً فقرأها بصوت عالي، مما جعل ذاك الماهر يجلس أمامه واضعاً ساقا فوق الأخرى بكبرياء وهو ينفخ سيجاره في وجه ذاك الجبان:
"ماهر البنّان" إنه الخط ، بل الزلزال ،مش شخصية عادي،
ده راجل يتقال عليه هيبة بتمشي على رجلين، صعيدي الطبع، دمّه نار ساكنة، ملامحه فيها الهدوء اللي يسبق العاصفة، ونظراته تقدر تسكت أي صوت حواليه، اتربّى على إن الكلمة سيف، والرجولة فعل مش ادّعاء، فبقى حضوره لوحده كفاية يخلي اللي قدامه يعيد حساباته قبل ما يتكلم،
عقله حادّ زي النصل، ما يعرفش الفوضى، كل خطوة عنده محسوبة، وكل قرار وراه نية محددة، في شغله في المحاكم، اسمه بيكفي يرعب خصمه… معروف عنه إنه ما بيسيبش خيط من غير ما يفكّه، ولا قضية من غير ما يقلبها على وشها لحد ما يجيب الحقيقة،
باختصار، "ماهر البنّان" هو الراجل اللي لما يدخل المكان، الكل بيحس إن في قانون اتكتب جديد اسمه وجوده والكل لازم يعمل له ألف حساب وحساب ، يعني من الآخر لو وقعت تحت ايده قول على نفسك يا رحمن يا رحيم.
لم يتفوه بعد قراءته ببنت شفة ليهتف "ماهر" بثقة:
ـ مش عيب لما توسخ مع ابن عمك لمجرد إنه راجل نضيف يا زبالة!
مش قبل ما تنزل الملعب ياض تعرف انت بتعمل ايه، وهيجرى لك ايه؟
دي الشياطين اللي بتجري في دماغك زمانهم دلوك عايزين ينطوا في كرشك، سوئت سمعتهم يا جدع من غبائك.
هتف الآخر بنبرة مرتجفة وهو يسأله :
ـ انت عايز ايه مني ملكش دعوة بيا أنا وابن عمي، ايه اللي دخلك ما بينا؟ ولا هو علشان مش قادر عليا ولا قدر يواجهني فراح يجيبك تاخد حقه؟
أجابه ببرود:
ـ هو ما جابنيش علشان مش قادر عليك؛ لاه علشان هو راجل محترم وعايز يمشي قانوني ومش هيودي سمعته في الارض علشان كلب زييك،
دي انت ما سبتش حاجة عفشة الا وعميلتها، تجارة سلاح، وعملة، ودعارة، ومخدرات، انت ايه ياض مؤسسة في الإجرام، فاتحها على البحري!
طب خصص نفسك في عمل إجرامي واحد على الأقل تنجح فيه بدل ما انت رجعت من بره مطارد وسارق زعيم عصابة اللي هو بيدوِر عليك دلوك وهيجيبك، ما تفكِرش تغييرك لشكلك وملامحك وطريقة لبسك مهتخليهمش يجيبوك، ولا يعرفوك فانت اكده اكده ميت ميت.
وتابع بحدة وصوت عالي جعله ارتعب مكانه :
ـ هات ياض الموبايلات اللي معاك والهاردات اللي انت مصور عليها الوساخة لابن عمك، اللي انت وقعته بالخبث بتاعك وعايز اقول لك على حاجة كمان؛ احنا جبنا كاميرات الفندق واللي فيها البنت اللي انت مسلطها عليك بتحط له مخدر هلوسة، وكمان معانا تحاليل الدكتور اللي أثبت إنه واخد حبوب هلوسة ومأثرة عليه، يعني من الآخر اللي انت بتعمله دي كلاته ما لهوش لازمة، هات ياض الهاردات انجز مش فاضي لك، ومتحورش ولا تلفلف علي، علشان يمين بعظيم هخليك تتمنى الموت متطلهوش، وهشيِعك لـ"السني" في تركيا على طبق من كبسة وانت هتبقى الزَفر بتاعها، هيموت عليك .
ارتعب داخله وهتف سريعاً وهو يقوم من مكانه وأحضر اللابتوب الخاص به وجميع هواتفه وقام بعمل ضبط مصنع أمام أعين ذاك الماهر الذي كان يبتسم له بسماجة، وبعد أن فعل ذلك صفق له ساخراً:
شطورة يا بيضا طلعت عاقل وهتسمع الكلام زين.
