![]() |
رواية قلب ماعت الفصل الثاني بقلم رباب حسين
أسرار... دفنت تحت الألم، لا نعلم إذا كنا نخفيها حتى لا تُفضح بالعلن، أم أننا نخشى مواجهة الماضي، نهرب منه، أو الأصعب أننا لم ننسى، أن الحنين بداخلنا لا ينتهي، نشتاق رغم الألم، بكل الأحوال؛ نحن فقط نهرب، لا داعي للبحث عن السبب.
ماذا إذا اخترق أحدًا ملف أسرارك؟ حينها سوف تشعر بأنك تقف بمنتصف الطريق، عاري الجسد في ليلة شتاء قارس، لا يوجد ما تتوارى خلفه، بل صار كل شيءٍ الآن.... معروف.
وفي ليلة شتاء، في أحد المنازل، خلف تلك النافذة التي تتساقط عليها قطرات المطر، تقف سجى تتوسل إليه، ودموعها لا تتوقف، تواري جسدها بأحد أغطية الفراش، وتقول بصوت يحمل كل معاني الألم: أرجوك يا جاد، أرجوك أرحمني.
نظر لها بعيون تطلق سهام الغضب قائلًا: أرحمك؟! ولما خليتي شكلي قدام الناس كلها زي الأهبل... كان فين الرحمة، ده أنا كنت بتمنالك الرضا، حطيت قلبي بين إيديكي وفي الآخر خونتيني، وياريت خيانة واحدة، ده أنا عرفت بلاوي عنك.
سجى: أحلفلك بإيه إنك فاهم غلط، أنا مش كده أبدًا، طيب بص، أستر عليا بس وأنا همشي مش هتشوف وشي تاني.
جلس بشموخ ونظر لها باستهزاء وقال: أستر عليكي؟! عايزاني أكتبك على اسمي، ويتقال إني كنت جوزك في يوم من الأيام؟ لا يا هانم، أنا عملت فيكي كده عشان أرد حقي، وعشان تعيشي عمرك كله تفتكري اللي عملته فيكي، وتندمي إنك حولتي الإنسان الوحيد اللي حبك وفضل واقف جنبك، لشخص ندل وجبان، خسر نفسه وخسرك أغلى حاجة عندك عشان يرد جزء من اعتباره، أنا قرفان من نفسي إني لمستك، مع إني كنت بتمنى إنك تبقي ليا، دلوقتي ندمت على كل ذرة حب كانت في قلبي ليكِ، ودلوقتي خلاص، مبقتش عايزك ولا طايقك، أنا خدت اللي أنا عايزه خلاص، اطلعي برا.
جثت سجى تحت قدميه وبكت بشدة وقالت: أنا محبتش غيرك يا جاد، ليه تعمل فيا كده؟! إزاي تصدق كل ده عني؟
ركلها بقدمه وقال بغضب: إنتي لسه بتكدبي؟! يا بجاحتك، أنا مش عارف إزاي مشفتكيش على حقيقتك من زمان، إزاي اتخدعت فيكي كل السنين ديه، بس أنا اللي غلطان، أنا اللي نزلت من نفسي وحبيت واحدة تربية ملاجئ، كان لازم أعرف إن اللي أهلها شمال هتطلع شمال زيهم، اطلعي برا... برا.
دفعها بقوة، وقذف ثيابها بوجهها، حتى خرجت من الغرفة وأغلق الباب من الداخل، ظلت تبكي وتترجاه أن يفتح الباب، كاد قلبها أن يتوقف عن النبض من كثرة البكاء، والصدمة التي احتلت صدرها في الرجل الذي أحبته.
ثم رأت وجه هذا الشبح ينظر إليها بقوة وقال: لسه عايزة تسامحيه؟!
فتحت سجى عينيها، نظرت حولها بذعر، هي لا تزال بذلك القصر الملعون، ثم ارتدت إلى الخلف بذعر عندما رأته ينظر إليها بذات النظرة التي رأت بالحلم، ثم قالت بفزع: أنا بحلم ولا ده حقيقة؟!
الشبح: قريب مش هتعرفي تفرقي بينهم، إنتي اتحديتيني وأنا قبلت التحدي.
بكت سجى وقالت: ليه بتعمل كده؟! ليه بتفكرني بكل ده؟ وإزاي؟!
الشبح: عشان قولتلك إن كل خاين يستحق الموت وإنتي اعترضتي، كل اللي دخل القصر ده، ووقف قدامي، شاف أبشع الأسرار اللي دافنها جواه، شاف حقيقته من جوا، بس هرب عشان رفض يقتل اللي وجعه، عشان خاف يضيع مستقبله بسبب ماضيه.
ثم اقترب منها بسرعة رهيبة، ونظر إلى عينيها الباكية، لتتمعن النظر داخل مقلتيه التي تشبه عين الثعابين وقال: إلا إنتي، إنتي سامحتي، يا ترى ليه؟! لسه بتحبيه؟!
صمتت سجى ولم تجيب فأردف: غبية، عارفة لو كان هو اللي وقف قدام مرايتي، كان قتلك، مكنش أتردد لحظة واحدة.
سجى: الحب مش بإيدينا.
طاف عاليًا بغضب وقال بصوت زلزل جدران المنزل: الحب ضعف، كدبة كبيرة وكلكو وقعتو فيها، محدش فيكم بيتعلم، وأنا هعلمك، هخليكي تمشي من هنا وإنتي كارهة كل الناس، حتى نفسك.
سجى: طيب سيبني أمشي، أنا آسفة إني دخلت قصرك، سيبني أمشي ومش هاجي هنا تاني.
الشبح: للأسف، فات الوقت، إنتي دلوقتي محبوسة جوا لعنتي، مش هتخرجي منها أبدًا.
سجى: طيب عايز إيه وأنا اعملهولك.
الشبح: متأكدة؟!
سجى: قول بس، وأنا هعملك اللي إنت عايزه.
الشبح: تقتلي جاد.
سجى: حاضر، سيبني أخرج وأنا هقتله.
فجأة أهتز القصر، وكأن أعصار يضرب به من الداخل، سقطت كل التحف، كل إطارات الصور، حتى الجدران سقط عنها طلاؤها، وصاح بصوت وكأنه شيطان قائلًا: إياكي تكدبي عليا، أو تعامليني على إني مغفل.
نظرت سجى حولها بخوف، وزحفت على يديها لتختبئ خلف أحد الكراسي، تشعر بأن القصر سوف ينهار فوقها، فصاحت ببكاء: أنا آسفة، آسفة خلاص.
سقط أحد التماثيل الصغيرة على رأسها، وفقدت الوعي مرة أخرى.
وفي مكان آخر، كان براء يبحث عن معلومات عن ذلك القصر عن طريق الإنترنت، ووجد أحد المنتديات التي تحدث أعضائها عن ذلك القصر، لاحظ أن هناك أحاديث متشابهة، المرايا مسكونة، شبح غاضب، شخص يتخلل داخل عقلك، إذا وقفت أمام المرآة تشعر بأنك بعالم آخر، ولا تعود لطبيعتك مرة أخرى، وكأنك تركت جزءًا من روحك داخل هذا القصر.
شعر براء بالخوف الشديد، وما أصابه بالذعر أن سجى لم تتلقى أي مكالمة منذ أن دخلت القصر، مر ساعتين، وبراء يحاول الاتصال بها، وعندما فشل حاول أن يتواصل مع أحد الرجال اللذين تحدثو عن القصر بالمنتدى، وبالفعل، قام أحدهم بالرد عليه، وطلب براء منه أن يقابله.
بعد وقت، جلس براء في أحد المقاهي منتظرًا قدومه، ثم آتى وجلس أمامه ومد يده إليه وقال: عامر رضوان.
صافحه براء وقال: براء خالد، اتشرفت بمعرفتك.