وتابع باستفسار محنك:
ـ بس قول لي بقى التفاصيل ، حكم أني صَعيدي جزمة قديمة وهعشق التفاصيل، قل بقى البت داي اللي سلطتها على ابن عمك تخدره وصلت معاه لحد فين والسفلة هتستغل إنه كان خارج الوعي؟
وأكمل بوعيد وهو يشير إليه بسبابته محذراً إياه وهو يجلبه من وجهه مهسهسا بجانب أذنه:
ـ وحذاري تكذب علي أصل اني عندي في دماغي جهاز كشف الكذابين، ويا ويلك لو محكيتش اللي حُصل والمؤامرة اللي انت عملتها معاه بالتفصيل، عارف همرجحك وهوصلك ليفل الرعب في السما .
ابتلع الآخر أنفاسه بصعوبة بالغة وهو يحكي مؤامرته من بداية ما حدث في الطائرة إلى استدراجه بالمخدر في الفندق وأوضح أن ابن عمه لم يقترب من تلك الفتاة وأن جسده لم يتحمل المخدر وراح في سبات عميق،
فابتسم "ماهر" بنصر وطلب منه :
ـ هات الريموت وافتح التلفزيون دي، متستغربش اصلي متابع مسلسل شيق قووي وهياجي دلوك، ما تاجي نسمعه سوا يا أبو عمو.
اندهش الآخر من طريقته ونظراته وطلبه الغريب ولكنه استمع إليه يذوم ففتح التلفاز على الفور، وأتى بالقناة التي أمره بها وإذا به ينصدم فقد كان هو و"ماهر" على تلك القناة مما جعل الصدمة اعتلت وجهه ليهتف "ماهر" بنبرة دعابية ساخرة:
ـ شفت طلعتك ترند أهو ومحرمتكش من حاجة، اني عايز مكافئة بقى يا "سيفو" العالم كلاته هيتفرج عليك صوت وصورة من أول لقاء السحاب بتاعنا، بذمتك مش كريتيف الفكرة .
ما زال الآخر على صدمته إذا به يرى المشهد الباقي من لعبته وهي مقابلة "رحمة" مع تلك الفتاة السافرة التي كانت تتكلم بعجرفة هي الأخرى أمام "رحمة" :
ـ هما بقى جايبينك انتِ يا بتاعت الفلاحين علشان توقعيني في حاجة معملتهاش، لا يا فلاحة انتِ مبروم على مبروم ميلفش يا بتاعة انتِ.
ابتسمت "رحمة" بسماجة وهي تجلس أمامها تقلم أظافرها وترد على حديثها باستمتاع:
ـ فلاحة! طب والله دي لقب وسام أحطَه على صَدري يا غشيمة انتِ، تعرِفي ايه انتِ عن الفلاحين ووكلهم وشربهم وشياكتهم وريحة خيرهم ؟!
دي عندنا العيش في بلدنا لساته هيتعمل على قرص الجِلَّة وبيوبقى سكر ، هبقى اعمل لك استضافة في سجن النسا جزانا هناك وأدوقك من العيش أبو فرن جلة.
شعرت الأخرى بتموع بطنها وتلوت بطنها مما تخيلته وهدرت بـ"رحمة" :
ـ أو، نو ، ايه يا مقرفة انتِ الكلام دي ، امشي اطلعي برة قرفتيني في معدتي .
جذبت "رحمة" كوب الشيكولا باللبن التي كانت تشربه تلك الحمقاء وتجرعت منه قليلا إلا انها تقلبت شفتيها بعدم اعجاب وقالت :
ـ إيه المشروب التوتو دي ، معجبنيش أني عايزة حلبة باللبن الحليب بتاع الفلاحين مش اللبن البودرة دي معجبنيش.
اتسعت حدقتاي الأخرى من طريقة "رحمة" لتنطق بذهول:
ـ انتِ ايه يا بني أدمة انتِ كمية العجرفة وقلة الذوق اللي انتِ فيها دي، ولا كأنك قاعدة في ملك أبوكِ الفلاح .
هنا قامت "رحمة" وهسهست بصوت قوي شامخ لامرأة المحاكم، الديفا التي يخشاها حتى مقاعد القاعات:
ـ تك بَوْ لما يسخطك قرد يا شبر واقطع ، اقعدي مكانك زي الجزمة القديمة، يا سافلة، يا لمامة، يا تربية الشقق المفروشة انتِ وخدي الفيديو دي اتفرجي عليه وبعدين وريني لسانك دي .
أخذت منها الهاتف بكبر وهي تشاهد ما أمرتها به لتنصدم وهل تضع يدها على فمها تمنع شهقتها وهي تردد بلسان ثقيل:
ـ انتِ جبتي الفيديو ده منين ، وانتِ مين أصلاً ؟
أمرتها "رحمة" وهي تشير تجاه المطبخ بوجه قاسي :
ـ مش قبل ما تعملي لي حلبة باللبن، وتجيبي لي ماية وملح، وتعملي لي باديكير زي اللي كنتِ هتعمليهم للرجالة الجوز اللي كنتِ معاهم يا قادرة، شغلك في الباديكير عجبني .
انصاعت لأوامرها على الفور وصنعت لها المشروب الساخن ثم جلست أمامها وقالت بصوت منخفض تصحبه الرهبة :
ـ انتِ عرفتِ توصلي للفيديوهات دي ازاي؟
أجابتها وهي ترتشف المشروب ولوت شفتيها من مذاقه السئ :
ـ يع، مهتعرِفيش حتى تعملي المشروب الزين اللي هحبه، خدي اشربيه طعمه من يدك اللي عايزة قطعها داي عِفش.
تمسكت الأخرى بأنفها وهي تحرك رأسها برفض وتمتمت:
ـ ياي ، ابعدي البتاع ده عني قلب لي معدتي، وبطلي بقى حركاتك البلدي دي وقولي عايزة ايه مني علشان نخلص من القعدة المهببة دي؟
تحكمت "رحمة" برأيها أن تتجرعه رغما عنها :
ـ طب واللي خلق الخلق اللي هتشربيه وهتخلصيه، اشربي يا بت .
ارتعبت من صياحها بها وقالت بكبر مصطنع فداخلها يهتز هلعاً من "رحمة" وصوتها وهيئتها :
ـ اللي انت بتعمليه ده غلط، والناس اللي معايا في الفيديو دول ناس تقيلة جداً في البلد ومش هيرحموكي، أنا ورايا ناس مأمناني، فاللي انتِ بتعمليه ده هيضرك، فبلاش شغل الفتونة اللي موضتها قدمت.
ابتسمت "رحمة" بمكر وهتفت بكيد:
ـ اسكتي مش موضتها قدمت حداكم اهنه في مصر بس، أما حدانا في الصَعيد الست بميت راجل، فما بالك لما تُبقى متعلمَة، وتدخل قاعات المحكمة يتهزلها كنباتها قبل شنبتها، والناس التَقيلة اللي هتتكلَمي عنيهم دول زمانهم كلهم مقبوض عليهم كلبوش، اني شيعتهم بالفيديوهات والأدلة اللي معاي، انتوا اللي جبتوه لروحكم لما خليتونا ننخرب وراكم، وبصراحة البلد هتشكرنا شكر جامد على اننا سلمناهم عصابة، ومش بَعيد يحتفلوا بينا كماني أمال ايه، حاكم بلدنا مصر هتقدر الناس الزينة اللي زيينا قووي .
فقدت الأخرى أعصابها وكذبتها بجنون:
ـ انت اكيد كذابة علشان الناس اللي انا أعرفهم قادات كبيرة في البلد ويستحيل يتقبض عليهم، انتِ بتقولي كده علشان تخوفيني، علشان عايزاني اعترف على اللي عملته مع المغني "آدم" والفخ اللي أنا وقعته فيه.
تنفست "رحمة" لغبائها وأمسكت ريموت التلفاز وجذبتها من شعرها بقوة وأشعلت الجهاز:
ـ ما هو غبائك انتِ واللي معاكي صور لكم انكم فوق القانون، احنا في بلد ما فيش حد فيها كَبير على القانون ابدا،
اتفرجي يا حبيبتي على اللي خلاكِ تعملي اكده في المغني "آدم" اللي انتِ بتتكلَمي عنيه، اني طلعتك ترند و
صيَّتك، وخليتك اعترفتي على العلن اللي انتِ عملتيه، يلا حبيبتي بالهنا والشفا والكلبوش جاي لك حالا.
ثم اقتربت من أذنها وقالت بفحيح :
ـ شفتي الفلاحة عيملت فيكي ايه!
ولسه لما تروحي المكان اللي هتستحقيه هخليهم يلحسوكي تراب السجن يا صايعة.
انتهى البث المباشر على القناة الخاصة
بـ"آدم المنسي" وظهرت برائته من فيديو الطائرة وهو يحمد الله أنه نجى من هؤلاء الأوغاد بفضل الله وكرمه ،وهؤلاء الزوجان اللذان جعلهما الله له طاقة نور ونجاة ، لينظر إلى زوجته "مكة" مرددا بذهول:
ـ إيه قرايبك دول! أنا مش مصدق نفسي إنهم قدروا يعرفوا الحاجات دي كلها ويوصلوا للمعلومات الخطيرة دي، والناس الكبيرة دي اتقبض عليها، هي دماغهم دي متكلفة ايه! الله أكبر عليهم، تبارك الله.
نطقت هي الأخرى بذهول :
ـ والله ما أعرِف عملوها كيف داي!
اني لحد دلوك مصدومة من اللي شفته على العلن، دي غير تمكنهم في الكلام المجرمين دول، ودي عايزة لها زيارة ليهم نشكرهم على تعبهم معانا، وأخيراً الغمة انزاحت وغار في ستين داهية.