عامر: وأنا كمان، خير حضرتك عايز تعرف إيه عن القصر؟
براء: أنا بصراحة الأول مكنتش مصدق إن القصر ملعون فعلًا.
عامر: كلنا كنا كده، لحد ما خدنا الموضوع تحدي، وبقى كل واحد فينا يقول يعني إيه مش هتقدر تقعد أكتر من ١٠ دقايق، وأنا كنت غبي عشان دخلت القصر ده، من وقتها وأنا حياتي اتقلبت.
براء: أنا مش فاهم، إيه اللي موجود في القصر ده بالظبط؟
عامر: واحد بس فينا اللي عرفه، بس مش عارفين هو بيتكلم بجد ولا لا، كلنا شفنا شبح عادي، القصر كان مهجور، مفيش أي حاجة مختلفة، لحد ما تقف قدام أول مراية، وقتها بتبدأ اللعنة، تلاقي نفسك بتواجه أبشع ذكريات حصلتلك في حياتك، وساعتها بيتزرع جواك شعور غضب عمري ما هعرف أوصفه، ويبقى مفيش حاجة نفسك تعملها غير إنك تنتقم.
براء: وإنت انتقمت؟!
عامر: لا، كلنا كنا عايزين ده، بس هربنا، أنا عن نفسي هربت عشان مش عايز أخسر نفسي، هو اللي عمل فيا كده يستاهل القتل اه، بس أنا مش هضيع نفسي عشانه، أما بالنسبة لهو مين، فيه واحد مننا قال إنه شاف حجر شكله غريب، لما قرب منه، لقى حجر فرعوني عليه رسمة عين، أنا ممكن أكون شفته بس معرفتش ده إيه، الراجل ده بقى مهتم بعلم الآثار ودارس تاريخ، من ساعة ما خرج من القصر وهو بيرد جملة واحدة: "لعنة قلب ماعت" ، لما سألته عن الموضوع لقيته بيقولي إن فيه كاهن اسمه ماعت من العصر الفرعوني، وحاجات غريبة كده، أنا بصراحة مفهمتش أوي، أو مهتمتش، كل اللي كان فارق معايا إني أرجع لحياتي الطبيعية، خصوصًا بعد ما قعدت فترة كبيرة مش قادر أنسى شكل الشبح ده أبدًا.
صمت براء قليلًا يفكر ثم قال: قولت اسمه إيه الحجر؟!
عامر: قلب ماعت، إوعى تكون بتفكر تدخل هناك، أحسنلك بلاش.
براء: لا هو مش أنا اللي دخلت، فيه واحدة دخلت القصر بقالها حوالي ٣ ساعات جوا.
فتح عامر عينيه بصدمة وقال: ٣ ساعات؟! مش ممكن! قدرت تصمد جوا ٣ ساعات، ديه أكيد هتخرج مجنونة.
ظل براء ينظر حوله بتوتر وقال: المشكلة إنها مش بترد عليا، وأنا مش قادر أروح هناك، خصوصًا بعد اللي سمعته منك ده.
عامر: لا متروحش، إبعد عن القصر ده خالص، كده كده مش هتعرف تدخل طول ما هي جوا، لازم هي تخرج بنفسها، ويارب تخرج أصلًا.
براء: أنا كده قلقت زيادة، طيب أنا هدور على موضوع حجر ماعت ده، يمكن أعرف عنه حاجة تقدر تساعدها.
عامر: ممكن، على العموم لو احتاجت مساعدتي في أي حاجة رقمي معاك، أنا كده قولتلك كل اللي أعرفه.
براء: متشكر جدًا يا أستاذ عامر على وقت حضرتك، وإنك وافقت تيجي وتقابلني.
عامر: لا أبدًا مفيش داعي للشكر، يارب البنت ديه تخرج بالسلامة.
أما في هذا القصر الملعون، ولا تزال سجى فاقدة للوعي بالأرض، هناك بعض قطرات الدماء تتساقط من جبهتها، اقترب منها هذا الشبح، ليضع يده على رأسها، يغوص داخل ذكرياتها، ليجعلها تعيش هذا الألم مرة أخرى...