احتضنها بارتياح ليهتف بسعادة:
ـ أكتر حاجة مفرحاني إن أنا ما عملتش حاجة تغضب ربنا مع البنت دي،
ده أهم شئ مخليني عايز اتنطط من الفرحة الحمد لله، يا رب الحمد لله.
******
كانت تجلس على الأرض تحت قدميه تدلكها بحنو وعينيها منتفختين من البكاء فما زال في غيبوبته منذ يومين، ذاقت فيهما ألوان العذاب من رقدته تلك بسببها، وكادت عينيها أن تبيض من الحزن والبكاء وسهر الليل، قلبها ينفطر داخلها مما أوصلته إليه ، فو الله كانت حالتها يرثى لها مما تشعر به وهي تتخيل فقدانه،
فرددت من بين دموعها الصامتة وهي تدلك قدميه التي تجلس أسفلهما :
ـ أه يا "عمران" أه يا وجع قلبي عليك ، كرهت حالي، مقدراش أتحمَل بعادك ولا قادرة أتحمَل رقدتك داي ، أني بتمنى الموت كل لحظة وأني هطلع لك وانت متوصل بالأسلاك داي .
ثم وضعت يدها على قلبها وكأنها تحاول تهدئة نبضاته الثائرة داخل ضلوعها، حقا دقاته مؤلمة وموجعة وجعاً يكفي العالم أجمع وقالت من بين شهقاتها المكتومة:
ـ فوق يا حب عمري، يا عشق "سكون" وأني قسما بالله أعيش خدامة تحت رجليك، وعمرى ما هعارضك تاني ، والله لا هحط جزمة في بقي بس متفوتنيش، اني هموت يا "عمران" ، هنكوي من جواي ، أني دقت العذاب ألوان ولو طولت أكتر من اكده هموت .
كان في غيبوبته بين أيادي الله، علامات وجهه تتألم وكأنه يشعر بشئ ثقيل يستمع إليه وفجأة أعلنت الأجهزة صفيرها فقامت سريعاً كي تلاحظ مؤشراته وهي تشعر بالخوف الشديد والقلق العارم يتآكل صدرها كما تأكل النيران حطبها، بل والله لهيب النار أخف مما تشعر به، كانت مؤشرات القلب والأوعية الدموية منخفضة للغاية، على الفور جلبت جهاز إنعاش القلب وبدأت بإنعاشه وحالتها يرثي لها وهي تردد بنبرة مرتعبة:
ـ لاااه، بالله عليك قاوم يا "عمران" ،آااه ، "عمران" خليك قوي، أاااااااااه .
بكاء شديد يقطع نياط القلب، أقدمو جميعاً على صوت بكائها وصراخها الطاقم الطبي ووالدته، أبعدها الطبيب بسرعة وقام بإنعاشه مكانها :
ـ بعد اذنك يا داكتورة وجودك اهنه بحالتك وبكاكي داي هيودي المريض في سكة مش هنقدر نعالجها ، في يومين دي تالت مرة حالته تنتكس ودي غلط جدا عليه ، لو سمحتي اتفضلي إنتِ ووالدته اطلعوا برة دلوك .
كانت والدته تنفطر بكاءا هي الأخرى وحالتها لاتفرق عن حالة "سكون" بل ويزيد ،
بعد مرور ما يقرب من ساعة استقرت حالته أخيرا تحت الأجهزة فخرج الطبيب بعدما استدعى الدكتور "محمد" مرددا أمامه بنبرة منزعجة:
ـ لو سمحت يا دكتور"محمد" انت أدرى واحد بقوانين الرعاية واللي الداكتورة "سكون" هتعمله دي غلط جداً وهي عارفة اكده زين، من فضلك لو عايزين المريض يتحسن مشيهم من اهنه ومياجوش لمدة ٢٤ ساعة على الأقل.
حرك "محمد" رأسه بطاعة ليتمسك بيد "زينب" قائلاً:
ـ يالا يا حاجة إنتي والدكتورة هروحكم البيت لو عايزة حالة "عمران" تستقر، بالطريقة بتاعتكم داي حالته هتنتكس ، القلب ضرباته سريعة فوق الإحتمال والضغط والسكر في العالي، والدكتورة هتقعد جاره تبكي، ارجوكم يالا على البيت وجودكم في الحالة داي هيوديه في حتة تانية هتقهرنا كلاتنا واني جاره مهفتهوش إن شاء الله العمر كلاته.
تحركت كلتاهن على مضص والدموع والشهقات المرتفعة منهن تُسمع جميع من بالمشفى،
بعد وصولهم إلى المنزل كانت "ماجدة" تجلس مع الأطفال تراعيهم وتمكث معهم منذ يومين، ما ان وصلوا حتى ارتمت ابنتها تبكي في أحضانها بشدة، ربتت والدتها على ظهرها بحنو وهي تحاول تهدئتها:
ـ بس يا بتي جوزك ربنا هيشفيه وهيرجع لعيالَه سالم غانم، تعالي يا بتي كليلك لقمة إنتي مدقتيش الزاد بقالك يومين ، جوزك لازم يرجع من رقدته يلاقيكي سليمة يابتي، انتِ عارفة كد ايه هيحبك وما هيحبش يشوفك شينة ابدا، واللي انتِ هتعمليه دي واهمالك في حالك مش زين ليكي ولا لجوزك ولا لعيالك واصل .
هنا انفجرت "زينب" ولم تستطيع الصمت اكثر من ذلك لتردد بقسوة:
ـ كويس انك انت يا ام سكون اللي اعترفتي ان جوزها هيحبها وهيرعاها كيف عينيه وما هيحبش يشوف وجعها ابدا.
لاحظت نظرات "سكون" المرتعبة والتحذيرية لها أن تتفوه بشيء أمام والدتها وتكشف سترها، ولكن "زينب" ضـ.ـربت بكل شيء عرض الحائط، فولدها فلذة كبدها بين الحياة والموت بسببها، وهي ليست أغلى عندها منه، فهو كل شيء لها، هو روحها، ونبض قلبها، هو حياتها، لتكمل وهي تقترب من "سكون" تهزها بعـ.ــنف وكأن صحتها في تلك اللحظة عادت بنت العشرين :
ـ قولي لها يا "ماجدة" ، قولي لبنتك اللي عمري ما هسامحها لو ولدي جرى له حاجة وهدعي عليها تدوق العذاب ألوان على وش الدنيا على اللي عِملته في ولدي، اديكي هتقولي لها جوزك هيحبك كد ايه يا بتي! وشوفي بتك عيملت ايه في ولدي اللي اتحمل منيها كَتير وكتير لحد ما بقاش قادر وقع طب من طولَه علشان طريقتها اللي ما ترضيش عبد ولا رب ابدا.
هنا اندهشت والدة "سكون" من طريقة "زينب" مع ابنتها، فلأول مرة تراها بتلك الحالة، ولأول مرة تراها تصيح بابنتها وتعاملها بتلك الطريقة! فحاولت فكاك ابنتها من بين قبضتاي "زينب" المتمسكة بها بعنـ.ـــف وهي تسألها بنبرة حادة:
ـ شيلي يدك يا حاجة من على بتي ما يصحش الطريقة داي في الحديت، بتي مالها ومال اللي جرى لجوزها؟! كل حاجة قضاء وقدر من عند ربنا، بتي ذنبها ايه علشان تتعاملي وياها اكده وتستغلي رقدة جوزها وتصيحي فيها وهتاكليها بعينيك ونظراتك الحادة قبل يدك ؟!
هنا صرخت "زينب"صرخة عالية، صرخة وجع من شدتها كادت حوائط المنزل أن تهتز من شدة صياحها وبكائها الحاد على ابنها، وتلك الـ"سكون" تقف تبكي وهي تضع وجهها بين يديها تشهق بشدة مما حدث والندم والرعب على"عمران" يتآكل في صدرها:
ـ بنتك عِملت كَتير يا "ماجدة"، عِملت اللي مفيش راجل يتحمَله إلا لما يكون جبل؛ ولدي اتحمَل من بتك سنين هجر ومعاملة شينة، وربِّي اللي خلق الكون لو هو قلبه مش طيب وكان هيسامحها للملايكة باتت تلعنها صبح وليل، بتك كانت هتتمنّع على جوزها بالشهور من يوم ما ولدت وخلفت عيالها، ولا كأن حد غيرها خَلَّف، اتغيّرت وكأن ما فيش غيرها أم، اتبدلت 180 درجة وإحنا هنتحملها كيف ما هنتحمل بناتنا، وكنت هاعتبرها بتي وهصبَّر ولدي على معاملتها لحد ما جالَه السكر من سنتين، وهو هيتحمّل معاها اللي ما فيش راجل هيتحمله، وعمره ما اشتكى ولا كل ولا ملّ، كانت هتتخانق وياها وهتكسر بخاطره كل مرّة، وهو يا حبة عيني كان كل مرّة يروح لها ويقول اني الراجل واني اللي اتحمّل، فضل يضغط على نفسه لحد ما جالَه السكر، وأني وهي عرفنا بالصدفة، ويا ريتها عقلت على اكده.