فلاش باك
لم تعد سجى تلك الفتاة البريئة المقبلة على الحياة بعد ذلك الليلة، الليلة التي انطفئت بها روحها، ليلة الغدر التي صفعتها لترتطم بأرض الواقع المرير، فقدت أعز ما تملكه كل فتاة، خسرت الرجل الذي أحبته، والذي تركها بعد أن سلبها عذريتها.
كانت ذاهبة إلى العمل، عيناها متورمة من البكاء، وما أن دخلت الشركة حتى أوقفها عامل الإستقبال قائلًا: أنسة سجى.
فالتفتت إليه فأردف: المدير بلغني إني أمنعك من دخول الشركة، وإني أسلمك. متعلقاتك وكمان الظرف ده فيه كل مستحقاتك.
نظرت له بتعجب وقالت: يعني أنا اترفدت من الشغل؟!
عامل الإستقبال: آسف، ديه أوامر المدير، إتفضلي حاجتك والفلوس.
نظرت له بحزن ثم أخذت أغراضها والأموال وذهبت.
سمعت صوت قوي يهمس داخل أذنها: عايزة تعرفي اترفدتي ليه؟!
فتحت سجى عينيها بفزع، والتفتت إليه، لم تعد تتحمل تلك البرودة التي تتخلل داخل جسدها كلما اقترب منها، ارتدت بعيدًا عنه، تزحف على يديها وهي تبكي وتقول برجاء: كفاية أرجوك، مش عايزة أفتكر الأيام ديه، ليه بتخليني أعيشها تاني حرام عليك؟!
الشبح: يمكن لما تعرفي الحقيقة كلها، تصدقي إنه يستاهل العقاب، وتوافقي إننا نقتله.
سجى ببكاء: أنا مش عايزة أقتل حد، أرجوك كفاية سيبني أمشي.
الشبح: حتى لو عرفتي إن هو السبب في رفدك من الشغل، لا ده كمان منع كل الشركات إنها توظفك، عارفة عمل ده إزاي؟! بعت صورك الحلوة مع الرجالة للشركات ديه، فضحك، ولسه بتحبيه؟! غبية.
سجى: مش مصدقاك.
الشبح: تحبي تشوفي ماضيه؟!
سجى: وإنت هتعرف ماضيه منين؟!
ضحك بصوت قوي وقال: أنا أعرف عنه كل حاجة.
سجى: هو دخل القصر ده؟!
الشبح: هو صاحب القصر.
فتحت سجى عينيها بصدمة وقالت: لأ، أكيد لا، إنت شبحه؟!
الشبح: تفتكري إني شبح شخص عادي؟!
سجى: لأ، طيب إنت مين؟!
الشبح: لما توافقي تقتليه هقولك، ودلوقتي، تحبي تتأكدي إذا كان هو السبب في رفدك ولا لأ؟!
سجى: إعتبرني إتأكدت، وأنا خلاص عايزة أقتله، بس إنت مش عايزني أخرج عشان أقتله، طيب هقتله إزاي؟!
الشبح: مش محتاجة تخرجي، أنا هجيبه لحد عندك.
رفع يده، ونظرت سجى لأعلى، ووجدته يسقط أمامها مكبل اليدين، معصوب العينين، جسده محاط بسلاسل لم ترى مثلها من قبل، يبدو عليه المرض والإعياء، نحف جسده، ويصرخ بقوة وهو يهبط من أعلى ليتدلى جسده أمامها، ظلت تحدق به بصدمة، وما زاد صدمتها أكثر، أن صوت صراخه هو ذات الصوت الذي كان يدوي بالقصر منذ أول لحظة دخلت به.
هل هو مالك هذا القصر حقًا؟! أم هو محبوس داخل اللعنة مثلي؟!
ظلت تنظر له سجى بخوف، وبداخلها تشعر بأن مصيرها سيكون مثله تمامًا.