وتابعت بدموع حارقة وقلب أم مكلوم على ولدها:
ـ كل ما ياخد موقف مع وِلده من حاجة غلط عِملوها، هي توقف له زي المسمار في النعش، كأنه جوز أمهم مش أبوهم؛ اتحمّل وياها ونصحتها كتير وعاملتها كيف بناتي، وكنت هصبَّر ولدي وهقول له؛ البيوت كلها اكده واتحمّل علشان البيت ما يتخربش يا ولدي، وهو كان يقول لي حاضر يا أمي، وعمره ما جه اشتكى لحدّ حتى أمّه، ولا عمره جالك ولا قال لك بتك فيها كِيت وميت، والمشكلة في خناقتهم الأخيرة؛ قعدت وياها ونصحتها وقلت لها ما ليكيش غير جوزك، خلي لسانك زين وياه، دول أولادُه، هيحبّهم كده روحه وعينيه هيحبّهم أكتر ما هيحب حاله لدرجة إنه ضحّى بسعادته وهناه سنين علشانهم وهو شاب وفي عزه، وجاله المرض بسبب تحمّله معاها وما اشتكاش، وبرضه هتعمل ودن من طين وودن من عَجين لحد ما ولدي وقع من طوله بين الحيا والموت في المستشفى بسبب بتك وكلامها؛ السُمّ اللي قالته له.
وتابعت بدعاء تهتز له السموات وهي في قهرها:
ـ حسبي الله ونعم الوكيل فيكِ يا "سكون"، حسبي الله ونعم الوكيل فيكِ، ما مسامحكيش على اللي عملتيه في ولدي، ولو جرى له حاجة، يمين بالله يمين بعظيم لا هحكي لولاده على كل اللي انتِ عملتيه فيه وهكرههم فيكِ، منكِ لله يا بَعيدة.
انصدمت "ماجدة" مما استمعت إليه من كلام "زينب" لتنظر الى ابنتها الباكية بحرقة واقتربت منها وهي تسألها بذهول:
ـ انتِ عملتِ كل اللي قالت عليه ده يا بتي؟! كنتِ هتعصي جوزِك وهتتمنعي عنيه؟! كيف المرهِ الناشز؟! كنتِ هتتخانقي وياه علشان هيربّي ولادَه؟! وهتقولي له كلام زي السُمّ؟! انطقي يا بتي، قولي الكلام اللي هتقوله "زينب" دي غلط، قولي إنّك متربيّة ومتعلَمة ومُتديّنة، وما هتعمليش الكلام دي واصل، الكلام اللي هتحكيه أمه ما يصدرش غير من واحدة جاهلة ما خرجِتش من ورا الدار، أمّا انتِ داكتورة كدّ الدنيا ومتعلَمة ومتنورة وفاهمة يعني إيه راجل، وفاهمى يعني إيه عصيانه وتمنّعِك عليه يودّي جهنّم، انطقي يا بِتّ!
لم يجدوا منها رد غير البكاء الشديد الحارق لتنطق "زينب" :
ـ ومن مبتى أني هاكذِب عليكِ يا "ماجده"؟ هافتري على بتِكِ اللي عايشة معانا بقى لها 11 سنة؟ ما شافتش مني حاجة عفشة ولا عمري زعلتها، ولا اتدخلت بينها وبين جوزها، ويا ريتني كنت اتدخلت من الأول وفوّقت ابني قبل ما يجرى له اللي يجرى له؛ يا ريتني كنت قلت له؛ بص لنفسك ولسعادتك، أنت تستحق يا ولدي إنك تعيش زيّك زي أي راجل، وتستحق إن يكون معاك مرة تتمرمغ تحت رجليك وما تتمنعش عنك لو مراتك مقادراش عليك،
المفروض كنت قلت له؛ اللي أنت فيه ما هيتحملهُوش راجل، والجدعنة ما بقتش تنفع اليومين دول مع الحريم، يا ريتني نصحته وقلت له؛ شوف سعادتك، وهناك وغير العتبة، لكن كل حاجة بعد فوات الأوان، وولدي دلوك بين الحياة والموت من كلامِها اللي زي السم،
بزياداكي عاد يا "سكون" لو ولدي خرج بالسلامة، يمين بعظيم، لو ما اتظبطتي معاه زيّك زي أي مرة ويا جوزها لا؛ هكون حاكمة عليه يطلّقك وعيالك مههتشوفيهمش، وهخليه يستخدم فيكِ جبروت الرجال بحقّ الله، أما إن ولدي جرى له حاجة لاقدر الله، هتشوفي وهتعيشي أيام أسود من شعر راسِكِ؛ هبكيكي وأعزيكي ليل ونهار، وهخلي ولادِكِ يكرهُوكِ كُرهَ العمى.
أنهت صياحها ثم تركتهم ودلفت إلى غرفتها وهي تبكي بشدة وتدعي لولدها بقلب أم مفطور، أما في الخارج اقتربت "ماجدة" من ابنتها وهي تهزها من كتفها مرددة بذهول:
ـ انطقي يا بت حوصل الكلام اللي هتقوله حماتك دي كلاته؟
حركت رأسها للأمام وهي تبكي بشدة مما جعل والدتها تضرب بيدها على صدرها بصدمة مرددة:
ـ يا كبـدي عليك يا ولدي، وعلى اللي شُفتـه من بنتـي، يا كبـده عليك يا "عِمـران"، يا اللي اتحمّلت ليه ما حدّش يتحمّل واصل، وعمرك ما اشتكيت لي ولا قلت لي بنتـك عصيـانـة ولا فيها حاجة شينـة. كل ما هاجي أسألك عنها هتقول لي: "ست البنـات يا أمي يا زين ما ربيّتـي". إنتَ أغلب بناتي يطلع منك كده؟ ومن مين؟ من راجل كيف "عِمـران"؟ الكلمة "أمي" هتطلع من تمّه كيف؟ ما أكون أمّه بحق وحقّاني جبت الجبروت ده منين يا بنت؟ بطني إنك تعملي في جوزِك ده؟ دي الستـات ما هتصدق، تلاقي راجل يحتويها ويُبقى ولد حلال كيف جوزِك؟ تقومي تقهريه وإنتِ ما تعرفيش قهر الرجال اللي الرسول عليه الصّلاة والسلام استعاذ منّيه، يوبقى كيف؟ يا وكسـتك يا "ماجـدة"، يا خيبـتك يا "ماجـدة" في تربية بتـكِ الداكتـورة المتعلَّمة، ليها حق أمّـه تنقهر عليه وتبكي بدل الدموع دم، وتدّعي عليكِ بشقافة راسـها.
انفطرت هي الأخرى ببكاء شديد وهي تعترف لوالدتها :
ـ أني بهدلته وياي يا أمي، صبر علي صبر أيوب وعمره ما على صوته علي ، كان آخره يكتم في نفسه في كل مرة كان يكون محتاج لي وأني أخذله، كان يخرج من السكات وأني اكمَل نوم جنب ولادي بدون ما أانب نفسي حتى، كان بيساعدني في تربية العيال ويتحمَل مني اي طريقة اتعامَل وياه بيها ويقول لي اني سندك وضهرك يا حبيبتي، كان بيعاملني بحنان الاب اللي اتحرمت منيه ، وسند الاخ اللي معنديش زييه ، واحتواء ورجولة الزوج اللي عمرَه ما قصر وياي ، حتى لما جاله السكر معرفتش إلا بعد سنتين .
حينما استمعت "ماجدة" اعترافها ذاك حتى ضـ.ــربت على صدرها بشهقة وهي مصدومة مما استمعت إليه، ولم تتحمل فاقتربت منها وعلى حين غرة جذبتها من شعرها ولوته بحدة بين يديها وفجأة هوت على وجهها بصفعات متتالية لأول مرة وهي تردد من بين ضـ.ـرباتها العنيـ.ـفة :
ـ ـ ليه يا بت بطني عملتِ في جوزِك اكده؟! بقى إنتِ يطلع منك العمايل داي كلاتها؟ جوزِك ياجي له السُّكر، ويقعد سنتين من غير ما تعرِفي عنيه حاجة، وتتمنعي عنيه السنين دي كلاتها؟! اخص عليكِ، وعلى البطن اللي شالتك، دي الموت حلال فيك! دي هو الوحيد في جواز بناتي اللي ما يعدّيش يومين إلا ويسأل عليَّ، وأحسّ كلمة "أمي" طالعة من تمّه صادقة،
هو الوحيد اللي كان هيرعاني لما كنت مريضة، وكان هيقعد تحت رجلي ويقول لي؛أني ابنِك وسندِك وضهرِك، هو اللي عمل لي مفاجأة وطلّعني أزور بيت الله، وخلّص لي كل الأوراق وحتى الباسبور من غير ما أخرج من بيتي،
هو الوحيد اللي كان هيقول لي؛ أني ابنِك، في أي وقت تحتاجي حاجة بالليل، في نص الليل تبعتي لي طوالي يا أمي الغالية،
عملتِ فيه كل دي وأني نايمة على وداني، وهو يا حبة عيني عمره ما جه ولا اشتكى، وفي الآخر أمّه تنصحك وتقول لك خلي بالك من جوزك، تقومي تزودي عليه وتخلّيه يقع من طوله! لما جاله غيبوبة ومحجوز في العناية بين الحياة والموت!
من ميتى كنتِ قاسية اكده يا بت بطني؟! من ميتى وإنتِ ما تعمليش حساب إن دي جوزك وراجلك اللي ما تستغنيش عنيه؟! ولا ولاده كمان يستغنوا عنه؟! هو في ستات دلوك لاقية رجالة كيف جوزك؟!
البطران قَطْران، ويا عالم لما يخرج من رقدته دي، هيسامحك ولا دي اللي هتبقى القَشَّة اللي قصمت ضهر البعير؟!
لم تجد ما يعبِّرُ عن وجعها سوى البكاء، فالعَبراتُ كانت لسانَ حالِها الوحيد، ورغم أنَّ أمَّها صفعتها على وجهِها بعـ.ــنفٍ وجذبت شعرَها بقسوة، إلّا أنَّها لم تشعر بأيِّ ألمٍ جسدي، فقد كان وجعُ روحِها أعمقَ من أن تُدركه الحواس، كان زوجُها "عمران" بين الحياةِ والموتِ في المستشفى بسببِها، وتلك الكلمة التي قالتها أمُّها لا تزالُ تتردّدُ في رأسِها كجرسٍ يجلجلُ بالخوف؛ هل سيسامحُها؟
تسارعت نبضاتُ قلبِها كطبولِ معركةٍ تُقرعُ في صدرِها، والرعبُ يسري في عروقِها كجليدٍ يقـ.ــتلُ الدفءَ في أوصالِها، جلست على الأرضِ تضمُّ ساقيها إلى صدرِها، ودفنت وجهَها بين ذراعيها تبكي كمن يسكبُ رمادَ قلبِه على الأرض،
كلُّ دمعةٍ كانت تسقطُ منها تُذكّرُها بيده التي كانت تسندها، وبحضنِه الذي كان مأواها الآمن، والآن تبكي نـ.ــارًا وخـ.ــرابًا على ما آلت إليه، وهو الغائبُ عنها بين الموتِ والحياة، أحسّت كم كانت جاهلةً وقاسيةً، كأنَّ قلبَها آنذاك صخرةٌ لا تُبلّلها الرحمة،
جلست أمُّها إلى جوارِها توبّخها، بينما كانت هي تغرقُ في ندمٍ يُشبه الغرقَ في بحرٍ بلا ضفاف، وكلُّ موجةٍ ترتطمُ بها كانت تحملُ وجهَ "عمران" ، كأنَّ القدرَ يعيدُ إليها ما زرعته قسوةُ يدَيْها من وجعٍ في قلبِه:
ـ يا ريت البكا يرجع اللي راح، جوزك أول ما سمع صوتك وهو في الغيبوبة حالته هتسوء كيف ما امه قالت، حتى وهو بين ايادي الله ما طايقش يسمع نبرة الصوت اللي جرحته وصدته، الله يكون في عونك يا ولدي، الله يكون في عونك يا "عمران" ، ربنا معاك ويرجعك لبيتك وولادك بالسلامة يا حبيبي، وحقك علي، حقك علي أني يا "عمران" ان اني ما عرفتش أربي بتي إنها تحافظ عليك.
وتابعت وهي تهزها بعـ.ـنف:
ـ ويمين على يمين "زينب" لما جوزك يرجع بالسلامة ان ما كنتيش تحبي على يده ورجليه صبح وضهر وعشية، وتعتذري على كل اللي عملتيه معاه وتحاولي تسترضيه بكل الطرق لاني اللي هكون شايفه شغلي معاكي يا بت بطني، هذلك ذل ما تذلتيهوش في حياتك، اني ست بمين راجل ربتكم انتم التلاتة من غير ما اكل ولا امل، مش هعرِف اخليكي تظبطي حالك ويا جوزك؟!
واسترسلت بما كركب معدة تلك المفطورة من البكاء:
ـ ادعي ربنا انه يرجعه لك بالسلامة ومهما نفر منك اوعاكي تبطلي معاه مراضية، علشان تعرفي ترجعيه لحضنك تاني، واظن ان عمره بعد اللي حصل له منك ما هيطيق يبص في خلقتك من الاساس، واحد غيره أول ما يفوق يرمي عليكي يمين الطلاق ويقول لك روحي على بيت ابوكي، ربنا معاكي في اللي هتشوفيه وكل الدلع السنين اللي فاتت دي كلاتها عليه هيطلع على راسك يا "سكون" يا بتي ودي غضب من ربنا على اللي سقتيه لجوزك طول السنين داي كلاتها هتتجرعيه حنضل وعلقم هيبكيكي ليل ونهار .
******
بعد مرور خمسة أيام من العذاب والدمـ.ـار أخيرا فاق الغالي، وفتح عينيه المتعبتين بشدة وتلاقت الأعين ،
كانت نظرته مثقلة بصمتٍ موجع، تحمل في عمقها خيبةَ قلبٍ كان يظن أن العشق يُنقِذ لا يُوجِع، رمقها بنصف عينٍ ثم أدار وجهه ببطءٍ كأن الهواء بينهما صار ثقيلاً لا يُتنفَّس، ارتجفت ملامحه بين وجعٍ دفينٍ وحنينٍ يأبى الموت، كأن الصراع في صدره بين الحب والخذلان يوشك أن يُمزّقه، كان يُدير وجهه عنها لا هروباً منها، بل اتقاءً لفيض المشاعر التي كادت تفضحه، وفي صمته، بدا كمن يطلب من الغياب أن يحميه من نظرةٍ يعرف أنها ما زالت تسكن قلبه رغم كل شيء...
